تحقيق خاص فى 3 أزمات.. وزير الثقافة مُفترى.. أم مُفتَرى عليه؟

- وزير الثقافة زار أديبنا الكبير فى المستشفى لكنه لم ينشر صورة الزيارة الأولى لسبب إنسانى نحترمه
- من اللحظة الأولى التى دخل فيها صنع الله المستشفى وهو يلقى رعاية طبية فائقة يشرف عليها وزير الصحة بنفسه
- لا يمكن تحقيق خدمة ثقافية متميزة من خلال مجموعة من المكتبات المؤجرة التى لا يتجاوز بعضها حجرة صغيرة أو قاعة محدودة
- الوزير وجه مبكرًا بحل مشكلة طباعة مجلة نادى القصة على الفور قبل نداء الكاتب محمد سلماوى
من السهل علىّ أن أستسلم تمامًا للخطاب السائد فى الوسط الثقافى الآن عن أداءات وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو فى ملفات كثيرة، طفا منها على السطح أزمة إغلاق بيوت وقصور الثقافة فى عدد من المحافظات، وكذلك إغلاق بعض المكتبات التابعة لهيئة قصور الثقافة، والأزمات التى تلاحق نادى القصة للدرجة التى تهدده بالإغلاق، ثم ما جرى على هامش الأزمة الصحية التى يعانى منها الكاتب الروائى الكبير صنع الله إبراهيم.
لكن الأصعب وما يجب أن يحدث هو أن أبحث عن أصل وفصل كل أزمة من هذه الأزمات، ربما لأن الصحافة علمتنى أن هناك دائمًا رواية أخرى، هناك ورقة مخفية فى الملفات المعلنة، هناك سبب لا يعلن عنه من يهاجمون وينقمون، ويجلسون أمام شاشات أجهزة الكمبيوتر وأجهزة محمولهم ليصبوا غضبهم على رأس الوزير وعلى قطاعات الوزارة، الذى يبدأ بأنه مُقصر فى عمله، وليس نهاية بأنه لا يستحق المنصب الذى يشغله.
أقول ذلك لأننى تابعت كل ملف من هذه الملفات عن قرب، كنت طرفًا - ولو بشكل غير مباشر- فى مجريات الأحداث، وقد تكون هذه فرصة لتحقيق عملى ليس فى الأحداث فقط، ولكن فيما خفى منها على الرأى العام.
ما سأكتبه هنا ليس دفاعًا عن الوزير الدكتور أحمد هنو، فهو بالنسبة لى ليس متهمًا بشىء، ولكن هناك من حاول أن يحاصر الوزير متهمًا إياه بما لم يفعله، ومهاجمًا له ونازعًا عنه ما قام به فى الملفات الساخنة التى شغلت الرأى العام الثقافى.
إننا فقط نحاول أن نتعلم كيف نصل إلى ما يجرى بعيدًا عن سطوة السوشيال ميديا، التى أصبح لها جنرالات، لا هم لهم إلا التأكيد على قوتهم ومهارتهم وربما سطوتهم أيضًا، رغم أنهم لا يملكون إلا أنصاف الحقائق فيما يكتبون، ومبلغ علمى- الذى هو مبلغ علمكم أيضًا- أن أنصاف الحقائق لا تصنع أبدًا أبطالًا.

الآن يمكن أن نظل معًا مع بعضنا البعض فى رحلة البحث عن حقيقة ما جرى، ليس لوجه الوزير، وليس لوجه الوزارة، ولكن لوجه الحقيقة وحدها.
يوم الخميس ١ مايو ٢٠٢٥ تواصل معى أحد الزملاء مشكورًا يخبرنى فيه أن الكاتب الروائى الكبير صنع الله إبراهيم أُصيب بكسر فى الحوض، وتم نقله إلى المستشفى، وأنه يعانى بشدة، فحالته الصحية العامة ليست على ما يرام، وطلب منى أن أتواصل مع وزير الثقافة ووزير الصحة ليحصل على الاهتمام الذى يستحقه.
