الأربعاء 06 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

المكتوب على الجسد.. قصة «الوشم» بين الحب والحرب

حرف

- كتاب يرصد تاريخ الوشم التجارى فى أوروبا وأمريكا قبل ظهوره كمهنة 

فى الصيف يبدو أنه من المستحيل فى هذا العصر ألا تصادف عددًا ممن لديهم نماذج من الوشم على أجسادهم أو ما نعرفه بالتاتو، ورغم الصورة النمطية السائدة للوشم على أنه متعلق بالأوغاد والأشرار، إلا أن تاريخه يعود إلى حوالى عام 3300 قبل الميلاد.

فالبشر كانوا وما زالوا يعتبرونه وسيلة للتعبير عن أنفسهم، لذا سيظل مستمرًا طالما استمرت البشرية، وفى الغرب وجد الوشم كممارسة فنية احترافية لعدة قرون، وانتقل للاحترام والاحتضان الثقافى الواسع بشكل لا يختلف كثيرًا عن تصفيف الشعر أو مستحضرات التجميل أو الموضة فى الملابس.

وفقًا لاستطلاع أجراه مركز «بيو» للأبحاث، فى الولايات المتحدة، يمتلك حوالى 32% من البالغين الأمريكيين وشمًا واحدًا على الأقل، أى ما يعادل ثلث السكان. وحسب الوكالة الأوروبية للمواد الكيميائية، يمتلك 12% على الأقل من الأوروبيين وشمًا. ومن المرجح أن يمتلك الأوروبيون الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا ضعف عدد الوشوم.

 

وفى كتابه «الوشم: التاريخ غير المروى لفن حديث»، يقدم المؤرخ الفنى «مات لودر»، منظورًا جديدًا لتاريخ الوشم التجارى فى أوروبا والولايات المتحدة، والذى بدأ حتى قبل ظهوره كمهنة معترف بها فى منتصف القرن التاسع عشر. 

ويظهر «لودر» أن فن الوشم كان يمارس ويكلف به منذ فترة طويلة من قبل أفراد من مختلف التقسيمات الاقتصادية والجنسانية والطبقية؛ كما يدرس الاتجاهات الأسلوبية التى شكّلت تطور الوشم كشكل فنى على مدار تاريخه.

الكتاب يأتى فى ٢٢٤ صفحة، وصدر عن دار نشر «جامعة ييل» الأمريكية، فى ديسمبر ٢٠٢٤، ويرصد العديد من الفنانين والمحترفين الذين شكلوا تاريخ الوشم، بما فى ذلك شخصيات مبكرة مثل مارتن هيلدبراندت، أول فنان وشم محترف معروف فى الغرب؛ وفنانات بارزات مثل جريس بيل وجيسى نايت؛ أيقونات منتصف القرن العشرين مثل سيلور جيرى وليز سكوز ونادى بريستول للوشم؛ ونجوم صناعة الوشم المعاصرين، مثل إد هاردى ودافى جونز وعائلة ليو. 

مات لودر هو محاضر أول فى تاريخ ونظرية الفن، ومدير الدراسات الجامعية فى تاريخ الفن بجامعة إسيكس البريطانية، وأحد باحثى برنامج «الصوت العام» فى الجامعة. 

يدرس الفن الأوروبى والأمريكى واليابانى، والعمارة، والثقافة البصرية، والنظرية الفنية منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر، بما فى ذلك الفن الحديث والمعاصر بعد عام ١٩٤٥، والفن الرقمى وفن «الوسائط الجديدة»، والتقاطعات بين الفن والسياسة.

أسهم بمقالات فى المجلات والصحف، وظهر فى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة حول العالم. نشر أول كتاب له بعنوان: «أشخاص ملونون: الإنسانية فى ٢١ وشمًا» عن دار «هاربر كولينز» عام ٢٠٢٢.

دورات متكررة 

يرى الكاتب أن الوشم شهد دورات متكررة من الصعود والهبوط، تكررت منذ أواخر القرن التاسع عشر، ما دفعه إلى التعليق بأن «الوشم هو الهوس الذى لا يتوقف».

ولأن الوشم، كعلامة واضحة على الجلد، فقد عاش حياة أقل وضوحًا فى ثقافة وذاكرة الغرب. لقد كان، على حد تعبير المؤلف، موضوع «فقدان ذاكرة مستمر»، تلاه «نهضات» متكررة؛ وكان مقدرًا له أن يجذب زبائن جددًا، وذخيرة جديدة من الصور والتقنيات، وأدبًا جديدًا من الدعاية والنقد والتنقيب التاريخى؛ ثم يختفى عن الأنظار مرة أخرى. 

