الإثنين 02 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أزمة مصطفى الفقى... كافكا المصرى.. وجه حقيقى فى حفلة تنكرية

افتتاحية العدد الثالث
افتتاحية العدد الثالث والسبعين

- منذ سنوات طويلة ومصطفى الفقى يلعب دور الكاتب بعد أن انتهى من دور السياسى

- الفقى مؤمن بمقولة كافكا «خجلت من نفسى عندما أدركت أن الحياة حفلة تنكرية وأنا حضرتها بوجهى الحقيقى»

بعد شهرين فقط من وصول جماعة الإخوان إلى الحكم، وفى حدود نهايات أغسطس ٢٠١٢ كنت أجلس مع الدكتور مصطفى الفقى فى مكتبه بوسط البلد، على هامش رئاستى تحرير برنامجه الشهير «سنوات الفرص الضائعة» الذى كانت تذيعه قناة «النهار» فى مواسم متتالية. 

أخذنا الحديث من أسرار وكواليس الماضى إلى تجليات الحاضر الكابوسى الذى كنا نعيشه فى ظلال الجماعة الكئيبة التى كنت تشعر بأنها جاءت وفى ذيلها حالة من الظلامين المادى والمعنوى. 

سألته: هل هكذا ستنتهى الحكاية يا دكتور؟ 

فهم ما أقصده. 

قال: سجل علىّ ما أقوله لك، لن تستمر جماعة الإخوان فى حكم مصر أكثر من عام؟ 

قرأ على ملامحى دهشة واستغرابًا مما يقول. 

لم يلتفت وأكمل كلامه: أصل الجماعة تعجلت الأمر، لم تمنح نفسها فرصة لأن تمضغ اللقمة التى أكلتها، قامت بابتلاعها قبل هضمها، هذه اللقمة التى هى مصر تقف الآن فى معدة الجماعة، وقوانين الحياة تقول إن اللقمة التى لا تهضمها لا بد أن تتقيأها وبسرعة، وهو ما سيحدث مع الجماعة وسريعًا.. صدقنى لن يستمروا أكثر من عام.. لن يصبر أحد عليهم. 

تعاملت مع ما قاله الدكتور مصطفى على أنه أمنيته الخاصة، فرغم أن علاقاته كانت قوية بأعضاء فى الجماعة- وهو ما لم ينكره- فإنه لم يكن مستريحًا، كما المصريين جميعًا، بوصولهم إلى الحكم، كان يعتبر ما جرى نكبة تعيشها مصر، ولا بد أن تتحرر منها. 

لم يكن ما قاله الدكتور مصطفى الفقى تحليلًا سياسيًا عابرًا، أو مجرد رأى صاغه من باب اليأس، ولكنه كان هكذا دائمًا، مفكر سياسى من طراز خاص، يمتلك قدرة هائلة على قراءة الأحداث وتفكيكها، والخروج منها بآراء لا يسبقه أحد إليها، ولذلك كثيرًا ما ألجأ إليه سائلًا ومستفسرًا ومسترجعًا معه أحداثًا كان شاهدًا عليها.. وأخرى كان مشاركًا فيها. 

كانت هذه الواقعة منذ أكثر من ١٣ عامًا، وقتها كان الدكتور فى عامه الثامن والستين، مرت السنوات وفى يناير ٢٠٢٥ كان يتحدث إلى الزميل العزيز شريف عامر فى اللقاء الذى يجمعه به أسبوعيًا على شاشة إحدى القنوات العربية، عن تصوراته السياسية لما يمكن أن يقوم به الرئيس الأمريكى القديم الجديد دونالد ترامب. 

فى هذا اللقاء أشار مصطفى الفقى إلى أن ترامب سيهتم بشأن المعابر البحرية، وأكد أنه سيفتح موضوع قناة السويس، وعندما فعلها ترامب بعد أشهر وطالب بمرور السفن الأمريكية من قناة السويس بدون رسوم، استرجع الكثيرون ما سبق وقاله الفقى. 

تأكد لى أن مرور السنوات على هذا المفكر السياسى الكبير يمنحه خبرة وقدرة على القراءة والتحليل والتنبؤ، وهو فى هذا قد يكون الآن هو المفكر السياسى العربى الأول القادر على أن يفعل ذلك، ويعبر عنه بسهولة وتلقائية تصل إلى المواطن العادى، فهو فيلسوف من طراز خاص، يتعامل مع الفلسفة على أنها وسيلة لإفهام الناس ما غمض عليهم، وليس تغييم ما يحدث بأكثر مما هو غائم. 