حاولت التواصل مع وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو، الذى كان تليفونه خارج الخدمة، فقد كان فى مهمة ترتبط بعمله فى الهند، وهو ما عرفته من بعض مساعديه فى الوزارة.
تركت للوزير رسالة على الواتس آب، رد عليها بعد حوالى ثلاثة أيام، عندما وصلته، ويومها فى ٤ مايو ٢٠١٥ أخبرته بحالة صنع الله إبراهيم، وكان رده مقتضبًا ومختصرًا، قال لى: بإذن الله خير.
بعد أيام من هذه الرسالة وجدت الكاتب الكبير فاروق جويدة يصرح بأن صنع الله إبراهيم ينام الآن فى معهد ناصر، يمر بأزمة صحية عنيفة، وهو يستحق اهتمامًا ورعاية أكثر، وهناك أكثر من جهة يجب أن تعطى اهتمامًا أكثر لصنع الله.
وعلى نفس الخط وجدت أحدهم يكتب على صفحته يعيب على الحكومة عدم اهتمامها بصنع الله إبراهيم، ويعيب على وزير الثقافة أنه لم يلتفت إلى قيمة الكاتب الكبير.
تخيلت أن الوزير لم يهتم، وأن كلمته لى: بإذن الله خير، لم تكن إلا محاولة للهروب من منح صنع الله إبراهيم ما يستحقه.
لكن بعد دقائق وجدت من كتب يعيب على الوزير عدم اهتمامه بصنع الله إبراهيم، يعود مرة ثانية لينشر تحديثًا على صفحته، قال فيه: اتصل بى المتحدث الرسمى لوزارة الثقافة وأبلغنى إن فيه متابعة يومية لحالة الأستاذ صنع الله، وأنهم فى انتظار قرار الدكاترة لو ينفع يتنقل مكان تانى، لأن فيه كسر فى الحوض هو اللى مأزم الوضع، وإن وزير الثقافة قام بزيارته، بس الصور كانت صعبة فمنع نشرها.. دعواتكم.
التزم الوزير بما يجب عليه إذن، تابع وتواصل وزار صنع الله إبراهيم فى المستشفى وتواصل مع أسرته التى ترافقه فى مستشفى معهد ناصر، ومن باب الالتزام الأخلاقى رفض أن ينشر صور زيارته له.
من مصادرى عرفت أن الحالة الصحية لصنع الله صعبة بالفعل.
الأطباء الذين تابعوا حالته وصفوها بأنها «مُعقدة».
الجراحة التى كان يحتاجها الروائى الكبير بعد الكسر الذى تعرض له فى الحوض بالمعايير الطبية جراحة كبيرة بالفعل، لكنها تأجلت لأنه كان يعانى من نزيف فى الجهاز الهضمى، ولعلاج النزيف كان لا بد من عمل منظار قولون، والذى تأجل هو الآخر بسبب ارتفاع ضغط الدم الشديد الذى يعانى منه، ومشاكل أخرى يعانى منها فى القلب والكليتين والارتفاع الشديد فى نسبة الصديد بالبول.
من اللحظة الأولى التى دخل فيها صنع الله المستشفى وهو يلقى رعاية طبية فائقة، يشرف عليها وزير الصحة بنفسه، وأعتقد أنه بعد تدخل الرئيس عبدالفتاح السيسى ومتابعته لحالته وتوجيهه للاهتمام به لقى الأديب الكبير كل ما يحتاجه بصورة كاملة.
شغلنى على هامش هذه الضجة ما تعرض له وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو من هجوم بالتقاعس والتقصير، وفكرت فى الحصول على الصورة التى توثق زيارته لصنع الله فى مستشفى معهد ناصر، الوزير زاره مرتين.
وصلت فى البحث عن الصورة إلى الوزير نفسه، بعد أن رفض كل من لديه الصورة أن يمنحنى نسخة منها، بحجة أن التعليمات مشددة بخصوص منع نشرها.