كان هذا الهوس الحالى هو الأبرز والأكثر ديمومة من بين هذه الموجات، وقد تجاوز انتشار الوشم على الجسم أى موجة سابقة فى ترويضه.

يعلق المؤرخ: «لقد أتاح هذا المسار غير المتوازن مجالًا ثريًا لإعادة البناء والتفسير. من المؤكد أن الوصول إلى هذا التاريخ اليوم أسهل ما كان عليه عندما صادفته لأول مرة فى التسعينيات، برفقة مجموعة من زملائى الأكاديميين».

يروى: أطلقنا مجلدنا الجماعى «مكتوب على الجسد: الوشم فى التاريخ الأوروبى والأمريكى» (٢٠٠٠)، فى استديو الوشم الشهير لأليكس بينى فى كليركنويل فى لندن، حيث شكل التباين بين المدعوين الأكاديميين ومضيفيهم من فنانى الوشم وزبائنهم لقاء مربكًا، وإن كان ودودًا، بين قبيلتين غير مألوفتين. 

قدم كتاب «لودر» دراسة شخصية مكرسة وعميقة لأجيال متعاقبة من فنانى الوشم المحترفين منذ ظهورهم فى الغرب أواخر القرن التاسع عشر، ولفنهم الإبداعى. 

يتناول الكتاب أرشيفًا من «الممارسات المهنية والتجارية» كمجموعة تاريخية وجمالية منفصلة، والتى تعتبر شكلًا ثقافيًا ذا معنى من أشكال الفن الحديث، أبدعه فنانو الوشم واستداموه. 

وذلك فى العالم الغربى الذى يرى الكاتب أن مكانة الوشم الاحترافى فى «الغرب» قد رسمت بوضوح من ثقافات الوشم العالمية الأصلية التى أصبحت مألوفة فى الغرب الحديث، ومن تقاليد الوشم الغربية الخاصة بالمدانين والبحارة، لكن رؤيته «للغرب» مختصرة، إذ تقتصر إلى حد كبير على أمريكا وبريطانيا، مستبعدة بقية أوروبا.

أول فنان

يحكى المؤلف عن مارتن هيلدبراندت، المهاجر الألمانى الفصيح ذى الشارب الكثيف إلى الولايات المتحدة، والذى يعتبر على نطاق واسع، أول فنان وشم محترف فى العالم الغربى. 

أدرج اسم «هيلدبراندت، مارتن. وشم» فى دليل نيويورك للسنة المنتهية فى مايو ١٨٥٩. كان عنوانه، ٣٦١ شارع ووتر، وكان نُزلًا سيئ السمعة للإقامة والشرب فى حيٍ عنيف على جانب الرصيف يعرف باسم «سلوترهاوس بوينت».

ربما يشير هذا المدخل العادى فى الدليل، المكتظ وسط شوارع نيويورك اليومية، حيث يوجد بقالون ونجارون وعمال، إلى اللحظة التى برز فيها فن الوشم العريق والحميم والشعبى إلى النور الكامل للتجارة العامة فى العالم الغربى.

يلفت المؤرخ إلى أن الوشم كان قد تمتع بوجود طويل ومتواصل فى أوروبا والولايات المتحدة بحلول ذلك الوقت. ومع ذلك، فإن هذه الممارسة، وإن لم تكن بلا أجر تمامًا، كانت تقتصر فى المقام الأول على المساحات الخاصة بين زملاء السفينة وزملاء الزنزانة وطلاب المدارس والأصدقاء، أو كانت تمارس تجاريًا فى رحلات الحج إلى الشرق الأوسط. 

يوضح «لودر» أنه مع التوسع السريع لمدينة نيويورك، أصبح ميناؤها يستقبل سفن ركاب أكثر من أى ميناء آخر فى البلاد مجتمعًا. ولأول مرة، كان هناك عدد كافٍ من العملاء المحتملين فى مكان واحد، ما جعل الوشم تجارة مربحة ووجهة عامة. 

يشير الكاتب إلى أن هيلدبراندت نفسه تعلم الوشم من زميل له أثناء خدمته فى البحرية فى أربعينيات القرن التاسع عشر، وظل يَشِم على متن السفن لما يقرب من عشرين عامًا. 

هو أيضًا، كان مغطى بالتصاميم من الكتف إلى أصابع القدمين بحلول الوقت الذى جعله «مهنته الحصرية» حوالى عام ١٨٦٦، حسب روايته الخاصة. حتى فى عام ١٨٧٠، على الرغم من ذلك، أدرجه دليل الشارع الخاص به فى ٤٣ Oak St باعتباره «رسامًا»، ما يشير إلى استخدام أوسع لمواهبه الفنية، بخلاف مجرد الرسم على الجلد.

