الأربعاء 31 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

أبو العلاء.. وللمصريين فى عشق المعرى مذاهب

حرف

- أشعل العميد شهية الأدباء والباحثين لتناول «تراث أبى العلاء»

- يتفوق على كثير من الفلاسفة المتشائمين ومفكرى الغرب

سحرنى أسلوبه فملت إلى فلسفته ونظرته المتشائمة إلى البشر والحياة؛ كنت أسابق ذاتى فى حفظ أكبر عدد من أشعاره، وما زلت أردد حين أشعر بالضيق: «هذا جناه أبى علىَّ وما جنيت على أحد»، وأنشد معاندًا ذاتى إذا بدأ يومى بما أكره، أو أصابنى الضجر وفقدت الأمل:

غَيْرُ مُجْدٍ فِى مِلَّتِى وَاعْتِقَادِى    نَــوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّــــمُ شَـادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِىِّ إِذَا قِيــسَ   بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِى كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّــتْ     عَلَى فَـــرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـبَ  فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

بعد هذه المرحلة انقطعت عن منادمة المعرى زمنًا، لكنه ظل كامنًا فى مكان حصين مُقدر داخل قلبى ووجدانى.

بعد سنوات ينفخ العميد «طه حسين» (١٨٨٩-١٩٧٣) فى البوق، فيوقظ أبا العلاء من رقدته، داخل صدرى، كما بعثه من جديد فى الأدب العربى والعروبة مع بدايات القرن العشرين، تحديدًا فى الساعة الخامسة من مساء يوم الثلاثاء، خامس مايو ١٩١٤ حين حصل على درجة الدكتوراه فى تاريخ أبى العلاء، مع عِلمين اختارهما، هما الجغرافيا عند العرب، والروح الدينية للخوارج، وفى منتصف الساعة الثامنة أعلنت اللجنة أن الطالب «طه حسين» يستحق درجة جيد جدًا فى الرسالة التى قدمها.

هنا عاد أبو العلاء المعرى للحياة، وسمع به كل مَن جهله أو غاب عن ذاكرته؛ كان العميد يراه الأديب الخصب، الذى يستطيع المثقف الحديث أن يفرغ له، فيجد عنده غذاء العقل والقلب، يقول: «ومع ذلك فأبو العلاء فذ فى الأدب العربى كله، وصل من حقائق الأشياء إلى ما لم يصل إليه أديب عربى قبله أو بعده. ومع ذلك فأبو العلاء فذ يعد من هذه القلة الضئيلة التى يمتاز بها الأدب العالمى الرفيع على اختلاف العصور وتباين أجيال الناس وتفاوت حظوظ هذه الأجيال من الحضارة ورقى الشعور. فإذا فخر الأدب اليونانى القديم بأبيقور وإذا فخر الأدب اللاتينى القديم بلوكريس، وإذا فخرت الحضارة الأوروبية الحديثة بأدبائها وفلاسفتها المتشائمين، فمن حق الأدب العربى أن يفخر بأبى العلاء» (صوت أبى العلاء – ص ٦، ط قصور الثقافة ٢٠٢٣).

إن أبا العلاء يتفوق على كثير من الفلاسفة المتشائمين ومفكرى الغرب أمثال نيتشه وشوبنهور، وما تراثه إلا صورة فذة يكاد يقترب منها أشد فلاسفة الغرب عبقرية وتشاؤمًا!.

احتفى العميد بأبى العلاء شيخ المعرة وفيلسوفها؛ فوضع أكثر من كتاب، «تجديد ذكرى أبى العلاء»، «مع أبى العلاء فى سجنه»، «صوت أبى العلاء». ثم قدم كتاب «تعريف القدماء بأبى العلاء» بعد أن أصدر وزير المعارف أحمد نجيب الهلالى باشا فى ٢٦ فبراير ١٩٤٤ قرارًا بنشر آثار أبى العلاء، وألف لجنة لجمعه وتحقيقه تضم الأساتذة «مصطفى السقا، عبد الرحيم محمود، عبد السلام هارون، إبراهيم الإبيارى وحامد عبد المجيد» برئاسة الدكتور طه حسين، كما ذكر العميد فى مقدمته لهذا السفر العظيم بتاريخ ٩ أغسطس ١٩٤٤. 

