د. حسن حنفى يكتب عن الاختلافات والمتشابهات.. عطـر الأحباب.. السلفية والعلمانية

من بين الهموم الكثيرة التى كان المفكر الكبير الدكتور حسن حنفى مشغولًا بها طوال رحلته العلمية جدل السلفية والعلمانية، وهو ما كان دافعًا له لأن يخصص له مساحة كبيرة من إنتاجه الفكرى.
كان حنفى يسعى طوال الوقت فى الوصول إلى صيغة توافقية تجمع المتناقضات، مؤكد أنه هناك طوال الوقت تشابهات بين الأضداد، لذلك لا داعى للصدام، بل يمكن للجميع أن يتجاوروا فى سلام، وربما لهذا لم يكن له فريق يدافع عنه ويتبنى أطروحاته، فعادة الشرق عندنا إما أن تكون معنا أو تكون ضدنا.
فى عام 1996 نشر حسن حنفى مجموعة من المقالات عن السلفية والعلمانية، ونشرها فى جريدة «البيان» الإماراتية، وهى المقالات التى جمعها بعد ذلك فى كتابه «الدين والثقافة والسياسة فى الوطن العربى». من بين هذه المقالات مجموعة السبع مقالات التى خصصها لمناقشة أوجه التشابه وملامح الاختلاف بين السلفية والعلمانية، ونُشرت على وجه التحديد فى الفترة ما بين 13 مايو و24 يونيو 1996. ولأن هذا الجدل لا يزال قائمًا، ولأن الجماعات السلفية تستعيد عافيتها بالمنطقة فى ظل مواجهة من الجماعات العلمانية، نعيد هنا نشر هذه المقالات السبع، فلعل وعسى أن يكون بها ما يفيدنا فى فهم ما يجرى على الأرض.

المنهج
إذا كان تحليل بعض الشعارات السلفية مثل «الحاكمية لله»، «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «تطبيق الشريعة الإسلامية» يؤدِّى إلى أنه من حيث مضمونها لا تختلف كثيرًا إذا حسن فهمها عن مقاصد الشعارات العلمانية.
كما أن تحليل بعض الشعارات العلمانية مثل «العقل»، «العلم»، «الإنسان»، «الحرية»، «المجتمع»، «التقدم»، قد انتهى إلى أن معانيها موجودة فى التراث الإسلامى القديم، ففيمَ الخلاف إذن بين السلفية والعلمانية؛ هذا الخلاف الذى انتهى إلى اقتتال دموى بين الإخوة الأعداء فى مصر والجزائر والبحرين، مكبوتًا فى سوريا والعراق، وسلميًّا فى تونس والكويت واليمن وشبه الجزيرة العربية والأردن؟
قد يكون الخلاف فى المنهج؛ يستعمل السلفيون المنهج النازل، وهو المنهج النصى الذى يبدأ من النص إلى الواقع، واستنباط الحقيقة المطلقة من النص الحرفى من أجل تطبيقها على واقع جزئى؛ فالحقيقة معطاة سلفًا، ومدونة فى نص مسبق، خارج التاريخ، وخارج الزمان والمكان، واضحة لا تحتاج إلى تفسير، وبينة لا تحتاج إلى تأويل. لا تستدعى تأملًا أو نظرًا، كلها محكمات ولا متشابه فيها؛ لأنها تتعلق بأفعال العباد، وتُقيم أحكامًا لا شك فيها ولا تردُّد، وقد صلح هذا المنهج فى الماضى، فلماذا لا يصلح فى الحاضر؟ ألَا يصلح هذه الأمة ما صلح به أولها؟
والحقيقة أن هذا المنهج بالرغم من صوابه من حيث المبدأ، فإنه من حيث الواقع والاستعمال فى حاجة إلى مزيد من التدقيق والتفصيل؛ فالحقائق لا تستنبط من مبادئ ومصادرات سابقة فحسب، بل تستقرئ من الواقع، وتحصى من جزئياته أيضًا؛ فالاستقراء مكمل للاستنباط ومدعِّم له، والتأويل؛ أى المنهج الصاعد، الوجه الآخر للتنزيل؛ أى المنهج النازل، والشريعة أخت الحكمة، والدين متفق مع الفلسفة كما قال الفلاسفة القدماء.
والنص نفسه ليس مجرد مصدر مطلق خارج الزمان والمكان وخارج السياق والفهم الإنسانى؛ فالنص له سبب نزول.
النص إجابة عن سؤال يطرحه الواقع، ويجتهد الناس فى العثور على إجابات له، ويأتى الوحى مصدقًا لإحداها بعد أن يحتار الناس، وغالبًا ما يكون رأى عمر الذى كان يمدحه الرسول لتصديق الوحى له؛ فالمنهج القرآنى: أن السؤال يأتى من الواقع والوحى يُجيب عليه؛ لذلك يبدأ كثير من الآيات بلفظ يَسْأَلُونَكَ عن الخمر، وعن الميسر، وعن الأهلَّة وعن الروح.
والإجابات تبدأ بلفظ قُلْ إجابةً عن السؤال، وتلك ميزة الوحى الإسلامى الذى نزل «منجمًا» أو «مفرقًا» كى يقرأه الناس على مهل.
وقد كانت أمنية الكفار أن ينزَّل القرآن جملة واحدة حتى لا يخاطب الواقع ويجيب عن أسئلته المتتالية؛ فالنص والواقع واجهتان لشىء واحد؛ النص دون واقع كما تفعل الحركة السلفية طاقة مُبدَّدة فى الهواء، والواقع دون نص كما تفعل الحركة العلمانية قد يوقع فى النسبية.
وعيب المنهج النازل أيضًا أنه يُستخدم لإدانة الواقع ورفضه واستبعاده بل استبداله، فلا مصالحة بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين الهداية والضلال، بين الإسلام والجاهلية كما يبدو ذلك فى كتابات المودودى؛ نظرًا لظروف اضطهاد المسلمين فى الهند، وفى كتابات سيد قطب الأخيرة؛ نظرًا لظروف اضطهاده وتعذيبه فى السجن. فى حين أن الواقع ليس كله خطأ وزيفًا وضلالًا وبهتانًا.
الواقع فى بعض جوانبه هو ميدان الفطرة والحس السليم والطبيعة الخيرة.
الواقع يحتاج إلى إكمال وليس إلى إدانة، إلى إصلاح وليس إلى هدم، إلى تطوير وليس إلى استبعاد.
كان هذا هو المنهج الإسلامى فى تعامله مع واقع شبه الجزيرة العربية، مع اليهودية والنصرانية والحنيفية، دين إبراهيم للإكمال والتطوير «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا».
كما يتم انتزاع النص من سياقه؛ فالنص جزء من كلٍّ، ولا يُفهم النص إلا مع غيره من النصوص دون انتقاء؛ فنصوص الأحكام جزء صغير من مجموع النصوص، والحدود جزء صغير من الأحكام، وليست كل النصوص أوامر ونواهى تتوعد بالعقاب، وتنذر بالثبور، هناك نصوص أخرى تحث على الرحمة والشفقة واللين والرفق وحسن المعاملة ولطف المعاشرة، واستبعاد الفظاظة والغلظة وسوء المعاملة والاغتياب والتنابز بالألقاب، وأكل لحم الأخ الميت.
كما أن النص لغة، واللغة فى حاجة إلى فهم وتفسير وتأويل، اللغة بها حقيقة ومجاز، ظاهر ومئول، محكم ومتشابه، مجمل ومبين، مطلق ومقيد، الكتاب لا ينطق إنما ينطق به الرجال؛ لذلك تجاوز المعتزلة والفلاسفة والصوفية قديمًا المعنى الحرفى للقرآن من أجل فهم مقاصده وغاياته، وروح النص، ما سماه القدماء فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، أدل على المعنى من حرف النص.
بهذا الفهم للمنهج النازل، المنهج النصى، التفسير الحرفى، وانتقاء النص يقترب السلفيون من العلمانيين، ولا يستبعد العلمانيون السلفيين؛ فلكل من الفريقين نص وواقع، إنما الخلاف فى البداية وليس فى النهاية.
