الأستاذ.. زيارة جديدة لـ«عبدالله النديم»

- الرجل لم يطأطئ رأسه ولم يساوم بل ظل يقاوم وحيدًا بكل الوسائل ولعله الرجل الوحيد من جيله الذى رفضت سلطات الاحتلال عودته إلى وطنه
- عاش الحياة كلها بقساوتها ومرارتها فى حقبة تاريخية هى الأصعب فى التاريخ المصرى
- لم يتحمّل النديم قسوة الحياة بعيدًا عن وطنه بعد أن استبد به مرض «السل»
يُعد عبدالله النديم ظاهرة ثقافية متفردة (١٨٤٢-١٨٩٦)، فقد حظى بتعليم متواضع، حفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ التاسعة من عمره، التحق بعدها بمدرسة جامع الأنوار فى مدينة الإسكندرية، درس فيها ثلاث سنوات، توقف بعدها بسبب ما كان يتلقاه من دروس عقيمة فى علوم اللغة والشريعة، لذا سئم الدراسة النظامية التى كانت تعتمد على حفظ المتون دون فهمها، وقرر رغم صغر سنه أن يتعلم بطريقته الخاصة، فقد راح يتردد إلى مجالس العلماء ومنتديات الشعر والأدب، وانبهر بحياة الزجّالين والحكّائين، ورغم صغر سنه فقد كان شغوفًا بالقراءة مقبلًا على ثقافة الحياة من أوسع أبوابها، لذا راح يجوب الأسواق والشوارع والمقاهى بعد أن بهرته حياة الأدباتية والحكّائين، وقد حباه الله بذاكرة قوية، فقد أدرك منذ صباه مكمن الجمال والقبح، ليس فى الأدب أو الشعر فقط، وإنما فى كل تفاصيل الحياة.

يعد النديم واحدًا من الشخصيات الثقافية الرائدة التى كاد تاريخها يُنسى فى زحام الحياة وصخب وسطحية وسائل التواصل الاجتماعى، لعل النديم هو من بين أبرز مثقفى عصره، فقد شغل حياة المصريين طوال ما يزيد على ثلاثة عقود، أحدث خلالها حَراكًا اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا غير مسبوق، ومما يلفت النظر فى حياة هذا الرجل أنه علّم نفسه بنفسه، شاعرًا، زجالًا، كاتبًا، حكاءً، لذا من الصعب تصنيفه فى أى فرع من هذه الفروع المعرفية.
وُلد عبدالله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسى الملقب بـ(النديم) فى أحد الأحياء الشعبية بمدينة الإسكندرية ١٨٤٢، عاش النديم قريبًا من بسطاء الناس عالمًا بكل همومهم وعوزهم، انطلق بعدها إلى مختلف المدن المصرية وقُراها، يجالس العُمَد وأعيان البلاد وظرفاء الفلاحين، يلقى عليهم أشعاره وأزجاله ويبهرهم بأحاديثه العذبة، بعدها صار يُلقب بـ«النديم»، ثم انتقل إلى القاهرة ١٨٦١، ولم يكن قد تجاوز التاسعة عشرة، ليلتحق بالعمل بمكتب تليغراف قصر الأميرة خوشيار، والدة الخديو إسماعيل «والدة باشا»، على نيل القاهرة، وفى هذا القصر الفسيح رأى النديم عالمًا مليئًا بكل صنوف الأبَّهة والترف، فقد كانت الوالدة تهوَى الموسيقى ولديها فرقة موسيقية تعزف الموسيقى الغربية والشرقية، بمصاحبة مغنيات، كما كان القصر يشتمل على مسرح يعرض عروضًا مسرحية وَفق الثقافة الفرنسية، تعرض عليه المسرحيات الكوميدية والتراچيدية، وهكذا دخل النديم عالمًا جديدًا من المعارف كان خافيًا عليه، كما كانت تقام فى القصر حفلات زواج الأنجال، وفى أوقات فراغ النديم راح يتردد على مجالس الأدب والشعر والسياسة، بعد أن ارتبط بجمال الدين الأفغانى ومحمود سامى البارودى ومحمد عبده، وقد انبهر بمقهى «ماتاتيا» الشهير فى ميدان العتبة الذى كان يتردد إليه الساسة والشعراء والمثقفون.
