سنوات الحرب
عقل والتر ليبمان.. قراءة فى أفكار صاحب كتاب «الرأى العام»

- آليات صناعة الأبطال والخير والشر من خلال الصور والرموز التبسيطية
- أول من نظر لمفاهيم وآليات الصور والقوالب النمطية وأوهام الدعاية
- هل يمكن استبدال الديمقراطية بحكمة ومعرفة الخبراء ثم فى مرحلة ما بعد الإنسانية الاستغناء عن الخبراء لصالح الذكاء الاصطناعى!!
- كتاب ليبمان «الرأى العام» صدر عام 1922 وأسس لنظريات الإعلام والرأى العام وأزمة الصحافة والديمقراطية
في ساحات الحروب تقف الأسلحة والذخيرة والمجنزرات وجهًا لوجه، جميع من يحمل السلاح يقاتل لحسم الصراع لصالحه، لكن من قال إن الحروب تحسم بذلك فقط؟
إن أردت أن تعرف كيف تنتهى الحرب بنصر هنا وهزيمة هناك فتش عن العقول، تلك التى تخطط وتنظم وتقرر متى وكيف تتخذ خطوة للأمام أو تتراجع خطوة للوراء، لكن الأهم من ذلك هو كيف تسيطر تلك العقول على ملايين العقول الأخرى؟.
فى الحروب عادة ما تكون هناك مهمة أخرى لمن يديرونها، مهمة لا تقل عما يحدث على الجبهة الأمامية، كيف تدير عقول من لا يشاركون فى الحرب بشكل مباشر، من بنى شعبك وعدوك فى الوقت ذاته.
وقد زخرت المكتبات العالمية بالكثير من الدراسات التى أولت اهتمامًا كبيرًا بهذا الموضوع، كيف تسيطر على الناس وتخلق رأيًا عامًا مساندًا لك في الداخل والخارج، كيف تؤمن جبهتك الداخلية وتطمئن إليها؟.. يعرض لنا الأستاذ الدكتور محمد شومان فى هذه المساحة إحدى أهم الدراسات المؤسسة لهذا العلم، الرأى العام، أو لنقل علم السيطرة على العقول.

يعتبر كتاب «الرأى العام» Public Opinion، لوالتر ليبمان Walter Lippmann، الصادر عام 1922، واحدًا من أهم الكتب الرائدة فى مجال دراسات الاتصال والإعلام والرأى العام، ومن أهم الكتب التأسيسية فى هذا المجال، والذى صار علمًا ومهنة تدرس فى أغلب جامعات العالم، لكن المفارقة أن هذا الكتاب على أهميته وانتشاره لم يترجم إلى اللغة العربية على حد علمى، ولم يحظَ بالاهتمام والتعليق أو القراءة التى يستحقها من الناطقين بالضاد، حيث تطرق إليه بعض الباحثين والأساتذة بشكل متعجل، سواء فى بحوث ودراسات الإعلام أو السياسة.
والمدهش أن بعض الباحثين والكتّاب العرب تحدثوا عن أهمية الكتاب فى تأسيس دراسات الرأى العام، على الرغم من أن ليبمان لم يكن مؤمنًا بدرور الرأى العام فى المشاركة فى اتخاذ القرار، لأنه لم يكن واثقًا بقدرة الرأى العام على الاهتمام بالشئون العامة، ومن ثم التوصل إلى آراء أو أحكام سليمة.
لكن من المتفق عليه أن كتاب ليبمان «الرأى العام» نجح فى صك وتأصيل مفهوم الصور النمطية وتأثيرها السلبى فى إدراك الجمهور وتشكيل ما يعرف بالرأى العام، والذى لم يؤمن ليبمان بعقلانيته، أو وجوده بشكل مستمر وفاعل. بكلمات مختصرة ناقش ليبمان فى كتاب «الرأى العام» إشكاليات الصحافة والإعلام والرأى العام والممارسة الديمقراطية، وانتقد بصراحة عمليات التلاعب بالصور والشعارات والأفكار لتصنيع الموافقة والإذعان والرأى العام. ولم يغير ليبمان قناعاته ومواقفه فى هذه القضايا حتى وفاته عام ١٩٧٤، وظل محافظًا فى خطابه على نقد أوضاع الصحافة والإعلام وتبعيتها لرأس المال والشركات الاحتكارية الكبرى، وخضوعها لسطوة وكالات الدعاية والإعلان، لكنه مع ذلك دعا إلى حماية استقلال الصحافة وظل مدافعًا عن حرية الرأى والتعبير وحماية قواعد مهنة الصحافة وتطويرها وضمان حرية عمل الصحفيين.
