هوس فيكتورى.. البحث عن ملكة الأوركيد

- رحلة استكشافية للبحث عن زهرة أسطورية أصلها برازيلى تشير إلى الثروة والقوة والخبرة
- هوس زراعة الأوركيد فى بريطانيا أواخر القرن الـ19.. وأساطير تجارته فى العصر الفيكتورى
- أشعلت سباقًا محمومًا بين صائدى النباتات.. ملكة الأوركيد زهرة كبيرة فائقة الجمال بشكل خاص
- غموض ورغبة وغرابة.. قصص وأساطير وخرافات خلقت حول زهور الأوركيد
- شفتا الزهرة الحمراء تربطان بين الأوركيد والنساء والجنس والرغبة
فى عام 1818، وصل جذر غريب إلى قرية إنجليزية صغيرة، مخبأ- على ما يبدو بالصدفة- فى صندوق شحن مرسل من البرازيل. سرعان ما أدرك عالم النبات الهاوى الذى زرعه أنه يمتلك شيئًا مميزًا: زهرة أوركيد نادرة للغاية لم تُرَ من قبل على الشواطئ البريطانية.
وصلت هذه الزهرة فى الوقت الذى اجتاحت فيه «حمى الأوركيد»، أوروبا وأمريكا الشمالية، دافعة تجارة نباتات واسعة النطاق، استقطبت رعاة أثرياء من القطاع الخاص، بالإضافة إلى الطبقات المتوسطة سريعة النمو، الراغبة فى عرض أزهار غريبة فى منازلهم.

سرعان ما أصبحت هذه الزهرة الأرجوانية والقرمزية اللافتة للنظر، والتى أطلق عليها اسم «كاتليا لابياتا»، وتعرف أيضًا باسم «ملكة الأوركيد»، واحدة من أكثر الزهور المرغوبة فى القارتين.
وفى كتابها «الأوركيد المفقودة: قصة نهب وهوس فى العصر الفيكتورى»، تروى سارة بيلستون، هذه القصة المنسية عن رحلة دولية، استمرت عقودًا من الزمن، للعثور على زهرة الأوركيد النادرة والمطلوبة، بجانب قصة علماء النبات وصائدى النباتات وجامعيها الذين سعوا بلا هوادة لتحقيق ذلك، على الرغم من التكلفة البشرية والبيئية الباهظة.
حيث إن مع انتشار حكايات جمال هذه الزهرة فى المجلات العلمية والصحافة الشعبية، بدأ تجار الأوركيد وعشاقها بحثًا مكثفًا لاستعادتها فى موطنها الطبيعى، بالإضافة إلى أصحاب المشاتل الذين مولوا البعثات الاستكشافية، والعمال والمتخصصين من أمريكا الجنوبية الذين تعاقدوا معهم، والكتّاب والفنانين الذين أسسوا صورة شبه أسطورية لـ«الأوركيد المفقودة».
الكتاب صدر فى مايو الماضى، عن دار نشر «مطبعة جامعة هارفارد»، فى ٤٠٠ صفحة، وتأتى أهميته فى أنه يرصد الطموحات والأحداث الدرامية البشرية التى أشعلت هوسًا عالميًا، وهو قصة عن رغبة المستهلك، والفضول العلمى، والقوة المدمرة للتجاوزات الاستعمارية.
سارة بيلستون كاتبة بريطانية وأستاذة الأدب الإنجليزى فى كلية ترينيتى، درست فى كلية لندن الجامعية وكلية سومرفيل فى أكسفورد، وهى مؤلفة كتابى «العصر المحرج فى الروايات النسائية الشعبية، ١٨٥٠- ١٩٠٠: الفتيات والانتقال إلى الأنوثة» و«وعد الضواحى: تاريخ الأدب والثقافة الفيكتورى»، بالإضافة إلى روايتى «ليال بلا نوم» و«راحة الفراش».

