أحمد مجدى.. أيقونة الباحث الجاد

- مسئولية الفكرلا تقف عند حدود القاعة الدراسية بل تمتد إلى الحقل العام
فى زمن تتقاطع فيه مسارات الفن والتقنية، وتتمازج فيه حدود الخيال العلمى بالواقع المعاش، ويغير الذكاء الاصطناعى من معادلات الإبداع، تزداد الحاجة إلى عقول نقدية قادرة على تفكيك هذا المشهد المعقد، ورسم خريطة فكرية لجمالياته وتحدياته. من هنا، أتقدّم بخالص التهنئة والاعتزاز إلى الدكتور أحمد مجدى، المدرس بقسم الدراما والنقد المسرحى بجامعة عين شمس، وذلك بمناسبة فوزه المستحق بـ جائزة الدولة التشجيعية لعام 2025، فرع الثقافة الرقمية والذكاء الاصطناعى، عن بحثه الرائد:
«كيف غيّر الذكاء الاصطناعى صناعة السينما؟ من مرحلة ما قبل الإنتاج إلى العرض».
إن تتويج هذا البحث يعكس ليس فقط براعة أكاديمية فى رصد تحولات السينما المعاصرة، بل يشهد أيضًا على مشروع فكرى متكامل يخوض فيه د. أحمد مجدى مغامرة نقدية أصيلة تستكشف حدود السينما والتقنيات الرقمية والخيال العلمى، من منظور يمزج بين الحس الجمالى والتفكير الفلسفى، وبين البعد المعرفى والتكنولوجى.
ولد د. أحمد مجدى ناقدًا مسرحيًا وسينمائيًا، وتكوَّن فى حضن الأكاديمية والواقع الثقافى المتحول. بدأ مسيرته الأكاديمية معيدًا فى قسم الدراما والنقد المسرحى عام ٢٠١٥، وترقّى إلى مدرس مساعد «٢٠٢٠»، ثم إلى مدرس بالقسم ذاته عام ٢٠٢٣. وخلال أكثر من عقد من الزمن، لم يكن مجرد محاضر، بل مكوِّن فكري وجمالى لأجيال من الطلاب والباحثين.
تتنوع مجالات تدريسه لتشمل النقد الأدبى والفنى والمسرحى والسينمائى، تقنيات العرض والتفاعل، الصورة والملصق الدعائى، المسرح والعلوم الإنسانية، السينما والواقع الافتراضى، الفنون البصرية، علم الأعصاب وتحليل الصورة، كما يمتلك خبرة واسعة فى تدريس مناهج الظاهراتية والأنثروبولوجيا البصرية، ومقاربات الخيال العلمى فى السينما والمسرح.
يحمل د. أحمد مجدى خلفية أكاديمية مزدوجة، حيث حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام ٢٠٠٨، ثم ليسانس الآداب- قسم الدراما والنقد المسرحى عام ٢٠١٣. وقد شكلت رسالته للماجستير، الصادرة عام ٢٠٢٠، نقطة انطلاق مغايرة فى تفكيك الواقع المعاصر من خلال عنوانها الطموح:
«تحولات الواقع فى مسرح وسينما ما بعد الحداثة- دراسة لتفاعلات الذات داخل الفضاءات الافتراضية من منظور الظاهراتية التجريبية»،
ثم تلتها رسالته للدكتوراه عام ٢٠٢٣ بعنوان:
«تمثلات الذكاء الاصطناعى فى مسرح وسينما الخيال العلمى- دراسة لنماذج مختارة فى ضوء نظريات التفرد التكنولوجى».
وفى كليهما، نلحظ عمق الرؤية وجرأة الأطروحة، والسعى الدائم نحو تأطير جديد لعلاقة الإنسان بالتقنية، والخطاب الفنى بالتطور التكنولوجى.
أنتج د. أحمد مجدى عددًا من الأبحاث المحكمة والمقالات الفكرية التى تركت بصمة واضحة، نذكر منها:
«الواقع الافتراضى من كهف أفلاطون إلى المصفوفة The Matrix» (٢٠١٩)،
«التكنولوجيا والديستوبيا فى أفلام الخيال العلمى» (٢٠٢٣)،
«تجليات الفلسفة الوجودية فى المسرح العربى المعاصر: سارتر وكنفانى» (٢٠٢١)،
وورقته المثيرة للجدل فى المهرجان التجريبى بعنوان: «تفكيك مركزية النص الشكسبيرى (هاملت بالمقلوب)» (٢٠٢٤).