اختار مصطفى الفقى طريقه مبكرًا، قرر أن يكون دبلوماسيًا شعبيًا، وكاتبًا فى متناول قرائه، ومتحدثًا لبقًا يأخذك حديثه ولا يفلتك من بين يديه، فهو واحد من الحكائين الكبار القادرين على مصادرة اهتمامك وانتباهك وعقلك وقلبك وروحك لصالحه، فلا تملك أمامه إلا أن تستمع إليه بشغف كبير، حتى لو كان ما يقوله سبق ورواه من قبل. 

كنت أتابع حديث الدكتور مصطفى مع مذيع قناة «العربية» نايف الأحمرى فى برنامجه «قابل للجدل»، وهو الحوار الذى احتد فيه الفقى وهدد بالانسحاب اعتراضًا على ما وجده من انحياز من المذيع ومحاولة توجيه الحوار فى اتجاه رأى مصطفى أنه غير مناسب وغير لائق. 

وتابعت ردود الأفعال على هذا الحوار، والهجوم الذى صبه معارضوه وكارهوه فوق رأسه بسبب ما جرى، فلم أهتم كثيرًا بما قالوا، فقد أورثته آراؤه وأفكاره ومواقفه عداوات كثيرة، وهذا هو قدر المفكرين الكبار فى كل عصر. 

لكننى توقفت كثيرًا عند الذين هاجموا مصطفى الفقى وأخذوا عليه ما فعله من باب الالتباس وعدم الفهم لما يمثله فى حياتنا السياسية والفكرية، وهؤلاء أعتقد أننا من الواجب أن نتوقف معهم وقفة جادة، نسعى من خلالها إلى إعادة الاعتبار للفقى، بل لن أبالغ إذا قلت إننا نحتاج إلى دراسة هذا الرجل بهدوء وتأمل يتناسب مع حجم منجزه الفكرى والثقافى.. والسياسى أيضًا، فلن يجود الزمان علينا كثيرًا بمن هم مثله. 

لقد عاش الدكتور مصطفى الجزء الأكبر من حياته- فى نوفمبر الماضى أتم الثمانين عامًا من عمره المديد- بثنائية أعتقد أننى كنت من وضعتها أمامه ونحن نجهز لحلقات الموسم الأول من برنامجه «سنوات الفرص الضائعة».

توزعت سنوات عمره بين كونه مشاهدًا وشاهدًا. 

مشاهدًا للأحداث التى عبرت أمامه فى عصرى عبدالناصر والسادات، ثم شاهدًا على عصر مبارك، ثم العودة مرة أخرى كمشاهد فيما تبقى من عصر مبارك بعد أن قضى ما يقرب من ثمانى سنوات من العمل معه، وكان خلالها لصيقًا به، ثم خلال السنوات التى تلت عصر مبارك فى عهد الإخوان وما بعد ثورة ٣٠ يونيو. 

اللافت فى مصطفى الفقى أنه لم يكن مشاهدًا سلبيًا أو على البعد، ولكنه كان مشاهدًا من قريب، يعرف ما يحدث، تصله أخباره، يشارك فيه أحيانًا بالرأى المكتوب، أو بالحديث المعلن والمشهود. 

هذه الثنائية منحت مصطفى الفقى ما لم تمنحه لغيره من الكتّاب والمفكرين، فهو يتحدث عما يعرف.. سواء كان ما يعرفه هذا رآه بنفسه أو سمعه من مصادره، ومصادر الفقى كانت ولا تزال دائمًا من مصادر الدرجة الأولى. 

كنا فى جلسة عاصفة فى منزل رجل الأعمال الراحل محمد فريد خميس قبل وفاته بسنوات، وكان مصطفى يتحدث عن واقعة خلال عمله إلى جوار الرئيس مبارك. 

استوقفه كاتب صحفى كبير كان يشاركنا الجلسة، قال له: أعتقد أن ما حدث يا دكتور كان غير ذلك. 

نظر إليه مصطفى فى استخفاف كشفته ملامح وجهه، وقال له: أنا أتحدث بما رأيت وأنت تتحدث بما سمعت.. وكما يقولون ليس من سمع كمن رأى، وعندما أتحدث أنا يجب أن تتأدب أنت وتصمت. 

بعد رحيل مبارك كان مصطفى الفقى تقريبًا المصدر الأول والأهم لمعرفة ما جرى فى هذا العصر الغامض والممتد لأكثر من ثلاثين عامًا. 