ويستعمل العلمانيون المنهج الصاعد ويعنى البداية بالواقع والإحصاء والاستقراء، وتحليل التجارب الفردية والاجتماعية، ورصد حوادث التاريخ؛ فلغة الأرقام أبلغ لغة، ولغة الإحصاء أكثر إقناعًا من الخطابة والإنشاء، ويعتمد الاستقراء على الحس السليم الذى يعطى الأرقام للتحليل الإحصائى؛ أى للعقل السليم، وباجتماع مادة الواقع وتحليل العقل تتم صياغة الحجة ويُقام البرهان، لا يبدأ من أحكام مسبقة، ولا يستنبط نتائجه من نصوص سلفًا، بل يعتمد على الملاحظة والمشاهدة، ويستقرئ القوانين الاجتماعية من الواقع وتحديده كمًّا بالأرقام والمعادلات والنسب ومعاملات الارتباط والتحليل العاملى.
والحقيقة أن هذا المنهج يُفيد فى تصوير الواقع، ويُحوِّل الخطابة والشعار إلى كمٍّ وأرقام، ومع ذلك فالأرقام قد تخطئ إذا ما كان الإحصاء ناقصًا أو كان غير دال. وقد تكون العينة العشوائية غير ممثلة للمجموع؛ فالإحصاء مثل الاستقراء لا يكون إلا ناقصًا؛ لأنه لا يمكن إحصاء الكل، ويُكتفى بعينة منه. كما أن التحليل الكمى لا يكون كافيًا دون قراءة كيفية. وقد تخطئ القراءة وتتعدد القراءات. وهنا تتدخل المذاهب الفكرية والأيديولوجيات السياسية فى توجيه القراءات، وكأن المعرفة العلمية تحتاج أيضًا إلى نص أو مصادرة أو بعض الافتراضات المسبقة. كما قد يكتفى الرصد بالوصف والتحليل والفهم والمعرفة دون إعطاء آليات للتغيير والتطوير على عكس السلفيين الذين يبدأون بتوجيه النص نحو الواقع من أجل التغيير حتى دون تأويل للنص أو رصد لمكونات الواقع، كما هو الحال فى أساليب الدعاة والمصلحين النقليين مثل محمد بن عبدالوهاب منذ قرنين ونصف من الزمان.
فالمنهج النازل الذى يستعمله السلفيون والمنهج الصاعد الذى يستعمله العلمانيون هو أحد الأسباب فى هذا الخلاف بين التيارين الرئيسيين المكونين لثقافة الأمة. ولمَّا كان «التنزيل» و«التأويل»؛ أى النزول والصعود، حركتين لمنهج واحد متكامل يمكن إذن عقد حوار ثقافى وسياسى وطنى بين الفريقين؛ فالمنهجان متمايزان ولكنهما متكاملان. التنزيل فى حاجة إلى تأويل، والتأويل فى حاجة إلى تنزيل. كل منهج يتضمن المنهج الآخر فى باطنه ويعتمد عليه. المنهج الأول هو الوجه الآخر للمنهج الثاني، والمنهج الثانى هو الوجه الآخر للمنهج الأول. ووحدة المنهج شرط لوحدة الفكر، وطريق إلى رفع العداوة بين الفريقين المتقاتلين. كلاهما يعمل فى وطن واحد، وربما لتحقيق غاية واحدة، المصلحة الوطنية العامة مع تكامل المنهجين وليس تعارضهما، ووحدة الهدف والقصد تسمح بتعدد الطرق والوسائل.
وقد تحقَّقت هذه الوحدة المنهجية فى المنهج الأصولى كما حدَّده القدماء وكما وضعه بعض المناطقة المحدثين؛ إذ يجمع المنهج الأصولى بين الأصل والفرع؛ أى بين الاستنباط والاستقراء، بين المنهج النازل والمنهج الصاعد، بين النص والواقع؛ فالأصل هو النص المعروف، الحكم والعلة. ولا يُعرف إلا بتحليل النص لغةً وسبب نزول ونسخًا وعلةً منصوصًا عليها فيه. ولا يُعرَف الفرع إلا بتجربة ورصد وتحليل للعلل المؤثرة أو الفاعلة أو المناسبة فى العالم الخارجى. فإذا ما كانت العلة فى الأصل والمعروفة بالاستنباط متفقةً مع العلة فى الفرع والمعروفة بالاستقراء أخذ الفرع علة الحكم؛ لذلك عرَّف الأصوليون القياس بأنه «تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما فى العلة».
كل معرفة فى حاجة إلى أصلين: ثابت ومتحول، ويختلف الفلاسفة فى نوع الثبات بين النص الديني، والنص المذهبى، والمصادرة المنطقية، والمقدمة القياسية. ولا خلاف فى التحول الذى هو الواقع الاجتماعى، وأن رصد الواقع الاجتماعى كما يقوم به السلفيون والعلمانيون لا خلاف عليه: الاستعمار، والتخلف، والقهر، والتجزئة، والفساد، والتميع، وضياع الهُوية، وسلبية الجماهير. إنما الخلاف فى وسائل الفهم وطرق العلاج.
الخلاف فى المنهج وارد نظرًا لتعدد المناهج، ولكن التعصب المنهجى يضر بالموضوع؛ فالمهم النتيجة وآليات التغيير، تعددية المناهج واردة ولكن التضارب بينها يشق ثقافة الأمة؛ لذلك تتكامل المناهج حتى يصحِّح بعضها البعض الآخر. المنهج فى النهاية وجهة نظر، وطريقة اقتراب من الواقع. المنهج أداة وليس غاية، وسيلة وليس نتيجة. الخلاف فى المنهج ليس خصامًا واقتتالًا، بل هو تكامل وتمايز. وإذا قرَّر القرآن أن لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا «٥: ٤٨»، فإن منهج الأمة هو الجمع بين النص والواقع، بين التنزيل والتأويل. ففيمَ الخلاف، وفيمَ الخصام؟ ولماذا الاقتتال؟

اللغة
بعد الخلاف فى المنهج بين السلفيين والعلمانيين، واستعمال السلفيين المنهج النازل، من النص إلى الواقع، واستعمال العلمانيين المنهج الصاعد، من الواقع إلى النص، قد يرجع الخلاف بين الفريقين المتناحرين إلى خلاف فى اللغة؛ فاللغة هى العنوان الخارجى للجذب أو التنافر بين الناس، وبين الفرق المختلفة، وهى أداة الاتصال أو الانقطاع بين المتحاورين، وعادةً ما تكون محملةً بشحنة من المعانى الشائعة والمتضادة، يفهمها كل فريق بطريقة مخالفة، فيقع الشقاق الذى ينتهى إلى خصام واستبعاد متبادل يصل إلى حد تكفير السلفيين للعلمانيين أو تخوين العلمانيين للسلفيين. اللغة هى الفكر والمعبر إليه، وكثيرًا ما يكون الاتفاق فى الفكر ممكنًا والاتفاق على اللغة مستحيلًا، مع أن الحوار يتطلَّب الاتفاق على اللغة حتى يكون الفكر ممكنًا.
واللغة هى مجموعة الألفاظ المستعملة عند كل من الفريقين؛ فالجمل ألفاظ، والألفاظ شحنات للاستحسان أو الاستهجان، للتقارب أو للتباعد. اللفظ هو الثوب والمعنى هو الجسد، وكثيرًا ما يعبِّر لفظٌ قديم عن معنًى جديد أو يعبِّر لفظ جديد عن معنًى قديم. كما تتغيَّر معانى الألفاظ عبر العصور وتوالى الأجيال؛ فللألفاظ حياة وموت وبعث. تحليل الألفاظ إذن وعلاقتها بمعانيها وبالأشياء التى تشير إليها ضرورى للحوار بين السلفيين والعلمانيين، الفريقين المتخاصمين فى حياة الأمة.
يستعمل السلفيون ألفاظًا تقليدية تراثية قديمة، تأتى من العلوم الإسلامية فى لحظة نشأتها وتكوينها وتطورها واكتمالها فى القرون السبعة الأولى دون تطوير أو تغيير أو تبديل أو تحديث فى القرون السبعة التالية، لا يفهمها إلا أهل الاختصاص فى المعاهد الأزهرية والجامعات الدينية والمشايخ والعلماء ورجال الدين، مثل الإيمان والكفر والشرك. وهى ألفاظ تتطلب البحث عن معانيها المتجددة؛ فقد يكون الإيمان بغير الله وهو مرذول، وقد يكون الكفر بالطاغوت وهو محمود، وقد يكون الشرك بالله مع السلطة والجاه والمال والشهرة وملذات الحياة وهو مرذول، وقد يكون التوحيد فى الشخص وفى المجتمع وفى الإنسانية وهو محمود. فاستعمال مثل هذه الألفاظ دون بيان معانيها يجعل الخطاب السلفى تقليديًا فى مواجهة خطاب علمانى عصرى، فيستحيل الحوار نظرًا لبعد المسافة الزمنية للخطابين، ما يزيد على ألف عام.