خلال حياة ليبمان الطويلة «١٨٨٩-١٩٧٤» تغيرت المخاطر والتهديدات للصحافة والرأى العام والديمقراطية فى الشكل والمضمون، لكن من دون تغيير حقيقى فى المضمون، وعمق التأثير، على الصحافة والإعلام كمهنة وعلى استهلاك الجمهور لما يقدم له من أخبار ومضامين. هكذا ظلت الصحافة والإعلام، من وجهة نظره، تقوم بصناعة الإجماع أو خلق التوافق، وهو مفهوم مهم تحدث عنه ليبمان فى كتابه «الرأى العام»، ونقله عنه عدد من أبرز الباحثين والمفكرين لعل أشهرهم المفكر النقدى هربرت شيللر. يرى ليبمان أن الجمهور غير قادر على متابعة الأخبار ومعرفة الحقائق بعيدًا عن الصور النمطية المغلوطة.. ما يهدد الديمقراطية، وأعتقد أن هذه الرؤية لدى ليبمان هى ما دفعته لعدم الثقة فى الرأى العام وقدرة المواطنين على الاشتراك فى الحكم، ومن ثم يقترح ليبمان وجود مكتب أو وكالة من الخبراء المدربين والموثوق فيهم لجمع المعلومات بوسائل علمية، موضوعية، وتقديم بدائل لقرارات أو تشريعات أمام متخذى القرار سواء فى الحكومة أو الكونجرس أو دوائر الاقتصاد.
رؤية ليبمان واستنتاجاته فى كتابه «الرأى العام» تجعل منه ليس كتابًا رائدًا فقط فى دراسات الإعلام والاتصال السياسى، بل تجعله أيضًا واحدًا من أبرز الكتب فى النظرية السياسية، وتحديدًا فى مسألة الديمقراطية على مستوى الفكر والممارسة، لا سيما وأن نشر كتاب «الرأى العام» قد ولّد نقاشًا فكريًا عميقًا وواسعًا بينه وبين جون ديوى، أحد أساتذة ليبمان فى هارفارد، كما شارك فيه آخرون، ورجع إليه باحثون آخرون خلال القرن العشرين وأعادوا قراءة هذا النقاش الكبير فى ضوء ما تعرضت له الديمقراطيات من تحديات وأزمات حتى اللحظة الراهنة.
والمفارقة أن ليبمان قد بدأ حياته اشتراكيًا، ثم ليبراليًا، ثم انتهى محافظًا، لذلك اتهم أحيانًا بالتناقض والتقلب فى آرائه ومواقفه، «المحافظ»، كما اتهم بأنه يغير ميوله الأيديولوجية ومواقفه السياسية كل عشر سنوات!! وبغض النظر عن هذه التقلبات إلا أن الرجل يعتبر أحد أهم الكتاب الصحفيين ومن أكثرهم تأثيرًا فى الرأى العام الأمريكى وفى النخبة السياسية على حد سواء، من خلال أفكاره العميقة وإنتاجه الغزير، فقد أصدر ٢٧ كتابًا فى الفترة من ١٩١٣ إلى ١٩٦١، وكتب فى الفترة من ١٩٠٩ إلى ١٩٧١ أكثر من ٧ آلاف مقالة افتتاحية وأعمدة صحفية، ومقالات فى مجلات، أو ما يساوى- حسب وصف أحد الباحثين- ١٠ ملايين كلمة، إضافة إلى المحاضرات والخطب والاستشارات التى قدمها لأفراد النخبة الأمريكية. وزار ليبمان مصر عام ١٩٦٤ بدعوة من الكاتب الصحفى الشهير محمد حسنين هيكل، الذى يعتبر من وجهة نظرى النموذج المصرى لليبمان، حيث ظل مؤثرًا فى الحياة السياسية والصحفية المصرية والعربية لأكثر من ٦٠ سنة، وقد التقى ليبمان الزعيم جمال عبدالناصر ونخبة من الكتاب والمثقفين المصريين وجرى بينهم نقاش مطول نشر بعضه فى صحيفة الأهرام.
يعتقد ليبمان فى كتابه «الرأى العام» أن الإنسان قد ألّف كتبًا ليصف العالم وهو يثق كل الثقة أن العالم الذى فى مخيلته هو العالم كما هو فى الحقيقة، لكن العالم الذى كنا نود أن نراه ورسمنا صورته فى مخيلتنا، والعالم فى الحقيقة، هما ضدان لا يجتمعان!! هكذا يشكك ليبمان فى قدرة البشر على إدراك العالم من حولهم، وكيف أنهم محبوسون فى الصور المتخيلة والتى فى رءوسهم عن العالم الخارجى.