بقدر ما كان النديم منبهرًا بعمله فى القصر ومشاهداته التى لم يكن يتخيلها، إلا أنه كان شابًّا حرًّا لم يقبل الإهانة، فسرعان ما حدث خلاف بينه وبين خليل أغا «رئيس القصر» الذى دفع برجاله إلى الاعتداء على النديم وألقَوْهُ خارج القصر، بعد أن أوسعوه ضربًا، حتى أوشك على الموت، وقد شعر بالمهانة وغادر القصر وهو يغلى غضبًا، وفقد وظيفته وحُرم من الالتحاق بأى وظيفة أخرى بتعليمات من رئيس القصر، بعدها غادر القاهرة يضرب الأرض على غير هوى، ولم يكن أمامه إلا أن يعود إلى الريف يجالس الأعيان والفلاحين ممن يتذوقون الأدب، وقد انبهر الناس بحكاياته وأزجاله وأشعاره، وراحوا يرددونها فى أوساط الفلاحين فى مختلف قرى الدلتا، إلا أن هذا الشاب قد عاوده الحنين إلى القاهرة ومنتدياتها الفكرية والأدبية ودروس أستاذه جمال الدين الأفغانى وفتاوى الشيخ محمد عبده، إلا أن الأول قد نصحه بالتوجه إلى الإسكندرية لكى يبذر بين أهلها الوعى بالحرية وبقيمة الوطن، وبمعنى أن تكون مصريًّا مهانًا فى بلدك، راح النديم يلقى أشعاره وأزجاله فى جموع الناس مِن حوله، وقد شعر بأنه صاحب رسالة يجب أن يؤديها.
فى مدينة الإسكندرية تبين له أن أشياء كثيرة قد تغيرت، فبعد أن كان الناس يتبارون فى حفظ شعر أبى تمام وأبى نُوَاس والبحترى، وفكاهات الظرفاء والحكائين إذا بهم يتناقشون فى قضايا أخرى، من قبيل توغل النفوذ الأجنبى، والظلم والسخرة والاستعباد، ومن هنا راودته فكرة إنشاء أول جمعية خيرية فى الإسكندرية ١٨٧٩، وجعل من أهدافها إنشاء المدارس لتعليم البنين والبنات، ونجحت هذه التجربة، وعمل النديم مديرًا لهذه المدرسة التى فتحت أبوابها أمام أهل الإسكندرية وضواحيها، الذين راحوا يتوافدون على الندوات الأسبوعية التى كانت تقام فى المدرسة، كما أنشأ مسرحًا تعرض عليه المسرحيات الجادة، وهى أنشطة جذبت كل فئات المجتمع، وقد كانت هذه الأنشطة المسرحية والثقافية ذات طابع سياسى فى معظمها، لذا رأت الحكومة التضييق على النديم فى نشاطه وأرغمته على الاستقالة.

عقب حادثة ميدان عابدين «فبراير ١٨٨١» التى اعتقل بسببها أحمد عرابى ورفاقه، ضاعفت الحكومة من ملاحقة النديم، لذا اتجه إلى إصدار مجلة كانت حديث كل المصريين «التنكيت والتبكيت»، وصدر العدد الأول منها فى ٦ يونيو ١٨٨١، ولم يكتفِ النديم بذلك، بل راح يطوف البلاد، يعتلى منابر المساجد، ويجالس الفلاحين متحدثًا إليهم بكلام لم يكونوا قد سمعوا عنه من قبل، فى السياسة والواقع الاجتماعى ونبذ العادات البالية والوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين، وقد ارتبط النديم بالحركة العرابية وراح يتحدث عنها، وهو أول من رفع شعار «مصر للمصريين» وأصبح الرجل واحدًا من رجالات عرابى، بقلمه وخطبه النارية، وقد رأى عرابى أن تكون لحركته صحيفة تنطق باسمها مقترحًا على النديم تغيير اسم صحيفة «التنكيت والتبكيت»، إلى «اللطائف»، وظهر العدد الأول منها فى العشرين من نوفمبر ١٨٨١، وأصبحت «اللطائف» هى جريدة العرابيين، إلا أن حركتهم قد قوبلت بانتكاسة شديدة، بعدها دخل الإنجليز القاهرة فى ١٢ سبتمبر ١٨٨٢، وقبض على عرابى ورجاله، وفر النديم من القاهرة هاربًا مختبئًا فى بيوت الفلاحين، بعد أن جندت الحكومة كل أجهزتها للقبض عليه وإعلانها عن مكافأة مالية كبيرة لمن يأتى به حيًّا أو ميتًا.