سألت الوزير عن سبب تمسكه بعدم نشر الصورة، بعد الهجوم عليه، واتهامه بأنه أهمل فى السؤال عن صنع الله أو حتى زيارته؟ ففى نشر الصور أبلغ رد على ما يتعرض له.
قال لى: لقد أخذت القرار بشكل نهائى، فلم تكن الزيارة للشو الإعلامى، ولكنها كانت زيارة لأديب كبير يتعرض لمحنة صحية كبيرة، كنت أفكر فيما يجب أن نقدمه له، بصرف النظر عن الإعلان عن الزيارة من عدمه.
السبب الأهم الذى جعل وزير الثقافة يرفض تمامًا نشر صور زيارته لصنع الله، هو حالة الأديب الكبير، فقد كان مريضًا لدرجة لا يتصورها أحد، هدّه الألم، وقد بدا ذلك على ملامحه، وقد اختار الوزير أن يحتفظ محبو صنع الله وقراؤه له بالصورة التى اعتادوا عليها، فلا فائدة من ظهوره بصورة أخرى غير لائقة تصبح هى الصورة المعتادة لهم فى ذاكرتهم.
أكبرت فى الوزير ما قاله، رغم أن ما يقوله يجور على حق الصحافة فى نشر كل شىء، لكن الروح التى كان يتحدث بها عن صنع الله وعن حالته الصحية جعلتنى أقدر له ما قرره وأصر عليه وألزم به مساعديه.
كان حديثى مع الوزير مساء الإثنين ١٢ مايو ٢٠٢٥، وكان صنع الله إبراهيم قد أجرى الجراحة صباح نفس اليوم، وتواصل الوزير للاطمئنان عليه، مع وعد بزيارة جديدة له، وقد زار الوزير صنع الله إبراهيم بالفعل، وكانت الصورة التى جمعت بينهما أفضل كثيرًا، فسمح بنشرها، ليطمئن عليه من يريد أن يفعل ذلك، بعيدًا عن مزايدات البعض على الوزير، وعن بكائيات من وجدوا فى حالة الكاتب الكبير فرصة للهجوم ليس على الوزير فقط ولا الوزارة وحدها، ولكن على الدولة كلها.
وقد عرفت من الأطباء المعالجين له أنه رغم إجراء جراحة تغيير المفصل، إلا أن حالته الصحية لا تزال معقدة، ولا نملك له جميعًا الآن إلا الدعاء الخالص بالشفاء وبالصحة والعافية.

بينى وبين الكاتب والسيناريست الكبير محمد السيد عيد تواصل مستمر.
على حسابه الخاص بالفيس بوك يوم ٩ مايو ٢٠٢٥ وجدته يشكو من الأحوال التى وصل إليها نادى القصة، وكنت منذ سنوات على علم بها.
أرسلت إليه سؤالًا مختصرًا: إيه المشكلة فى نادى القصة يا أستاذنا؟
رد علىّ برسالة قال فيها: مشكلة مادية لها عدة أسباب.
حدد محمد السيد عيد أسبابه فى الآتى:
أولًا: هيئة الكتاب كانت تطبع مجلة القصة فأوقفتها.
ثانيًا: الوزارة فى عهد الدكتورة نيفين كانت تمول جائزة بخمسة وثلاثين ألفًا، ولما أرسلت للوزير منذ شهور، لم يرد حتى الآن، وأرسلت للوزير أكثر من مرة أطلب دعمًا ولم أتلق ردًا.
ثالثًا: رفع المالك الإيجار من عشرة آلاف إلى ستة عشر ألفًا، لا نستطيع تدبير الفرق من اشتراكات الأعضاء.
رابعًا: الكتاب الفضى الذى نصدره لم تعد لدينا قدرة مالية على إصداره، والحل هو أن تتعاون معنا إحدى هيئات الوزارة لإصداره بشكل منتظم.