حدائق الضواحى
تكشف المؤلفة عن السبب الذى ألهمها لتناول هذه القصة، فتقول: فى كتابى، تناولت أدب ضواحى العصر الفيكتورى، حيث كان كتّاب مثل ويلكى كولينز ومارى إليزابيث برادلى، يكتبون عن الحياة فى الضواحى. ثم عثرت على كتب مخصصة لحدائق الضواحى، وقد ذكر العديد منها الأوركيد.
كانت هذه الكتب تشير إلى أن هذه الحدائق والبساتين لم تكن هوسًا فقط للنخبة الأرستقراطية، بل الطبقة المتوسطة أيضًا، والتى عاشت فى «فلل» وشرفات جديدة كليًا ذات مساحات صغيرة، أمامية وخلفية، واهتم الكثيرون منهم بالزراعة.
وظهرت مصطلحات لوصف هذا الهوس الذى اجتاح الكثيرين فى جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية- «هوس الأوركيد» أو «هذيان الأوركيد». وجدت هذا الأمر مفاجئًا، وأردت فهمه، لكن كلما ازدادت معرفتى، ازدادت القصة روعة! وهكذا بدأت قصة «الأوركيد الضائعة».
ظللت أجد إشارات إلى «الأوركيد الضائعة» التى استغرقت ٧٥ عامًا لاستعادة عافيتها. كانت هناك قصص مختلفة كثيرة تروى عن كيفية العثور عليها، ولم تبد حقيقية تمامًا. أثار ذلك فضولى. تساءلت إن كنت أستطيع فهم ما حدث بالفعل.

جاذبية غريبة
ترجع الكاتبة الجاذبية الغريبة لزهرة الأوركيد وجمالها المشع بالأزهار مثل الممثلة أو الراقصة، كما كتب عالم النبات الشاب «جون ليندلى» فى أوائل عشرينيات القرن التاسع عشر، إلى «الطريقة الرشيقة التى تلوح بها بتلاتها العريضة الشبيهة بالعلم وتختلط عندما يحركها الهواء، أو تتدلى نصفها منتصبة ونصفها الآخر عندما تكون فى حالة سكون وثبات».
عندما أدرجها ليندلى فى الكتالوج الفخم الذى جمعه لمجموعة الأوركيد الخاصة بالتاجر ويليام كاتلى، أطلق عليها اسم «كاتليا»، نسبة إلى راعيه، وشفتى الزهرة لشفتها الحمراء، مما يربط ضمنيًا بين الأوركيد «والنساء والجنس والرغبة».
تروى بيلستون قصة اكتشاف زهرة الأوركيد، وذلك عندما اكتشف ويليام سوانسون، وهو شخصية عنيدة تعانى من إعاقة فى الكلام ونقص فى التعليم، نبات «الكاتليا لابياتا» فى البرازيل عام ١٨١٨.
وتمكن سوانسون من السفر عبر منطقة شاسعة على طول الساحل وعبر الجبال بين ريسيفى وريو دى جانيرو. وضمت حمولته، المعبأة بعناية والمرسلة إلى بريطانيا، ٧٦٠ عينة طيور، وأكثر من ٢٠ ألف حشرة، و«رسومات وأوصافًا لـ١٢٠ نوعًا من الأسماك»، ومجموعة كبيرة من النباتات، من بينها «مجموعة مثيرة للاهتمام من النباتات الطفيلية».

وشملت هذه المجموعة جذور نبات «الكاتليا لابياتا»، وهو نبات سحالى ليس طفيليًا بل نبات، هوائى تتعرج جذوره الليفية عبر لحاء الأشجار.
وأرسل سوانسون حزمة جذوره إلى صديقه ويليام جاكسون هوكر. كان هوكر أكثر شغفًا بعلم النبات من عمله العائلى فى صناعة البيرة، ولم يستطع مقاومة محاولة زراعة بساتين الفاكهة البرازيلية.
كانت هذه خطوة جريئة، حيث لم يصل إلى بريطانيا إلا فى عام ١٨١٢ «نبات هوائى» غير عادى- وهو سحلب من مونتيفيديو- مما أثار دهشة كبيرة.
ولكن فى خلال عام أو عامين، فى دفيئة هوكر التى بناها فى المنزل، أزهرت الأوركيد الجديدة ذات اللون الأرجوانى والأحمر. عندما أصبح هوكر أستاذًا لعلم النبات فى جامعة جلاسكو، زرع نباتًا صغيرًا ينمو على النبات الأم- فى حديقة المدينة النباتية وأعطى آخر لمجموعة كاتلى، حيث أطلق عليه ليندلى اسمه.
ولكن فى حين حقق كل من هوكر وليندلى الشهرة، هوكر كمدير للحدائق النباتية الملكية فى كيو، وليندلى كعالم تصنيف مشهور، اختفى سوانسون من هذه القصة؛ ومع مرارته بسبب افتقاره إلى التقدم، هاجر إلى نيوزيلندا فى عام ١٨٤٠.