وقد تكون الألفاظ عقائديةً قطعية مغلقة لا تقبل الحوار، ألفاظ تطلب التسليم والطاعة والإيمان المطلق دون إعمال للعقل والفكر ودون تساؤل أو نقاش، وذلك مثل ألفاظ الدين والإسلام؛ فقد جرت العادة أن فهم الدين فى مقابل الدنيا يتعلق بعالم الغيب أكثر ممَّا يتعلق بعالم المشاهدة. مع أن الدين فى معناه الإسلامى يشمل الدنيا وعالم الشهادة والواقع والمجتمع والناس والمصالح وكل ما يتحدث فيه العلمانى. كما أن الإسلام كلفظ فى التداول يوحى بمعنى الدين الذى أتى به آخر الأنبياء والذى يُطلَق بسببه على معتنقيه اسم المسلمين. مع أن الإسلام قد يعنى الدين الفطرى الطبيعى العقلى الشامل، دين البراءة الأصلية، الدين الواحد منذ آدم ونوح وإبراهيم حتى موسى وعيسى ومحمد. وقد يشمل أيضًا كل من يؤمن بالله ويعمل صالحًا، ومن ثم يتسع مفهوم الإسلام ليشمل غيره من الديانات بما فى ذلك ديانات الشرق. ليس الإسلام إذن دين جماعة أو طائفة أو فرقة، بل هو دين البشر جميعًا، وهو ما يحاول العلمانيون الاقتراب منه.
وقد تكون الألفاظ غيبيةً تتعلق بعالم الغيب أكثر مما تتعلق بعالم الشهادة، وبأمور الآخرة أكثر مما تتعلق بأمور الدنيا، وبما يحدث للإنسان بعد الموت أكثر مما يحدث للإنسان قبل الموت. فيكثر الحديث عن الجن والملائكة، والصراط والميزان والحوض، والجنة والنار والأعراف؛ ممَّا يبعد الخطاب السلفى عن شئون الواقع والمجتمع، ويجعل العلمانى يتساءل عن جدوى الغيب والحديث فيه والعالم فى أزمة، ولبنان يُذبح، والشيشان تُستشهد، والجائع يموت، ويُفضِّل الحديث عن الظلم والعدل، والعدوان والنضال، وهى معانٍ قد تكون مطويةً فى بعض الألفاظ السلفية ورموزها الأخروية.
وقد تكون الألفاظ قانونيةً إلزامية تتطلَّب الواجب والفرض، طاعةً دون تردد، وتطبيقًا دون تساؤل، كما يعبِّر أحيانًا الخطاب السلفى عن ذلك باسم تطبيق الشريعة الإسلامية. فكل شريعة فرض، وكل أمر واجب، وتطبيق الحدود لا مفر منه حتى يتحول الخطاب السلفى أحيانًا إلى نوع من القمع والإرهاب للدولة وللناس تخويفًا للسلطة والشعب. مع أن هذه الألفاظ لا تُغفل الحرية الإنسانية والاختيار الحر، وازدهار الطبيعة وتلقائيتها؛ فالواجب ما تقبله النفس طواعيةً مثل أداء الأفعال فى أوقاتها والنهى عما تعافه النفس بطبعها مثل عدم إزهاق الروح. وتطبيق الشريعة أن تعطى الحقوق قبل أن تطالب بالواجبات، ومن ثم تقترب معانى الألفاظ من الخطاب العلمانى إلى حد كبير.
وقد تكون الألفاظ سلبيةً منعكفة على الذات، توحى بأن مشاكل الخارج فى الداخل، وأن تغيير المجتمع يبدأ بتغيير الفرد، ومن ثم انتشرت فى الخطاب السلفى ألفاظ التوكل والورع والخشية والخوف والزهد، والصبر والرضا والقناعة من الموروث الصوفى القديم. وقد أثارت هذه الألفاظ الخطاب العلمانى وجعلته يُحدث رد فعل عليها بألفاظ مقابلة تدعو إلى العمل والجد والاجتهاد والسعى والثقة بالنفس والمطالبة بالحقوق، وهى معانٍ إسلامية بألفاظ حديثة.
أما الخطاب العلمانى فإنه يستعمل فى المقابل ألفاظًا حديثة نشأت من الوافد الثقافى الغربى وإن كانت معانيها فى كثير منها لا تختلف عن معانى الألفاظ السلفية. تستعملها النخبة، وتنتشر فى الأوساط الثقافية، وأصبحت اللغة الشائعة فى الثقافة والسياسة والإعلام فى الجامعات الوطنية، خاصةً فى كليات الحقوق والآداب، وهى ألفاظ مغرية للشباب، مفتوحة تدعو إلى الحوار فى الداخل والخارج، بها قدر من العمومية والشمول. أصبحت شائعةً فى كل الثقافات لدرجة أنها أصبحت نموذجًا للغة العالمية وللثقافة العالمية، للغة الإنسانية وللثقافة الإنسانية؛ فهى ألفاظ تحديثية تشير إلى التطور والتنمية والتخطيط والتجديد والتغيير والإصلاح. وهى ألفاظ ليست غريبةً على الفكر الدينى الإصلاحى الحديث الذى هو حلقة الوصل بين السلفية والعلمانية. ولمَّا ضعف الإصلاح كما ضعفت الدولة ظهر التقابل بين الخطابين السلفى والعلمانى، كما ظهر الصراع بين الجناحين الرئيسيين للدولة الوطنية.
وهى ألفاظ عقلية تدعو إلى التفكير والتأمل، وتطالب بالاستدلال والبرهان وتحكيم المنطق، فتجد لغةً مشتركة بين الناس يتم الحوار حولها وبها دون استبعاد أو استقصاء، وهى دعوة فى لب الخطاب السلفى فى أصوله الأولى حيث يدعو القرآن إلى إعمال العقل وطلب البرهان.
وهى ألفاظ اجتماعية واقعية تتحدث عن مصالح الناس؛ الفقر والجوع والقحط، القهر والكبت والحرمان، الإزاحة والتهميش والاستبعاد، العدل وتوزيع الدخل والأجور، الإسكان والمناطق العشوائية والنجوع، المواصلات والمجارى وسكان الأرصفة. وهل هذه المعانى والأوضاع بعيدة عن الخطاب السلفى والإسلام الاجتماعى السياسى؟ أليست المصلحة أساس التشريع؟
وهى ألفاظ طبيعية تلقائية تُعبِّر عن رغبة الإنسان والمجتمع فى التحرر مثل الحرية والاستقلال، وتعترف بواقع البشر وحاجات الناس الأساسية. وهل هذه الألفاظ بعيدةً عن مقاصد الشريعة فى الحفاظ على النفس والعقل والدين والعرض والمال؟ أليست الشريعة الإسلامية شريعةً وضعية فطرية؟ ألم يضع علماء الأصول بعض القواعد التى تُعبِّر عن هذه المقاصد مثل: «الضرورات تبيح المحظورات»، «عدم جواز تكليف ما لا يُطاق»، «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح»؟
وأخيرًا، هى ألفاظ إيجابية تدعو إلى النضال والتعمير والعمل والإنتاج والاستثمار، وهى معانٍ مطوية فى الألفاظ القديمة مثل الجهاد والعمل والسعى والكد والاجتهاد، والاستخلاف فى الأرض وإعمارها. فالمسافة بين اللغتين السلفية والعلمانية ليست بعيدةً ولا متناقضة.
وتوجد لغة ثالثة هى فى نفس الوقت سلفية وعلمانية لا تحتاج إلى حوار، هى لغة مشتركة فى أصول كل منهما مثل: الأرض، والشعب، والقوم، والفعل والعمل، والعقل والعلم، والطبيعة والفطرة، والجهاد ضد التخلف والارتكان إلى الأرض والقعود. فلماذا يأخذ كل خطاب الحد الأعلى ولا يأخذ الحد الأدنى فى اللغة؟ لماذا يأخذ الألفاظ التى تبدو المسافة بينها شاسعةً ويترك الألفاظ المتقاربة التى تسمح بالالتقاء والحوار؟
إن من شروط الحوار وجود لغة مشتركة وألفاظ مقبولة عند الجميع حتى يمكن الانتقال من اللفظ إلى المعنى كخطوة إلى الانتقال من المعنى إلى الشىء؛ فالحوار فى الواقع أبلغ وأقدر على توحيد الفكر واللغة من الحوار على مستوى الخطاب.