وأعترف بأنه فيما فعله كان متجردًا تمامًا، فلم يدعى بطولة، ولم يقل شيئًا لم يحدث، بل إنه قام وأمام الناس جميعًا بما يمكننا اعتباره مراجعات سياسية وفكرية، فعندما كان ينتقد تصرفات وقرارات الرئيس مبارك ومن عملوا معه، لم ينس أن يحمل نفسه هو أيضًا المسئولية. 

لقد اعتقد البعض أن مصطفى الفقى كان يصفى حساباته مع الرئيس مبارك ورجال عصره، بدعوى أن مبارك حرمه من مناصب كان يستحقها بالفعل، ورغم أن الفقى كان قادرًا على ذلك تمامًا بما لديه من معلومات وحكايات تروق للكثيرين، لكنه لم يفعل. 

فى إحدى الحلقات روى الفقى واقعة تخص علاء مبارك. 

الواقعة كانت شخصية، وقد يفهم الناس أن فيها إهانة للرئيس ونجله، وقبل إذاعة الحلقة تواصل معى الفقى، وجدته غاضبًا، كان يصرخ فى التليفون، وهو يطلب منى حذف هذه الواقعة تمامًا، ويؤنب نفسه ويلومها بشدة لأنه أفصح عنها أثناء التسجيل. 

قلت له: يا دكتور أنت لم تتعمد الإهانة أو الإساءة، وهذا تاريخ يجب أن يعرفه الناس.

قال لى بحسم: هناك أسرار ستمضى معى إلى قبرى، وكان يجب أن تكون هذه الحكاية من بينها، لقد أخطأت فى روايتها، وأرجوك أن تحذفها، فأنا لن أسامح نفسى إذا كنت سببًا فى الإساءة إلى السيد علاء مبارك. 

كان الفقى يستخدم هذا اللقب «السيد علاء مبارك» رغم أننا كنا نتحدث فى التليفون ولا يسمعنا أحد. 

لم يهدأ مصطفى الفقى حتى قمنا بحذف ما قاله عن علاء مبارك، وقد تتوقع أننى يمكن أن أروى هذه الواقعة الآن، لكننى سألتزم بما تعهد به لنفسه وهو ألا يتطرق إلى روايات وحكايات خاصة وشخصية، وسأظل أنا أيضًا محتفظًا بها وفاء لما عاهدته به. 

عندما كنا نجهز للحلقات، طلبت منه أن يسمح لى بزيارة مكتبته الخاصة، حتى أطلع على أوراقه ووثائقه ومستنداته التى يحتفظ بها، لندعم بها حديثه التليفزيونى. 

نظر لى باستنكار رافضًا ما طلبت، وقال: صحيح أن ما لدىّ كثير، ويمكن أن يقلب الدنيا، لكن لن أسمح بظهوره، فهو ليس ملكى أنا وحدى، فهو ملك الدولة المصرية، وملك شخصيات كثيرة رحلت وشخصيات لا تزال على قيد الحياة، والإفراج عن هذه الأوراق والصور والمستندات يمكن أن يكون خيانة لهم، وليس من طبعى أن أخون أحدًا عملت معه أبدًا. 

لقد حاول مذيع العربية نايف الأحمرى أن يدير حوارًا ساخنًا مع مصطفى الفقى، فاستخدم ما قاله فى مقالاته وأحاديثه التليفزيونية، ليواجهه به، معتقدًا أنه بذلك يمكن أن يحصل منه على تصريحات ساخنة. 

اعتقد الأحمرى أن الفقى قد يكون فى حاجة إلى تبرير ما سبق وقاله، أو يرد عن نفسه اتهامات ساقها البعض فى طريقه وألصقوها به، دون أن يعرف أن الفقى يتعامل مع نفسه طوال الوقت على أنه ليس متهمًا بشىء، فما قاله تاريخ جرت وقائعه أمام الجميع، وتصادف أنه يعرف أسرار وكواليس هذا التاريخ، وما كشفه كان من واقع مسئوليته ككاتب ومفكر، ولا يمكن أن يلام الكاتب والمفكر على ما يسجله من وقائع تاريخية، لأنه فى الأساس لم يصنع هذا التاريخ، بل كان شاهدًا عليه أو مشاهدًا له. 

الأزمة التى يعانى منها الفقى أن هناك خلطًا كبيرًا فى النظر إليه من قبل الآخرين. 