سر الاسم
حسب المؤلفة يعود اسم زهرة «كاتليا لابياتا» إلى السيد كاتلى فى كاتليا، الذى لم يكن له أى دور فى جمع هذه الزهرة. كان تاجرًا ثريًا وجامعًا شغوفًا للنباتات، وقد حصل عليها وزرعها فى دفيئته فى بارنيت.
وتلفت إلى أن قيام عالم النبات الموهوب، جون ليندلى، الذى حالفه الحظ بتوظيفه، بتسمية مجموعة كاملة من زهور الأوركيد باسمه لغرض التقرب منه فقط، يدل على نفوذ هؤلاء الرعاة فى عالم زراعة الزهور، وأهمية الفوز فى سباق التجديد، ومدى الكذب الذى اتسمت به هذه المهنة.
ثانيًا، مصطلح «لابياتا»، وهو مصطلح ذو دلالات جنسية، «ربط بين زهرة الأوركيد، وبين النساء والجنس والرغبة»، وروّج لاستخدامه كإشارة جنسية مقبولة فى وقت لم يكن فيه من الأدب نطق كلمة «بنطال».
ثالثًا، لفهم هذا المصطلح، كان يجب معرفة اللاتينية. كان هذا الشرط إحدى الوسائل التى استبعدت بها النساء والفقراء والأشخاص ذوو البشرة الملونة من مسعى ينتمى إلى النخبة.
رابعًا، سميت الزهرة «كاتليا لابياتا» لأن تسمية النباتات فى نظام لينيوس لتصنيف الكائنات الحية، كانت وسيلة لفصلها عن أصولها فى مناطق نائية من العالم.

غموض الأصل
توضح الكاتبة أن رغم الدور الذى لعبه عالم الطبيعة سوانسون- الذى نشأت معه قصة كاتليا لابياتا- من خلال عينات البذور التى أرسلها إلى إنجلترا، إلا أنه أهمل تسجيل موطنها بدقة.
كان هذا الأمر محبطًا لعشاق الأوركيد: فالبرازيل بلد شاسع المساحة، كانت بنيته التحتية شبه معدومة آنذاك، وأمنه محدودًا للغاية، مما جعل مهمة صائدى النباتات بالغة الصعوبة.
تتساءل: «أين نمت هذه الأوركيد النادرة تحديدًا، لم يكن أحد يعلم». بفضل جمالها وندرتها، بالإضافة إلى غموض أصولها غير المكتشفة، تنسب هذه الأوركيد إلى النوع الذى «أثار الهوس الذى اجتاح ضفتى المحيط الأطلسى»- حيث أسرت بريطانيا وأوروبا القارية والولايات المتحدة.
تقدم بيلستون مجموعة مرحة من الرجال الفيكتوريين الذين كانوا المحركين لعالم الأوركيد: ويليام جاكسون هوكر، عالم النبات الذى أرسل إليه سوانسون عيناته.
وجون ليندلى، عالم نبات آخر، كان الرجل الذى جلب الأوركيد الشهير إلى الأزهار؛ الذى تضمنت مجموعته النباتية «١٨٢١- ١٨٢٦»، وهى عبارة عن مجموعة من الرسوم التوضيحية، الصورة الأكثر روعة التى لدينا عن الزهرة التى أعيد إنتاجها فى الكتاب، وهى واحدة من عدد من اللوحات الرائعة.