ظل الرجل مختفيًا فى دلتا مصر، يجوب قراها وكفورها متخفيًا وقد أطلق لحيته وغيّر ملابسَه، فمرة يرتدى ملابس حجازية وأخرى مغربية، وقد تبرك الناس به ولقّبوه بالشيخ، وكانت لديه قدرة فائقة على التحدث إلى الناس بلهجات عدة، وأجهزة الحكومة تواصل البحث عنه بعد أن أمضى ما يقرب من عشر سنوات على الهروب والتشرد، وشى به خادمه، وقُبض عليه فى قرية «الجميزة» بمديرية الغربية، واقتيد إلى عاصمة الإقليم ليمثل أمام وكيل النائب العام الذى شاء حظه أن يكون قاسم بك أمين، أحد المثقفين والمصلحين الاجتماعيين الكبار، الذى عامله بما يليق بتضحياته ومكانته.
قرر مجلس الوزراء نفى النديم خارج مصر إلى «يافا»، وعقب وفاة الخديو توفيق الذى كان يضمر كراهية خاصة بالرجل تولى عباس حلمى الثانى حكم مصر، فى الثالث من فبراير ١٨٩٢، ورأى الحاكم الجديد العفو عن النديم، وسمح بعودته إلى مصر، وبمجرد وصوله إلى القاهرة لم ينسَ الرجل مهنته المحببة «الصحافة» فأنشأ جريدة «الأستاذ»، وظهر العدد الأول منها فى الرابع والعشرين من أغسطس ١٨٩٢، وقد لوحظ أن النديم لم ينسَ جميل الخديو الذى عفا عنه، لكن الصحيفة راحت تتناول أمورًا كثيرة من بينها افتقاد التعليم وقضايا المرأة وقسوة الاحتلال وسياسات اللورد كرومر التى تضيّق على المصريين حياتهم، وقد أحدثت الصحيفة ردود فعل هائلة فى أوساط المصريين، رغم أنها لم تكمل عامًا واحدًا، لذا رأى كرومر نفْى الرجل خارج مصر مرة أخرى، وفى العدد الأخير من جريدة الأستاذ يودع النديم قُرَّاءه «١٣ يونيو ١٨٩٣»، وكان شرط نفيه إلى إسطنبول أن يلتزم الصمت، ويمتنع عن الكتابة وممارسة السياسة، وفى عاصمة الدولة العثمانية توقفت مواهب الرجل وصمت قلمه المتقد، ورغم ذلك فلم يسلم من مكايد خصومه، التى لم يعد قادرًا على مواجهتها، وخاصة «أبوالهدى الصيادى» القريب من السلطان، الذى أوغر صدر السلطان عليه، بعد أن علم بأن النديم يكتب كتابًا عنه «المسامير»، وقد ابتكر فيه أسلوبًا عنيفًا فى الهجاء، ولم يكن الكتاب قد طُبع بعد، وتمكن أحد أصدقاء النديم «چورچ كراتشى» أن يفر بالكتاب إلى مصر لكى يُطبع فيها.
