الإثنين 29 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

ما أجملنا.. نص مسرحى نادر لـ«محفوظ عبدالرحمن»

حرف

- أنا مشغول جدًا يا كافى مشغول بهذه البلاد ورخائها وعزتها لكن بعض أبنائى يعبثون فى الجبال ويعطلون مسيرتى

- لقد ضقنا بالعاصمة لأن كل ما يحدث فيها يتكرر 

- لا تبحثوا عن الوهم لقد مات أنوف وعندما مات ماتت أشياء كثيرة

حينما يصل أى مبدع إلى القيمة والمكانة التى حصّلها العبقرى الكبير محفوظ عبدالرحمن، أسطى الكتابة للتليفزيون والسينما والمسرح، يكون كل نص لم يُنشر له، مثل الأثر النادر الذى يستحق نشره احتفاءً وعنايةً خاصة.

هذا الأثر النادر يتمثل فى نص مسرحى، يحمل عنوان «ما أجملنا»، ألفه محفوظ عبدالرحمن فى أجواء تراثية ملحمية لكنها تنطلق إلى آفاق أعمق حول قضايا معاصرة مثل الوعى والعدالة والضمير الإنسانى.

ويتجلى فى أحداث المسرحية مبدأ الكذب والخيانة كوسيلة لاعتلاء كرسى السلطة، حتى لو وصل الأمر إلى أن يقتل الأخ أخاه أو يخونه مع زوجته، فنرى شخصية «العرّاف» الذى يكشف حقيقة بعض المزيفين مهما حاولوا الهروب منها أو تجميلها. 

ونكتشف أن الجميع، من الوزير إلى الوصيفة، ومن الوالى إلى الملكة، يسعى وراء مصالحه وملذاته الخاصة، وسط صراع محموم على السلطة، فيتشارك الجميع سلوكًا واحدًا، هو إخفاء الأخطاء والتزييف حفاظًا على صورة زائفة أمام الآخرين.

فى السطور التالية، تنشر «حرف» لقرائها، أجزاءً من ذلك النص المسرحى النادر.

برولوج

سيدة مسنة:

■ لقد جئتكم من عزلتى الباردة لأحكى لكم حكاية الليلة.

ابتعدت عن الناس بحثًا عن الحكمة. ولكن يبدو أننا لن نجد الحكمة لا فى الزحام، ولا فى الخلاء. رحلت بعيدًا خوفًا على قلبى أن يُطعن، فطُعن. يبدو أن الإنسان قاتل نفسه. وحدى نسجت أحلى الحكايات، فلما سطعت الشمس على الجليد، إذا به قد ذاب. وأحلى الحكايات صارت أمر الحكايات.

■ لقد جئتكم بين دفّتى كتاب. فهوايتى أن أكون شهرزاد الكلمات. لكن فى الكتب أيضًا «الكل باطل.. وقبض الريح..» وما يقال.. قبل.. ولا جديد تحت الشمس. تحكى شهرزاد لتسليكم، فإذا بالقصة تسلبه خفق القلب. من لى بكلمات تدخل البهجة على القلوب.. شرط أن تكون نقية كقطرة ندى.

■ لقد جئتكم من أبعد العصور. عايشت قابيل وهابيل، والأخ يقتل أخاه. ومازال الأخ يقتل أخاه. عايشت الحسين يموت عطشًا، ومازال الحسين يموت عطشًا، عايشت السندباد تائها فى البحار، ومازال السندباد تائهًا فى البحار، عايشت الحلاج يقتل بسيف عدوه ووردة صديقه، ومازال الحلاج صريع العدو والصديق.

■ رغم أننى أتيت إليكم من بعيد جدًا. إلا أننى أعرفكم. أنتم تريدون أن تسمعوا حكاية مزيفة. مثيرة، منسوجة بالذهب، مروية بالنبل. تريدون حكاية تجوب الدنيا من أقصاها إلى أقصاها. ولابد أن تجعل القلب يرتجف. فما أمتع رعشة الفؤاد حتى بالحزن قُبيل النوم. لكننى للأسف لا أملك المقياس الذى أعرف به قدر الحزن الواجب، وقدر الحزن الزائد، وليس فى يدى ميزان أقدر به كم الدموع التى يجبُ أن تكون.. وكم الدموع التى يجب أن تحبس.

■ أنا خير من يحكى. فأنا أم. هززت الطفل وليدًا، وحكيت وكان الطفل ينام. فلم يكن قد عرف بعد أن الحكايات تسلبُ النوم من الجفون. وأنا امرأة، جالست الرجل قويا وضعيفا، وحكيت فلقد كنت أظن أن الهموم تسلبها الحكايات.

لكننى رغم ذلك كله مازلت طفلة لم تتعلم ما يجب أن يُحكى، ما يجب ألا يحكى.

■ لى ككل من عاشوا فى الخيال جواد أسطورى عَبرت به الزمن منذ أن تهجى الإنسان كلمات: «أنا وبعدى الطوفان» إلى قمة الحضارة حيث تعلم أخيرًا كلمات: «أنا وبعدى الطوفان» وفتشت فى أحداث الزمن فلم أجد ما أسليكم به. فالتاريخ كله كرسى، وفكرة، وكسرة خبز، وخفقة قلب.

■ فأما الكرسى فإنه لا يسلى. بعد أن تقاتل عليه الآباء والأبناء. وأما الفكرة فهى خطر علينا، فنصف من قُتلوا عبر القون، قُتلوا من أجلها. وأما قصة الخبز فهى متجهمة لا تليق بالليالى الجميلة. وأما خفق القلب فهو الفداء الوحيد وسط الحرائق.

■ ومع ذلك علىّ أن أحكى. فما جئته من أغوار الوحدة لأعتذر لكم. لذلك أحكى لكم عن رجل سعيد غاية السعادة، فهو وال لإمارة كبيرة. يحكمها بالعدل، وإن كان شعبه لسوء الحظ له رأى آخر. وأحكى لكم عن زوجته الأميرة السعيد. فكيف لا تكون سعيدة من تحكم إمارة كبيرة. فإذا أصابته نالت ثناء الناس، وإذا أخطأت لاموا زوجها. وأحكى لكم عن وزير الإمارة، هذا الرجل الذى يعيش ليله ونهاره فى خدمة مولاه. لعله يرضى. بل وأحكى لكم عن حكايته، وكيف تكون القصور بلا جوار؟!

■ غايتى أن أحكى لكم عن قوم سعداء، يلمعون ببريق النيل، وينطقون الحكمة، ويركبون ليل نهار جياد العدل. فما أروعهم. وما أجملهم.

يرتفع الستار ببطء شديد. وربما بصرير، كأنه صرير باب عتيق. ومن خلال إضاءة خافتة جدًا، تعلو ببطء شديد، وعبر أحداث الجزء الأول من المسرحية. فنحن أمام موقف يحمل داخله أسرارًا، ما كان لها أن تُعرف لولا أنه حدث ما سنراه.

