النظرية الأدبية.. كيف أصبحت الروبوتات كاتبات مبدعات؟

- كتاب يرصد التاريخ الخفى للذكاء الاصطناعى من الفلسفة العربية فى العصور الوسطى إلى العالمية
- كتاب يجيب عن السؤال الأزمة: هل يستطيع الذكاء الاصطناعى كتابة الأدب؟
- الكتاب يقلل من تأثير الذكاء الاصطناعى على الإبداع والكتابة: تقنيات اليوم طريقة محدثة للتعاون بين الإنسان والآلة
- المؤلف: سيظل هناك دائمًا جانب إنسانى ينبثق فقط من التجربة وبدونه لن تحصل إلا على ثرثرة الببغاوات
- الكاتب: الأدب سيظل دائمًا لعبة بشرية ونحن لسنا مهتمين بالروبوتات بل مهتمون ببعضنا البعض
- من إليزا إلى تشات جى بى تى استكشاف التاريخ المدهش للإبداع المدعوم بالآلات
هو مساعدك الذكى للإجابة عن أى سؤال أو استفسار. يتميز بسرعة ودقة الإجابات، مع دعم كامل للغة العربية لتقديم تجربة سلسة ومباشرة فى مختلف المجالات. «تشات جى بى تى» هو روبوت الدردشة الأشهر فى العالم الآن، والذى وفر واجهة سهلة الاستخدام لسلسلة من نماذج اللغات الكبيرة القوية.
ومنذ إصداره فى نوفمبر 2022، تبعته حالة من الاهتمام العام من خلال مقالات الرأى والدراسات المطولة التى تستكشف أخلاقيات هذه التقنية من الذكاء الاصطناعى وتداعياتها ومخاطرها، مع تدفقات هائلة لرأس المال الاستثمارى.
واليوم يتجلى أثر الذكاء الاصطناعى فى كل شىء، من بريدك الإلكترونى ومحرك بحثك، إلى معالج النصوص وأدوات تحرير الصور المفضلة لديك، وهو الأمر الذى يعتبر تطورًا طبيعيًا لما حدث فى العصر الصناعى عندما حلت الأتمتة محل صانع الأحذية والخياطة. واليوم، تحل محل الكاتب والطبيب والمبرمج والمحامى.
كما هو الحال مع أفلام نهاية العالم التى امتلأت بها دور العرض السينمائية فى مطلع الألفية، تعج الصحف، وبشكل متزايد، المكتبات، بخبراء الاقتصاد وعلماء المستقبل وعلماء العلامات الاجتماعية الذين يتحدثون عن الذكاء الاصطناعى.

حتى هنرى كيسنجر، فى كتابه «عصر الذكاء الاصطناعى ومستقبلنا البشرى» عام ٢٠٢١، تحدث عن «تحولات تاريخية» و«ثورة إنسانية» وشيكة.
لكن هذا التحول للذكاء الآلى الحديث له تاريخ خفى من الفلسفة العربية فى العصور الوسطى إلى رؤى لغة عالمية، مرورًا بمصانع الخيال السينمائى فى هوليوود وأنظمة الدفاع الصاروخى المركبة على الحكايات الشعبية الروسية.
وفى كتابه «النظرية الأدبية للروبوتات: كيف تعلمت أجهزة الكمبيوتر الكتابة؟»، يقدم دينيس يى تينن أستاذ الأدب المقارن ومهندس مايكروسوفت السابق، سياقًا حاسمًا للتطورات الحديثة فى مجال الذكاء الاصطناعى، والتى تحمل دروسًا مهمة لمستقبل البشر الذين يعيشون مع التكنولوجيا الذكية.
ويدعونا تينن إلى تجاوز الصياغات التقليدية، لفهم آليات العمل التعاونى بشكل أفضل، فهو يرى أن شيئًا بسيطًا كأداة التدقيق الإملائى أو تصحيح القواعد، مدمج فى كل معالج نصوص، يمثل ذروة جهد بشرى مشترك، امتد لقرون.
وهو تأمل مثير حول الماضى المشترك للأدب وعلوم الحاسب، حيث طالما رافقت الأدوات الذكية، كالقواميس وكتب القواعد، الكتابة والتفكير والتواصل. وأتمتة هذه الآلات الورقية لا تضفى عليها الحياة، كما أننا لا يمكننا التنازل عن سلطتنا على العملية الإبداعية كبشر.

الكتاب الصادر فى فبراير ٢٠٢٤، يأتى فى ١٧٦ صفحة، عن دار نشر «دبليو دبليو نورتون آند كومبانى» الأمريكية، يحثنا فيه المؤلف على اعتبار الذكاء الاصطناعى مسألة تتعلق بتاريخ العمل، محتفيًا بالتعاون طويل الأمد بين المؤلفين والمهندسين.
تأتى أهمية الكتاب فى أنه يهدف إلى إعادة بناء «روبوت الدردشة الحديث» من أجزاء موجودة على طاولة التاريخ، باستخدام سلسلة من الحكايات والتعليقات الفلسفية الخفيفة.
دينيس يى تينن أستاذ مشارك فى اللغة الإنجليزية بجامعة كولومبيا، حيث يشارك أيضًا فى إدارة مختبر الذكاء السردى. تجرى أبحاثه فى مجالات التاريخ الأدبى، ونظرية الإعلام، والعلوم الإنسانية الحاسوبية، وعلم اجتماع الأدب، وعلم السرد، وتاريخ العلوم والتكنولوجيا.

