تحت الطبع.. فصل من رواية «أبيض فاحش» للروائية سعاد سليمان
من أى سماء هبط علىّ هذا العهد، أو من أى جحيم تجسدت أمامى، مغوية وعصية، بينما أنا مشغول فى فك سحر لإحدى الحسناوات من الفنانات التى طلبت أن أجمع بسحرى بينها وبين منتج تتزوجه ليجعل منها نجمة فى سماء الفن، تتصاعد أدخنة بيضاء من مجمرة البخور، رأيت فيما يرى الصاحى، لم أكن نائمًا، الدخان يتحول إلى أنثى بارعة الجمال، سمراء، مكحلة العينين العسليتين، ناظرة إلى أعلى، تدور حول نفسها، تخلع ملابسها البيضاء قطعة قطعة، فلم يبق إلا ورقة التوت، كلما هممت بالقبض عليها، تتبخر من أمامى، ثم تعود مع حلقات الدخان، لأول مرة أشعر بانتصاب شديد، غامت الرؤية حولى، لم أرَ سواها، قالت بصوت مبحوح شديد الإثارة: سأكون فى انتظارك، أنت قدرى، فقدت الوعى، وجدت مساعدى فوق رأسى يرش ماء يعيدنى إلى الحياة، هربت الفنانة، تركتنى فى غيبوبتى، كأننى مساق بقوة عليا، تدفعنى دفعًا إلى مولد السيدة، كنت على يقين من أن مغويتى تنتظرنى هناك، وجدتها أجمل مما تجسدت لى، كلما لمحتها أو تنشقت رائحتها، أفقد السيطرة على جسدى، هى علاجى وأملى، هى من جاءت إلىّ، فكيف أتركها تفلت من قبضة يدىّ.
لمحت كثيرًا أننى متيم فى عشقها، بل اعترفت لها صراحة، رغم أننى لا أكشف نفسى بسهولة أمام أى امرأة مهما كان شأنها، سأحضر لها لبن العصفور لو طلبت، لكنها تقريبًا لا ترانى، أحيانًا أحسد يونس الحمار الذى تشمله بالرعاية والاهتمام، أما إبراهيم المحظوظ، فلا أحسده، بل أحقد عليه هذا القرب منها، يتبعها كظلها، عمرت ساحتى، صارت قبلة كبار القوم، مأمور قسم الجمالية السابق، مستشار قضائى يزورها أسبوعيًا، يدس فى يدها أظرفًا متخمة بالنقود، تحتار ماذا تفعل بها، تسألنى: لماذا يعطوننى كل هذه النقود؟، أقول: هذه نفحات نصرف منها على الساحة، تصر أن آخذها، أو تسرقها سارة، تعطى بلا حساب المتسولين الذين يفدون إليها جماعات، تطلب منهم الاستحمام، بدأ عمل مشروع شريف، أخبرتنى سارة بأنها تنازلت لرجل جاءها من أقصى الصعيد عن السبحة اليسر الثمينة التى أهديتها إياها، لا تعرف القيمة الحقيقية للأشياء، جميلة فى الجلباب الأبيض الرجالى الذى أصبحت تفضله على أثوابها الغالية، تحسدها سارة التى يُشبه جسدها جوال الأرز أو شجرة جميز ضخمة، حتى سارة الحقودة أصبحت تحبها، بعدما جعلتها تنزل وزنها الضخم بمنعها من أكل كل منتجات القمح والسكر، تحول كل ما تقع عليه يدها من قبيح لجميل، أعرف أن وراءها سرًا، لن يهدأ لى بال حتى أكشفه، تجمعهم هى وزكريا يستفيضون فى حكايات شائقة تعجبنى، لولا انشغالى، كثرة أعمالى، مريدينى من عِلية القوم، لكنت لازمتها طويلًا، فأنا ليس عندى لا زوجة ولا أولاد، لو وافقت أن تتزوجنى، سأسافر إلى الخارج أتعالج من ضعفى الجنسى، أو تكون هى علاجى الشافى، أمتعها، أصعد معها سماوات اللذة. لكنها تهددنى بترك ساحتى والرجوع إلى بيتها فى الزمالك، حاولت استمالة إبراهيم، رفض أن يخبرنى عما حدث فى آخر زيارة لبيتها، لماذا عادت خالية اليدين من أغراضها؟ كتبها التى تحزن كلما تذكرتها.