بجانب ويليام كاتلى، أحد أتباع المال المعاصرين وهواة الأوركيد الذى أطلق ليندلى اسمه على النوع، وفريدريك ساندر، رجل أعمال ألمانى المولد كان تاجر الأوركيد الرائد فى بريطانيا، إن لم يكن فى العالم أجمع، والذى كانت لديه منافسة شرسة فى بعض الأحيان من علماء الأوركيد البلجيكيين.
وبالإضافة إلى هؤلاء، تتناول المؤلفة صائدى النباتات الذين يغامرون بدخول الأدغال الوعرة وتسلق الجبال شديدة الانحدار دون حماية تذكر من المخاطر المحلية سواء كانت حيوانية أو بشرية أو بكتيرية، مثل السويدى كلايس إريكسون، الذى أرسله ساندر إلى البرازيل، للبحث عن نبات الكاتليا لابياتا.
تحكى الكاتبة عن اختفاء عالمات الأوركيد والبستنة اللواتى شقن طريقًا فى أوائل القرن التاسع عشر، ففزن بجوائز وأذهلن المراقبين بمهاراتهن وخبرتهن. فى وقت كان يفترض فيه أن ينظر إلى النساء على أنهن مجرد زينة، لكنهن دخلن بفخر فى منافسات مع الرجال على قدم المساواة، وكثيرًا ما تفوقن عليهم.
على سبيل المثال، كانت لويزا لورانس ابنة بائعة خردوات، وارتقت لتصبح من أوائل النساء اللواتى انتخبن زميلة فى جمعية البستنة العريقة. وتظهر بانتظام على رأس قوائم الفائزين بالجوائز.
لكن طريقها لم يكن سهلًا: فقد اكتشفت بيلستون، فى المحاضر المكتوبة بخط اليد لاجتماعات جمعية البستنة، التى لا تزال تعقد فى الجمعية الملكية للبستنة بلندن، دليلًا على التمييز الجنسى المتفشى الذى تعرضت له.

كأس مقدسة
تلفت المؤلفة إلى أن الروائيين احتضنوا الرواد فى مجال النباتات، فصوروهم فى قصص على غرار قصص «بويز أون» التى صورتهم أبطالًا امتلكوا ثقة بالنفس وشجاعة حضارة متفوقة سعت لترويض عالم مهمل وخطير.
واعتبر هؤلاء الروائيون زهور الأوركيد بمثابة الكأس المقدسة، ففى رواية «الأوركيد التى لا تقدر بثمن» (١٨٩٠)، كتب بيرسى أينسلى عن صياد بريطانى وحيد فى يوكاتان عثر على زهرة الأوركيد المبهرة التى يبحث عنها.
وتضيف الكاتبة أن كتاب «رحلات ومغامرات صياد الأوركيد» لألبرت ميليكان (١٨٩١) «يشجع القراء على التعاطف مع البطل الأبيض فى مطاردته العنيفة لزهرة كاتليا وردية». أما الأشخاص الذين جدفوا بقواربه، وحملوا مؤنه، ووفروا له طعامه، وحزموا نباتاته ونقلوها على البغال، «فلا يظهرون إلا لفترة وجيزة، عابرين».

وتوضح بيلستون أن زهور الأوركيد أضفى عليها طابع جنسى لسبب واضح هو أنها تشبه أكثر أجزاء المرأة خصوصية. توضح رواية مارفن دانا، «امرأة الأوركيد» (١٩٠١)، بوضوح «ارتباط المرأة بزهرة الأوركيد كموضوعات للرغبة».
تتناول المؤلفة بالتفصيل هوس الأوركيد فى بريطانيا، وكيف بدأ، فتقول إن زهور الأوركيد كانت نادرة، ولذلك كانت غالية الثمن وذات قيمة عالية، فأصبحت من مقتنيات النخبة.
وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، أرادت الطبقة المتوسطة أن تظهر امتلاكها نفس قيم النخبة. أرادوا أن ينشروا أنهم مفكرون ونادرون، وهكذا بدأ الإقبال الشديد على الأوركيد.
وتحولت زهور الأوركيد من كونها نادرة إلى أن أصبحت متاحة بسهولة لـ«الملايين» من الطبقة المتوسطة، واستحوذ هذا الهوس على الفيكتوريين بفضل تضافر ملحوظ للأحداث.
فقد نقلت شبكات الشحن والنقل الأسرع النباتات عبر القارات فى وقت قياسى، مما أدى إلى نجاة المزيد من النباتات من الرحلات الطويلة.
كما أن التقدم فى صناعة ألواح الزجاج وإلغاء ضريبة الزجاج عام ١٨٤٥ جعل الصوبات الزجاجية الرخيصة وصناديق «وارديان» المحمولة (هى صناديق خشبية وزجاجية على شكل دفيئات صغيرة متحركة- تستخدم لنقل النباتات الحية) فى متناول ما أطلق عليه الفيكتوريون الجماهير.
كما أن ازدياد عدد القراء ووسائل الإعلام، جعل معرفة النباتات النادرة ومهارات البستنة متاحة أيضًا. وحرصت الطبقات الوسطى الجديدة على إرسال إشارات إلى من حولها بأنها متفرغة ولديها القليل من المال الإضافى للإنفاق؛ وكانت البساتين الغريبة إحدى طرق تحقيق ذلك.