ويلاحظ أن ليبمان يستخدم فى الكتاب كلمات ومفاهيم متعددة حول الصورة image، picture، portrait، portrayal، والقوالب أو الصور النمطية stereotype، بمعانٍ ودلالات مختلفة، ولا يميز بينها، حتى إن القوالب أو الصور النمطية stereotype تبدو فى بعض العبارات والفقرات أقرب إلى معنى الأفكار المقولبة، وأحيانًا تبدو أقرب إلى عملية القولبة أو التنميط. وتحدث ليبمان أيضًا عما يسمى الصور النمطية بدلًا من المثل العليا، لأن الكلمة المثالية عادة ما تكون مخصصة لما نعتبره جيدًا وصحيحًا وجميلًا. وبالتالى فإنه يحمل تلميحًا بأن هناك شيئًا يمكن نسخه أو تحقيقه. ولكن لدينا مجموعة من الانطباعات الثابتة fixed impressions، ثم أشار إلى ما يطلق عليه عالمنا النمطى Our stereotyped world وهو ليس بالضرورة العالم الذى نود أن نكون عليه، إنه ببساطة نوع العالم الذى نتوقعه. وإذا كانت الأحداث تتوافق، فهناك شعور بالإلمام، ونشعر بأننا نتحرك مع حركة الأحداث.. هكذا يستخدم ليبمان فى الكتاب مفهومًا جديدًا هو العالم النمطى أو العالم المقولب، وهو يختلف عن العالم المثالى الذى نود أن نعيشه، كما يختلف عن الانطباعات العامة، إنه العالم الذى نتوقعه، لكن ليبمان لم يشرح ما يقصده بالانطباعات الثابتة.
ويثير ليبمان مسألة مهمة تتعلق بمعرفة وإدراك الناس للتاريخ وللعظماء، حيث يرى أن العامة لا يعرفون العظماء حتى وهم أحياء بينهم، إلا من خلال شخصياتهم الخيالية، أو الصور التى تصنع لهم ويجرى ترويجها للجمهور، وأحيانًا قد لا تكون دقيقة. فى هذا السياق يشير إلى صناعة الرموز symbols وتداولها، سواء كانت رموزًا للخير أو الشر، وبنفس الطريقة التى يتم صناعة البطل فيها تتم أيضًا ولادة الشياطين أى صناعتهم. يقول: «وإذا كان الخير يأتى من جانب بعض القادة أمثال ويلسون وروزفلت، كذلك يأتى الشر من جانب قادة آخرين أمثال لينين وتروتسكى فهما من أبطال الشر، كما أن هناك أبطالًا للخير. وبالنسبة للعديد من العقول البسيطة والخائفة لا يوجد شىء يخالف السياسة كالحرب مثلًا، ولا يوجد موت غامض أو حريق غامض فى أى مكان فى العالم إلا ويرجع لقوى الشر هذه». فى إشارة واضحة لقوة تأثير التفكير بالمؤامرة لدى الجمهور العادى، والتفسير السطحى للأحداث على أساس وجود أخيار وأشرار، حيث يتآمر الأشرار دائمًا ضد الأخيار.

صناعة الأبطال والزعماء
ويكشف ليبمان عن التلاعب بمشاعر وإدراك الجمهور من خلال صناعة الأبطال والنجوم والزعماء، وربطهم برموز تبسيطية تساعد الجمهور فى تفسير العالم المعقد من حوله، وفى الوقت نفسه قد تساعد الزعماء والحكومات والأحزاب والجماعات الإرهابية على التلاعب بالجمهور، حيث يعزو الجمهور كل ما هو غامض فى العالم أو قبيح لقوى الشر، وكل ما هو إيجابى لقوى الخير، وعادة ما يكون الشر متجسدًا فى رموز وشخصيات الأعداء، أو الآخر أيًا كان شكل أو مضمون هذا الآخر العدو. والثابت أن سوء استغلال الصور والرموز قد استخدم عبر التاريخ، خاصة فى أوقات الحروب والصراعات الدولية.
وعلى الرغم من تقدم وانتشار تكنولوجيا الاتصال وثورة الإنترنت، إلا أن هذه الفكرة التبسيطية لتقسيم العالم إلى خير وشر، وصناعة هذه الرموز والتلاعب بالجمهور، لا تزال حاضرة بقوة ومؤثرة فى شعوب العالم بدرجات ومستويات مختلفة، بحسب كل قضية أو سياق للأحداث، إضافة إلى متغيرات أخرى لا مجال للوقوف عندها، لكن يمكن القول إن الرئيسين الأمريكيين بوش الأب والابن قد استخدما الصور والرموز وفكرة الشر والخير فى حروبهما على العراق وأفغانستان، ثم وظفها الرئيس الأمريكى الشعبوى دونالد ترامب- ولا يزال- على نطاق واسع فى حروبه الكلامية ضد كل أعدائه فى داخل وخارج الولايات المتحدة، وكذلك فعلت الحركات والأحزاب الشعبوية فى العالم، كما استخدمتها الحركات الإسلاموية والتنظيمات الإرهابية حول العالم.