بدأ راغبو الثراء وبيع آثار اكتشفوها فى أن تثمن كنوزهم، تنظر بقرف، تقول عيبًا أن تبيعوا كنوز بلدكم، لن أنسى ثورتها العارمة عندما جئت لها بأصدقاء اكتشفوا خبيئة فى بنى مزار، عندما رأت الفيديو الذى يحتوى على تفاصيل لقية، عبارة عن محبرة ودواة عليها نجمة داود، كتاب من ست صفحات مصنوع من الذهب الخالص باللغة العبرية، يقول أصحابه إنه التوراة منقوشة بالكلمات على الصفحات الذهبية، به صورة مجسدة لموسى ممسكًا بعصاه السحرية، التى ورد ذكرها فى القرآن، قالت: هذه آثار مزيفة!
كيف وهى مصنوعة من الذهب؟ قالت: اعتاد بنو إسرائيل صناعة آثار ودفنها فى ربوع مصر، ليثبتوا أن لهم تاريخًا فى حضارتنا، هم كاذبون، تمتمت تكلم نفسها: آه لو رأى موسى هذه الآثار المزيفة سيدفع فيها الملايين.
سمعتها، سألتها: مَن هو موسى؟، أعطنى رقم هاتفه، أنا سأتفاهم معه، انزعجت: هل قلت أنا موسى؟ أجبت: نعم، أخفت ارتباكها، قالت لا أقصد، أنهت المناقشة وابتعدت.
الغبن
زلزلتنى بقوة نظراتها قبل أن تطعنى بسؤال حارق: أغابن أم مغبون يا شيخ؟، عرفت سرها، كنت على أتم الاستعداد أن أحميها من زوجها الذى يبحث عنها، حكى لى تاريخها الذى يصفه بالمشين، هربت منه بعد أن أجهضت نفسها، مرت سنتان منذ رحيلها عنه، يريدها بأى ثمن، عرض مبالغ يسيل له اللعاب، أنكرت وجودها وأنا على يقين أنه لن يستطيع الوصول إليها إن لم أسلمها له بيدى، أنا أريدها، وعدته فى حال وصولى إليها أن أدله على مكانها وهو عليه الباقى، هل كنت أعرف أنه سيقتلها؟، خمنت ذلك من إصراره وأصدقائه الذين يبدو عليهم التنمر واللهفة فى الحصول عليها حية كانت أم جثة.
أكتشفت أنها سافرت إلى حميثرة دون علمى، زاد غضبى، هى لا تعرفنى عندما أغضب، فإننى أحرق الأخضر واليابس، حينما عادت من زيارة سيدى أبوالحسن الشاذلى تشاجرت معها، ألمحت لها أن هناك من يبحثون عنها، إذا طاوعتنى واستسلمت لإرادتى فلها كل ما تشتهى من عز وجاه وولاية، أموال وحماية، لكنها راوغتنى، قلت لها موسى ومن خلفه يريدون رأسك! كشفت لها عن الثمن الذى من الممكن أن يدفعوه بمجرد فقط أن أدلهم على مكانها.
شحب وجهها، صمتت كصنم، قالت: اقتلنى، اقتلونى جميعًا إذا كان هذا ما يرضيك!
أقسمت إنها لن تتزوجنى، لن تتزوج أبدًا، لن تعمل معى فى التنقيب وبيع الآثار، ما فائدتها؟، أيقنت أن دمها أصبح حلالًا على أعدائها، لا نفع منها، لا يزيدنى وجودها إلا خسارة، خسارة أعمالى، لا حب، لا زواج، لا آثار، لا شىء، فلتذهب إلى الجحيم، بل سآتى أنا لها بالجحيم.