لقد اعتبر العميد هذا السفر العظيم ليس إلا مقدمة يسيرة لعمل ضخم، تسعد مصر بتقديمه إلى الذين سيحيون ذكرى أبى العلاء الألف فى سوريا، فكان «المؤتمر الألفى لأبى العلاء المعرى» الذى نظمه المجمع العلمى العربى السورى فى الجامعة السورية بدمشق يوم الإثنين ٨ شوال ١٣٦٣هـ الموافق ٢٥ سبتمبر ١٩٤٤م، وأصدر المجمع كتابًا بهذا العنوان فى عام ١٩٤٥، وطبعة ثانية عام ١٩٩٤ يضم كل ما حدث فى المؤتمر الذى قال عنه الكاتب والباحث فى التراث الدكتور جميل صليبا (١٩٠٢-١٩٧٦): «كان هذا المؤتمر هو أعظم سوق أدبية شهدتها دمشق فى تاريخها». بينما خلد التاريخ كلمة العميد عن أبى العلاء: «إنه أعظم شاعر إنسانى أنتجته سوريا».

لكن يجب هنا أن نسجل للأديب العظيم «مصطفى لطفى المنفلوطى» (١٨٧٦-١٩٢٤) أنه حقًا أول من أشار إلى «رسالة الغفران» ولخصها وعرضها للقراء فى الصحف. إذن مصر هى أول من أحيا تراث أبى العلاء المعرى، ومصر هى أكثر الدول العربية احتفاءً بشيخ المعرة وفيلسوفها، وأكثرهم عناية بتراثه، يؤكد ذلك ويثبته، ويؤلم القلب ويحزنه، أن جماعة من أبناء هذه الأمة، متطرفة، تدعى الإسلام «داعش» جاءت فحطمت قبر وتمثال هذا الشاعر الفيلسوف الفذ!.

أشعل العميد شهية الأدباء والباحثين لتناول «تراث أبى العلاء» بجِد، فنجد رسالة الدكتوراه للكاتبة عائشة عبدالرحمن (١٩١٣-١٩٩٨) بعنوان «رسالة الغفران لأبى العلاء» وقد قرأت هذه الرسالة، ثم اقتنيت كل ما كتبته الدكتورة «عائشة عبد الرحمن أو بنت الشاطئ» عن أبى العلاء، فصدمنى ما قدمته، إذ اكتشفت أن عطاياها للأدب عن أبى العلاء الذى أحبته، ودافعت عنه، ليس إلا فصولًا مجتزأة من رسالتها المقدمة لنيل درجة الدكتوراه، «الهيئة المصرية العامة للكتاب» لم تزد عليها حرفًا واحدًا! «أبو العلاء المعرى» - أعلام العرب – المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر، «الغفران دراسة نقدية» دار المعارف، «مع أبى العلاء فى رحلة حياته» دار المعارف.

كذلك قدم الدكتور «لويس عوض» (١٩١٥-١٩٩٠) كتابه «على هامش الغفران» (سلسلة كتاب الهلال - أبريل ١٩٦٦)، هذا الكتاب سبب للدكتور لويس الكثير من المتاعب والمشكلات! وبين عامى ١٩٣٧-١٩٣٨ قدم الأستاذ «عباس محمود العقاد» (١٨٨٩-١٩٦٤) مجموعة مقالات فى جريدة البلاغ عن أبى العلاء، ثم جمع هذه الفصول فى كتاب بعنوان «أبو العلاء» عام ١٩٣٩، وصدر من مطبعة نهضة مصر بعنوان «رجعة أبى العلاء». هذا الكتاب كان صدمة كبرى لى، إذ لم أستطع تخيل العقاد بكل ما لديه من جبروت وثقافة أن يضع كتابًا بهذا الضعف، كما أنه لم يقدم لنا شيئًا عن شيخ المعرة، بل قدم نفسه، وبالغ فى التقديم، ربما لكى يطول قامة العميد، لكنه فشل فشلًا يحزن تلاميذه وأتباعه من العقاديين! ولأن العميد يلتزم الحيطة عندما يتحدث عن كتابات الأستاذ العقاد، فقد تناول هذا الكتاب فى «فصول من الأدب والنقد» بشىء من الدهاء، إذ بدأ بمدح الكتاب وثماره الحلوة ومتاعه القيّم، ثم عرض رأيه فى العقاد وآثاره الأدبية والفلسفية المعروفة، وأنه من الكتاب القليلين الذين لا يقرأون إلا لالتماس الفائدة، واكتساب العلم واجتلاب المتعة، وعدد وأفاض ثم مدح جهد العقاد فى هذا الكتاب تحديدًا، جهد البحث والدرس والمراجعة والاستقصاء، ثم جهد التروية والتفكير والقياس والاستنتاج. وبعد هذه المقدمة السخية الجذابة، يضرب العميد فيؤلم، ويلدغ فيوجع ويدمى، يقول:

«فالأستاذ العقاد ليس مؤرِّخًا فى هذا الكتاب، ولكنه ... مؤرخ ومتنبئ وواصف محقق أيضًا، يتحدث إلينا عمَّا كان، ويتحدث إلينا عمَّا هو كائن، ويتحدث إلينا عمَّا سيكون، أو عما يقدر أنه سيكون. لم يُرِدْ أن يصور لنا أبا العلاء فحسب، أو قل لم يُرِدْ أن يصور لنا أبا العلاء كما كان، وإنما أراد أن يصوره كما يمكن أن يكون لو أن الله أنشره وردَّه إلى الحياة. والله وحده هو القادر على أن ينشر أبا العلاء، ....، فأما نحن فمتكلِّفون حين نحاول ما لا طاقة لنا به .... ومن التكلُّف ما ينتهى بأصحابه إلى الإخفاق، ويضطرهم إلى الإحالة، ويدفعهم إلى ألوان من السُّخْف، ومن التكلُّف أيضًا ما يخطئ بأصحابه ما أرادوا، ولكنه ينتهى بهم إلى خير ممَّا أرادوا، ويتيح لهم إمتاع قُرَّائهم بلون من ألوان الأدب طريف، ...، فقد أراد أن يعطينا صورةً من أبى العلاء لو عاش فى هذا العصر، فأعطانا صورةً من الأستاذ العقاد الذى يعيش فى هذا العصر، وما أحسبنا قد خسرنا شيئًا؛ بل أعتقد أننا قد ربحنا كثيرًا.

أراد الأستاذ العقاد أن يرُد أبا العلاء إلى الحياة فلم يصنع شيئًا، وإنما أحيا لنا من أبى العلاء ذلك الشخص المعروف أو الذى لا نعرف من أمره كل شىء، ولعلنا نجهل من أمره أكثر ممَّا نعرف، وليس على الأستاذ العقاد بأس من ذلك؛ فقد حاول شيئًا لا سبيل إليه، وحاوله وهو يعلم أن لا سبيل إليه.

أراد الدعابة والمزاح فلا ينبغى أن يُحمل عليه الجِدَّ والتحقيق، وأظرف من هذا أن الأستاذ العقاد أراد أن يرتحل بأبى العلاء بعد أن بعثه بعثًا جديدًا، وأن يطوف به فى أقطار الأرض فلم يصنع شيئًا، وإنما ارتحل به فى طائفة من الكتب التى قرأها، وفى ألوان من العلم الذى أحاط به، وفى فنون من الآراء التى أتقنها واستقصاها؛ ذلك لأن الأستاذ العقاد نفسه لم يرتحل ولم يُطوِّف فى أقطار الأرض، وإنما ارتحل وهو مقيم، وطَوَّف وهو مستقر، وعرف الدنيا وهو لم يتجاوز حدود مصر. وهذه مزية من مزايا الأستاذ وفضيلة من فضائله، ولكن الله لا يكلف الناس فوق ما يطيقون، وبائعة السجائر مهما تكن جميلةً لا تستطيع أن تعطيك إلا ما عندها كما يقول الفرنسيون.