فى العدد الأول من جريدة «الأستاذ» كشف عبدالفتاح النديم مدير تحرير الجريدة الغرض من إصدارها جريدة أسبوعية بهدف جمع شوارد العلوم، التى لا تتقيد بفن ولا تقتصر على موضوع، فتنشر ما يحسن نشره ويلذ سماعه من المعقول والمنقول ما لا يطعن فى دين ولا يمس شرف شخص، ولا تتعرض الصحيفة للأمور السياسية الحاضرة، أما فن السياسة من حيث هو فن، فإنه يدخل فى أغراضها، كما أشار عبدالفتاح النديم إلى أن عبدالله النديم قد قضى مدة اختفائه مشتغلًا بوضع كُتب تستحق النشر، وقد اتخذت الجريدة على عاتقها نشر هذه المؤلفات، فضلًا عما يرد إليها من موضوعات تستحق النشر، وفى العدد الأول من الجريدة كتب النديم تحت عنوان «شكر النعم» افتتاحية الجريدة، متناولًا ظروف القبض عليه فى قرية الجميزة، وقد راح الناس يتناولون الحديث عن مصيره، فمِن قائل بأنه سيقتل، ومن قائل بأنه سيُنفى من البلاد، فإذا بالأمر الخديوى الكريم بالعفو عنه، وسفره إلى الشام، مع منْحه مَعاشًا مستحقًّا، وقد بشّر النديم جموع محبيه بقرب العفو العام عنه، وراح الرجل يفيض بالشكر والعرفان للخديوى عباس حلمى الثانى، ونشر بهذه المناسبة قصيدته الدالية الغريبة فى بابها ومطلعها قائلًا:
ما للكواكب لا تُرى إلا فى المرصدِ والكون أصبح فى لباس أسودِ
عم الكسوف الكل أم فقد الضياء أم كلنا يرنو بمقلة أرمدِ
يبدو أن النديم قد استسلم لقدَره بعد أن سيطر عليه البؤس والتشرد، وقد راح يمدح الخديو الذى أعاده إلى وطنه تفضلًا وإحسانًا، وعلى حد قوله: لو جمعت اللغات ونظمتها فى سلسلة قصائد لا نهاية لها لكنت مقصرًا فى أداء الواجب، فقد أطلق لى قيد حياتى، وخلصنى من أسر الغربة، وهكذا انطلق النديم معبرًا عن شكره وعرفانه، إلا أن ذلك لم يستمر طويلًا، فلم يمضِ على حرية الرجل أكثر من عام إلا وكان قد اقتيد مرة أخرى، وهذه المرة ليست إلى الشام وإنما إلى إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية.

شكلت جريدة الأستاذ حالة متفردة فى محتواها وإخراجها ومضمونها، فهى تعد نقلة جديدة فى تاريخ الصحافة المصرية، فقد عُنيت بقضايا كثيرة لم تكن الصحافة المصرية وقتئذ معنية بها، من قبيل تعليم المرأة ونشر التعليم، والإعلاء من شأن القيم الوطنية بعد أن اختار النديم شعار «مصر للمصريين» فضلًا عن لغة التحرير التى جمعت ما بين العامية والفصحى، وقد أفردت الصحيفة فى كل أعدادها مساحة متسعة للفكاهة، والعادات والتقاليد، لكن الفكاهة كانت هى العنوان الأهم فى الصحيفة، من قبيل:
دع التغفل بالتغفل يستقم
أمر المعاش فحظه للغافل
أرض البلادة تغتنم من بابها
سمالًا وجاهًا بعد ذكر خامل
وإذا أبيت سوى العلوم فلا تضق
بحروب دهر لا يميل لفاضل
وهو شعر فكاهى لا يخرج من دائرة السياسة، بل هو فى صلب القضايا الاجتماعية والسياسية، وخصوصًا حينما يتناول النديم الفروق الاجتماعية بين طوائف المجتمع، وهو قول يُدخِل النديم فى دائرة المحظور فى الكتابة، إلا أن الرجل قد قطع عهدًا على نفسه بعدم التعرض للسياسة، ولعل كل ما ورد فى هذه الصحيفة وإن كان لا يندرج تحت كلمة سياسة، إلا أنه يأتى فى صلب السياسة.