وأتصور أن اهتمام ليبمان بالكشف عن آليات التلاعب بعقول وعواطف الجماهير لم يكن يهدف إلى الإصلاح أو مقاومة هذه الآليات التبسيطية الاختزالية للصراعات الدولية، وأنما لتأكيد المسلّمة التى ينطلق منها، وهى لا عقلانية الجمهور، وقابلية الرأى العام للاستهواء والاستغلال، وبالتالى- وبحسب رؤية ليبمان- عدم استحقاقه للمشاركة فى الحكم.
وتنطلق رؤية ليبمان من مسلّمة أن الرموز symbols تمثل الرأى العام، من هنا يشير إلى تزاحم وصراع الرموز فى الأوقات الاعتيادية، وتوحدها فى اتحاد مقدس بين الشعب أثناء الحروب. لكن حتى هذا التوحد حول رمز يتغير من مرحلة إلى أخرى بدليل الاختفاء السريع بعد الهدنة لرمز الدول المتحالفة ضد ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى، وكيف تبعها تساقط الصور الرمزية لكل دولة من دول التحالف الديمقراطى، وكيف تلاشت صور القادة والزعماء واحدة تلو الأخرى مثل ويلسون وكليمنصو «جورج بنجامين كليمنصو ١٨٤١-١٩٢٩ رئيس وزراء فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى ومن الداعمين لمؤتمر فرساى للسلام»، وكيف توقفت هذه الرموز أن تكون تجسيدًا للأمل الإنسانى.
ومع ذلك يؤكد ليبمان أهمية تأثير الرموز، والأوجه المختلفة لاستخدامها فى الإدراك والتفسير وإنتاج المعانى والصورة، ومن ثم استغلالها فى عمليات جمع وحشد الجماهير، يقول إن الرموز هى فى كثير من الأحيان مفيدة جدًا وبشكل غامض قوية جدًا، ولها طاقة سحرية، ويقول ليبمان إن قوة الرموز ترتكز على الطابع اللا عقلانى للعواطف الإنسانية، إلى جانب غموض الرموز نفسها، والتى يمكن أن تكون صورًا أو صورًا تمثيلية أو كلمات أو شعارات.

التلاعب بما يسمى الرأى العام:
ويسخر ليبمان من التلاعب بما يسمى الرأى العام من خلال رموز وصور لمعانٍ وزعماء، ويؤكد نسبية هذه الرموز والصور وتغيرها تبعًا لتغير الأحداث والسياسات وتبدل أهواء وعواطف الجمهور. ويقول فإما أن ننعى وننتحب هذه الظاهرة، على أساس أنها أحد أخف أضرار السلام، أو نستحسنها كنوع من استرداد العقل. ويخلص ليبمان إلى أن أول اهتماماتنا فيما يخص الخيال والرمز هو أن ننسى قيمتهم بالنسبة للنظام الاجتماعى السائد، وأن نفكر فيهم كجزء مهم من آلة الاتصال الإنسانى.
يدّعى ليبمان أننا فى الحياة اليومية ندرك العالم من خلال الصور النمطية stereotype، نحن لا نتصور العالم كمعطيات حقيقية، دون وسيط، فالواقع يأتى إلينا «محدد بالفعل بالنسبة لنا»، ونحن ندرك ما تم «انتقاؤه فى النموذج الذى تم اختياره من قِبل ثقافتنا»، ويؤكد ليبمان أن الصورة النمطية ليست شيئًا إيجابيًا أو سلبيًا. يحدد ليبمان سببين للاحتفاظ بالقوالب النمطية هما اقتصاد الجهد، والدفاع عن النفس، أى أننا نحتاج إلى صور نمطية حتى نتمكن من التعرف على حياتنا اليومية بسرعة وكفاءة ولرؤية أن «كل الأشياء طازجة وبالتفصيل»، أما الدفاع عن النفس فيعنى الإلمام المريح بالأشياء والأفكار التى اعتدنا أن نمتلكها، لدرجة أننا إذا واجهنا تحديات نشعر بالاعتداء ونتفاعل غالبًا مع الأشياء الجديدة بقسوة، إن الصور النمطية هى كل من المواد والمُثُل الخاصة بمُثُلنا وتقاليدنا الثقافية.