... كذلك أصبح أبو العلاء صورةً للأستاذ العقاد، ولم يصبح الأستاذ العقاد صورةً لأبى العلاء، والمسألة التى تحتاج إلى جواب، ولكنا لم نظفر بهذا الجواب هى هذه: أيرضى أبو العلاء عن هذه الصورة التى فرضها عليه الأستاذ العقاد لو أنه عَرَفها أم يسخط عليها؟ أما الأستاذ العقاد نفسه فيجيبنا بأن أبا العلاء لا يرضى عن هذه الصورة؛ لأن أبا العلاء لا يريد أن يكون شيئًا غير أبى العلاء. ففِيمَ إعطاؤنا هذه الصورة؟ وفيم عرضها علينا؟ وفيم إزعاج الشيخ عن مرقده؟ وفيم تكليفُه السفر فى الطائرات والقطارات والسفن، وتكليفه ما لا يطيق وما لا يحب؟ فى شىء واحد هو هذا العبث الخصب، وهذا اللعب الممتع، ....، فلنحمد للأستاذ العقاد جهده، ولنشكر له محاولته، ولنسجل له كثيرًا من التوفيق فى تصوير أبى العلاء القديم، وإن كنا نظن أنه قد أخطأ من صورة الشيخ بعض ملامحها، وذهب فى تفسير بعض شعره مذاهب ما أظنه كان يرضاها وما أظنها تلائم الحق من أمره، ...، وهناك هنات كنت أحب أن يبرأ منها الكتاب... وقد جرى على لسان التلميذ وعلى لسان الشيخ كلام أهمل فيه النحو بعض الإهمال. وما أظن أن أبا العلاء كان ينصب أو يجر حيث يجب الرفع، وما أظن أنه كان يقبل من تلميذه أن يضع «مَن» مكان «ما». وما أشك فى أن هذا من خطأ المطبعة، ولكنه خليق أن ينبه إليه». (فصول فى الأدب والنقد، الهيئة العامة لقصور الثقافة ط ٢٠٢٣، ص ٣٣-٤٢).

قدم أيضًا العلامة الدكتور «السعيد السيد عبادة» (١٩٣٤-٢٠٢٣) كتابه القيم «أبو العلاء الناقد الأدبى» دار المعارف طبعة ١٩٨٧، الكتاب رسالة نال بها درجة الدكتوراه (العالمية) مع مرتبة الشرف الأولى من كلية اللغة العربية عام ١٩٧٣. يتناول الكتاب جانبًا واحدًا من جوانب شخصية المعرى الضخمة، وهو الجانب الناقد فيه، ناقدًا ليس للشعر والأدب فقط، وإنما نقده لغيره من أقوال المجتمع وعقائده ومعارفه وأفعاله، شارحًا العوامل التى تأثر بها أبوالعلاء، فتكونت بها ذائقته وفلسفته.

كذلك شرح وحقق الدكتور على شلش (١٩٣٥-١٩٩٣) «رسالة الغفران» فى كتاب صدر عن دار القلم - بيروت ط ١٩٧٥، كما حقق الدكتور حامد عبد المجيد وقدم لكتاب «شرح المختار من كتاب اللزوميات لأبى العلاء» لـ«أبى محمد عبد الله البطليوسى» (٤٤٤-٥٢١) إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة ١٩٩١.

لكنى أعتقد أن أفضل الكتابات عن أبى العلاء بعد العميد هو كتاب الشيخ العلامة «أمين الخولى» (١٨٩٥-١٩٦٦) «رأى فى أبى العلاء» الصادر ضمن مطبوعات «جماعة الكُتاب» عام ١٩٤٥، حيث يتعمق فى شخصية شيخ المعرة من خلال أشعاره. هذا الكتاب بالغ الأهمية، صادم، عميق إلى حد بعيد، يعتمد على المنهج النفسى فى تحليل شخصية الأديب من خلال أدبه، يقرأ القصيدة ويدرس بناءها، ثم يغوص فى روحها، يتمعن كيف شيدها أبوالعلاء، كيف نفخ فيها من روحه، فجعلها تمثله لحمًا ودمًا، وتعبر عن مكنون روحه وقلبه. يرى الشيخ أمين الخولى أن أبا العلاء ليس بالفيلسوف الذى تُفسر حياته وأقواله تفسيرًا عمليًا عقلى المنطق، بل يراه أديبًا فنانًا، ينبغى أن تُفسر ظواهر حياته بمنطق العاطفة ووحى الشعور أولًا. من شعر المعرى ونثره الغزير الذى لا يقل روعة أو وفرة عن أشعاره، يبدو أبو العلاء متناقضًا، مترددًا فى مشاعره، ورغباته، ليس لشىء إلا لتبدل عواطفه ورقة مشاعره، واضطراب نفسه وانغماسها فى الألم.