لم ينسَ النديم خلال كل أعداد المجلة نوادر الفكاهات والنكات، وهو بهذا يعبر عن روحه خروجًا من دائرة التضييق والقيود الصارمة على كل ما يكتبه أو ينطق به، وفى هذا السياق لا ينسى النديم أن يشيد بالتطور الذى حل بالبلاد خلال عصر الخديوى عباس حلمى الثانى، مقارنةً بما كانت عليه أحوال البلاد فى عصر سلفه، رغم أن كل أعداد الجريدة تتناول قضايا الظلم الاجتماعى وقسوة جامعى الضرائب وأحوال الطبقات الفقيرة ووضع المرأة وبطش الإنجليز، جميعها أمور لم تكن تستحق الإشادة بالخديو عباس حلمى الثانى، وقد تناولت الجريدة أمورًا كثيرة من قبيل الجامعة الوطنية، التى كان النديم حريصًا عليها، مشيرًا إلى أن الإسلام هو المؤسس الأول لهذه الجامعة التى انخرط فيها المسلمون والمسيحيون واليهود وغيرهم من مختلف الديانات والأعراق، وكان الرجل فى كل ما يتناوله عن هذه الأمور معبرًا عن ثقافته، وقد راح يقارن بين حياة الأوروبيين وحياة المسلمين فى المأكل والمشرب والعادات والأعراف، وكان فى كل ما يكتب على معرفة كاملة بواقع الحياة فى المجتمعات الأوروبية، وقد تنوعت موضوعات الجريدة ما بين الاقتصاد والتعليم والعادات والتقاليد والأخلاق، فضلًا عن الأدب والشعر والفكاهة، وهو ما يميز الجريدة ويضاعف من انتشارها بين جموع القراء.

من خلال حوار فلسفى ممتع تقدم الجريدة سجالًا بين خادمتين، بشأن حياتهما المعيشة مقارنة بما كان عليه الحال فى ظل حياة الرق، وهو حوار عميق ينتقد الواقع الاجتماعى لهذه الطبقة البائسة، لدرجة أن نهاية الحوار تنتهى بتفضيل الرق على الحرية فى ظل الفقر، وبهذا ينتصر النديم لتلك الطبقة الاجتماعية التى ظلمها الفقر والعوز، حتى إن المفاضلة بين الحرية والفقر تنتصر لصالح الفقر، وهو حوار أقرب إلى حوارات الفلاسفة، وفى نهاية الحوار يطلب النديم من قُرائِه أغنيائِهم وفقرائِهم أن يزوّدوه بآرائهم، وقد راحت المجلة تتناول قضايا افتراضية تحت عنوان المرافعة الوطنية، إذ يرفع الوطن العزيز دعوى على أبنائه فيما سماه بمحكمة الحقوق، ودارت سجالات ما بين «التمدُّن والعمران» من خلال جلسة علنية دعى إليها من أراد الحضور، وقد أناب أبناء الوطن عنهم المدنية الحاضرة، وعندما انتظمت الجلسة وتداولت أوراق القضية طُلب من الوطن إثبات دعواه، فبادر قائلًا: أتقدم إلى هيئة المحكمة باعترافى بأهمية القانون وعدالته، ثم راحت المحكمة تواصل مداولاتها بشأن القضية، وجميعها تتناول حقوق المواطنة: الحق فى الحياة، الحق فى عيشة كريمة، الحق فى عدم إهانة المواطن والاعتداء عليه ماديًّا أو معنويًّا، وفى نهاية الجلسة عجزت المحكمة عن رد الحقوق لأسباب خارجة عن إرادتها، وهو قول يحمل كثيرًا من النقد لواقع الحياة، وهو حوار لا يبتعد عن السياسة بل هو فى صلبها، وهى وسيلة لجأ إليها النديم لخلق عالم افتراضى تُجرى فيه الحوارات بعيدًا عن الحياة الحقيقية التى تُوقِعه تحت طائلة القانون.
كانت الصحيفة فى كل ما تناولته كتابةً وتحريرًا من فكر النديم، الذى حرص على أن يخفف، فى كل ما يعرضه من موضوعات اجتماعية وسياسية وثقافية، نقدَه من خلال ممارسة الفكاهة، وهو الموضوع الأهم فى كل أعداد المجلة، حينما يُجرى حِوارًا بين اثنين من أولاد البلد هما حنفى ونديم، وقد راح يسقط على حوارهما قضايا ذات طابع اجتماعى وسياسى، لا ينطقان بكلمة سياسية لكن الموضوع برمته فى صلب السياسة، وفى كل ما تناوله راح يخلط الهزل بالجد، من خلال المعانى الدالة على عمق السياسة والانتصار للفقراء الذين لم يستسلموا لفقرهم، وقد راح النديم يخاطب فيهم الهمة والوطنية بأشعاره وحكاياته الهزلية التى لا تخلو أبدًا من الجد، إيمانًا من الرجل بأن المصريين بذكائهم يستوعبون رسالته التى نذر نفسه لها، من قبيل حوارات «لطيفة ودميانة» التى أقبل عليها القراء، وكان الناس فى ربوع مصر يلتقطون هذه الحكايات، ومن لم يكن يعرف القراءة والكتابة كان يستمع إلى من يقرأ له، ولا تخلو حكايات النديم من الحديث عن المرأة التى شغلت مساحة كبيرة فى الجريدة، فالمرأة هى التى تتولى تربية الأبناء، والمشاركة فى الحصاد، والدور الأساسى عند غياب الرجل لسفره أو وفاته، وجميعها موضوعات تستنهض الهمم وتضاعف طاقة المصريين فى سياق كوميدى هزلى.