العرض لا يهم. وإن كنت أرى أنه ليس الآن. وأتوهم أنه تجريدى رغم الإطار التراثى. وبالتالى فالأزياء لا تعبر عن عصر معين، إنما هى مجرد أزياء تاريخية بين الجمال - الذى يفرضه المستوى الاجتماعى على الأقل - وبين الوشاية بوجدان الشخصيات.

والمكان - أيضًا - لا يهم فنحن فى أحد القصور التى يسكنها الوالى عبر عاصمته غير المحددة وحدوده الجبلية. وربما توحى الحدود الجبلية بامتدادات الدولة الإسلامية فى العصر العباسى إلى الهند أو غيرها من دوول شرق آسيا وشمالها. لكنها أيضًا قد توحى بالأندلس، حيث كان الخارجون يلجأون إلى الجبال الجليدية.

وقد يعزز الإيحاء الثانى الرفاهية الأندلسية التى كانت تدفع لرحلات المتعة، وهى نفسها التى دفعت والينا، وزوجته ووزيره، ووصيفة الأميرة إلى هذه الرحلة.

والجو عامة فى البداية: إضاءة، وموسيقى، وحركة، يوحى بجو الهدوء الذى يسبق العاصفة.

وعندما يرتفع الستار يكون الوالى مشغولًا بالحديث مع حاجبه كافى.

ملاحظات شخصية:

■ أفضل أن يكون هناك أكثر من ستار ليوحى ذلك بكشف الأسرار.

■ الإضاءة التى تبدأ خافتة تصل إلى قمتها من خلال التطور الدرامى، وبإحساس المخرج.

■ قد يغرى النص المخرج بعمل بابين للمكان. لكننى أرى أنه من الأفضل عمل باب واحد. أو على الأقل يكون الباب الثانى مغلقًا.

الوالى: أنا مشغول جدًا يا كافى. مشغول بهذه البلاد، ورخائها، وعزتها، لكن بعض أبنائى يعبثون فى الجبال، ويعطلون مسيرتى. أنا أعرف أن الأمر ليس أكثر من لعب أطفال. ولكن ما رأيك أن هذ اللعب يعطل نصف جيشى، ويأكل نصف مواردى، ويقلق راحتى. وأنا أعتقد أنهم ما كانوا يستطيعون شيئًا لولا بدر البشير. هذا الولد هو الذى يضللهم، ويدخلنى فى حرب غالية الثمن، رخيصة الانتصار.

الحاجب : كلفتنا الكثير. لكنها لن تكلفنا الآن سوى دينار.. هو ثمن الخنجر.. الذى سيُطعن به بدر البشر وهو نائم مطمئن فى وكره البعيد.

الوالى: هذا معناه أنك استطعت أن تدس بينهم رجلًا من رجالك.

الحاجب: وجدت ذلك صعبا، فالتقطت واحدًا منهم.

الوالى: أتثق فيه؟

الحاجب: إنه صديقه. ولا أشرس من صديق انقلب على صديقه.

الوالى: ستكون مكافأتى له بقدر قلقى الآن. أريد أن أنام ولو ليلة واحدة بعمق. ورحلتى هذه التى بدأت برؤية البحر، أريدها أن تنتهى برؤية رأس بدر البشير وأن أثق فيك يا كافى. لكننى أثق فى النتائج أكثر. ولن يسوءنى أن أنتظر قليلا، لكننى سأفزع إذا ما عدت إلى عاصمتى بالقلق. فاعمل شيئا من أجلى. ودع الأمر سرا بيننا، فحتى أقرب الناس يعطون قلوبهم لمن يُطعن، وينسون لماذا نفعل ذلك.

«يدخل تنوير وزير الوالى - ينحنى له»

الوالى: جئت فى وقتك يا تنوير. فلقد كنا نتحدث عن أولادنا فى الجبل. يقولون لى إنهم هدّدوا حتى بعض الطرق. تمادوا كثيرًا يا تنوير. ولقد تساهلنا معهم كثيرًا. لذلك فأنا أطلب منك أن تذكرنى حين عودتنا إلى العاصمة، حتى أعطيهم درسًا فى الأدب. وأعيدهم إلى أحضاننا، كما كانوا دائمًا، أولادًا مطيعين، أوفياء، بررة.

«تدخل الأميرة، وخلفها وصيفتها سفر»

الأميرة: يكاد يقتلنا الملل فى هذه الرحلة. لقد ضقنا بالعاصمة لأن كل ما يحدث فيها يتكرر. وأتينا إلى هنا بحثا عن الجديد. فإذا لا شىء يتكرر لأنه لا يحدث شىء على الإطلاق. استنفدنا كل وسائل اللهو.

سفر: حتى خيال الظل الذى كنا نراه ممتعا فى العاصمة .. صار مملًا هنا.

الحاجب: أخفى عنكم مفاجأة كبيرة

الأميرة: قلها. فمجرد أن أعرف أنك تُعد شيئا سيسلينى، حتى لو كنت تعد لا شىء. وفقط تشوقنا إلى ما لا يستحق

الحاجب: فى الخارج عراف بارع.

الأميرة: هذا مدهش يا كافى. فلا أحب إلى القلب من الأكاذيب التى تلبس رداء الصدق.

الوصيفة: مولاتى. بعض العرافيين ماهرون. أنسيت العراف السمرقندى؟ لقد أدهشنا بما قاله عن ماضينا. وما قاله عن مستقبلنا تحقق بعضه.

الأميرة: أو تظن هذا؟ «للحاجب» هات صاحبك. ولعله يجيد الكذب. فنحن فى حاجة إلى التسلية.

«الحاجب يخرج»

الوصيفة: الكثير منهم يكذبون. لكن السمرقندى لم يكذب فى شىء.

تنوير: عليه اللعنة. قال إننى سأسقط من فوق شىء عال. وسقطت من فوق جوادى.

الأميرة: أسوأ من السقطة: الفضيحة. كان منظرك مضحكًا يا تنوير.

تنوير: مع أننى فارس بارع.

الوالى: أظن أن هذه السقطة كانت برهانًا ساطعًا على العكس.

تنوير: لكل فارس سقطة.

الوالى: إذا كانت واحدة، فالأمر هين.

«يدخل العراف، لا نكاد نحس بدخوله، إلا عندما يلتفتون إليه. ليس مزوّق الثياب مثل العرافين فى العصور الماضية.. والحالية، ولا أشعث اللحية. بل هو بسيط جدا. لكن تأثيره قوى، وشخصيته آسرة، وصوته آمر رغم رقته. ويدوم تأمله لحظات قبل أن يستطيع أحد النطق».