كره المرأة كما كره الحياة:

ألا إن النساء حبال غى

بهن يُضع الشرف التليد

ودفن الغانيات لهن أوفى

من الكلل المنيعة والخدور

كما كره الزواج والنسل وأمر بتركه:

دع النسل إن النسل عقباه ميتة

ويُهجَر طيب الراح خوفًا من السكر

أرى النسل ذنبًا للفتى لا يقاله

فلا تنكحن الدهر غير عقيم

إذا شئت يومًا وصلة بقرينة

فخير نساء العالمين عقيمها

وعشق الوحدة وطلبها فى الحياة

وعند الدفن ويوم الحشر!

- فالرأى هجرانك الدنيا وساكنها

فأنت من جود هذى النفس منجود

- إذا حان يومى فلأوسد بموضع

من الأرض لم يحفر به أحد قبرًا

- يا جدثى حسبك من رتبة

أنك من أجداثهم معزولًا

لكنه فى وضع آخر يصرح بأن الشهوات تصارعه، يهفو لها فؤاده

- تنازعنى إلى الشهوات نفسى

فلا أنا مُنجِح أبدًا ولا هى

إن أبا العلاء اجتهد لينال حظه من الدنيا، لكنه لم يُصب، ولم يستطع الفوز بها، وعجز عن الاستمتاع، لكنه ظل آملًا فيها، يرغبها أحيانًا، لكن آلته تخزيه، فلا تمنحه ما يصبو إليه. إنه يشتهى المرأة لكنه لا يملك أدوات الارتواء، يقول: «أحب الدنيا وآلتها ليست فىَّ، وقد يئست من بلوغها واليأس مريح، فإلام التشوف إلى الضلال؟ لو كنت مؤديًا -كامل الأداة- لها لثقل علىَّ أمرها! (رأى ص ٨١)».

وكما يشير شيخنا الجليل «أمين الخولى»: «ما أصرحه بعد ذلك حين يفسر ما يمكن أن يكون منه زهدًا، ويبين سببه النفسى فى شجاعة، فيقول إنه لا يؤثر خمود مصباحه ولكن خانه الزيت، ولم يُطَّلق الدنيا بل هى التى طلقته، وما أعرض عن اللذات إلا لأن أطايبها مالت عنه، ونبل فلم يصب فمن له بالسهام الصائبات:

- ولم أوثر لمصباحى خمودًا

ولكن خان موقدَهُ السليط

-فما طلَّقتُ هى بل طلَّقتْ

ولست بأول مَن طُلِقا

- ولم أعرض عن اللذات إلا 

لأن خيارها عنى خنسْنَه

- حابى كثير وما نبلى بصائبة

وكيف لى فى مراميهن بالحابى

ويكمل التفسير حين يقول: إن الناس أرخصوه فأغلى قدره بالصبر، ويتظاهر بالنسك، وما هو إلا نُسك لبعد الهمم! (رأى ص ٨٢-٨٣).

-لما رأيت سجايا العصر تُرَخِصنى

ردَدتُ قدرى إلى صبرى فأغلى بى

- إنى أوارى خِلتى فأُرِيهموا

رِيًا وفى سر الفؤاد أوار

هذا هو أبو العلاء الفيلسوف، يخشى الموت ويؤلمه أن يفارق الحياة قبل أن يرتوى من لذاتها.

تضاعف همى أن أتتنى منيتى

ولم تُقض حاجتى بالمطايا الرواقص

وما عالمى إن عشت فيه بزائد

ومــــــــا هو إن ألقيــــــت مــــنه بناقـــــــــــص

وهذا الذى رأى المرأة شرًا وأذى على المرء أن يتقيه ويحذره يقول:

وجنَّتك الأولى عَروسك وافقت

رضاك فإن أجنتك فاجن ثمارها

هو أبو العلاء صاحب المتناقضات، ويأتى أستاذنا الشيخ «أمين الخولى» ليضع قنبلة تنفجر فى الوجوه، جاعلًا هذا الانفجار مقيدًا بكلمة هو قائلها «رأى» فى أبى العلاء:

«صاحبنا.. له الكثير الجم من التشهى لا نستوفيه هنا ولا يسمح المقام به، وحسبنا من ذلك كلمة متحرقة فى الفصول (٣١٦) إذ يقول: «إنما أنا كرجل بُلىَّ بالصدى (العطش)، لا يجد وردًا ولا موردًا، فهو ظمآن أبدًا، إن ورد عزوفًا (بئر يؤخذ منه باليد) وجده مضفوفًا (كثر وارده) وإن صادف نزوعًا (بئر تنتزع منها الماء، أعوَذته الآلة والمعين». ثم يقول العلامة الشيخ أمين الخولى (رأى ص ١٠٤):

«وحسبنا من قوله عن المرأة قولته المكشوفة التى يقر فيها أن:

أركان دنيــانا غرائــز أربع               

جعلت لمن هو فوقنا أركانا

والمرء ليس بزاهد فى غادة

لـــــــــكنه يتـــرقـــــــــــب الإمــــــــكانا

كما قدمت لنا الدكتورة «منى طلبة» كتابها القيم «أبو العلاء وبراندان: دراسة مقارنة لأدب الرحلة فى العالم الآخر»، إصدار (هيئة قصور الثقافة، ط ٢٠٢٢)، محاولة حل شفرة «رسالة الغفران» وما المعنى والمغزى الحقيقى لهذا النص الفذ، متعدد الأوجه؟ وماذا أراد أبو العلاء من رسالته؟.

هذا غير الكثير من الكتب المترجمة عن أثر «رسالة الغفران» على شاعر إيطاليا الخالد «دانتى أليجيرى» (١٢٦٥-١٣٢١) فى «الكوميديا الإلهية»، مثل «دانتى والشرق» لبريندا دين شيلديجن، إصدار المركز القومى للترجمة، «أثر الإسلام فى الكوميديا الإلهية» تأليف ميجيل أسين، إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب.

لم يكن كل ما سبق إلا لنؤكد على عظمة تأثير هذا الشاعر الفيلسوف على الثقافة المصرية، وأن عالمه الخصب سحر عقولهم وتفاعلوا معه، وأن فلسفته فتحت شهيتهم للبحث والتنقيب عن تراثه، وتحقيقه ودراسته، لأنه فى عيونهم أحد أعظم شعراء العربية بلا منازع، وربما يكون أعظمهم، إلا أنه يدين للشاعر الفذ «أبوالطيب المتنبى» (٣٠٣-٣٥٤هـ/٩١٥-٩٦٥م) بالعبقرية، وشرح ديوانه فى أربعة أجزاء سماها «معجز أحمد».

أما أنا فقد قرأت ما وصل إلينا من تراث فيلسوف العرب؛ درست بنهم أغلب ما كُتب عنه فى عصرنا، وهضمت «تعريف القدماء بأبى العلاء»، ومن تراثه تجسدت لى شخصيته الفذة، وشاهدت حياته المؤلمة، كيف تخفى عن عيون البشر، كيف كره الشهرة، وحلم ألا يشيد الناس بعلمه وشعره، رغم أنه جدير بهما كفء؟. 

لكن حين أضع الأوراق وأمسك بالقلم، تفلت الأفكار من يدى، وتفر من مخيلتى عوالم هذا الشاعر الفيلسوف! تتجمد الصور ويتسمر القلم، يصيبنى بالخزيان، ولا ينطلق الخيال محلقًا فى حيوات رهين المحابس الثلاثة «فقدان بصره وبيته وجسده الذى هو سجن لروحه»:

أرانى فى الثلاثة من سجونى

فلا تسأل عن الخبر النبيث

لفقدى ناظرى ولزوم بيتى

وكون النفس فى الجسد الخبيث

كان أبو العلاء أكبر منى دائمًا حين أشرع فى الكتابة عنه؛ لم أستطع احتواءه مرة، ليس لضعف منى، وإنما لجبروته، عبقريته، فلسفته، لغته الشامخة الراسخة، شخصيته النادرة، بصيرته الفذة. كنت دائمًا أنتظره، يحضر، مرة نتآلف ونتواءم، فيجود علىَّ بما يريده، ومرات ينصرف سريعًا، رافضًا الاندماج والإنصات، ربما أجد فى العميد علة أو تكئة أتوكأ عليها، نخطو نحوه على مهل، فيشفع لى رفيق دربه وصديقه، فيجود بما أحب، وأكتب ما يرضيه!.