وختم محمد السيد عيد رسالته بقوله: إننا مثل جمعيات أدبية أخرى تعانى من ندرة الدعم، رغم أننا نسهم بدور كبير فى اكتشاف المواهب وتنميتها وتقديمها للحياة الثقافية، ويكفى أننا قدمنا من خلال مسابقاتنا كُتّابًا مثل وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة وغيرهما.. والحديث ذو شجون ويكفى هذا.
فى اليوم التالى مباشرة ١٠ مايو ٢٠٢٥ كتب الكاتب الكبير محمد سلماوى فى زاويته «جرّة قلم» بجريدة الأهرام «أنقذوا نادى القصة».. وأعاد تقريبًا ما ذكره لى محمد السيد عيد.

قال سلماوى فى مقاله: نادى القصة هو أحد أعرق وأهم جمعياتنا الأدبية، فهل يصح أن يزداد الخناق عليه ليلفظ أنفاسه الأخيرة؟ إن اختفاء مثل هذا المحفل الأدبى الذى ظل يخدم الثقافة على مدى أكثر من ستين عامًا يمثل خسارة هائلة للثقافة المصرية والعربية، فهو النادى الذى أسسته ورأسته مجموعة من أكبر كُتّابنا من أمثال الدكتور طه حسين ويوسف السباعى وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وثروت أباظة وغيرهم، وكان ذلك بدعم من الدولة وبعد عام واحد فقط من قيامها إيمانًا منها بالدور المهم الذى تقوم به الجماعة الثقافية فى دعم ما تقوم به الدولة من رعاية واجبة للأدب والفن والثقافة والفكر.
ينتقل سلماوى إلى أوضاع النادى الآن، فيقول: لكن هذا النادى العريق طُرد من مقره التاريخى بشارع قصر العينى بعد صدور قانون الإيجارات الأخير، فاستأجر أعضاؤه شقة متواضعة فى شارع فيصل، لكنهم اضطروا لتركها بعد قليل لأن المالك رفع الإيجار لثلاثة أمثاله بعد نزول السودانيين لمصر وما صاحب ذلك من ارتفاع فى إيجارات الشقق، وهكذا انتقل النادى إلى مقر ثالث فى حى شعبى يتناسب مع موارده المتناقصة من يوم إلى يوم، لكنه اليوم سيتركه هو الآخر لأن المالك يريد مضاعفة الإيجار.
ويضيف سلماوى: ذلك فى الوقت الذى تتقلص فيه ميزانية النادى، حيث توقفت المسابقة التى كانت وزيرة الثقافة السابقة قد وافقت على تمويلها من صندوق التنمية الثقافية بمبلغ لا يزيد على خمسة وثلاثين ألف جنيه، كما توقفت هيئة الكتاب عن طبع وتوزيع مجلة القصة العريقة التى يصدرها النادى والتى أسهمت فى تقديم جيل جديد من الأدباء على مدى ما يزيد على نصف قرن من الزمان، كما أن الكتاب الفضى الذى يصدره النادى يعانى هو الآخر من قلة الموارد، فهل هذا مقبول؟
ويختم سلماوى مقاله أو صرخته بقوله: إن نادى القصة يخدم الثقافة المصرية ويكمل دور وزارة الثقافة فى رعاية الأدباء والكُتّاب والشعراء والنقاد، فهل يصح أن تتم محاربته بهذا الشكل؟، إننى أتوجه إلى الصديق الوزير أحمد فؤاد هنو بنداء عاجل لتدخله الشخصى من أجل إنقاذ هذا النادى العريق الذى يعتز به جميع الأدباء والمثقفين فى مصر والوطن العربى.
اعتقد البعض أن وزير الثقافة استجاب لما كتبه الكاتب الكبير محمد سلماوى، وهو مقدر تمامًا بالطبع، لكن الحقيقة أن الوزير كان قد استجاب قبل ذلك.