العرافك سادتى. أنا أعرف الكثير. وإذا كانت آذانكم قادرة على الاستماع، فسيمضى دهر قبل أن أعرف الصمت. شرطى الوحيد ألا يسألنى أحد كيف عرفت. وفى سوى ذلك أنا مفتوح الصدر لكل الأسئلة. ولا أظنكم ستفعلون. بل يدهشنى أن ترغبوا فى رؤيتى. فما سأقوله تعرفونه جيدا. فالماضى كله مرصود فى خزانات عقولكم. ولست من الذين ينسجون الأباطيل عن المستقبل. ولذلك كله أظن أنه ليس لوجودى فائدة. ولكنكم ربما كنتم تسعدون لأن شخصًا ما استطاع أن يكشف الستار عن بعض ما دُفن. مهارة تتسلون بها. لكننى فى الحقيقة لا أراها شيئا مسليا. وأحذركم أيها السادة أنكم لن تتسلوا.

الوالى: مقدمة بارعة لأفاق من نوع جديد.

العراف: قدح لا أستحقه من مولاى الذى ارتجف قلبه عند دخولى.

الوالى: «غاضبا» أنا؟! أرتجف منك أنت؟!

العراف: هذا أول ما أكشفه من أسرار.

الأميرة: لا تغضب يا مولاى. فنحن لا نغضب إلا ممن يستحق ذلك. وهذا الرجل أتى ليزيل عنا الملل. ويبدو واضحًا أنه يستطيع ذلك، فهو مختلف بعض الشىء. وهذا شىء مبهج.

العراف: لو شئتُ قلت لمولاتى ماذا أكلت خلال الأيام الماضية.

تنوير: أتصادق خدم المطبخ؟

العراف: وأن أقول للوزير كم مرة سقط من على جواده..

«يسود الصمت لحظات»

تنوير: وتتسمع أيضًا من وراء الأبواب؟

العراف: إذا رفضتم التصديق، فكل ما أقول متهم. ولا يشغلنى أن تصدقونى أو تكذبونى. يكفينى أن أقرأ داخلكم. فأنا أيها السادة أرى الآن عقولكم كما لو كانت سوقًا تُرى من شباك.

ورغم اختلاط الحابل بالنابل فى رءوسكم، إلا أننى أستطيع مع ذلك أن أرى ما تفكرون فيه.

«يصمتون، وهو يدير بصره فيهم»

الوصيفة: لا ريب فى أن هذه لعبة غريبة، لم نألفها من قبل.

«ومازال العراف يتأملهم. ثم يتوقف عند الملكة»

العراف: أنوف.

الأميرة: أنوف! من أنوف هذا؟!

العراف: ألا تعرف مولاتى شخصا بهذا الاسم؟

تنوير: أنوف هو أخى. لكنه مات منذ سنوات.

الوصيفة: ولماذا تتذكره مولاتى الآن. لقد قدم العهد به. ونسيناه جميعا، أو تناسيناه.

الوالى: لماذا أنوف بالذات؟!

الأميرة: وجه من عشرات مروا فى خيالى. لكنه لم يتوقف إلا عند هذا. «للعراف» لماذا؟

العراف: لأنه الوجه الذى شغل خاطرك.

الوصيفة: ولماذا يشغلها أكثر من غيره. كان وزيرًا لمولاى. ربما شغله هو. وكان أخًا للوزير، ربما شغله هو. أما مولاتى فلماذا تذكره؟

الوالى: هذا ما أسأل عنه.

العراف: لماذا لا نعود إلى الوراء.. إلى سبعة عشر عامًا.. حين مات أنوف؟ 

الوصيفة: على بُعد ما حدث، نتذكر هذا. فلقد تقلبت الأيام، والأيام من عادتها التقلب، فأُدخل أنوف السجن. وبعد شهور من ذلك مات فيه.

العراف: ولماذا سجن؟ «وقبل أن يجيبه أحد» أى سؤال! الناس فى هذه الولاية يحبسون لما لا نعرف، ولما نعرف، ولما هو خطير، ولما هو مثير للسخرية. المهم فى قصتنا أن أنوف كان محبوسًا. وعندما يحبس النجار، ينسى. وعندما يحبس التاجر، يجد من يتوسط له. أما عندما يحبس رجل كأنوف، فيجب أن يقتل. ومثله كانوا يعلقلون على أسوار المدينة كل يوم، ومتعة كانوا يخوزقون. لكن أنوف كان شخصًا آخر، فالعامة كانوا يحبونه. ولذلك كان عليه أن يموت غيلة.

الوالى: لا أظنك تتهمه بقتله.

العراف: كلمة «اتهام» لا تناسبنى. فأنا لست قاضيًا.

الأميرة: لا أحد هنا من الممكن اتهامه بشىء كهذا. فلقد كان أنوف منا. وإذا كان الوالى قد غضب عليه. فذلك كان غضبا عابرا لا شك أنه زائل بطبيعته. وكنا جميعا ننتظر خروجه: الوالى الذى كان يحبه. وتنوير أخوه. كلنا كنا ننتظر عودته، لكنه مات فى الحبس، كما يموت أى شخص. العراف: هذا ما يقال. لكنكم جميعا تعرفون أن هذا لم يحدث. ولقد جئت لألعب اللعبة التى تسليكم: أقول لكم ما حدث. وما حدث أنتم تعرفونه

الوالى: جئت يا هذا لكى تسلينا. فإذا كنت غير قادر على هذا انصرف. فنحن لا نبحث عما يضايقنا.

العراف: ولماذا يضايقنا يا مولاى الحديث عن موت أنوف؟

الوالى: لأنه كان عزيزا علىّ..

العراف: ربما. ولست أدرى العلاقة بين إعزازك له وإرسالك له ليلة موته..

الوالى: هذا شىء لا يطاق. اخرج من هنا «ينادى» يا كافى.. يا كافى..

الأميرة: أعترف أن الفضول قد انتابنى.. ولا أعرف السبب فى أن يرسل له الوالى. وهى قصة لم أسمع بها من قبل. فلماذا لا نسمع الرجل بهدوء؟

العراف: فى تلك الليلة الباردة تسللت جارية من القصر إلى السجن. وفتحت لها الأبواب، فلقد كان تحمل خاتم الوالى. وذهبت لتقدم الطعام الشهى إلى أنوف. لكن الطعام الشهى كان يحوى السم داخله.

الوالى: هذا كذب!

العراف: أعرف أنك ستقول هذا. لكننى أقرأ عقلك وهو يؤكد كل ما قلت.

الوصيفة: هذا جنون. فالوالى ليس مضطرا لشىء كهذا. لو كان يريد موته، وأؤمن أنه لم يرده، كان يكفى أن يصدر أمره بذلك.

العراف: ويثور العامة. ويلجأ الرجال إلى الجبال.