لحظة حاسمة

يقول المؤلف إن اللحظة الحاسمة لهيلدبراندت، ولتاريخ الوشم الغربى عمومًا، هى انفتاح اليابان بعد إصلاحات «ميجى». كانت اليابان منعزلة إلى حد كبير أمام التجارة الخارجية والزوار منذ أوائل القرن السابع عشر، ولكن فى عام ١٨٥٣، أبحر أسطول أمريكى بقيادة العميد البحرى «ماثيو بيرى» إلى المياه اليابانية مُصرًا بشدة على أن تفتح الحكومة العسكرية اليابانية حدود البلاد للتجارة، وإلا واجهوا صراعًا كانوا سيخسرونه حتمًا. 

وكثيرًا ما ادعى هيلدبراندت «ربما كاذبًا»، أنه كان على متن إحدى سفن السرب. وأثارت العواقب الثقافية لهذا اللقاء انبهارًا كبيرًا بكل ما هو يابانى فى العالم الغربى. وكان أكثر ما أثار الدهشة هو الوشوم الواسعة والمعقدة التى كان يرتديها الممثلون وسعاة البريد ورجال الإطفاء وغيرهم فى العاصمة الشرقية لليابان إيدو «طوكيو حاليًا»، والتى كانت بعيدة كل البعد عن الوشوم الأوروبية المألوفة من حيث النطاق والتنفيذ الجمالى. 

ومن خلال هذا اللقاء الأول بين تقاليد الوشم البحرى الغربى المتقنة والوشم الزخرفى فى الشرق، نشأت ثورة الوشم المعاصر.

أستاذ متميز

يعتقد المؤرخ أنه بالنسبة لهيلدبراندت، فى البداية على الأقل، لم تكن قاعدة عملائه على البر مختلفة كثيرًا عن المجندين الأشداء الذين كان يَشِمهم فى البحر. أوقفت الحرب الأهلية الأمريكية (١٨٦١-١٨٦٥) مهنته فى الأماكن الثابتة، وبالتالى استمر فى كسب رزقه كفنان متجول، يَشِم جنودًا من كلا جانبى الصراع. 

يلفت إلى أنه فى هذه اللحظات الأولى المتعثرة من الوشم الاحترافى، لم يكن هناك الكثير من الجديد من حيث التركيبة السكانية أو التصاميم مقارنة بتلك التى شهدها القرن ونصف القرن السابقان.

لكن بحلول عام ١٨٧٢، بدأت الأمور تتغير. بحلول ذلك الوقت، كان هيلدبراندت قد رسخ مكانته فى شارع «أوك»، يَشِم بتكتم من مرسم داخل حانة، على الرغم من أنه كان محاطًا آنذاك بلوحات لنساء جاريات، ويتمتع بشهرة وانتشار كافيين لاستحقاق مقالات احتفاء فى صحافة المدينة. 

بل إن صحيفة «نيويورك صن» وصفت أعماله بـ«الجميلة»، فإلى جانب زبائنه من البحارة ذوى البشرة السمراء، تفاخر بـ«العديد من السادة المحترمين» الذين طلبوا منه وشم شعارات أنديتهم عليهم. 

وأطلقت صحيفة «نيويورك تايمز» عليه بأنه «أستاذ متميز فى هذا الفن»، مقارنة بمنافسين أقل شأنًا فى بوسطن وفيلادلفيا وشيكاغو، ووصفت كتاب التصميم الخاص به بأنه رائع ملىء بالصور للاختيار من بينها، بما فى ذلك الأعلام والمشاهد الدينية، ومجموعة كبيرة من صور الزينة وراقصات الباليه والأرامل الباكيات. وهكذا بدأ الوشم الحديث بالفعل.

المجتمع الراقى

يروى لودر قصة «درول» وهى فنانة وشم من فيلادلفيا فى منتصف القرن التاسع عشر، ضاع اسمها من التاريخ، لكنها تصدرت عناوين الصحف المحلية بوشم أفخاذ النساء بأسماء عشاقهن. 

يشير ساخرًا إلى أن امرأتين «جاءتا فى أيام متتالية تطلبان وشمًا دائمًا باسم السياسى المحلى نفسه». يتضمن فصل «الوشم فى المجتمع الراقى» فى الكتاب إشارة آسرة إلى «صالونات الوشم» فى إنجلترا الفيكتورية العليا، المفعمة «بأنغام المغنين المحبوسين فى أقفاص، الذين يملأون الهواء بموسيقاهم الصاخبة، ورائحة السجائر والبراندى».