ففى مساء ٩ مايو ٢٠٢٥ وبعد أن كتب محمد السيد عيد على حسابه الخاص بساعات وكما أرسل لى بنفسه فإن الوزير استجاب.
أرسل لى محمد السيد عيد يقول: مساء الخير.. تواصل معى حالًا الدكتور أحمد بهى الدين رئيس هيئة الكتاب ليخبرنى بأنه من الممكن البدء فورًا فى العمل فى العدد الجديد من مجلة القصة.
ومن بين ما عرفته أن الوزير الذى يتابع كل ما ينشر ويخص وزارة الثقافة عبر شبكات التواصل الاجتماعى، كان قد تواصل مع الدكتور أحمد بهى الدين ووجه لحل مشكلة طباعة مجلة نادى القصة على الفور، وهو ما حدث، ولم يكن ما كتبه الأستاذ سلماوى هو الدافع للاستجابة، فقد كانت الاستجابة أسرع من ذلك.
لم تكن هذه هى المشكلة الوحيدة التى تصدى الوزير لحلها، فقد قدم حلًا أيضًا لمقر نادى القصة الذى يعجز الأعضاء عن دفع إيجاره الذى ارتفع من ١٠ آلاف جنيه إلى ١٦ ألف جنيه.
فقد تواصل الوزير مع محمد السيد عيد وأخبره أنه تم توفير مقر بديل للنادى بقصر ثقافة الإبداع بالسادس من أكتوبر، ووعده بأن يبحث بقية المشاكل التى يعانى منها النادى، وأن تكون هناك حلول نهائية لها، وللحق كان هذا الاتصال فى أعقاب المقال الذى نشره محمد سلماوى.
لا يمكننا أن نتهم الوزير بأنه يتجاهل مشكلات الثقافة المصرية، فلديه ملفات كثيرة يعمل عليها فى ظل أزمات تلاحقه، وموارد مالية ضعيفة وميزانية ضئيلة مخصصة للوزارة لا تليق ولا تتناسب مع ما هو مطلوب من الوزارة من أدوار مُركبة فى معركة الوعى التى تحتشد الدولة جميعها لها.
المشكلة فى الوزارة ليست فى الإدارة ولا الكوادر، ولكن فى التمويل الذى أصبح يمثل عائقًا أمام كثير من الأنشطة والمشروعات، وهو ما يدعونا إلى مخاطبة الحكومة بشكل مباشر، فميزانية وزارة الثقافة لا يجب أن تقل بأى حال من الأحوال فى الموازنة العامة للدولة عن ميزانية وزارتى الصحة والتعليم، فالدور الذى تقوم به- أو يجب أن تقوم به- لا يقل أبدًا عن الدور الذى تقوم بها الوزارتان.
منذ سنوات- تحديدًا فى العام ٢٠١٧- كنت أحاور وزير الثقافة الأسطورى فاروق حسنى، سألته: لو كنت وزيرًا الآن ماذا كنت ستفعل فى قصور الثقافة؟

رفع حسنى تليفونه المحمول فى وجهى، وقال: عندما يكون هذا التليفون فى يدى، فإننى لا أحتاج إلى كل هذا العدد من قصور الثقافة.
طلبت منه مزيدًا من الإيضاح للإجابة التى كنت أعرف أنها ستكون صادمة لكثيرين، فقال: الثقافة ليست مبانى ولكنها معانٍ.. وقصور الثقافة هدفها أن تصل الثقافة إلى الناس فى كل مكان، فإذا كانت هناك وسيلة أخرى أقل تكلفة، ويمكنها أن تؤدى المهمة بكفاءة عالية، فلماذا لا أستعين بها وأستخدمها، يمكن أن يصل المحتوى الثقافى الذى ننتجه للجميع عبر التليفون الذى أصبح الجميع يحملونه الآن ولا يكلفهم كثيرًا.
تذكرت ما قاله لى فاروق حسنى وأنا أتابع حالة الجدل الضخمة والمتشعبة التى أعقبت قرار وزير الثقافة بإغلاق عدد من قصور وبيوت الثقافة وبعض المكتبات التابعة لها.