لا ليس هذا ذكاء يا سفر. أليس اسمك سفر؟ اسم أطلقه عليك الوالى السابق بعد عودته من رحلة طويلة.

الوصيفة: هذا ما لا يعرفه إلا القليلون..

العراف: ومع ذلك فالوالى لم يقتل أنوف..

الوصيفة: ماذا؟

العراف: فعندما ذهبت الجارية. وجدته صريعًا. لكنها أرادت أن تفوز بالجائزة التى وعدها بها الوالى، فعادت لتعلق موته على يديها. وإلى الساعة كان الوالى يظن أنه قاتل أنوف. لكننى لا مولاى أبرئك من هذا. وهكذا ترى أننى لست غليظا دائما.

الوالى: أنت تحاول أن تلعب بنا. لكننا لسنا لعبة فى يدىّ شخص مثلك. «ينادى» يا كافى.. يا كافى.. أيها الحرس..

العراف: لقد بدأنا اللعبة، وعلينا أن نتمها، لقد ذكّرت الأميرة بشدة بوجه أنوف. وبدأنا نستعيد ليلة مصرعه. ولن نتوقف قبل أن نعرف ماذا حدث.

الوصيفة: إذا كان لى حق الكلام، فأنا أوافق على ما يقوله هذا الرجل، فمن واجبنا أن نعرف ما حدث. وإذا لم يكن لى حق الكلام. فسأتبعه إلى آخر الدنيا لأعرف منه الحقيقة.

العراف: الأمر لا يحتاج إلى هذا. فأنا لن أخرج من هذا المكان إلا إذا عرفنا الحقيقة.

تنوير: أنت هنا برغبتنا. أتظن أنك جئت برغمنا. أنت لا تزيد عن مضحك أو مهرج. وإذا تماديت «يخرج خنجره» سأقتلك.

الوالى: لا يا تنوير. لا. اغمد خنجرك. لن تسيل دماء هنا. ثم لماذا نخاف من الحقيقة؟ أنا لا أخشى شيئا. تكلم أيها الرجل..

العراف: مولاى اطمأن قلبه ببراءته من دم أنوف.. ولكن تنوير قلق. فهو أيضا أرسل إليه فى الحبس. لم يرسل جارية، فهو لا يجيد التفاهم مع النساء، ولا يثق بهن. ولكنه أرسل إلى أنوف واحدًا من رجاله بطعام شهى.. مسموم.

تنوير: هذا غير صحيح. فأنوف أخى. أنسيت هذا أيها الرجل؟

العراف: أنسيت أنت عندما فعلت ذلك؟

الأميرة: هذا كثير. قابيل وهابيل مرة أخرى. أيقتل الأخ أخاه؟ ولكن لم لا؟ لقد خلف تنوير أخاه على كرسيه. وليس أغلى من الكراسى على أصحابها. خشى تنوير أن يعيد الوالى أنوف إلى مكانه. فقرر أن يتخلص منه قبل أن يحدث هذا.

العراف: هكذا فكر تنوير. لولا عائق صغير منع رجله من تنفيذ مأربه هو أن أنوف كان ميتًا عند وصول الرجل. ولأنه أراد إرضاء تنوير صوّر له أن الأمر قد تم على يديه.

تنوير: لقد اتهمتنى ظلمًا. لكن اتهامك لم يقف على ساقين.

سفر: أكان الجميع يريدون قتل هذا الرجل الذى لم يكره أحدا فى حياته، ورفعت يده عن الأذى، وأحب الجميع طيبين وأشرارًا، لقد كان خيرا، ونُورا، ونسمة. فكيف يكره إلى هذا الحد؟ لا.. لا أصدق هذا. ألف دليل لا يجبرنى على أن أصدق أنهم كانوا يكرهون أنوف. كان الحب فى عيونهم، وأقسم أننى رأيته. أأخدع نفسى إلى هذا الحد، أم أن قلبا قد يحوى الحب.. يحوى الكراهية أيضًا، وفى نفس المكان.

العراف: يا ابنتى الإنسان غير قادر على أن يكون كما يريد.

لذلك فهو يكره من يبدو أفضل. الخير فى هذه الدنيا هو الذى يخلق الشر. وما نتمناه هو الذى يفجر غضبنا على ما لا نستطيعه. وأنوف كان الرجل الذى يريد أن يكونه الجميع، ولم يستطيعوا، فقتلوه.

تنوير: لم يقتله أحد. أنت نفسك قلت هذا.

العراف: بل قتل أيها السيد.. وقاتله الذى يعرف أنه قاتله بين هذه الجدران.

الوالى: لم يبق سواك.

العراف: أنا خارج اللعبة.

الأميرة: تعرف الكثير عنها، من يدخلك فيها.

العراف: لا أظن أن مولاتى تتهمنى.

الوالى: ولا أظنك تتهم امرأة بفعلة كهذه.

العراف: ولم لا؟ لقد قُتل أنوف بالسم، ولم يقتل برمح.

الوالى: أى هاتين المرأتين قادرة على هذا؟ سفر هذه جاريتنا منذ زمن طويل، ونعرف مدى رقتها.

العراف: هذه أخرجها من الدائرة.

الأميرة: فهو اتهام واضح لى!

العراف: لأنها كانت زوجة أنوف.

«ينظرون إليه فى دهشة»

الأميرة: هذه حماقة لا تحتمل. لقد كانت سفر دائمًا إلى جوارى. خاب حدسك فى هذه المرة أيها العراف. لقد أغراك صبر الوالى وصبر تنوير، فشطح خيالك إلى ما لا يقبله العقل.

العراف: إذا كنت لا تعرفين، فهذا لا ينفى الحقيقة.

تنوير: كان أنوف أخى. وأعرف عنه كل شىء.

العراف: وتعرف أنه كان زوجا لهذه المرأة، وكنت شاهده على هذا الزواج. وتعرف القاضى الذى عقد لهما، وما زال على قيد الحياة.

الأميرة: «لسفر» قولى إن هذا ليس صحيحًا.

سفر: أخفيت حتى كدت أموت غمًا، فلن أستطيع الإنكار. كيف تطلبين منى يا مولاتى أن أنكر الرجل الذى عشت فى عينيه سنوات، وكان أبا لأملى الذى مات رضيعا. ذلك الطفل، الذى أسميناه حامدا، ليكون لى ذكر فى حياته ومماته. فلم يعش إلا شهورا، وما تحدث عنه أحد حتى أنا.. أمه.. لا تطلبى منى يا مولاتى أن أنكره، فلقد تمزقت بإنكاره ألف مرة. وأنا أتجاهل اسمه يتردد. وأنا أسمع الحديث عنه بوجه بارد، وقلب محترق.