شعر النديم بأن عليه واجبًا اجتماعيًّا ودينيًّا يقضى بضرورة محاربة المسكرات، وهى الرسالة التى أولتها الجريدة عناية كبيرة، وقد أحدثت ردود فعل كبيرة، فقد راح الناس يكتبون إلى الجريدة، وكثيرون منهم قد أرجعوا الفضل إليها حينما أقلعوا عن هذه العادة، وكأن النديم قد أحال القضية إلى رسالة قومية بعد أن تبين له مضار هذا السلوك، الذى ينال من صحة المصريين وأموالهم، وراحت الصحيفة تتلقى رسائل يحكى فيها الناس عن تجاربهم، سواء فى إدمانهم أو إقلاعهم عن هذه العادة، والجميع يشيد بدور الصحيفة التى أنارت أبصارهم وكشفت إليهم المضار الصحية والاجتماعية، وبهذا كان النديم صاحب رسالة تفاعل معها المصريون، ووسط كل هذا الكم من فيض المعلومات التى تناولتها الصحيفة، لكن كان الرجل مدركًا مخاطر أخرى تتجاوز هذه الموضوعات، دون الانخراط فى السياسة إلا من قبيل الإشادة بالخديوى وبرئيس نظاره مصطفى باشا فهمى، لدرجة أنه لا يكاد يخلو عدد من الجريدة إلا وبه إشادة بالخديوى وحكومته.

بطريقة افتراضية مثيرة راح النديم ينشر فى صحيفته من خلال تخيله لمحكمة شكل هيئتها من خياله لمحاكمة الكسلة والمتواطئين والعاجزين عن أداء أعمالهم، الذين اتخذوا اللهو صناعتهم، ثم يواصل مرافعته على لسان محكمة الحقوق بمصر، وفقًا للمادة ٣٦٣ من قانون المرافعات، ويستدعى نائب الحكومة بالحضور فى الجلسة المدنيّة، التى حدد موعدها يوم الثلاثاء ٢٧ من ربيع الأول الساعة ٢ ظهرًا للمرافعة فى الاستئناف المرفوع ضدها من أبناء الوطن، تواصل الصحيفة تداول القضية، وهو ما أثار اهتمام كثيرين من قراء «الأستاذ»، وهى محاولة من النديم للابتعاد عن المسؤولية التى أراد الالتفاف حولها، ولم تسلم الصحيفة من الشائعات التى راحت تتردد والقائلة بإغلاق الصحيفة، وهو ما أحدث قلقًا فى أوساط المحبين للنديم وجريدته، وقد كتب فى عدد ١٨ أكتوبر ١٨٩٢، محذرًا من هذه الشائعة قائلًا: إن كل من سمع بهذه الشائعة يعرف مصدرها، وبالغ البعض بالقول إن النديم قد هرب من البلاد أو إنه نُفى، وكل هذا كان محض كذب، وحدد النديم مصدر هذه الشائعة وهى الحكومة، ثم يضيف النديم قائلًا إنه يخدم أمير البلاد وخديويها الأفخم وحكومتها الغراء والرعية المشمولة بعنايته، ويلاحظ أنه كلما زادت الشائعة زاد عدد قراء الجريدة والمشتركين فيها، لكن يبدو أن الحكومة كانت تتلمس معرفة الرأى العام لأنها كانت متوجسة من الصحيفة ومن تأثيرها، وكان فى استطاعتها إصدار قرار بغلقها لسبب أو لآخر.