لا يستطيع كثيرون أن يفصلوا فى شخصيته بين ما هو سياسى وما هو فكرى. 

لا يدركون الفارق الكبير بين السياسى الذى لا يجب أن يتحدث عن كل ما يعرف، والكاتب الذى من الواجب عليه، بل هو فرض مقدس أن يتحدث ويقول ويكتب ويكشف ويسجل ويوثق ما رأى وعاصر وعاش. 

منذ سنوات طويلة ومصطفى الفقى يلعب دور الكاتب بعد أن انتهى من دور السياسى. 

وفى عمله ككاتب اختار الفقى أن يكون واضحًا وصريحًا وجريئًا ومقتحمًا، لا يخفى شيئًا ولا يتردد عن إبداء رأى، ولا يخشى دخول معركة، وأعتقد أن من يتحدثون عن الفقى بسطحية شديدة يفعلون ذلك، لأنهم لا يتابعون جيدًا ما يكتبه فى مقالاته الدورية التى تنشرها أكثر من صحيفة مصرية وعربية، يكتفون فقط بما يقوله عبر التليفزيون، ويميلون إلى تصديق ما يردده عنه خصومه. 

فى تصديره لسيرته الذاتية الرسمية التى أطلق عليها اسم «الرواية» استعان الفقى بعبارة الكاتب التشيكى الشهير كافكا التى يقول فيها «خجلت من نفسى عندما أدركت أن الحياة حفلة تنكرية، وأنا حضرتها بوجهى الحقيقى». 

من يريد فهم مصطفى الفقى على وجهه الحقيقى لا بد أن يضع هذه العبارة أمامه ولا يفلتها من بين يديه. 

أعرف أن مصطفى الفقى يميل إلى كافكا كثيرًا، ويدرك جيدًا أيضًا الفارق بينهما. 

فأعمال وكتابات كافكا تندرج تحت تصنيف «الواقعية الغرائبية»، نقابل فى قصصه ورواياته أبطالًا غريبى الأطوار يجدون أنفسهم وسط مأزق فى مشهد سريالى. 

الأمر نفسه نجده فى كتابات مصطفى الفقى وأحاديثه عن الشخصيات التى عاش وعمل معها وشهد عليها، فمعظمهم عاشوا فى مأزق وسط مشهد سريالى. 

الفارق بين مصطفى الفقى وكافكا، أن الكاتب التشيكى الشهير كان ينحت شخصيات أبطاله من خياله، ويصيغهم من واقع أزماتهم النفسية التى يغلب عليها الاغتراب والقلق والذعر والشعور بالذنب والعبثية، بينما يحكى الفقى عن شخصيات واقعية عرفها عن قرب، وهو ما يؤكد أن أبطال حياتنا غرائبيون أكثر من الشخصيات الخيالية. 

كان يمكن لمصطفى الفقى أن يرسم لنفسه شخصية أخرى، أن يلتزم بالصمت، أن يكف عن الكتابة، أن يختزن أسراره فى قلبه لا يفصح عنها أبدًا، وساعتها كان سيحصل على أكثر مما حصل عليه، وكنا سنتعامل معه بصورة أفضل، لكنه اختار أن يكون نفسه، أن يعيش بوجهه الحقيقى وسط حفلة تنكرية، وهو ما جر عليه ما لاقاه خلال مشواره فى عالم السياسة وطرقات الفكر. 

لم يخطئ مصطفى الفقى فيما فعل، كان يدافع عن منهجه وطريقه واختياره فى مواجهة محاور قرر أن يحصل على تصريحات ساخنة من مفكر كبير. 

أضاع الأحمرى الفرصة على نفسه وعلى مشاهديه، وقاتل الله الرغبة فى ركوب الترند التى تجعلنا نسعى وراء الخفيف والمستهلك والسطحى لنكون نجومًا فى عالم افتراضى تافه.. وفاز الفقى عندما أظهر ضيقه وتبرمه مما يجرى على مسرحه الكبير من عبث. 

قد تكون هذه فرصة لتحية الدكتور مصطفى الفقى على كل ما قدمه وقاله وكشفه، كما هى فرصة أيضًا للتذكير بأننا فى حاجة إلى دراسة هذا الرجل، وإنزاله المكان الذى يناسبه والمكانة التى يستحقها، بعيدًا عن الصخب الذى يريدون أن يشغلونا به بعيدًا عن أى قيمة جادة وحقيقية فى حياتنا.