ولم يكن تأثيره مقصورًا على الجامعة وحدها، بل امتدّ ليشمل لجانًا علمية وثقافية، فهو عضو لجنة الابتكار والجودة وتطوير البرامج بكلية الآداب، منسق الجودة بقسمه الأكاديمى «٢٠٢٤»، عضو لجنة مشاهدة العروض بمهرجان آفاق المسرحى الدولى، كما يتولى إدارة وحدة الإعلام والتصوير بالكلية منذ مارس ٢٠٢٤.
وقد حصد عددًا من الجوائز البارزة، منها:
جائزة المجلس الأعلى للثقافة للدراسة النظرية «٢٠٢١»، المركز الأول عن دراسة فى مسرح الشارع «شرم الشيخ ٢٠٢١»،
جائزة أكاديمية البحث العلمى حول الأساطير والخيال العلمى «٢٠٢٢»،
المركز الأول للدراسة النظرية بالمهرجان القومى للمسرح «٢٠٢٣»،
المركز الثانى فى أبحاث الذكاء الاصطناعى من المعهد القومى للحوكمة والتنمية المستدامة «٢٠٢٤».
وفى موازاة ذلك، يواصل الكتابة فى منصات إلكترونية متخصصة، بمقالات عميقة مثل:
«من هو الوحش الحقيقي: الإنسان أم الروبوت؟»،
و«مرايا سوداء تعكس ديستوبيا التكنولوجيا»،
ليؤكد أن شغفه بالفكر لا يقل عن التزامه النقدى، وأنه يكتب بعين من يرى الفن مرآةً للإنسان، وليس مجرد ترف بصرى.
إن فوز الدكتور أحمد مجدى بهذه الجائزة ليس تتويجًا لمسيرة فردية فحسب، بل تكريم لمنظور نقدى جديد، يعيد طرح الأسئلة الجوهرية حول علاقة الإنسان بالآلة، والمُبدع بالتقنية، والمتلقى بالعالم المتحوّل. وهو فى هذا يجسد تمامًا الفلسفة التى تسعى إلى الربط بين الفنون والتكنولوجيا والإنسان، فى زمن تتطلب فيه الأسئلة الكبرى عقولًا جريئة ومشاريع فكرية عابرة للتخصصات.
تحية فخر وامتنان لهذا الباحث الجاد الذى لا يتوقف عن الحفر فى طبقات المعنى، وعن تأصيل الجمال فى زمن الذكاء الاصطناعى.
لقد أثبت الدكتور أحمد مجدى، عبر مسيرته الأكاديمية والثقافية، أنه ليس مجرد باحث نظرى يكتب من خلف الجدران، بل هو عقل حى ونابض فى قلب المشهد الإبداعى المصرى، يجمع بين عمق التنظير وجرأة الممارسة. فداخل أسوار الجامعة، يمارس دوره التربوى والتنويرى بكفاءة نادرة، لا يكتفى بتدريس المناهج، بل يفتح آفاقًا جديدة للتفكير فى تقاطعات الفن والتقنية والفلسفة. وخارجها، نراه حاضرًا بفاعلية فى الندوات العلمية، والمؤتمرات الأكاديمية، والمهرجانات المسرحية والثقافية، مشاركًا ومحكمًا ومتحدثًا، يسهم فى إثراء الحوار النقدى وتوسيع فضاء التلقى والوعى الجمالى.
إنه نموذج للباحث الجاد، الذى يدرك أن مسئولية الفكر لا تقف عند حدود القاعة الدراسية، بل تمتد إلى الحقل العام، حيث تُصاغ الأسئلة الحقيقية ويُختبر أثر المعرفة.
فى زمن تتصارع فيه السرعة مع العمق، والصخب مع التأمل، يظل أحمد مجدى صوتًا هادئًا، دءوبًا، ومضيئًا… لا يلهث خلف الضوء، بل يصنعه.