تلك كانت مهمة الفلاسفة قديمًا، استعمال الألفاظ الوافدة الجديدة بعد أن شاعت وتم استعمالها فى ثقافة الحياة اليومية من أجل التعبير عن المعانى القديمة الموروثة دفاعًا عن وحدة الثقافة ودرءًا للازدواجية فى الفكر، وخلقًا لخطاب ثالث يجمع بين القديم والجديد، ويوحِّد بين الوافد والموروث، ولا مشاحة فى الألفاظ كما يقول ابن سينا ما دام المعنى الأصيل لم يتغير، فى حين أن الثوب قد تغير، وهو اللفظ، دونما حرج فى العقيدة أو فى الشريعة؛ فالله أمكن التعبير عنه بألفاظ واجب الوجود، والذات، والعلة الأولى، والمحرك الأول، والصورة المحضة. ولا ضير من تعريب الألفاظ الوافدة إن استعصى نقلها إلى لغة عربية أصيلة، فنشأت ألفاظ الجغرافيا، والفلسفة، والموسيقى، والهندسة، كما تم تعريب ألفاظ الديمقراطية والليبرالية فى ثقافتنا المعاصرة.
الخلاف بين السلفيين والعلمانيين هو إذن خلاف فى لغة الخطاب وألفاظه التى تبدو متباعدة، فى حين أن المعانى قد تكون متقاربة. فهل يمكن تجاوز اللفظ إلى المعنى، واللغة إلى القصد حتى يتحول الخصام إلى حوار، والخلاف إلى اتفاق، والاقتتال إلى مصالحة؟

القصد
إذا كان الخلاف بين العلمانيين والسلفيين فى المنهج: المنهج الصاعد الذى يقوم على استقراء الوقائع والانتهاء إلى الحكم فى مقابل المنهج النازل الذى يستنبط الحكم من النص، وكان الخلاف أيضًا فى اللغة، اللغة الإنسانية المفتوحة العقلية فى مقابل اللغة العقائدية التشريعية المغلقة، فإن الخلاف قد يبدو أيضًا فى القصد.
ويعنى القصد الغاية والهدف، فالفكر يتحدَّد بقصده وعلته الغائية. ويعنى القصد أيضًا البؤرة والمركز والمحور الذى يحدد مصب التفكير وقلبه ومركزه. ويعنى أيضًا المستوى، مستوى النظر والتفكير طبقًا لاتجاه الفكر إلى أعلى فى الإلهيات أو إلى أسفل فى الطبيعيات، أو إلى الأمام فى الإنسانيات. ويعنى أيضًا المنظور والرؤية، فالفكر اختيار لمنظور وتحديد لرؤية تضع تصورًا عامًّا يتكون حول القصد، وأن اختلاف المذاهب الفكرية والسياسية إنما هو خلاف فى هذا القصد بالمعنى العام.
والخطاب السلفى— كما هو واضح من الكتابات المدونة والخطاب الشفاهى— خطاب يتمركز حول الله مدافعًا عنه، ومتحدثًا باسمه، ومعلنًا حقوقه وكأنها ضد الناس والبشر والواقع والتاريخ وليست معها. ويتحدث السلفى من موقع سلطة ومن مركز قوة، وهل هناك سلطة أعظم وقوة أكبر من سلطة الله وقوته؟! ولا يمكن الاعتراض عليه وإلا كان اعتراضًا على الله. ولا يمكن مناقشته أو التساؤل حوله وإلا كان ذلك ضعفًا فى الإيمان وتشكيكًا فى العقيدة، ولا يمكن إيجاد بديل لتفسيره وإلا كان كفرًا وإلحادًا يستوجب تطبيق حد الردة.
وهو خطاب ثنائى الطابع يقسم الوجود كله قسمين: الله والعالم، الآخرة والدنيا، الحياة والموت، الحق والباطل، الصواب والخطأ، الإيمان والكفر، الإسلام والجاهلية، الحلال والحرام، الرجل والمرأة، الهداية والضلال، التوفيق والخذلان، الطاعة والمعصية، الجنة والنار، الثواب والعقاب، الوعد والوعيد.. إلخ. ويضع السلفى نفسه فى الطرف الأول، وهو الطرف الحسن، ويضع الناس فى الطرف الآخر، وهو الطرف القبيح، ومن ثم يستحيل الحوار، لأن على الطرف الأول ابتلاع الطرف الثانى أو إلغاءه والاستيلاء عليه، صلحًا أو عنوة، سلمًا أم حربًا، سلامًا أم سيفًا. وقد تتضاعف هذه الثنائية فتتدرَّج وتصبح تصورًا هرميًّا للعالم يتراوح بين الأعلى والأدنى، بين القمة والقاعدة، بين الأشرف والأخس، بين الأكمل والأنقص وكما هو واضح فى النظام العنقودى فى تنظيم الجماعات.
لذلك غلب على الخطاب السلفى التصور الرأسى، وتصور العلاقة بين الطرفين على نحو رأسى، رئيس ومرءوس، سيد وعبد، حاكم ومحكوم، إمام ومأموم، أمير ومأمور. ومن يرفض أن يكون عبدًا لله مطيعًا لأوامره خاشيًا عقابه؟ كما ظهر الخطاب السلفى خطاب عزة وجلال وسلطان وعُلُو، ومن يقبل الدنيَّة فى دينه؟! وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «٣: ١٩٩».
ويغلب على الخطاب العلمانى أحيانًا النقيض، فهو خطاب يتمحور حول الإنسان والمجتمع والتاريخ البشرى، وينتسب إلى «الإعلان العالمى عن حقوق الإنسان والمواطن». هو خطاب علمانى يبدأ من العالم وليس خطابًا دينيًّا لاهوتيًّا ثيوقراطيًّا يبدأ من الله، يدافع عن حقوق الإنسان المنتهَكة باسم الدين مرة وباسم الدولة مرة أخرى.
وهو خطاب واحدى لا يقوم على ثنائيات متعارضة بين طرفين كما هو الحال فى الخطاب السلفى التقليدى، يستعمل ألفاظًا أحادية الجانب مثل القانون، المجتمع، المواطن، الأخلاق، السياسة.. إلخ. لا يقسم العالم قسمين، أحدهما أفضل وأكمل وأشرف من الآخر، بل يأخذه وحدة واحدة، الإنسان من حيث هو إنسان دون قسمته إلى بدن ونفس، والواقع باعتباره واقعًا دون قسمته بين حق وباطل، والسلوك باعتباره سلوكًا دون قسمته إلى حلال وحرام. وهو خطاب يرفض التراتبية والتصور الهرمى للعالم، ويضع كل الظواهر على مستوى واحد من التحليل، دينية أو اجتماعية أو سياسية أو قانونية أو تاريخية أو فكرية فنية أدبية.
لذلك غلب على الخطاب العلمانى التصور الأفقى للعالم، يضع الأطراف فى المعادلة بين الأمام والخلف وليس بين الأعلى والأدنى، على نفس المستوى من الشرعية دون أفضل وأقل فضلًا، أكمل وأنقص، أشرف وأخس. فإذا كان الخطاب السلفى بتصوره الرأسى قد اكتشف الأبدية والخلود فإن الخطاب العلمانى بتصوره الأفقى قد اكتشف التاريخ. والآن: كيف يمكن عقد حوار بين هذين الخطابين السلفى والعلمانى مع هذا الاختلاف فى القصد؟ هل المسافة بينهما شاسعة للغاية لا يمكن عبورها أم إنها قريبة للغاية يسهل وصلها فى ساحة واحدة وفضاء فكرى واحد؟
إن الخطاب السلفى المتمركز على الله فى حقيقة الأمر يمكنه أن يكتشف الحضور الإنسانى البالغ فيه، فقد عبَّر الله عن نفسه واصفًا ذاته وصفاته وأفعاله بلغة البشر تقريبًا للأفهام. تتصف ذاته بالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، وهى صفات إنسانية تقال فى الذات الإلهية على نحو مطلق وفى الإنسان على نحو نسبى. وأسماء الله التسعة والتسعون كلها مُثُلٌ إنسانية عامة فى العدل والرحمة والعزة والجلال والقسط والكرم والجود، والوحى نفسه كلام الله للبشر على لسان الرسول، فهو قصد من الله إلى الإنسان، وخطاب من الله إلى الإنسان. وقد وضح ذلك كله فى علم الكلام دون مساس بالتنزيه أو وقوع فى التشبيه.