التقدير المبدئى لعدد المنشآت الثقافية التى سيتم إغلاقها يصل إلى ٨٠ منشأة، وهو بالنسبة لكثيرين عدد كبير جدًا، وهو ما استدعى تجديد الهجوم على الوزارة وعلى الوزير، بل وعلى المسئولين فى مختلف إدارات وقطاعات الوزارة.
عندما نطل على المشهد من خارجه يمكننا أن ننضم إلى كتيبة المهاجمين للوزير الرافضين لقراره، سنعتبر أن ما يفعله يمكن أن يمثل هزيمة كاملة للثقافة، فمعنى إغلاق منشأة ثقافية أنك تمهد الطريق لمؤسسات وجماعات وتنظيمات أخرى لتملأ الفراغ الذى تتركه وراءك، ونحن فى أمسّ الحاجة لمن يحمى عقول الشباب من غزو الأفكار والجماعات المتطرفة.
لكن هل للقرار جانب آخر؟
هل لدى وزارة الثقافة وجهة نظر أو فلسفة أخرى يمكن أن تكون مبررًا لمثل هذا القرار، الذى انتفض كثيرون لانتقاده ورفضه والتشهير بالوزارة بسببه؟

أصدرت الوزارة بيانًا حاولت فيه شرح وجهة نظرها.
فالهيئة العامة لقصور الثقافة تسعى إلى تفعيل دورها فى مختلف أقاليم مصر، من خلال اتخاذ مجموعة من الإجراءات التى تهدف إلى تعميق دورها وتقديم خدمة ثقافية متميزة لا يمكن تحقيقها من خلال مجموعة من المكتبات المؤجرة التى لا يتجاوز بعضها حجرة صغيرة أو قاعة محدودة، وأحيانًا بالشراكات مع جهات أخرى لا تليق بموقع يقدم خدمة ثقافية تواكب طموحات المواطن المصرى، الذى أصبحت التكنولوجيا جزءًا لا يتجزأ من مفردات حياته.
قد يكون هذا مدخلًا نظريًا للقرار لا يلتفت إليه كثيرون، لكن الوزارة عادت لتوضح ما هو أكثر فى بيانها، قالت إنه انطلاقًا من هذه الرؤية جاءت قرارات اللجنة التى تم تشكيلها لتطوير الهيئة، والتى أوصت بضرورة استحداث بدائل ثقافية فعالة، من بينها «المسرح المتنقل» الذى يقدم خدمات نوعية متميزة لأهالينا فى القرى، وقد تم بالفعل إدخال ١٤ مسرحًا متنقلًا إلى الخدمة، بينها ٨ مسارح خلال هذا العام، جرى توزيعها على الأقاليم الثقافية المختلفة، كما تعمل الهيئة على التوسع فى استخدام المكتبات المتنقلة المزودة بأنشطة فنية وثقافية بما يعزز وصول الخدمة الثقافية إلى مختلف المناطق.
كان من الضرورى والأوضاع هكذا- كما ترى الوزارة- إعادة النظر فى أوضاع المكتبات المؤجرة الضيقة، التى لا يتردد عليها جمهور، ولا تقدم خدمات فعلية.
هذا عن المكتبات، أما بعض بيوت الثقافة والمكتبات التى تضم أندية أدب وفرقًا مسرحية وفنية، وتؤدى دورها بفاعلية فى نطاقات سكانية كثيفة فسيتم الإبقاء عليها، وتفعيلها، وتزويدها بكل ما تحتاج إليه من دعم، وسوف يتم تحديد هذه المواقع من قِبل مديرى الفروع ورؤساء الأقاليم الثقافية، بما يضمن أن تكون على مستوى يليق بالمواطن المصرى، كما تسعى الهيئة فى إطار خططها المستقبلية إلى إنشاء بيوت ثقافة بديلة للمواقع المؤجرة بالتعاون مع المحافظات.