اختلف جمهور قراء «الأستاذ» بشأن الكتابة باللغة العامية، فقد قال البعض إنه من الأيسر على جمهور القراء القراءة بالعامية، خصوصًا المرأة وغالبية الفلاحين والعمال، وهى طبقات يلتبس عليها المعنى عند كتاباتها باللغة العربية الفصحى، أما الداعون للكتابة بالعربية الفصيحة فحجتهم أن العامية تفسد اللغة وتشيع ثقافة العامة، وهو قول يجافى الحقيقة، فما لجأ إليه النديم فى كتابة معظم ما جاء فى صحيفته بالعامية فهى كتابات تقرب المعنى ولا تسىء إلى الفصحى، وتكاد الصحيفة تخلو من الأخبار، أخبار السياسة، أخبار الاقتصاد، أو حتى أخبار العالم، وغير ذلك من الموضوعات، ومن الواضح أن النديم أراد أن يتجنب الخوض فى دائرة ما يثير حفيظة المسئولين عليه، مكتفيًا بموضوعات ثقافية واجتماعية وأدبية وفكاهية، كثير منها نوادر تجذب القراء.
كان شرط عودة النديم إلى مصر وانخراطه فى الحياة العامة هو ابتعاده عما يثير الرأى العام بعدم الطعن على الحكومة ومؤسساتها وشخوصها، لكن اللافت هو احتفاء النديم بتتبع أخبار الخديو، وخصوصًا زياراته للمدارس من قبيل مدرسة عباس ومدرسة الصنائع ببولاق ومدرسة المبتديان بالناصرية ومدرسة المعلمين المدرسة الخديوية ومدرسة دارالعلوم ومدرسة المهندسخانة ومدرسة الطب ومدرسة الحقوق، وقد راح النديم يواصل الكتابة عن هذه الزيارات محتفيًا بجولة الخديو «الميمونة»، ولم تغفل الصحيفة الآثار السلبية الناجمة عن كثرة المصنوعات الأجنبية التى أغرقت الأسواق المصرية، وتعلق الصحيفة على هذه الظاهرة بالقول إن المنتجات الأجنبية قد تركت أثرًا كبيرًا على المنتجات المصرية؛ لارتفاع جودتها ورخص سعرها وإقبال الجمهور عليها، وقد نبه النديم لضرورة حماية هذه الصناعة التى يعمل فيها مئات الألوف من العمال وهم مهددون بالتشرد؛ لعزم أصحاب هذه الصناعات على غلق مصانعهم.

طرح عبدالله النديم فى افتتاحية الجريدة الصادرة فى ٢٩ نوفمبر ١٨٩٢، سؤالًا قديمًا جديدًا: لماذا تقدمَ الأوروبيون وتخلَّفْنا؟ كان النديم على وعى كامل بمعرفة القواعد التى أدخلت بعض العوالم الأخرى إلى درجة عالية من التقدم، ودول أخرى ومن بينها مصر قد تراجعت، وقال البعض إن الدين الإسلامى هو العامل الأكثر تأثيرًا فى تراجع أقطار الشرق. راح النديم يفند حجج القائلين بهذه الرواية، شارحًا الطاقة الهائلة للإسلام، التى تراجع المسلمون عن الإفادة منها، والأوروبيون قد عملوا بكل همة وفقًا لقوانين التقدم، بعد أن وقعت بلدان المشرق فريسة للطغيان وتسلط الحكام، وهو ما كان سببًا فى تراجعهم، وراح النديم يواصل كتاباته عن العوامل التى جعلت من أوروبا دولًا متقدمة، ابتداءً من عنايتهم باللغة والهوية التى حفزت الهمم وضاعفت من طاقات الشعوب، ودفعت بهم إلى ميدان المنافسة التى أفرزت علمًا وثقافةً ووعيًا، وهى أمور لم تحدث فى بلاد الشرق، معولًا كثيرًا على تعطل إمكانات المرأة فى المجتمعات الشرقية، فى حين أصبحت المرأة فى أوروبا بجانب الرجل فى المصنع والمدرسة، والجميع يتنافسون على قدم المساواة.