الأميرة: إن رأسى يدور. أنا غير قادرة على احتمال كل هذا. أيخفى الوجه وراءه كل هذه الأسرار. نحن لسنا نحن. أكنا فى حاجة إلى هذا الرجل ليكشف عن أسرار تهز الدنيا كلها. ولا تهز قلب واحد منا. هذه المرأة التى اتخذتها صديقة، وحكيت لها كل هواجسى، وظننت أننى أعرف عنها حتى الخاطر ينوش عقلها، أكتشف فى لحظة أننى خدعت بجهلى عنها. ما أبشع الإنسان.

العراف: صدقًا ما تقولين يا أميرة.. ما أبشع الإنسان.. أحيانًا.

سفر: وقد حَقّ لى أن أتحدث لأول مرة بعد عشرين عامًا من زواجى عن الرجل الذى عشت له، فلى أن أسألك عن قاتله.

العراف: ألم يتضح الموقف. إذا كان الجميع قد خرجوا منه.

الأميرة: فلا يبقى إلاى.. لقد أرسل له الوالى، وأرسل له تنوير أخوه. وأرسلت له أنا أيضًا السم المدسوس فى الطعام. كلنا فعلنا ذلك، وبطريقة متشابهة تدل على أننا نفتقد الخيال. ماذا تريد بعد ذلك؟ ماذا تريدون؟ أن تحددوا من القاتل. ما قيمة هذا؟. لقد وضعنا السهم فى القوس وأحكمنا التصويب، وأطلقنا على القلب. بالضبط عندما انطلق السهم كنا تحته. بعد ذلك وصل السهم، فقتل أو حاد دون ذلك شىء آخر فلا تحمّلونى أكثر منكم. فكلنا نفس القاتل.

سفر: ولكن لماذا؟ لماذا أنت بالذات؟ كنت دائمًا تذكرينه بكل خير.

الأميرة: كلنا كنا نفعل.. جميعًا كنا نحبه.. وجميعًا كنا نبغضه. كنا نحبه لأنه كان البراءة، وكنا نكرهه لأنه كان البراءة. الناس يرون ما نحن فيه. وينسون ما فعلناه لنصل إلى ذلك. لقد أعطيت عمرى لهذه الولاية. كنا نعبر بها النهر، زورقًا وسط التماسيح. وكان علينا أن نقود الزورق بحكمة. وكان أنوف يثقل الزورق. فكان علينا أن نلقى به، حتى لو دميت قلوبنا، فالهدف كان إنقاذ الزورق. وهذا لم يكن حياتنا فحسب، بل كان الولاية كلها.

وكان على أحدنا أن يفعلها. فتقدمت أيدينا جميعًا. وألقت به إلى الماء. فمات. وحملنا وزره ندمًا يؤرق القلب والعقل. وأيًا كان ما فعلنا يغفره الهدف الأكبر. إنقاذ هذه البلاد.

سفر: أى هدف نبيل!

تنوير: هذا الرجل يريد أن يفسد ما بيننا، فاحذروا. وأظنها مؤامرة.

الوالى: لا تحزنى يا سفر. كان علينا أن نفعل هذا. ولقد فعلناه.. منذ زمن طويل.

سفر: صدقنى يا مولاى أنا أفهم. الأمر لا يحتاج إلى ذكاء كبير. كان أنوف خيرًا وعدلًا ومحبة، فكان عليه أن يُقتل. هذا ما تقولونه. وأنا الشخص الوحيد فى هذه الدنيا من أقصاها إلى أقصاها الذى لا يحتاج إلى تبرير. فموته يعنى النهاية. وعندما تصل النهاية يسقط كل شىء. حتى لو كان مظلومًا لن يغير هذا شيئًا بالنسبة لى. فعندما يحدث، لا قيمة لأى شىء آخر. ولكن الكارثة أننا لسنا دائمًا أذكياء. فنسأل لماذا؟ وكيف؟ مع أن الموت جَبّ كل التساؤلات. ولو كانت الأسئلة تعيد الأنفاس إلى صدره لطويت الأرض ألف مرة متسائلة. وجمعت أشلاءه التى مزقتها الأيدى. لكننى أعرف أن ذلك - للأسف - مستحيل.

الوالى: لقد كنت أفهم دوافعى جيدًا. فلقد كان أنوف أحب إلىّ مما تدركون جميعًا. ومع ذلك كان علىّ أن أفعلها. وأنا أفهم تنوير، رغم أن أنوف أخوه. لكننى ما كنت أظن أن الأميرة تفعل هذا. ألا يشير ما حدث - بفعلتها - إلى الضرورة. فأن تشارك امرأة رقيقة فى شىء كهذا، يعنى أنه كان لا بد منه.

الأميرة: أنَسِى مولاى أننى شاركت فى خير هذه البلاد سرًا وجهرًا. أرقت لمآسيها. وقدمت ما فيها عنقى ويدى من در وذهب عند الحاجة. وسهرت على راحتها.

العراف: فى تلك الليلة التى مات فيها أنوف تساقطت الأمطار ثلجًا لعب فيه الأطفال فى الصباح. وإذا كنتم قد نسيتم كان ذلك فى نهاية الشهر، وكان الظلام يلون المدينة كلها. وساعد هذا الأميرة على أن تتسلل إلى السجن دون أن يراها أحد.

الوالى: (بدهشة) بنفسها:

العراف: لكن لا شىء على هذا التراب لا يُرى. ولا شىء يرى لا يُذكر. ولا شىء يذكر لا يخلد.

تنوير: هذه مغامرة لا معنى لها. كان يكفيك أن ترسلى له.

سفر: إحكام فى العمل. فمولاتى عندما تفعل شيئًا تحب إتقانه.

الأمير: لا يحاسبنى أحد. فجميعكم ذبحتموه، وحتى أنت أخفيت زواجك منه، أو قبلت إخفاءه. وأخفيت ولده حتى جهلناه جميعًا. لا يواجهنى أحد إلا إذا كان نظيف اليدين.

الوالى: لسنا نزعم هذا. ولكن ما الذى يدفع سيدة جليلة إلى مكان كهذا؟

العراف: حاول أن تعرف.

تنوير: أكنت أصدق عزمًا منا جميعًا؟

الأميرة: كنت دائمًا هكذا.

سفر: وأقسم إننى أعرف أن عزمك دونه عزم الرجال. لكننى لست أفهم كيف تدعين دفء الفراش فى ليلة ثلجية لتدسى بيديك النبيلتين هاتين السم لرجل فرش قلبه بساطًا ليسير عليه الجميع، ونحن منهم.

الوالى: ولا أنا أفهم هذا.

سفر: وأنا لا أفهم. لكن حدْس المرأة أحيانًا يكون أكبر من العقل. ولا يفهم المرأة إلا امرأة. وأنا لا أتسلل تحت عذاب الرياح الباردة لأقتل، إلا إذا كان لهدف غير كل ما قيل. فلم يكن الثأر لكرسى. ولا لأحد. كان الثأر للأنثى.