ما صدر عن الوزارة ليس بيانًا إنشائيًا عن أزمة واجهتها، ولكنه يعكس طريقة تفكير فى مستقبل قصور وبيوت ومكتبات الثقافة، فى إطار خطة طموحة للتطوير والتحديث، وهو ما يطالب به ويسعى إليه الجميع.
المفارقة أن الذين يتابعون ما تقوم به وزارة الثقافة بغضب لا يجدون فيما تفعله تطويرًا أو تحديثًا، يضعون ما يحدث أمامهم فى خانة التخريب والتجريف، وهو شكل من أشكال الافتراء الواضح والمقنّع على كل ما يقوم به وزير الثقافة، وهو الوزير الذى يتم التعامل معه على أنه هو المُفترى الأكبر على كل المثقفين وعلى كل ما تقوم به وزارة الثقافة.
لقد تم تصدير القرار على أنه إغلاق تام لقصور الثقافة، رغم أن الوزارة تتحدث عن تطوير وتحديث.
لقد سمعت من كثيرين مهتمين بالشأن الثقافى فى مصر شكاوى عديدة عن أوضاع بيوت وقصور الثقافة، كانوا يتحدثون عن بيوت مهجورة وقصور مغلقة لا يتردد عليها أحد، ولا بد من تصرف، وعندما جاء التصرف وصدر القرار تعاملوا معه على أنه قرار هدم ومنع وتحطيم وتدمير، رغم أنه فعليًا ليس كذلك.
فى مراجعة واضحة لأوضاع المكتبات المؤجرة ولبيوت الثقافة التى تم إغلاقها وجدت عجبًا، وقد سمعت من الوزير ما يمكننا اعتباره يدخل فى باب المهازل.
فهناك بيوت ثقافة لا تزيد مساحتها عن ١٠ أمتار، وأخرى لا تزيد مساحتها عن أربعين مترًا، تخيل أن بيت ثقافة بهذه المساحة يعمل به ما يزيد على ٦٠ موظفًا، يتقاضون مرتبات ومكافآت وحوافز، دون أن يقدموا شيئًا لا لبيوت الثقافة ولا للثقافة نفسها، وعليه وعندما يصدر قرار بإعادة النظر مرة أخرى فى أوضاع هذه البيوت فلا بد أن يلقى الدعم المطلوب، وليس الهجوم المتوقع.

مرة ثانية- وأعرف أنها لن تكون أخيرة- ليس فيما أقوله دفاعًا عن وزير الثقافة ولا دعمًا لما تقوم به الوزارة، ولكنه محاولة لمعرفة وفهم ما يحدث على الأرض.
لدينا وزارة عندها أزمات كثيرة، تعانى من ظرف اقتصادى كبير لا يمكن لأحد أن ينكره، فهى مؤسسة من مؤسسات دولة تعانى اقتصاديًا، وأعتقد أن هذا الوضع لن تقدر الوزارة على علاجه وحدها، فلا بد أن يتدخل المجتمع المدنى ولا بد أن يتحرك القطاع الخاص للمساهمة فى العمل الثقافى من باب الدعم الحقيقى، وليس من باب الأمنيات والرغبات الإنشائية والكتابات البلاغية التى لا تسمن ولا تغنى من جوع.
لقد تغيرت المعادلات على الأرض، ولا بد أن تستجيب السياسات والقرارات لتغير المعادلات، وهو ما تفعله الوزارة بالفعل، لكن يبدو أن هناك مَن يتمسك بالمعادلات القديمة ويريد استمرارها والتمكين لها، رغم أنها معادلات لا تصلح أبدًا لعلاج أوضاع ومستجدات متسارعة وخاطفة.
كل ذلك يجعلنى أقول إن الدكتور أحمد هنو وزير الثقافة المُفترى عليه دائمًا لا يستحق الهجوم بقدر ما يستحق الدعم الكبير والدائم.