وظهر البُعد الإنسانى فى باقى العلوم النقلية العقلية الإسلامية، فلا توجد حضارة حلَّلت النفس البشرية وقواها قدر تحليل الحضارة الإسلامية وظهور البعد الإنسانى وإسقاطه على مظاهر الطبيعة فى النبات والحيوان وحتى الجماد، قوى التغذى والنمو والتوليد، وقوى الإدراك والحركة، وقوى الإرادة والنطق. وقد تجلَّى ذلك على خير وجه فى رسائل إخوان الصفا.
كما تجلَّى البُعد الإنسانى فى أصول الفقه فى مقاصد الشريعة الخمسة: الحياة «النفس»، والعقل، والدين، والعرض، والمال. وقام علم القواعد الفقهية لتقنين حياة الإنسان باعتبارها المقصد الأسنى للشريعة مثل: لا ضرر ولا ضرار، عدم جواز تكليف ما لا يُطاق، رفع الحرج، درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، درء الحدود بالشبهات. كما تمَّ وصف الفعل الإنسانى فى واقعة ما سُمى بالسبب والشرط والمانع من أجل معرفتها قبل تطبيق الحدود، فلا تُقطع يد لسرقة عن جوع وبطالة وفقر، فشرط الحد الكفاية والعدل والعمل وإشباع كل حاجات الإنسان الأساسية.
وقد تجلَّى البُعد الإنسانى عند الصوفية فى نظرية «الإنسان الكامل» عند الجيلى وابن عربى، وفى المقامات والأحوال، وهى تحليل للعواطف والانفعالات الإنسانية، وفى الحب الإنسانى الذى يتجلى فيه الحب الإلهى، وفى لغة الرمز الإنسانية. والله يظهر فى النفس وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد لدرجة قول البعض منهم بالحلول والاتحاد.
وفى العلوم النقلية الخالصة ظهر البُعد الإنسانى أيضًا فيها، فالإنسان هو موضوع الخطاب فى القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ «٨٢: ٦، ٨٤: ٦». وفى الحديث ما أكثر ما قيل دفاعًا عن الإنسان ورحمةً به، فالله أرحم بالعباد من رحمة الأم بفلذة كبدها. وقد كُتبت عدة تفاسير للقرآن خاصة فى الفكر الإصلاحى مثل «تفسير المنار» لرشيد رضا مُستَمَدًّا من تعاليم الإمام محمد عبده على أساس إنسانى اجتماعى. كما وضح البُعد الإنسانى الأدبى اللغوى البلاغى فى «فى ظلال القرآن» لسيد قطب. وفى علوم السيرة كتب المعاصرون سيرة الرسول من منظور إنسانى مثل: «حياة محمد»، «فى منزل الوحى» لمحمد حسين هيكل، «على هامش السيرة» لطه حسين، «محمد رسول الحرية» لعبدالرحمن الشرقاوى، «عبقرية محمد» للعقاد، وغيرها من كتب السيرة المحدثة. وفى الفقه لا تقل المعاملات أهميةً عن العبادات، فالمعاملات تُمثِّل البُعد الأفقى والعبادات تُمثِّل البعد الرأسى، والفقه فى النهاية هو فقه المجتمع والبشر والناس.
السلفى إذن مُطالَب باكتشاف مُكوِّنات الخطاب العلمانى وقصده فى ثنايا خطابه الموروث حتى لا يبدو الخطاب العلمانى فى وادٍ، والخطاب السلفى فى وادٍ آخر، بينهما برزخ لا يلتقيان.
والقصد الإنسانى فى الخطاب العلمانى فى حاجة أيضًا إلى مراجعة، فالإنسان فى الخطاب العلمانى الذى يستمد أصوله من الغرب هو الإنسان الفردى المتغير، الإنسان الواقعى بأنانيته وغروره وليس الإنسان بما هو إنسان، الإنسان الشامل الذى لا يعرف حدود الأوطان أو الأعراق أو الأقوام، لذلك أصبح شعار بروتاجوراس السوفسطائى «الإنسان مقياس كل شىء» عنوانًا للحضارة الغربية التى منها يستمد الخطاب العلمانى أصوله. غاب المعيار، واستُبعدت القيمة، وعم الاشتباه، وسادت النسبية التى انتهت إلى شكية ولا أدرية وعدمية حيث لم يوجد شىء، لا إله ولا إنسان. وقتل الألمانى الفرنسى، وحارب الأوروبى الروسى، واستعمر الغربى الأفريقى والآسيوى والأمريكى الأصلى. والنزعة الإنسانية على أشدها فى الحضارة الغربية منذ بدايتها فى القرن السادس عشر عند أراسموس حتى نهايتها فى «الوجودية فلسفة إنسانية»، وحتى اختفائها كلية فى البنيوية وما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة. فلا يوجد شىء، وإن وُجد فهو العدم.
فهل يستطيع العلمانى أن يبحث عن قصده من جديد فى ثنايا تراثه دون رفضه جملةً وتفصيلًا؟ وهل يستطيع أن ينقد الوافد الغربى الذى ينهل منه دون تقليده جملةً وتفصيلًا؟
إن السؤال للخطابين السلفى والعلمانى هو: هل الدين غاية أم وسيلة؟ إن الدين ليس غايةً فى ذاته بل هو وسيلة لإسعاد البشر وتحقيق مصالح الناس. وما زال حيًّا فى المجتمعات التراثية وقادرًا على تحقيق المقاصد العامة للشريعة والمصالح العامة فى الخطاب العلمانى. وهل هناك لغة أخرى غير لغة الواقع والبشر والناس؟ وما العيب فى الفكر الإصلاحى الذى حاول إيجاد خطاب ثالث يُوحِّد فيه بين القصدين، السلفى والعلمانى قبل أن يتباعدا فى هذا الجيل بعد ضعف الدولة، جسد الوطن وقلبه، فأصبحت كل رئة تتنفس بمفردها وخارجها بل وضدها؟ أليس الأولى بالخطابين السلفى والعلمانى إعادة الحياة إلى الجسد الهامد والقلب الساكت بعودة الرئتين إليه والتنفس فى داخله وإعادة الحياة له؟

المصدر
إذا كان الخلاف بين السلفيين والعلمانيين فى المنهج؛ المنهج النازل من النص إلى الواقع عند السلفيين فى مقابل المنهج الصاعد من الواقع إلى النص عند العلمانيين، وفى اللغة؛ اللغة العقائدية التشريعية المغلقة فى مقابل اللغة الإنسانية العقلية المفتوحة، وفى القصد؛ القصد الإلهى فى مقابل القصد الإنسانى الاجتماعى، فإن الخلاف قد يكون أيضًا فى المصدر، الموروث عند السلفيين، والوافد عند العلمانيين.
فالموروث القديم هو المصدر الأول عند السلفيين، ما تركه الآباء والأجداد والعلماء الأجلاء خاصةً فى العلوم النقلية، فى القرآن والحديث والتفسير والسيرة والفقه، وفى العلوم العقلية النقلية وفى مقدمتها علم العقائد وعلم الأصول. ويغلب على الموروث كله الاتجاه السلفى السائد، الأشعرية فى العقائد، والشافعية فى الأصول، والتفسير بالمأثور، وتراث أهل السلف؛ أهل السنة والحديث، الفرقة الناجية؛ لذلك يكثر الاستشهاد بالغزالى وأحمد بن حنبل وابن تيمية والسيوطى حتى الحركة السلفية الحديثة، فلا يُصلِح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.
والوافد الغربى هو المصدر الأول عند العلمانيين، وهو ما تلقيناه منذ فجر النهضة العربية على مدى قرنين من الزمان، ترجمةً وتلخيصًا وشرحًا وعرضًا وتأليفًا. وهو الوافد الحديث العصرى العلمى العقلانى المدنى التقدمى الذى أصبح ثقافةً عالمية ونموذجًا يُحتذى عند كل الشعوب فى مقابل ثقافتها الموروثة القديمة الدينية المحلية «الماضوية».