لقد عُنيت الصحيفة «الأستاذ» بالمرأة، تعليمًا وثقافةً، وأفردت موضوعات كثيرة عن الفتاة، وخصوصًا عن غير المتعلمات منهن، والتفتَ النديم إلى هذه الفئة، وجعل مخاطبتها والكتابة إليها قضية وطنية، لذا عُنى بالعامية لكى تكون وسيلة اتصال بهدف أن تستوعبها المرأة، وقد راحت الصحيفة تحتفى بمدارس البنات وتدعو إلى نشرها والترويج لها، وحث الأسر على إلحاق بناتهم بهذه المدارس التى تحصّن الفتاة وتحفظ لها شخصيتها وعفتها، لذا راحت ظاهرة المدارس الأهلية تنتشر، من قبيل جمعية العروة الوثقى التى أسسها النديم فى مدينة الإسكندرية ٦ أكتوبر ١٨٩٢، لم تتحمل الحكومة انتقادات عبدالله النديم، وتنبهت إلى إسقاطاته على كثير من مؤسسات الدولة، وهو ما أدى إلى إغلاق الصحيفة التى ودع فيها النديم قرّاءه فى العدد الأخير ١٣ يونيو ١٨٩٣، مَنفيًّا إلى إسطنبول، بعد أن بلغ عدد توزيعها ٢٨٤٢ نسخة، وقد راح النديم يقدم لمتابعيه وقرائه كشف حساب عما أنجزته الصحيفة فترة صدورها، وبقدر من المرارة والألم يودع قراءه ببيتين من الشعر قائلًا:
أودعكم والله يعلم أننى أحب لقاكم والخلود إليكم
وما عن قِلى كان الرحيل وإنما عن دواع تبدت فالسلام عليكم
وهكذا ودع النديم جمهوره وقراءه، وهو ينفطر ألمًا وحزنًا، خصوصًا بعد أن اشترطوا عليه أن يلتزم الصمت، لم يتحمّل النديم قسوة الحياة بعيدًا عن وطنه، بعد أن استبد به مرض «السل»، ولم يتحمل قسوة خصومه، وقد اشتد عليه المرض وفارق الحياة فى العاشر من أكتوبر ١٨٩٦، عن عمر لم يكمل الخمسين عامًا، ودفن فى مقبرة مجهولة، ومما يؤسف له أن أحدًا لم يتعرف على قبره، حينما رأت حكومة ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، نقل جثمانه إلى وطنه، مكتفية بإقامة تمثال له فى الإسكندرية موطن رأسه.

على الرغم من أن النديم لم يقطع شوطًا كبيرًا فى التعليم، استطاع بمهارة فائقة أن يشق طريقه إلى المعرفة، فقد عاش الحياة كلها بقساوتها ومرارتها فى حقبة تاريخية هى الأصعب فى التاريخ المصرى، خاصة بعد هزيمة العرابيين فى التل الكبير، بعد أن كان هو المتحدث باسمهم، وقد انهزم الجميع نفسيًّا وحنوا رؤوسهم، إلا أن الرجل لم يطأطئ رأسه ولم يساوم، بل ظل يقاوم وحيدًا بكل الوسائل، ولعله الرجل الوحيد من جيله الذى رفضت سلطات الاحتلال عودته إلى وطنه، فعلى ما يبدو فإن القلم والخطابة كانا أقوى بكثير من أى وسائل أخرى.
لعل من المناسب أن أتقدم بخالص الشكر للصديق الدكتور عاطف عبيد ومؤسسته «دار بتّانة» على هذا الوعى بأهمية العناية بتراث عبدالله النديم وصحيفته «الأستاذ» التى أشاعت خلال فترة ملتبسة من التاريخ المصرى قدرًا كبيرًا من الوعى بالثقافة الوطنية، ولعل ما أقدمت عليه دار بتانة من إعادة نشر صحيفة الأستاذ، تفتح به آفاقًا جديدة للباحثين فى التاريخ المصرى والصحافة المصرية التى أحدثت الصحيفة بها نقلة كبيرة، سواء من حيث الموضوعات التى تناولتها، أو من حيث الجوانب الفنية والتحريرية، وهو جُهد كبير تستحق هذه المؤسسة أن نقدم لها خالص الشكر على عنايتها بهذا المُصلِح الكبير، وبتراثه الصحفى والثقافى.