ويواصل ليبمان: «لا عجب إذن أن أى إزعاج للقوالب النمطية يبدو وكأنه هجوم على أسس الكون، إنه هجوم على أسس كينونتنا (هويتنا)، وحيث تتعرض الأشياء الكبرى للخطر، لا نعترف بسهولة بوجود أى تمييز بين كينونتنا (هويتنا) والكون.. الصور النمطية stereotype ليست محايدة. إنها ليست مجرد وسيلة لاستبدال النظام بالارتباك الكبير فى الواقع. إنها ليست مجرد اختصار. إنها كل هذه الأشياء وشىء أكثر من ذلك، إنه ضمان احترامنا لذاتنا؛ إنه الإسقاط على العالم من حيث إحساسنا بقيمنا الخاصة، وموقعنا الخاص وحقوقنا الخاصة. وبالتالى، فإن الصور النمطية مشحونة للغاية بالمشاعر المرتبطة بها».. ثم يقرر: «علينا أن نفترض أن كل ما يفعله كل فرد أو يقدم عليه لا يستند إلى معرفة مباشرة وأكيدة فحسب، وإنما إلى صورة رسمها بنفسه أو أعطيت له».
ويسخر ليبمان من البيئات الزائفة الزائفة «pseudo- environments» التى تعيشها الجماهير، لأسباب عديدة أهمها خضوع الجماهير للصور النمطية المغلوطة من خلال قصة رمزية عن مجموعة من الألمان والفرنسيين والبريطانيين يعيشون معًا فى جزيرة نائية فى بداية الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤، وكانوا منعزلين عن العالم، ويتلقون الأخبار مرة واحدة كل شهرين مع وصول سفينة إلى جزيرتهم البعيدة، وعندما وصل إليهم البريد فى منتصف سبتمبر ١٩١٤ علموا كيف انخرطت بلدانهم فى الحرب، هكذا تغيرت مواقفهم وتعاملاتهم اليومية، يقول ليبمان: «لمدة ستة أسابيع كانوا يتصرفون كما لو كانوا أصدقاء، لكنهم فى الحقيقة كانوا أعداء».
ثم ينقل ليبمان من الكتاب السابع لأفلاطون القصة الخيالية الشهيرة عن مجموعة من البشر قبعوا فى كهف تحت الأرض، له ممر طويل باتجاه النور، ظل هؤلاء الناس هناك منذ نعومة أظافرهم، وقيدت أرجلهم وأعناقهم بأغلال، بحيث لا يستطيعون التحرك من أماكنهم أو رؤية أى شىء سوى ما يقع أمام أنظارهم لأن السلاسل منعتهم من إدارة رءوسهم. وخلفهم نار متأججة من مسافة، وبين النار والسجناء طريق مرتفع، هؤلاء السجناء لا يستطيعون رؤية شىء غير الظلال التى تلقيها النار على الجدار المواجه لهم. وكما أكد أفلاطون أن الوجود والواقع كله بالنسبة لهؤلاء المساجين هو فقط تلك الظلال، فإن ليبمان أكد أيضًا أن الصور النمطية هى بمثابة الظلال فى كهف أفلاطون.

شروط نجاح الدعاية
وفى ضوء تأسيس ليبمان النظرى للرموز والصور النمطية وتأثيراتها، يشكك ليبمان فى عقلانية الرأى العام وإمكانية وجوده أصلًا، ويناقش عملية الدعاية التى تؤثر بقوة فى الجمهور أو ما يعرف بالرأى العام، حيث يقول: «إن الدعاية propaganda هى الجهد المبذول لتعديل الصورة التى على أساسها يتصرف البشر أو لتغيير النموذج الاجتماعى للآخر»، ويتابع أن النجاح فى عملية الدعاية بالمعنى الدقيق للكلمة أمر مستحيل، لذلك من أجل إجراء دعاية يجب أن يكون هناك بعض الحاجز بين الجمهور والحدث. ويجب أن يكون الوصول إلى البيئة الحقيقية محدودًا، قبل أن يتمكن أى شخص من إنشاء بيئة زائفة يعتقد أنه حكيم أو مرغوب فيه، لأنه فى حين أن الأشخاص الذين لديهم إمكانية الوصول المباشر يمكن أن يخطئوا فى فهم ما يرونه، لا يمكن لأى شخص آخر أن يقرر كيف يسيئون فهمه، إلا إذا كان بإمكانه أن يقرر أين سيبحثون، وفى ماذا.