وقد تمثَّلت الأغلبية الموروث القديم، ورأت فيه دفاعًا عن هُويتها وتواصلها فى التاريخ وحمايتها من مخاطر التغريب والتقليد للوافد. فى حين تمثَّلت الأقلية الوافد الغربى ورأت فيه دفاعًا عن عصريتها وتجديدها وحداثتها حمايةً لها من مخاطر التخلف والعودة إلى الماضى والانغلاق على الذات، ودفاعًا عن العالمية ولحاقًا بالحضارة. وكلاهما ينقل عن عصر غير عصره، فلا الماضى عصر الحاضر كما تفعل السلفية، ولا المستقبل عصر الحاضر كما تفعل العلمانية. نشأ الموروث فى عصر مضى غير عصرنا، ونشأ الوافد فى عصر لاحق غير عصرنا، ومن هنا نشأ الخلاف بين الفريقين.
والحقيقة أن لكل عصر حضارته التى يحدث فيها التفاعل بين الموروث والوافد. والعيب فى التقليد؛ تقليد السلفيين للماضى، وتقليد العلمانيين للمستقبل. كلاهما يستسهل وينقل حلولًا جاهزة من مصدر مختلف عن الآخر، ولا يجتهد رأيَه فى تنظير جديد للعصر مستفيدًا من الموروث القديم أو من الوافد العصرى. كلاهما يتنازل عن حقه فى الاجتهاد، ينكر على الحاضر خصوصيته وفرديته، وينكر على نفسه إمكانية الإبداع وتجاوز القدماء والمحدثين على حد سواء.
وقد قام الفلاسفة الأوائل بذلك خير قيام؛ بدأ المترجمون بنقل الوافد كله غربًا وشرقًا، من اليونان والرومان غربًا، ومن فارس والهند شرقًا دون تفاضل بين الشرق والغرب، ودون تحيُّز للغرب على حساب الشرق. ونحن نترجم منذ قرنين من الزمان، منذ فجر النهضة العربية، من الغرب، الأوروبى أولًا، والأمريكى ثانيًا، منحازين إلى الغرب وثقافته وحضارته باسم العلم مرةً، والحرية والديمقراطية مرةً أخرى على حساب الشرق. فأصبحنا غربيين أكثر منا شرقيين بما فى ذلك الخليج وهو أقرب إلى الشرق جغرافيًا منه إلى الغرب.
قام المترجمون النصارى قديمًا بالنقل عن اليونان، كما قام نصارى الشام حديثًا بالنقل عن فرنسا. ولم يكتفوا بالنقل بل أضافوا وعلَّقوا. وقاموا بالنقل مرتين؛ مرةً محافظةً على النص اليونانى حفاظًا على اللفظ، ومرة تحسينًا للنص العربى حفاظًا على المعنى. وقام الفلاسفة بعدهم بالشرح والتلخيص والتأليف والعرض ثم الإبداع؛ الإبداع العربى الخالص دون إحالة إلى الوافد.
ونحن ما زلنا فى مرحلة النقل التى بدأت منذ مائتى عام، وأقصى ما وصلنا إليه هو الشرح والتلخيص والعرض دون أن نُبدع فكرًا عربيًا مستقلًا لا يحيل إلا إلى ذاته ودون الإحالة إلى القيل والقال، سواء من الموروث القديم كما يفعل السلفيون أو من الوافد الغربى كما يفعل العلمانيون. يتساوى فى ذلك قال الشافعى وقال ابن تيمية مع قال ماركس وقال جون استيوارت مل. استغرقت الترجمة الأولى جيلين؛ جيل حنين بن إسحاق وجيل إسحاق بن حنين، وظهر الكندى فى منتصف القرن الثانى فيلسوفًا مستقلًا. والترجمة لدينا استغرقت ما يزيد على الأربعة أجيال؛ جيلين فى القرن الماضى، وجيلين فى هذا القرن، وما زالت الترجمة مستمرة، وما زال العرض مستمرًا.
كان النقل والإبداع قديمًا فى الفكر دون الأدب؛ فقد كان العرب شعراء وخطباء، أهل لغة وفصاحة، وكانوا أحوج إلى الفكر والعلم منهم إلى الشعر والمسرح، وأبدعوا فى الفكر والعلم بعد أن نقلوا وتمثَّلوا. ونحن بدأنا أيضًا بنقل العلم والفكر والأدب منذ القرن الماضى، وأبدعنا فى الأدب، شعرًا ورواية وقصة ومسرحية دون أن نُبدع بالقدر الكافى فى العلم والفكر كما أبدع القدماء. قد يرجع ذلك إلى انحسار العلوم العقلية الخالصة من وجداننا العربى، الحساب والهندسة والفلك والموسيقى فى الرياضيات، والطب والصيدلة والكيمياء والطبيعة والنبات والحيوان فى الطبيعيات؛ فلا السلفيون قلَّدوها ولا العلمانيون طوَّروها. توقَّفت عند السلفيين واستبدل بها العلمانيون الوافد العلمى الغربى.
فما الحل؟ ما العمل أمام ثنائية المصدر: الموروث والوافد، لعقد حوار بين السلفيين والعلمانيين وتجاوز الخلاف فى المصدر بينهم؟ هل يمكن التوحيد بين المصدرين وتوحيد الثقافة الوطنية؟ ألَا يمكن للعصر الحاضر أن يكون بوتقةً مشتركة ينصهر فيها الموروث والوافد حتى تخرج ثقافة وطنية جديدة؟
لقد قام الفلاسفة القدماء بإعطاء النموذج، التعبير عن مضمون الموروث بلغة الوافد، حفاظًا على الأصل وتجديدًا للفرع، تمسكًا بالهُوية وتجديدًا للعصر، إبرازًا للمعنى فى لفظ جديد؛ فقيمة الموروث ليست فى الشكل بل فى المضمون. وقيمة الوافد ليست فى المضمون بل فى الشكل. قام الفلاسفة بالتعبير عن معنى الله ومضمون التوحيد بألفاظ الوافد اليونانى؛ فاستعملوا العقل الأول، العلة الأولى، المحرك الأول، واجب الوجود، الموجود بذاته دون التضحية بالمضمون الإسلامى؛ فالعلة الأولى خالق للعالم ومدبر له على عكس اللفظ اليونانى ومضمونه اليونانى.
وقد تغيَّر الوافد الآن من الوافد اليونانى القديم إلى الوافد الغربى الحديث. وشاعت بيننا ألفاظ المطلق، واللا نهائى، والخلود. وما زال مفكرونا المعاصرون يتحرَّجون من التعبير عن الموروث بلغة الوافد الغربى. يستعمل المفكر السلفى اللفظ الموروث والمعنى الموروث فى حين يستعمل العلمانى اللفظ الوافد والمعنى الوافد. فهل يستطيع مفكر معاصر أن يعبِّر عن المعنى الموروث بلفظ الوافد سواء كان هذا المفكر من السلفيين أم من العلمانيين؟ هل يستطيع أحد المفكرين أن يعبر المسافة بين السلفيين والعلمانيين، أو أن يقيم جسرًا يتم عليه عبور الآخرين عن طريق التمسك بالمضمون الموروث والتعبير عنه بالشكل الوافد؟
بهذه الطريقة؛ تخليص المضمون القديم من ثوبه القديم الذى ضاق عليه وإلباسه ثوبًا آخر من الوافد الجديد للتعبير به عن كل أبعاد القديم، يمكن خلق ثقافة عضوية وطنية جديدة تسمح بالحوار بين الفريقين المتخاصمين. لقد أخذ الفلاسفة القدماء مضمونهم من المتكلمين والفقهاء وعبَّروا عنه بألفاظ اليونان؛ فحموا الأمة من الوقوع فى ازدواجية المصدر بين الموروث والوافد، وقدَّموا لونًا جديدًا من الثقافة، هى الفلسفة أو الحكمة، يجد فيها المتكلمون السلفيون مضمونهم العقائدى، ويجد فيها أنصار اليونان العلمانيون ألفاظهم وعباراتهم.
ليس الأمر مجرد تغيير شكلى، فتغيير ألفاظ الموروث تسمح له بالتجدد والتطور ومخاطبة أكبر قدر ممكن من الناس فى الداخل والخارج. واستعارة ألفاظ الوافد تسمح بنقد ما علق بها من مضمونها الوافد إما توسيعًا للأفق، أو إكمالًا للتصور الجزئى، أو جمعًا للمختلفين فى تصور واحد أعم؛ فالعلة الأولى خالق للعالم ومدبر له، وهى ليست كذلك عند اليونان. والعقل والحس، والمثال والواقع، والنفس والبدن كلاهما واجهتان لشىء واحد، وهما ليسا كذلك عند اليونان؛ لذلك جمع الفارابى بين أفلاطون الإلهى وأرسطوطاليس الحكيم، وبيَّن ابن رشد اكتمال الفلسفة فى أرسطو بعد أن أنشأها سقراط وطورها أفلاطون.