حيث امتلأت البيوت الزجاجية بأزهارها، مئات الآلاف منها، بألوان أرجوانية وعنبرية وقرمزية زاهية. كانت مشاتل الزهور الفاخرة ذات أراض بارونية وأسماء تذكر بشارع سافيل رو: جيمس فيتش وأبناؤه، والسادة روليسون، وساندر وشركاه كان «مزارع زهور الأوركيد الملكى» لجلالة الملكة.
وقد اجتذبت سيلًا من الزوار وإيرادات طائلة. وفى المزاد، بيعت زهرة أوركيد واحدة بـ٦٥٠ جنيهًا إسترلينيًا، أى أكثر من ١٢٠ ألف دولار اليوم.
توضح الكاتبة أن ندرة هذه الزهور وتقلباتها، حتى مع حمايتها من الطقس الإنجليزى القارس بالصوبات الزراعية، لم تنج إلا بفضل مهارة البستنة، وجعلتها سلعًا ثمينة مثل زجاجات الشمبانيا المنتشلة من حطام السفن القديمة، كانت تدعو إلى التذوق.

حدائق شبكات المصالح
تشير بيلستون إلى أن نمو الإمبراطورية والعولمة، عمومًا، ونمو علم النبات والبستنة، مترابطان ارتباطًا وثيقًا. وأسهم نمو البنية التحتية من طرق وسكك حديدية وسفن وكابلات تلجراف وطرق تجارية وأنظمة مصرفية فى توسيع النفوذ الثقافى والاقتصادى البريطانى حول العالم، مما أدى إلى ما أسماه المؤرخون «إمبراطورية غير رسمية» تجاوزت حدود الإمبراطورية الفعلية بكثير.
وأسهم علماء النبات وصائدو النباتات الذين وظفهم البريطانيون فى ترسيخ هذه الشبكات من المصالح الاقتصادية والتجارية والسياسية فى بحثهم عن موارد لدعم مصالح الدولة التى يعملون لديها، وأسهموا فى تعزيزها من خلال تحديد المزيد من الموارد للاستخراج.
ورغم اختلاف قيم علماء البيئة ورجال الأعمال، لكن فى القرن التاسع عشر، كانا يعملان جنبًا إلى جنب.