ويقرر ليبمان أن الرقابة العسكرية هى أبسط شكل من أشكال الحاجز، لكنها ليست الأكثر أهمية بأى حال من الأحوال، لأنه معروف بوجودها، وبالتالى يتم الاتفاق عليها وتخفيضها إلى حد ما». ويقرر ليبمان عددًا من المسلمات وهى أن العالم الذى نعمل معه أبعد مما يمكن أن نمسكه أو ندركه، فهو بعيد عن العقل وعن العين، لذا يجب أن نبحر فيه ونستكشفه. كما أن ملامح العالم الخارجى تتعلق بسلوك كائنات بشرية أخرى، وهذا العالم الخارجى مثير للاهتمام بالنسبة لنا، ونسميه الشئون العامة. ويعود ليبمان لفكرة الصور الموجودة داخل رءوس البشر، صور أنفسهم، الآخرين، احتياجاتهم، أغراضهم، وعلاقتهم.. وهذه الصور هى آراؤهم العامة. ولكن ما الأسباب التى تجعل الصور لدى الناس «الصور الموجودة داخل رءوس الناس» كثيرًا ما تضلل الرجال فى تعاملهم مع العالم الخارجى؟
يرى ليبمان أن الإجابة ترتبط بالبحث فى عوامل رئيسية خارجية وداخلية، الأولى تحد من وصولهم إلى الحقائق. إنها الرقابة المصطنعة، وقيود التواصل الاجتماعى، والوقت الضئيل نسبيًا المتاح فى كل يوم من أجل إيلاء الاهتمام للشئون العامة، والتشويه الناشئ للأحداث عندما تضغط فى رسائل قصيرة للغاية، وصعوبة جعل المفردات الصغيرة «الكلمات والمفاهيم» تعبر عن العالم المعقد، وأخيرًا الخوف من مواجهة تلك الحقائق التى يبدو أنها تهدد الروتين الثابت لحياة الرجال. أما العوامل الداخلية فترتبط بالصور المخزنة والأفكار المسبقة والتحيزات التى تفسرها وتعبئها وتوجهها بقوة للفت انتباهنا، ورؤيتنا نفسها. من هذا المنطلق، يفحص ليبمان دور الرسائل الفردية فى تشكيل نمط من الصور النمطية، وتفاعلها مع الاهتمامات الخاصة بالشخص.
ويخلص إلى أن أغلبية الجمهور تعيش فى بيئة زائفة pseudo-environment لأن إدراكهم للعالم من حولهم «البيئة الداخلية والخارجية» يعتمد على صور نمطية ورموز مشوهه، إضافة إلى عوامل أخرى أهمها تأثرهم بالدعاية.
وينتقد ليبمان بصراحة النظرية الديمقراطية للرأى العام، انطلاقًا من أن الديمقراطية فى شكلها الأصلى لم تواجه بجدية مشكلة أن الصور الموجودة داخل رءوس الناس لا تتوافق تلقائيًا مع العالم الخارجى، كما لم يأخذ المصلحون فى اعتبارهم الصعوبات الرئيسية التى تواجه الرأى العام، لأنهم أيضًا افترضوا أن الناس قادرون على معرفة العالم البعيد عن متناول أيديهم.
ويعتقد ليبمان أيضًا أن كل شكل من أشكال التنظيم، سواء كان اشتراكيًا أو ديمقراطيًا أم غير ذلك، يتطلب إنشاء بعض التسلسل الهرمى، من أجل التعامل مع المشاكل غير المتوقعة والمُلحة التى لم يكن لديها وقت للمناقشات العامة، ويؤكد الحاجة لاتخاذ قرارات سريعة وحاسمة فى وقت الأزمات، ما قد يعزز رؤيته الخاصة بضرورة وجود خبراء قادرين على المساعدة فى الإسراع باتخاذ قرارات صحيحة تعتمد على معلومات دقيقة عن البيئات الداخلية والخارجية.
ويجادل ليبمان بأن الحكومة التمثيلية- سواء فى ما يطلق عليه عالم السياسة، أو الصناعة- لا يمكن أن تعمل بنجاح، بغض النظر عن أساس الانتخابات، ما لم تكن هناك هيئة أو منظمة مستقلة وخبيرة لجعل الحقائق غير المرئية مفهومة لأولئك الذين يجب عليهم اتخاذ القرارات. تلك المنظمة التى يقترحها ليبمان هى عبارة عن وكالة أو لجنة من خبراء موثوق بهم، قادرين على جمع وتحليل المعلومات من خلال الاعتماد على أساليب علمية، كمية وكيفية، ما يمكنها من إدراك العالم الخارجى وتجنب تأثير عوامل البيئة الداخلية من صور ورموز وأفكار مسبقة وتحيزات، ومن ثم يمكنهم بشكل دقيق وموضوعى اقتراح القرارات والتشريعات لمن بيده القرار اتخاذ القرار من سياسيين أو صناعيين.