والواقع نفسه، العصر الحاضر الذى يعيش فيه السلفيون والعلمانيون قادر على صهر الموروث والوافد، وصياغة ثقافة وطنية عضوية جديدة تعبر عن العصر الحاضر، الذى ما زال الماضى يصب فيه، وما زال يريد التحرك نحو المستقبل. الحاضر يفرض نفسه على الماضى الذى يتمسك به السلفى، والمستقبل الذى يرنو إليه العلمانى. الحاضر هو الذى يقضى على اغتراب السلفى فى الماضى، واغتراب العلمانى فى المستقبل.
لقد نشأ الموروث القديم من واقع عصره، كما نشأ الوافد الغربى من واقع عصره، وعاش كلاهما عبر التاريخ الماضى والمعاصر فى واقع عصرنا؛ لذلك نتعامل مع الاثنين لأنهما يصبان فى واقع عصرنا، وهذا يستلزم من المفكر إعادة بناء الموروث القديم طِبقًا للعصر الحاضر، فيتحوَّل المصدر القديم إلى مصدر معاصر، ويعيد اجتهاد رأيه؛ فالموروث القديم ليس مقدسًا كما يتصور السلفى بل هو مجموع اجتهادات القدماء وإجاباتهم عن أسئلة عصرهم.
كما يستلزم من المفكر المعاصر إعادة بناء الوافد الغربى الذى نشأ فى عصر حديث آخر بناءً على عصره؛ فالوافد الغربى ليس مقدسًا كما يتصور العلمانى بل هو مجموع اجتهادات الغربيين إجابةً عن أسئلة عصرهم، ودون إحساس بالدونية أو الإرهاب من كلا المصدرين؛ فلكل عصر اجتهاده، ولكل زمن رجاله.
وعلى هذا النحو يصبح العصر الحاضر هو المصدر الأول للسلفى والعلمانى على حد سواء، سواء لإعادة بناء التراث القديم أو لإعادة بناء التراث الغربى أو لخلق تراث عصرى جديد. لا يكتفى المفكر المعاصر بتأويل الموروث القديم بناءً على ظروف عصره ولا بتأويل وإعادة توظيف الوافد الغربى بناءً على احتياجات عصره، بل يبدع تراثًا عصريًا جديدًا يُضيف به إلى المصدرين الأولين.
المفكر العصرى سلفى علمانى فى وقت واحد، لا يضرب المصدر الثانى بالمصدر الأول كما يفعل السلفى الخالص، ولا يضرب المصدر الأول بالمصدر الثانى كما يفعل العلمانى الخالص. هو مفكر حر مثل سقراط والفارابى، يتعامل مع ما هو موجود، ويعبِّر عن كل مصدر بلغة الآخر، يعبِّر عن الموروث بلغة الوافد تطويرًا للموروث، ويعبِّر عن الوافد بلغة الموروث تمثُّلًا للوافد وإكمالًا له.
وبهذه الطريقة يحدث التفاعل الثقافى بين الموروث والوافد، وهما العنصران المكونان لثقافتنا المعاصرة. كما يحدث حوار الحضارات من موضع ندية وتكافؤ وإثراء متبادل بدلًا من الخصام والقطيعة والصدام الذى قد يكون مقدمةً لقتالٍ بين الشعوب.
وعلى هذا النحو تتحول ازدواجية الثقافة العربية المعاصرة من عنصر سلبى إلى عنصر إيجابى، ومن التجاور والتضارب إلى التفاعل والتداخل، فتنشأ ثقافة عربية جديدة متعددة الجوانب، متباينة المصادر، تجمع بين الوحدة والتعدد، وقد تكون أحد العوامل لنهضة عربية جديدة.

الصراع
ليس الخلاف بين السلفيين والعلمانيين فقط خلافًا فى اللغة أو المنهج أو القصد أو المصدر؛ فهذه خلافات فكرية، ولكنه أيضًا صراع على السلطة؛ فالفكر سلطة. والفكر السياسى ليس فقط مذهبًا بل هو نظام دولة، الفكر شرعية السلطة، والسلطة تحقيق للفكر.
ويبدو الفكر السلطوى عند كل فريق بارزًا واضحًا؛ فالحاكمية عند السلفيين طلب سلطة، نزع سلطة البشر باسم الله ثم تمثُّل السلفيين لهذه السلطة لأن الله لا يحكم بنفسه إلا من خلال البشر. وتطبيق الشريعة الإسلامية زعزعة لسلطة القانون وإحلال الشريعة محله، وأداة ذلك السلطة. فالإمام هو المنوط بتحقيق الشريعة، بل إن الشريعة بغير إمام تصبح غير نافذة المفعول. والإسلام هو الحل طلب سلطة، سلطة أخذ القرار وتنفيذه ضد سلطة أهل الاختصاص.
والشعارات العلمانية أيضًا سباق على السلطة؛ سلطة العقل فى مواجهة سلطة الخرافة، وسلطة العلم فى مواجهة سيادة الجهل، وسلطة الإنسان وحرية فكره وتعبيره ضد سلطة القهر والكبت وتكميم الأفواه، وسلطة العقد الاجتماعى وحقوق الإنسان والعدل الاجتماعى ضد سلطة الملكية الوراثية أو الانقلابات العسكرية وأجهزة الأمن والشرطة والجيش وأدوات قهر الدولة والظلم الاجتماعى.
ويظهر الصراع على السلطة بين السلفيين والعلمانيين حين تضعف الدولة وتتخلى عن رسالتها، وتصبح دولةً تابعة للغير، تفرِّط فى استقلالها، قاهرةً للمواطنين معاديةً للناس، فاسدةً لا ترعى حقوق الآخرين. هنا يبرز البديلان كوريثين محتمَلين للسلطة القائمة بقدر ما يستطيع كل بديل أن يقدِّم نفسه للناس على أنه المخلِّص من الأزمة الراهنة، القادر على الحفاظ على استقلال الدولة وحرية المواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية والخلاص من الفساد. أمَّا عندما تكون الدولة قويةً فإنها تحظى بولاء الناس لها، وتقدر على ضم جناحيها لها؛ السلفيين والعلمانيين كما كان الحال فى عصر عبدالناصر ومن قبله محمد على، أو تحييد الاثنين معًا وانحسار أثرهما عن الناس إما بالتمثل داخل الدولة كما فعل عبدالناصر مع بعض أجنحة الإخوان والشيوعيين، أو بالإزاحة خارج الدولة إما بالعزل فى الداخل أو بالهجرة إلى الخارج. فالنجاح ولو على صعيد واحد، مثل العدالة الاجتماعية فى العهد الناصرى، يحصِّن الناس من اللجوء إلى البديلين القائمين: السلفية والشيوعية، متنازلًا عن بعض المخاسر مثل الحريات العامة. أما عندما تضيع كل المكاسب فى العدالة والحرية هنا يبرز البديلان كوريثين للسلطة القائمة تخليصًا للبلاد وتدعيمًا من الناس.
وفى حالة الوصول إلى السلطة مثل وصول السلفيين فى إيران أو السودان، فإن الرفض قد تحقَّق، والسلب قد تمَّ بفضل الشعارات السلفية. وماذا عن الإيجاب؟ ماذا عن البرنامج السياسى الاقتصادى الذى يحقِّق مطالب الناس؟ هنا تبدو السلطة السياسية فارغةً من أى مضمون وكأن الوصول إلى السلطة هدف فى حد ذاته، وانفعال مؤقت، وضِيق بالنظام السابق. تأتى السلطة مبكرًا والتيار الإسلامى ليس جاهزًا للحكم؛ إذ تنقصه البرامج السياسية التفصيلية القائمة على إحصاء دقيق للواقع، وتكوين الطبقات الاجتماعية، وتوزيع الدخول، وسياسة الأجور، وطرق التصنيع، وأساليب الزراعة، وإدارة الحكم. وهنا تبدو سلبية الشعار وعجزه عن أن يتحول إلى إيجاب. لقد أدَّى دوره فى هدم ما هو قائم وعجز أن يبنى البديل.