يلفت الكاتب، بشكل مثير للاهتمام، إلى أن الدافع الرئيسى للنمو السريع للوشم فى بريطانيا الفيكتورية كان «احتضان العائلة المالكة البريطانية لهذا الفن فى اليابان، والذى نتج عن زياراتها للبلاد عقب إصلاحات ميجى». 

ويكشف عن أن الأمير ألفريد، دوق إدنبرة، وشم أثناء زيارته لقصر إنريوكان فى طوكيو عام ١٨٦٩، وأن «كل زائر ملكى منذ ذلك الحين وشم، حتى عشرينيات القرن العشرين».

صالونات الحرب

يشير المؤلف فى فصل مؤثر بعنوان «الوشم أثناء الحرب وبعدها» إلى أن الحرب العالمية الأولى شهدت ازدهارًا كبيرًا فى صالونات الوشم فى جميع أنحاء بريطانيا، حيث «اصطف الرجال المتجهون إلى الجبهة فى طوابير لنقش علامات الحب والوطنية والوطن على أجسادهم».

يحكى المؤرخ أن تحول قاعدة الزبائن من زبائن الطبقة الراقية فى أواخر القرن التاسع عشر إلى رعاة أقل ثراء فى القرن العشرين، أدى إلى «أصغر التصاميم وأقلها تكلفة». 

وكانت التصاميم الشائعة فى ذلك الوقت تتضمن أسماء بسيطة وشعارات وأعلامًا عسكرية، «بالإضافة إلى رموز عاطفية للحب والذكرى».

ويتابع «لودر» أن صورًا فوتوغرافية لا تزال باقية لنساء يعملن فى مصانع الذخيرة، «يعرضن بفخر أسماء أحبائهن موشومة على أذرعهن إلى جانب صلبان تذكارية أُضيفت لاحقًا لإحياء ذكرى وفاتهم المبكرة فى الجبهة». 

يقول الكاتب إن جاكى جريشام، التى بدأت رسم الوشم فى لويزيانا فى سبعينيات القرن الماضى، قالت ذات مرة إنها لم تلتق بوشم أسود آخر حتى تسعينيات القرن الماضى! 

كانت صناعة الوشم، كسائر الثقافات، عنصرية بشكل فاعل من نواحٍ عديدة، ونشأت خرافات حول رد فعل البشرة السوداء السيئ تجاه الوشم - خرافات لا تزال قائمة حتى اليوم فى بعض المناطق، على الرغم من الدعم اللافت الذى قدمته أجيال جديدة من الفنانين السود. 

سلالة رائعة

يحدد المؤلف سلالة رائعة من فنانى الوشم الذين أسسوا الحرفة، وأبقوا شعلتها متقدة وفتحوا آفاقًا جديدة: ساذرلاند ماكدونالد، الذى تبنى آلة كهربائية عالية التقنية فى وقت مبكر من عام ١٨٩١؛ فيل سبارو، الروائى الأمريكى والأستاذ الجامعى، الذى أصبح فنان الوشم الرسمى لفرقة هيلز أنجلز فى أوكلاند.

بالإضافة إلى جيسى نايت، إحدى النساء القليلات فى عالم الوشم، والتى كانت تعلن عن عملها فى لافتات شعرية، منها لافتة كُتب عليها: «عندما توشم سيدة، يميل الناس إلى الاعتقاد بأنها مشبوهة. ولكن هذا ليس صحيحًا دائمًا، ولذا وشم السيدات يعتبر من المحظورات».

يوضح المؤرخ أنه بحلول ثلاثينيات القرن العشرين، أصبح الوشم «موضة رائجة فى مجتمع لندن»؛ وبحلول خمسينيات القرن العشرين، اختفى الوشم من الموضة لدى جميع الطبقات الاجتماعية - «لم يعد الوشم موضة شبابية، بل عادة لكبار السن الذين لم يعودوا مواكبين للموضة بشكل مأساوى».

يقول: «إن السؤال عن سبب ذهاب الناس إلى متجر ودفع المال لشخص لا يعرفونه للحصول على وشم هو سؤال مثير للاهتمام. جزئيًا، يعود الأمر ببساطة إلى رغبة الناس فى الحصول على صور تعجبهم، ولكن هناك الكثير مما يجرى، وقصص من صنعوا تلك الصور تلقى ضوءًا لافتًا على شىء لا يزال ينظر إليه غالبًا على أنه ممارسة اجتماعية منحرفة، ولكنه فى الوقت نفسه صناعة عالمية مزدهرة».