أزمة الصحافة
الصحافة هى الوسيلة الرئيسية للاتصال بالبيئة غير المرئية. «ومن الناحية العملية يُفترض أن الصحافة فى كل مكان، يجب أن تفعل من تلقاء نفسها ما تتخيل الديمقراطية البدائية أن كل واحد منا يستطيع أن يفعله لنفسه تلقائيًا، إنها سوف تقدم كل يوم، ومرتين فى اليوم، صورة حقيقية لكل العالم الخارجى الذى نهتم به». لكن الصحافة لا تقوم بهذا الدور، ولا يمكنها القيام به فى الحاضر- أى زمن صدور الكتاب- ولا فى المستقبل، لماذا؟
يجيب ليبمان «أن الفرضية، التى تبدو لى الأكثر أهمية، هى أن الأخبار والحقيقة ليستا نفس الشىء، ويجب التمييز بينهما بوضوح، أن وظيفة الأخبار هى الإشارة إلى الحدث، ووظيفة الحقيقة هى تسليط الضوء على الحقائق الخفية، ووضعها فى علاقة مع بعضها بعضًا، ووضع صورة للواقع يمكن للإنسان أن يتعامل معها.. حيث تتخذ الظروف الاجتماعية شكلًا ملموسًا وقابلًا للقياس، وهنا تتطابق مجموعة الحقائق مع مجموعة الأخبار».
تفترض النظرية الديمقراطية التقليدية أن الصحافة تنقل الأخبار والمعلومات والآراء المحتلفة للناس، لكن هناك ثلاث مشاكل تتعلق بهذا الافتراض هى: طبيعة الجمهور، وطبيعة الصحافة، والهيكل التنظيمى للأخبار. لأن الناس أنانيون فى الأساس، مهتمون بأنفسهم، والصحافة تتغذى ببساطة على هذه الأنانية والمصلحة الذاتية. علاوة على ذلك، لا يهتم الناس بالقدر الكافى فى إبلاغهم بأنهم على استعداد لدفع الثمن الحقيقى للصحيفة للحصول على معلومات موثوقة، لذلك فهم راضون عن شراء الأوراق بتكلفة منخفضة للغاية، مما يزيد من اعتماد الصحف على الإعلانات التى بدورها تخرب استقلال الصحف ومصداقية الأخبار التى تقدمها. وفى الوقت ذاته ترى الصحافة أن القارئ هدف للإعلان أكثر منه مواطنًا مشاركًا فى العملية الديمقراطية.
وتحرص الصحف على جمع عدد كافٍ من الأشخاص الذين يشكلون جمهورها، وهذا الجمهور هو فى الوقت ذاته موضع اهتمام للمعلنين، من هنا تقدم الصحف نظامًا إخباريًا يناسب النطاق الحالى للتوقعات والقوالب النمطية للقارئ، مع التركيز، على سبيل المثال، على الأخبار المحلية على المستويين المحلى والوطنى على حساب الأخبار الدولية، ويقرر ليبمان أن مشكلة الأخبار تكمن هى كونها تشير ببساطة إلى الأحداث ولكنها لا تفسرها بكل تعقيداتها وسياقها الكاملين. كما يتم اختيار نشر الأخبار فى الصحف على السرعة وتوفير الوقت والجهد المطلوبين، مما يشوه عملية نقل الحقيقة كما تعتمد على الأهمية العامة للأحداث.
خلاصة القول تقوم الحكومة وأصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية بالتلاعب بالمجتمع الحديث من خلال عملية واسعة ومنظمة المصالح، حيث يحدد المعلنون محتوى ما ينشره الصحف بطرق مباشرة أو غير مباشرة، ويمتلك المعلنون فى بعض الحالات حق النقض «الفيتو» على المحتوى إذا كان هذا المحتوى يعرض السوق التى يبيعها المعلنون للخطر.
وفى هذا السياق تميل الحكومات إلى «صنع الموافقة» Manufacture of consent من خلال وسائل الإعلام عن طريق التلاعب بـ«الرموز»، التى بدورها تتلاعب بمشاعرنا وولاءاتنا، ويوضح ليبمان هذه العملية من خلال الاعتماد على دراسات علم نفس السلوك، حيث يمكن إثارة العواطف ثم نقلها إلى محفزات أخرى، لذلك على سبيل المثال قد تظهر الصحف لنا صورًا للجرائم الإرهابية، ومن ثم يمكن نقل مشاعر الخوف والغضب لتبرير أفكار الأمن والمراقبة، والتى يمكن أن تستخدم بدورها لتمرير القوانين القمعية أو الفوز المحافظين فى الانتخابات.