مضطر أنا، لقد حاولت منذ مولدى ألا أكون ظالمًا، كنت أكره اسمى الذى يثير السخرية والتساؤل بين زملائى، قال أبى الشيخ الخضر الكامل صاحب المقام العالى فى عالم الصوفية، وأمى النقية المطهرة الحسيبة النسيبة سليلة الأشراف، حسنية وحُسينية، تجمع فى نسبها سلالة السيدين، شباب أهل الجنة سبطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين، كنا ملوك الصوفية، أضاع أبى جل أملاكه على المدد، مساعدة المحتاجين، لا يرد سائلًا أو غريبًا أو عابر سبيل، لم يعمل طوال حياته التى قضاها فى التنقل بين الأولياء قبل ليلة مولدهم بأسبوع كامل، يقيم خدمة، يؤوى المشردين، يطعم الجائعين، يقيم حضرة وذكرًا يغنى فيه أعظم وأشهر المنشدين كالشيخ الدشناوى، بدايات الشيخ ياسين الذى أصبح شهيرًا بفضل أبى الذى كان يجزل له العطاء، يسمعه الناس فيغيبون مع صوته وأنغامه، تصعد روحهم إلى أبواب السماء ثم تعود، باع أرضه قيراطًا قيراطًا، يساعد من يقصده حتى لو كان كاذبًا أو مبتزًا، أو متملقًا، يقول: علم أمره عند ربى.
لم يترك لى سوى البيت الذى دفنته فيه، أقمت له مقامًا كريمًا، كولى صالح يسعى الناس إلى كراماته التى كان يخفيها، يخرج فجرًا يصلى فى الخلاء الفسيح، يقول لأمى بهمس، اليوم صليت فى المسجد النبوى بالمدينة المنورة، تفرح أمى وتقول: قرأت لى الفاتحة عند قبر الرسول؟ يبشرها بالخير، إنه لا ينساها أبدًا فى دعاء أو قراءة فاتحة، حينًا يخبرها بأنه اليوم صلى الفجر فى الكعبة المشرفة، فى يوم طلب منى «عود قصب بالزعزوعة» أى شواشى عود القصب غير منزوعة، سألته لماذا؟: أتحفظ السر يا غبن؟
نعم يا أبى.
كنت أصلى فى الحرم المكى، أبكى خشوعًا من روحانية المكان ومن خطبة إمام المسجد، انتبه لى الإمام سألنى: من أين أنت يا رجل؟ قلت: من الشرقية فى مصر، قال: أتقيم هنا، قلت لا بل أعود إلى مصر يوميًا بعد الصلاة، احتار فى أمرى، قال: كيف؟
قلت: أخرج من بيتى خطوات وأجد نفسى هنا، عندما أنتهى من الصلاة أخرج من هنا خطوات أجد نفسى أمام بيتى فى الشرقية.
أريد دليلًا على صدقك!
قلت: أعاننى الله على ما تريد، طلب منى عود قصب بشواشيه كأنه خارج توًا من باطن الأرض، فلا يوجد قصب بشواشيه إلا فى مصر، وموعدنا غدًا يا بنى، أصدق أباك فإن إيمانه على طرف جرف هاو.
جريت مسرعًا، اقتلعت له عود قصب مستوى بشواشيه وأوراقه الندية. فجرًا، أخذ العود، عندما رجع سألته أمى عما حدث، رد فرحًا مبتهجًا: أهديت للإمام عود القصب، نظر إليه مستغربًا هو وجموع المصلين، قال صدقت، بشرنى بالولاية، إننى من أولياء الله الذين هم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، مات بعدها بعدما صلى العشاء، كانت تفوح من جثته رائحة المسك، كيف لا أبنى له مقامًا.
رفضت أمى وغضبت، ذكرتنى بوصيته، أنه لا يريد أى مقامات، فقط الستر تحت الأرض، لم أطاوعها، ماتت غاضبة، دفنتها بجواره، بدأت رحلة الصعود من حيث نزل أبى، لن تكون يدى هى السفلى أبدًا، الناس هم من صنعوا سطوتى، يطلبون منى البركات، يعتقدون فى كرامات ابن الولى الذى يعالج الممسوس، من يركبه عفريت، يسعون إلى المحبة المستحيلة بالأحجبة والأعمال السحرية، حلمت بمن يتلو على سمعى ما جاء فى كتاب «شمس المعارف ولطائف العوارف» الذى ألفه أحمد بن على البونى عام ٦٢٢ هجرية، حفظته كأننى قرأته ألف مرة، ذاعت شهرتى، أصبحت غبن الذى لا يستعصى عليه أمر، وأنت يا عهد صار أمرك لدىّ هينًا، أهون من ذبابة تطن حول أذنى.