الأميرة: أنتِ مجنونة. ولا أدرى ماذا تقصدين؟

سفر: المرأة لا تكشف عن مخالبها إلا عندما يتمزق قلبها.

تنوير: سادتى. لا يصح أن ننزل إلى هذا المستوى. فنحن أشرف الناس، وأحكمهم، وأنبلهم. وحديث كهذا لا يليق إلا بالسوقة.

سفر: إذا كان علينا أن نتصارح. فأنا أعرف.. وأنت تعرف.. وكلنا يعرف إذا أغلقت الأبواب، وأسدل الحجاب، دون مستوى السوقة. ودوون معاناتى فى التذكر، فكلنا علينا أن نخجل من أنفسنا.

الأميرة: أنا لا أخجل من نفسى. فمنذ أن زُففت إلى الوالى، وحتى اللحظة، وثوبى أنظف من ثوب عذراء.

العراف: لمَ لا نتحدث عن القلب؟

الأميرة: نتحدث فى شىء آخر.

العراف: أتساءل عن القلب؟

الأميرة: ليس ملكًا لأحد.

العراف: أكنت تحبين أنوف؟

الأميرة: (منفجرة) أى شرير دجال، لا كرامتى، ولا عراقة أصولى، ولا مسئوليتى.. تسمح لى أن أهين نفسى مع شخص آخر.

الوالى: الرجل يسأل عن القلب. فأجيبى.

الأميرة: لقد أحببت.

الوالى: لا. لم تفعلى. هذا الرجل جاء بالحق والباطل معًا. قال إننا نعرف كل ما سيقوله، وهذا صحيح. فكل ما قاله كنا نعرفه، لكننا كنا نخفيه فى الأعماق، إلى حد أننا نجهله. أتذكر الآن. ولا أدرى كيف نسيت، أن أنوف كان يسعى للزواج منك قبل أن تتزوجى منى..

الأميرة: وحتى لو حدث هذا. ماذا يغير ذلك فى الأمر؟ 

تلك كانت فترة الصبا بمشاعرة الفجّة ولقد انتهت يوم تزوجنا. ولنتحاسب منذ هذا اليوم.

سفر: رجل كنت تحملين له حبًا قديمًا لماذا تسعين إليه فى الظلمة الباردة؟ 

الأميرة: ما كنت أسعى إليه عاشقة. بل كنت أريد أن أخلص الولاية منه، بعد أن صار خطرًا عليها.

الوالى: لكنك سعيت إلىّ لأخرجه من حبسه.

الأميرة: وأنت أيضًا اغرورقت عيناك وأنت تتحدث عنه. وقلت إنك ستخرجه.

الوالى: كنت أحبه، ولكن ليس بالحب تُساس الدول.

الأميرة: وكنت لا أكرهه، لكن السفينة لا تحتمل سوى ربان واحد.

تنوير: ما أفظع ما يحدث. الموتى يلقون بظلهم علينا.

سفر: لأننا الذين قتلناهم، فاستراحوا وتعذبنا.

العراف: الإنسان يحمل ما لا يصدق أنه يحمله. فعندما يولد الطفل يرث كل عذاب البشرية عبر القرون، ويضيف إليه خطاياه. ولا ينتهى كل هذا إلا بموته. وطالما كنتم على قيد الحياة، سيعذبكم أنوف.

الوالى: (للأميرة) أذهبت له حقًا لمجرد القتل؟ 

العراف: كانت الأميرة تحمل فى يمناها طبقًا فيه الحلوى.. وفى يسراها مفتاح الحبس.

الوالى: تحمل مفتاحًا؟ لماذا؟

الأميرة: لا أذكر.

العراف: جئت لأذكركم.

الوالى: لماذا كنت تحملين المفتاح؟

سفر: أليس الأمر واضحًا يا مولاى. أيحتاج خيال أنثى للوصول إلى الحقيقة. لقد كان أنوف مخيرًا بين الخروج من الحبس وبين الموت.

الأميرة: ليس هذا صحيحًا.

العراف: حتى لو كان هناك من سمع حديثكما، وما زال على قيد الحياة، ولن يكتم هذه الشهادة، فما رآه فى هذه السراديب طوال سنوات جعله يريد التكفير عما حدث بالصدق. لو كان ممكنًا التكفير عن شىء هكذا.

الأميرة: تلفون وتدورون لتعرفوا. أنا لا أخشى الحقيقة. فأنا ملكت نفسى. وحافظت على نفسى طاهرة طوال هذه السنوات. لكن خفق القلب ليس بيد أحد. كان أنوف أول حب فى حياتى. وأنا امرأة عاقلة. وأعرف أن الحب الأول يولد ليدلنا على الطريق، ثم يموت مع الزمن. لكن الكارثة أنه كان الحب الوحيد. وما كنت أدرك هذا. كان راقدًا ملتهبًا، جمرات ساخنة تحت الرماد. وربما كان سيظل هكذا أبد الدهر ولكن الملل نفض الرماد. هذه الحياة الآسنة. المليئة بكل المباهج المزيفة، نفخت فى الجمر، فإذا به حريق ملتهب. فدفعنى إليه. أردت أن أكسب قلبى، وأخسر كل السلطان والجوهر والراحة. لكنه ما أراد ذلك. فعدت كما كنت. وتراكم الرماد مرة أخرى. وكان عليه أن يموت فمات.

الوالى: لست أدرى ما أقول. فجيعتى بلا حدود. تمزق القلب فى ساعة، وأنا الذى كنت أسعى لراحته.

العراف: لا أظن أن مولاى كان يجهل ذلك.

الوالى: (غاضبًا) أكنت أصمت لو عرفت أن زوجتى ذهبت إلى رجل لتهرب معه.

العراف: لكنها لم تفعل.

الوالى: وما الفرق؟

العراف: أنا الذى أسأل. ففى رأيى، ولا تعوّل كثيرًا على رأيى، أن النية تساوى الفعل. وأنك عندما انتويت قتل أنوف. فلقد فعلت. وأن تنوير عندما انتوى قتل أنوف، فلقد فعل. وأن الأميرة عندما انتوت الهرب معه، فلقد فعلت. لكن للأمر حسابات أخرى. والذكى من يحسبها. فلا أنت تريد فقدها، ولا أسرتها التى تسند كرسيك. ولا أنت الرجل الذى يحب أن يهز صورته أمام العامة. وفرحك بالخلاص من أنوف كان أقوى من أى شىء آخر.

الوالى: هذا سخف.

العراف: وجاريتك التى أرسلتها صَدَف أنها عرفت بالأمر من صديقها السجّان، فنقلته إليك. لكنها أبدًا لن تكون شاهدًا على ما نقول. فنفس الطعام الذى حملته تذوقته. فالإنسان قادر على احتمال الندم، لكنه غير قادر على أن يسمع أخطاءه من شفاه الآخرين.