ويقول ليبمان: «تقوم النظرية الديمقراطية بغير وعى بتنشئة المواطن أو القارئ الواحد على أنه غير كفء نظريًا، وتضع على عاتق الصحافة عبء إنجاز ما فشلت فى تحقيقه أى حكومة تمثيلية، أو منظمة صناعية..، وفى ضوء ذلك ينتقد ليبمان فرضية الديمقراطية فى الرهان على دور الصحافة فى خلق رأى عام، حيث يقول: «ويُطلب من الصحافة إنشاء قوة سحرية تسمى الرأى العام، والذى قد يعالج الركود فى المؤسسات العامة، وكثيرًا ما تظاهرت الصحافة عن طريق الخطأ أنها تستطيع فعل ذلك. وهو أمر مكلف أخلاقيًا، وغير واقعى، لكنه شجع الديمقراطية، التى ما زالت مقيدة بأفكارها الأصلية، على توقع قيام الصحف تلقائيًا بتزويد الأجهزة والمؤسسات بالمعلومات، أى تصبح آلية لتزويد الديمقراطية بالمعلومات التى لا تزودها بها عادة المؤسسات، تلك المؤسسات التى فشلت فى تزويد نفسها بأدوات المعرفة، وهكذا أصبح على الصحافة حل حزمة من المشكلات، التى من المفترض أن يحلها المجتمع ككل، أى تزويد القراء والمؤسسات بالمعلومات الصحيحة أو الحقائق عن العالم الخارجى.
يشكك ليبمان فى قدرة الصحافة على القيام بهذه المهام الصعبة، ويؤكد أن النظريه الديمقراطية للرأى العام تعتمد فكرة خيالية، وهى أن كل منا يجب أن يمتلك رأيًا خاصًا فى كل أمر من الشئون العامة، وهى فرضية يرفضها ليبمان تمامًا، ويدحضها عبر صفحات كتاب الرأى العام بطرق وأساليب وأمثلة مختلفة.. لأن معظم المواطنين ليس لديهم الاهتمام أو القدرة للحكم على الأمور العامة، مقترحًا وجود خبراء من التكنوقراط وباحثى العلوم الاجتماعية، لديهم القدرة على متابعة أحداث وحقائق البيئة الخارجية والتحرر من تأثير الصور والرموز والأحكام والأفكار المسبقة، إضافة إلى جمع وتصنيف المعلومات واستخدام الأساليب العلمية الكمية والكيفية فى التحليل والقياس، مما يمكن هذه النخبة وبشكل دقيق وموضوعى من اقتراح القرارات والتشريعات على السياسيين.
ويمكن إعادة التفكير فى رؤية ليبمان عن مجتمع أو لجان الخبراء ودورهم فى ضوء التطور الهائل فى تطبيقات الذكاء الصناعى المرتبط بمنجزات الثورة الصناعية الرابعة التى تعيشها البشرية فى القرن الواحد والعشرين، أى بعد مائة عام تقريبًا من ظهور كتاب ليبمان، بمعنى هل يمكن للبعض أن يقترح استبدال خبراء ليبمان بأجهزة ذكاء اصطناعى وتطبيقات روبوتية متقدمة لتقديم بدائل القرار السياسى والصناعى والتشريعى، وهل يمكن لهذه الأجهزة والتطبيقات الذكية أن تقود العالم على نحو ما نشاهده فى بعض أفلام الخيال العلمى.
أتصور أن التسليم بصلاحية رؤية ليبمان عن قيام الخبراء بقيادة المجتمع مقابل تهميش الديمقراطية والرأى العام تفضى إلى إمكانية تبنى خبرة الذكاء الاصطناعى، لا سيما أن أجهزة الروبوت وتطبيقات الذكاء الصناعى ستكون أكثر دقة وموضوعية من مجتمع أو لجان الخبراء التى يقترحها ليبمان، لكن تظل إشكالية مهمة خاصة بمن سيبرمج، ويسير، ويتحكم فى أجهزة الروبوت وتطبيقات الذكاء الاصطناعى؟ وهل ستأتى اللحظة التاريخية التى يمكن لهذه الأجهزة والتطبيقات أن تقود نفسها وتعمل دون تتدخل أو تحكم بنى البشر فى مرحلة ما بعد الإنسانية، أعتقد أن كل هذه السيناريوهات كارثية بمعنى الكلمة، لأنها تستبدل الديمقراطية بحكمة ومعرفة الخبراء، ثم تستبدل الخبراء بحكمة ومعلومات الذكاء الاصطناعى!!