وقد كانت السلطة فى أيدى العلمانيين من قبل، ولا تزال منذ سقوط دولة الخلافة. وجرَّب الناس الأيديولوجيات العلمانية للتحديث؛ الليبرالية والماركسية والقومية، فتحقَّقت بعض المكاسب ولكن المخاسر ما زالت باديةً للعيان تتفاقم يومًا وراء يوم. كل منها يُدين الآخر ويجرحه، كل منها يُعتبر الفرقة الناجية؛ فهى أيديولوجيات علمانية للتحديث بعقلية سلفية فى الاستبعاد والاستقصاء والاستحواذ على الحقيقة المطلقة.
جرَّبت مصر مع بعض الأقطار العربية الليبرالية وحققت مكاسب عامةً على مستوى الحريات الفردية والديمقراطية فى الحكم، ولكن المخاسر كانت أيضًا واضحةً على مستوى العدل الاجتماعى وحقوق عامة الناس فى التعليم والخدمات العامة. ثم قامت الثورات العربية الأخيرة لتحويل المخاسر إلى مكاسب وتحقيق الاشتراكية وتطبيق مجانية التعليم. ولكنها حولت المكاسب إلى مخاسر، وضاعت الحريات العامة وديمقراطية الحكم. ثم حاولت بعض الأنظمة فى الوطن العربى، مثل اليمن الجنوبية قبل الوحدة، تطبيقَ الماركسية التى تجمع بين الحسنيين: العدالة والحرية، الاشتراكية والديمقراطية، فخسرت الاثنين معًا وانتهت إلى زوال. فإذا ما دخلت الماركسية فى حلف مع بعض الأنظمة القومية، مثل سوريا والعراق، فإنها تُصبح بغير أثر، مجرد وجود فى السلطة.
إن الدولة، بالرغم من ضعفها، ما زالت قائمة، وما زالت تمثل الحد الأدنى من الترابط الوطنى والوئام الاجتماعى والإجماع التاريخى، ومحاولة السلفيين والعلمانيين وراثتها طريق مسدود؛ فما زالت الدولة من خلال أجهزة القمع قادرةً على احتواء الخصمين، وما زالت أجهزة الأمن والجيش والشرطة والمؤسسات العامة تمثل الحد الأدنى والأقصى فى آن واحد من وجود الدولة من خلال رموزها، والبديل لها، خاصةً إن لم يكن مستعدًا لتأسيس دولة وطنية، قد يقضى على ما تبقَّى منها.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فالمعارضة الإسلامية فى الجزائر ومصر، وسوريا والعراق، وتونس وليبيا، ما زالت فى مكانها؛ فلا هى قضت على الدولة، ولا هى أصبحت بديلًا لها. وما زال الاقتتال الدامى فى الجزائر قائمًا، ويسقط الأبرياء من الطرفين نَيلًا من حقوق الإنسان ومن المبادئ الإسلامية فى آنٍ واحد. والشعب فى كلتا الحالتين هو الخاسر، ويسقط آلاف الشهداء بلا ثمن وبلا هدف منذ أربع سنوات، ويحدث نفس الشىء فى مصر على نحو أقل نظرًا لمركزية الدولة وهامشية العنف المسلح.
وفى سوريا والعراق المعارضة الإسلامية معظمها فى الخارج، غير مؤثرة، تعمل بمفردها أو مع فصائل المعارضة الليبرالية الأخرى؛ فالدولة ما زالت قوية، صوابًا أو خطأً، وقادرة على الصمود فى وجه المعارضة. الدولة القائمة هى البديل عن المعارضة القادمة، والقوة بديل عن العجز، والحاضر أقوى من الماضى عند السلفيين والمستقبل عند العلمانيين.
وفى تونس وليبيا تتأرجح المعارضة بين النموذجين السابقين، المعارضة السلمية فى الخارج فى تونس وبعض أوجه المعارضة المسلحة فى الداخل فى ليبيا ولو على نطاق محدود، وتظل الدولة قويةً فى كلتا الحالتين زعامةً وفكرًا، وعصفور فى اليد خير من عشرة على الشجرة، والأمن الراهن خير من العنف القادم.
والمعارضة الليبرالية لبعض أنظمة الحكم فى إيران والسودان ووسط شبه الجزيرة العربية قد تكون أيضًا محدودة الأثر نظرًا لأنها بالخارج على الأقل من حيث قياداتها، وتعتبر نفسها البديل المطلق لِمَا هو قائم. والزمن يمضى، والجسور مقطوعة بين الدولة وأحد أجنحتها، كلٌّ منهما متربص بالآخر، يعتبر نفسه وحده بيده الخلاص.
وفى أقصى المغرب العربى إلى أقصى هوامش شبه الجزيرة العربية تتجمع بعض فصائل المعارضة الوطنية التى تجمع بين التيارين فى آنٍ واحد، وتعبِّر عن مطالبها فى العدالة والحرية، ولكنها ما زالت مُهمَّشةً مستبعدة متهمة بالتعاون مع الخارج، وغير قادرة- على الأمد القصير- أن تكون بديلًا عن الدولة القائمة بالفعل.
وفى لبنان تكثر البدائل وتنشط الأجنحة سواء فى الحركات الشعبية الإسلامية أو القومية، وتتحول إلى حركات مقاومة بالفعل تلتحم بالناس وتؤدى دور الدولة ولكن على حسابها وبديلًا عنها أحيانًا. لبنان صغير بحجمه عظيم بقدره، وما زال يمثل نموذجًا فريدًا فى الوطن العربى لصلة الدولة بجناحيها وئامًا مرةً وخصامًا مرة، دون الوقوع فى تناقض أساسى. المجتمع هنا أقوى من الدولة، كما أن الدولة تساير المجتمع.
ما الحل إذن لهذه المعادلة المثلثة الأطراف؛ الصراع على السلطة بين السلفيين والعلمانيين، وكل فريق يعتبر نفسه الوريث الشرعى للدولة التابعة؟
الحل هو تقوية الدولة والحرص عليها؛ فما هو موجود خير من هدم يصعب إعادة بنائه فيما بعدُ باسم الحلول البديلة. هى دولة مستقلة لا تُرتهن إرادتها الوطنية باسم الخبز والقمح والمعونة أو باسم الأمن والحلف السياسى والعسكرى. هى الدولة التى تستمد مقوماتها من الداخل وليس من الخارج، خاصةً ولو كانت دولةً مركزية ذات ثقل فى المنطقة وتأثير فيما حولها.
وهى الدولة الديمقراطية التى تكون السلطة فيها بانتخاب حر من الناس حتى يدين الناس لها بالولاء، وهى القادرة على التعبير عن القوى السياسية الموجودة بالفعل فى الشارع، إسلامية أو ليبرالية أو قومية وليست أحزابًا سياسيةً من صنع الدولة لا جماهير لها من أجل الشكل الديمقراطى الفارغ من أى مضمون.
وهى الدولة القادرة على الحوار مع كل التيارات الفكرية والقوى السياسية التى لها وجود فعلى على مدى التاريخ الحديث؛ فالدولة عقد اجتماعى بين المواطنين تمثِّلهم جميعًا. هى السلطة الواحدة القائمة على التعدد دون استئثار فريق بها دون فريق. هى الدولة التى تجمع ولا تفرِّق، تحاور ولا تخاصم، تضم ولا تستبعد، تؤلف ولا تُنفِّر. هى الإجماع الوطنى المتحقق فى سلطة شعبية منتخبة.
ليس الجناحان بديلًا عن القلب، ولا الرأس بغنًى عن الرئتين، ومن ثم لا حياة للدولة فى منطقتنا إلا بالحوار مع جناحيها، السلفيين والعلمانيين. ومن هنا أتت ضرورة المصالحة التاريخية بين الدولة وخصومها، وبين الخصمين العنيدين فى آنٍ واحد باسم الدولة الوطنية المستقلة وريثة حركة الاستقلال الوطنى وحصيلة دماء الشهداء.
لا يعنى ذلك تدعيم النظم القائمة على حساب المعارضة بل يعنى فقط بدايةً جديدة لحياة سياسية تجمع كل الطاقات ولا تهدرها، فى وقت يشتد فيه أزر خصوم العرب. إن المصالحة التاريخية فى الداخل هى شرط المصالحة التاريخية فى الخارج، ولا يُعقل أن يتم الحوار من أجل السلام فى الخارج والحرب دائرة فى الداخل. الحوار الوطنى فى الداخل شرط الحوار السياسى فى الخارج؛ فالسلام لا يتجزأ، والقادر على الحوار مع الصديق يكون أقدر على الحوار مع العدو.