سفر: قولوا إن هذا كله حلم. فلست قادرة على احتماله. هذا الطيب الذى كان زوجًا رقيقًا، كان أيضا إنسانًا يحبه الجميع. ويوم حبس قلنا أزمة وتزول. غضب وينتهى.

ضرورات الحكم. لكن ها أنا أرى الجميع يتسابقون إلى قتله. وها هى المرأة التى ظننت أننى قد خبرت أرق مشاعرها، أراها عاشقة لزوجى وأنا لا أدرى. وها هو الأخ الذى أحبه أنوف ودفن طفلنا الميت بيديه يسعى لقتل أخيه. 

العراف: أكان تنوير هو الذى دفن خالد بن أنوف؟

تنوير: (غاضبًا) وهل هذه تهمة؟

سفر: لا أظنك تتهمه بشىء كهذا. ولكن لمَ لا. ألم يحاول قتل أخيه، فلماذا لا يقتل ابن أخيه. ولكن لماذا؟ كان مجرد رضيع.

العراف: أيتها الساذجة. لم يكن خالد بن أنوف مجرد رضيع.

تنوير: هذه التلميحات لا تُطاق.

الوالى: أنا معك. وأنوف على حبنا له كان خطرًا على الولاية. ولذلك حاولنا معه ما حاولنا. أما أن يفعل أحد شيئًا مع رضيع. فهذا ما لا أصدقه. 

الأميرة: دعوا الرجل يتكلم. أتطربون عندما يتهم الآخرين، وتريدون إسكاته عندما يتكلم عنكم؟ لقد أردتم الوضوح. فى الحقيقة لم ترغبوه. لكنكم وافقتكم ولو مرغمين. ليكن. علينا أن نغوص فى الحقيقة إلى أعماق الوحل. لقد اصطنعنا السعادة. وعِشناها بهجة على بشرة الوجه. واليوم نفقد السعادة المصطنعة فلنكن قدر الموقف، ونفقد السعادة فى تماسك. ما كرهنا سوى الحقيقة. ولكن إذا كان علينا أن نواجهها، فلمَ لا نفعل. ولتكن هى المرة الأخيرة.

العراف: هذا يحتاج لأن نرتب بعض الأشياء. فهذا الرضيع لم يكن يقل خطورة عن أبيه. 

سفر: لست أفهم كيف يكون رضيع خطرًا.

العراف: وهذا ما أحاول شرحه يا ابنتى. تذرعى بالصبر. فالموقف معقد جدًا، رغم أنه بسيط جدًا. ولو أننا أتينا برجل من السوق لأدركه فورًا، لكنكم عِشتم حكماء لسنوات وأنتم تفهمون شيئًا آخر، أو تصطنعون فهم شىء آخر. فليس سهلًا أن تنزعوا عنكم الثياب وتقفوا عراة.

سفر: أرجوك يا سيدى لا تُطل. فهذا طفلى الوحيد. وعندما فقدته. فقدت معه ما هو أكثر من الحياة.. مذاقها.. وأحس أنى أفقده الآن مرة أخرى.

العراف: الحقيقة نصل يغوص إلى أعماق القلب، فاحتمليه.. واحتملوه. كان خالد وارث أنوف. ومن هنا كان خطرًا فى مهده. وكان الجميع يتربصون به بالضبط كما يتربصون بأبيه. ولنبدأ بالسادة واحدًا.. واحدًا.. فى البداية الأميرة.

الأميرة : أنا لم أكن أعرف بوجوده.

العراف: تقصدين أنك تجاهلت وجوده. لقد أحببت أنوف صبيًا. وكان الحب الوحيد فى حياتك. هكذا قلت. ولكن الرياح دفعت شراع السفينة فى اتجاه آخر. والحب لا تقتله الرياح. ولأنك مثل الجميع تمتلكين ألف عين، عرفت أن أنوف قد تزوج سرًا بجاريتك. وكان عليك آنئذ إما أن تغضبى وتفقدى الأمل. وكنت بارعة إذ تجاهلت كل شىء. وعندما وُلد خالد عرفت. فلا أسرار تخفى عليك. وبالتأكيد كرهته. هذا إحساس طبيعى.

الأميرة: لكنه مات كما يموت أى طفل. وإذا لم يكن قد حدث هذا. فلست أنا. فالمرأة يا سيدى إن كنت لا تعرف لا تقتل وليدًا. لقد ارتعشت وأنا أقدم الطعام إلى أنوف، وتمزق قلبى ألف قطعة. لكن كل ذلك دون الخاطر الذى يشى به كلامك. أنا لم أغفر لنفسى أننى فعلت ما فعلت بأنوف. لكن لو كان قد حدث للرضيع شىء كهذا ما غفرت للدنيا كلها.

العراف: أصدقك. رغم أن الطفل كان عائقًا فى طريقك.. وتنوير..

تنوير: (مقاطعًا) دع تنوير فى حاله. لقد كان ابن أخى.

العراف: وكنت طامعًا فى الوزارة. وخلا لك الجو بعد حبس أنوف. ومارست لذة الجلوس على الكرسى فرأيت الطفل منافسًا على المستقبل.

تنوير: هذه مبالغة لا يقبلها عقل.

العراف: لكنها قد تصل إلى أى عقل. ومع ذلك فلقد كان دافع الوالى أقوى.

الوالى: أنا ولماذا؟ أينافسنى الطفل على الوزارة؟!

العراف: ربما على الولاية.

الأميرة: رغم أننى أريد أن أعرف الحقيقة إلا أن هذا كثير. فالولاية هى حق الوالى أبًا عن جد. ولا أظن أن هناك من يخطر على باله منافسة الوالى فى شىء كهذا.

العراف: إلا إذا كان له حق الميراث.

سفر: كان خالد بن أنوف.

العراف: أعرف. وبهذا كان له حق وراثة الولاية.

الوالى: أى مجنون. عتهك هذا يُكذب كل ما قلت. 

العراف: رغم أنك الوحيد فى هذا المكان الذى يعرف صدق ما أقول.

سفر: سيدى. عقلى لا يحتمل الإسهاب.

العراف: الوالى السابق فعل بالضبط ما فعله أنوف. تزوج سرًا من جارية.

الوالى: لن أسمح بإهانة الموتى. 

العراف: أنا لا أفعل. فقد أحكى ما حدث.

الوالى: أمنعك من الحديث عن أبى.

الأميرة: تحدثنا فيما هو أخطر. تكلم أيها الرجل.

الوالى: (لتنوير) أقتل هذا الرجل. هذا أمر.

تنوير: مولاى. أحس أن ما يقال يهمنى.

الوالى: أتعصى لى أمرًا.