بارون الإمبراطورية
ترسم المؤلفة «بورتريه» لتاجر الأوركيد الرائد فى بريطانيا والعالم، وهو فريدريك ساندر، والذى كان صاحب مشتل فى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، فى وقت كانت فيه الطبقات المتوسطة الناشئة فى أمريكا الشمالية وأوروبا تتوق إلى «النباتات الغريبة»، حيث منحته الملكة فيكتوريا لقب «مزارع الأوركيد الملكى» الشرفى، ومنحته عائلة رومانوف لقب «بارون الإمبراطورية الروسية المقدسة». كانت مشتل ساندر الفخم فى سانت ألبانز، خارج لندن، من عجائب أوروبا.
بعد زيارة له، كتب فريدريك بويل، عاشق الأوركيد، عام ١٨٩٣: «زهور الأوركيد فى كل مكان! تتدلى باقات كثيفة من السقف. تستقر بسمك قدم على كل لوح، وقدمين تحته. تعلق على الجدران. يمر الرجال بلا انقطاع على الممرات، حاملين حمولة تكفى لملء عربة يد. وفى هذه الأثناء، تتراكم مخازن جديدة تحت أيدى تلك المجموعة الصغيرة فى الوسط، المنحنية والمنشغلة بصناديق وصلت للتو. تنتمى هذه المخازن إلى ثمانين صندوقًا وصلت من بورما الليلة الماضية- وبينما نحن نراقب، يحمل صبى برقية تعلن عن وصول خمسين صندوقًا آخر من المكسيك، ستصل إلى واترلو الساعة الثانية والنصف ظهرًا».
تكشف رسائل صائدى «ساندر وشركاه» عن الجهود المبذولة لتحقيق «باقات زهور الأوركيد فى كل مكان». ففى آلاف الصفحات، يروى عشرات من هواة جمع الزهور خسائرهم- زهور أوركيد هشة أتلفت لمنع الصيادين المنافسين من الحصول عليها، وزهور أوركيد تداس تحت الأقدام وترمى فى مشاهد جنونية من جمع الزهور، وزهور أوركيد تموت بأعداد كبيرة فى رحلة العودة إلى الوطن فى الصناديق أو تتجمد، فى الليلة التى تسبق البيع، فى قاعات المزاد. كما يروون خسائرهم الشخصية: فى الصحة والمال والممتلكات.

تأثير مدمر
تقول الكاتبة إن بحلول العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، اتضح جليًا أن للبشر تأثيرًا مدمرًا على البيئة، وكان الضرر الذى لحق بنباتات الأوركيد الغريبة أشبه بدراسة حالة مريعة.
وتأثرت الموائل «البيئات الطبيعية» بإزالة الغابات وتغير المناخ- وهذا، فى الواقع، كان أحد أسباب «فقدان» بعض أنواع الأوركيد.

وفى أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر، تأسست منظمات حماية البيئة، لمحاولة فهم تأثير فقدان الموائل وتغير المناخ، بالإضافة إلى كيفية الحفاظ على الأنواع والموائل.
حددت هذه المنظمات بوضوحٍ ملحوظ الكثير من الأخطاء وما يجب فعله- لكنها واجهت صعوبة فى إقناع مَن هم خارج دائرتها. كان من الصعب بشكل خاص إقناع هواة جمع الزهور بالتخلى عن البساتين الغريبة.
وفى نهاية المطاف، بدأ المجتمعان البريطانى والأوروبى يعيدان حساباتهما لبعض الجوانب القبيحة لهوسهما بزهور الأوركيد.
وبدأ النقاد يشيرون إلى أن وفرة زهور الأوركيد فى أوروبا وأمريكا الشمالية تعنى اختفاءها من مواطنها الطبيعية. وقد رثى إدوارد أورتجيس، مدير حديقة زيورخ النباتية عام ١٨٧٧، قائلًا: «لم يكتفوا بأخذ ٣٠٠ أو ٥٠٠ عينة من زهرة أوركيد رائعة، بل جابوا البلاد بأكملها، ولم يتركوا شيئاً لأميال عديدة».
وأضاف: «لم يعد هذا جمعًا، بل سرقة متعمدة». وقد خصت مجلة «الحديقة الأمريكية» ساندر وأحد منافسيه، سيبريشت ووادلى، بالإشارة إلى أن صياديهما كانوا يعملون على اقتلاع زهور الأوركيد القليلة «التى لا تزال ترتجف فى مواطنها الاستوائية».
تلفت بيلستون إلى أن فى النهاية، اندثر شغف الأوركيد نتيجة لنجاحه وجشع بائعيه. كتبت: «فى أوج ازدهاره، كانت بذور انهيار هوس الأوركيد».
مع تطور تقنيات الدفيئات الزراعية، أصبحت زراعة الأوركيد على نطاق واسع أمرًا شائعًا فى أوروبا. انخفضت الأسعار بشدة، وأصبح ما كان نادرًا وثمينًا فى السابق منتشرًا فى كل مكان وباهتًا.