تنوير: لقد سمح له مولاى بالكلام من قبل، فلماذا يريد إسكاته الآن؟.

الوالى: أتغامر بكرسيك يا تنوير.

الأميرة: على كل الحقيقة أن تُقال، وتُعرف.

العراف: ما بدأ لا يتوقف. تزوج الوالى السابق سرًا كما قلت لكم.

الوالى: سأقتلكم جميعًا..

العراف: وأنجب أنوف.

(تبدو عليهم د جميعًا)

تنوير: اضطر أبوك أن يتبنى أنوف ليحمى الوالى السابق من غضب أبيه وأسرته، ثم ليحمى سلطانه.

الأميرة: هذا كثير. أكانوا يدللون أنوف ويقربونه ونحن صبية لهذا.

الوالى: هذه مؤامرة.. أنتم تريدون التشكيك فى حقوقى.

تنوير: (للوالى) أنت الذى أغريتنى بقتله.

سفر: وقتلته!

تنوير: لا. لم أفعل. فى النهاية هو مجرد طفل. أعطيته لعابر سبيل، وأعطيته كيسًا من النقود.

العراف: وأخذه الرجل وهو لا يعرف الحقيقة. ووعى الطفل حتى كبر.

سفر: خالد ما زال يعيش. أيها الغريب. لعلك لست واهمًا. فأنت تزرع فى العقم أعظم الأشجار. أنت لا تعرف ما تهب. أنت تمنحنى الدنيا كلها، وما خيّرت بينه وبين الدنيا لاخترته. قل إنك تنسج أحلامًا فالفرحة قد تقتل قلبى. عرفنى عليه ولك حياتى، أشم فى كتفيه الأمل الذى ذبل. أرى فى عينيه دنياى التى راحت.

العراف: الطريق طويل.

سفر: أمشى إليه بقية عمرى إلا ساعة.

الوالى: وضحت المؤامرة الآن. أنتم تريدون انتزاع الولاية منى. ومَن يفعلها؟ أقرب الناس إلىّ.

تنوير: مولاى. نحن لم نفعل. أنت الذى ضللتنى، فجعلتنى أضيع من كان يستحق هذا المكان.

الوالى: هذا اعتراف بالتآمر يا تنوير.

الأميرة: لا تبحثوا عن الوهم. لقد مات أنوف. وعندما مات ماتت أشياء كثيرة. ولن نستطيع أن ننفخ الروح فيها. لو كان حيًا لكان لوجود ابنه معنى. ربما. ولشغله أو شغل أى شخص آخر ما يستحق. ولكن بموته انتهى كل شىء. وضاع خالد بن أنوف.

سفر: لا. ابنى لم يضع. لم أعثر عليه بعد. فكيف يضيع. لا أريد له شيئًا سوى أن يكون حيًا. أريد أن ألمس يده. اجعلنى أيها الغريب أراه.

العراف: الطريق طويل.

سفر: أمشيه حافية القدمين، عارية الرأس.

العراف: أدلك عليه، ولك الخيار.

سفر: أَشِر إليه فقط.

العراف: خالد بن أنوف.. هو نفسه بدر البشير.

الوالى: قائد العصيان. اتضحت المؤامرة.

العراف: لكنه لا يعرف.

الوالى: بل يعرف. إنها مؤامرة.

العراف: أعرفت طريقك يا امرأة؟

سفر: ليته كان أبعد، ليكون فى قدر شوقى.

العراف: سادتى لعلكم قد تسليتم. فإذا لم تكونوا قد أعود لكم. وإذا لم أعد وأردتم أن تعرفوا ما خفى، فتشوا داخلكم. فما يظهر من الإنسان ليس أكثر مما يظهر من البحر على سطحه. ولو أردتم لن تحتاجوا إلىّ.. وداعًا.

(ويخرج. والصمت يسود الجميع. قبل أن ينفجروا فى وقت واحد تقريبًا).

سفر: ابنى. أريده.

الوالى: مؤامرة.

سفر: أسعى إليه عمرى.

تنوير: خديعة.

(تنفجر الأميرة فيهم)

الأميرة: صمتًا!

ماذا قال هذا الدَّعِى لا نعرفه.

سفر: أنا لم أكن أعرف أن ابنى يعيش.

الأميرة: ربما. وإن كنت لا أصدق هذا.

الوالى: لن يمر ما حدث بسهولة.

الأميرة: بل سيمر. ماذا كشف لنا؟ لا شىء.

كنت أحب أنوف. وكان الوالى يعرف. لكنه كان يتجاهل هذا، وكنا سعيدين. وكان أنوف الأخ الأكبر للوالى، والأحق بالولاية، وكنا نعرف، لكنا تجاهلنا وسارت الأمور. وتزوجت سفر من أنوف. وكنا نعرف. لكننا أغمضنا العين. وكانت قمة الحكمة. قتلنا أنوف.. جميعًا قتلناه. وكان هذا عملًا طيبًا. كل ذلك لنكون من نحن. وما أجملنا. لا أحد فينا يحب الآخر. لكن ما أجملنا. الناس يحسدوننا على ما نحن فيه. لا أحد فينا يثق فى الآخر. لكن ما أجملنا. فكل منا يحتاج للآخر. لتسقط ذاكرتنا هذه الساعة. وما أكثر ما تسقط. ولنعد كما كنا، فنحن لن نستطيع الاستغناء عن كل ما حصلنا عليه. ولنواجه الناس بابتسامة. ما فى القلب فى القلب. لكن ما أجملنا.

(يدخل الحاجب ومعه العراف الثانى)

الحاجب: مولاى.

الوالى: (صارخًا) أين كنت؟

الحاجب: كنت آتى بالعراف.

تنوير: لقد أتى فعلًا.

الحاجب: أتى؟ لم يدخل أحد هذا المكان.

الوالى: أتى لنا عراف آخر.

الحاجب: مولاى. لقد كنت على الباب طول الوقت

(يتبادلون النظرات فى صمت)

الوالى: لا أفهم ما يحدث.

الأميرة: هذا صحيح. أحيانًا لا نفهم ولكن ما أجملنا.

(ستار)

نهاية العرض

أسفى إذا كنت قد أفسدت ليلتكم بقصتى. فأنتم تقصدون الحكائين والمهرجين والراقصين والمغنين حتى تبتهجوا. أسفى إذا كنت قد حرمتكم الأحلام السعيدة هذه الليلة. فلو كنت قد فعلت. ويا لحزنى لو أننى فعلت. انسوا كل ما حدث. أسدلوا ستارًا على الذاكرة، وعودوا كما كنتم، وسترون كم أنتم عظماء. نبلاء. فرسان. وفى الحالتين دعونى أنسحب إلى وحدتى. وأقول لكم. وتقولون لى: وداعًا!

القاهرة: محفوظ عبدالرحمن