جانب إنسانى
يقول الكاتب إن فكرة تأليفه الكتاب جاءت من شغفه بالنصوص والتكنولوجيا، والذى بدأ مع الحاسبات فى أوائل التسعينيات مع ثورة النشر المكتبى، عندما حصل على وظيفة فى دار نشر صغيرة فى برمنجهام، ميتشيجان، كانت تنشر كتبًا لأطباء القلب.
وعندما تخرج فى الجامعة، حصل على شهادة فى الأدب المقارن، وعُيّن فى مايكروسوفت لتصميم مواقع إلكترونية.
ولدى تينن وجهة نظر مختلفة تجاه الذكاء الاصطناعى وتأثيره على الإبداع، فيقول: «أعلم أن الحماس الحالى للتكنولوجيا الجديدة سيتلاشى، وسيتضاءل بفعل جنون محتاليها وكهنتها. ما سيبقى أكثر تواضعًا وأهمية».
فى بداية كتابه يربط المؤلف بين روبوتات الدردشة الحديثة، ومولدات حبكات الروايات الشعبية، والقواميس القديمة، وعجلات التنبؤ فى العصور الوسطى. ويجادل بأن كلًا من الطوباويين «الروبوتات ستنقذنا!» والمتشائمين «الروبوتات ستدمرنا!» مخطئون.
حيث سيظل هناك دائمًا جانب إنسانى لا يمكن اختزاله فى اللغة والتعلم- جوهر أساسى للمعنى لا ينبثق فقط من النحو، بل من التجربة أيضًا. وبدونه، لن تحصل إلا على ثرثرة الببغاوات، التى «وفقًا لديكارت فى كتابه (التأملات)، تكرر فقط دون فهم».

بداية القصة
يعتقد الكاتب أنه من الصعب تحديد بداية قصة الإبداع المدعوم بالآلات، فالفلسفة العربية وعلم الأعداد الصينى وغيرها من التقاليد الفكرية من جميع أنحاء العالم وعلى مر القرون لها سوابق.
كما لعبت أنظمة التشفير الميكانيكية دورًا، وكذلك المحاولات المبكرة لإنشاء لغة قائمة على الرياضيات.
كان تشارلز بابيج، جوتفريد لايبنتس مهتمين بمنح الآلات عنصرًا تفاعليًا، واعتقد لايبنتس أنه من الممكن إنشاء «موسوعة عالمية» تتألف من جداول مترابطة مليئة بالمعلومات التى يمكن دمجها بطرق تشرح جميع عمليات العالم الطبيعى. وقدم آلان تورينج مساهمة كبيرة بنظرياته فى البرمجة.
وعملت آدا لوفليس، التى يعتبرها الكثيرون أول مبرمجة حاسب فى عشرينيات القرن التاسع عشر، مع تشارلز بابيج على «محركهما التحليلى»، وهو جهاز قادر نظريًا على الإجابة عن أى استفسار، وكان الأمر يتعلق فقط بإيجاد القوالب المناسبة.
لعقود، تباينت أفكار الناس حول كيفية جعل أجهزة الكمبيوتر «تقرأ»، لكنهم جميعًا واجهوا مشاكل فى تعريف الذكاء والتواصل والفهم.
يوضح تينن أننا نميل إلى اعتبار العقل البشرى استعارة، لكنه يعتقد أن هذه المقارنة ليست مناسبة تمامًا: فالنمط الخوارزمى المتكرر للتعلم الآلى لا يعكس الطبيعة المفاهيمية والحدسية للتطور البشرى.

تاريخ قصير
يأخذنا المؤلف فى رحلة عبر التاريخ القصير للنصوص المولدة آليًا، حيث تبدأ قصة روبوت الدردشة بمقدمة الفيلسوف العربى وعالم العصور الوسطى العظيم «ابن خلدون» عام ١٣٧٧، والتى تتضمن وصفًا لـ«الزيرجة»، وهو نوع من «سحر الحروف» يمارس عبر ما يشبه الأبراج، حيث تحيط دائرة كبيرة بدوائر أخرى تمثل بدورها عناصر وفروعًا مختلفة من العلوم.
تعمل هذه الأداة من خلال سلسلة من الصور تقابل جدولًا بمربعات تحمل حروفًا وأرقامًا. تطرح الأسئلة، وتراجع الرموز، ثم تحول إلى لغة مشتقة من الجدول. وكان يعتقد أن هذه الأداة اللغوية التركيبية تمنح اكتشافات ما وراء الطبيعة لأولئك الذين تعلموا كيفية استخدامها وفهم «استجاباتها» الغامضة.
ويتساءل الكاتب: هل كان هذا جهازًا للاستدلال القياسى؟ أو للإسقاطات الفلكية؟ مشيرًا إلى دوراته «الحاسوبية» و«نصه المولد إجرائيًا»، ويشبهه بـ«أداء الذكاء الاصطناعى فى القرن الرابع عشر».
ويقول: «تخيل قواعد البيانات الإلكترونية التى تعمل فى خلفية كل مستشفى كدوائر زيرجة عملاقة، تنسج خيوطًا تربط المرضى والأطباء والصيدليات وشركات التأمين».

يوثق تينن كيفية استخدامنا الذكاء الاصطناعى الحديث من خلال ابن خلدون، الذى يرى أنه أول من اعتقدوا أنهم قادرون على حصر اللغة نفسها، ومن تلك اللغة يستقون الحقائق الخفية.
ويقول إن ما حدث فى القرن الرابع عشر يشبه ما يحدث اليوم، حيث تم استدعاء مجموعة خاصة من القواعد «خوارزمية» للتعامل مع نموذج «دوائر الزيرجة»، بناء على مجموعة بيانات «مقتطفات نصية» بتنسيق أسئلة وأجوبة «روبوتات الدردشة».
لا يدّعى المؤلف أن الزيرجة هى تقنية تعلم آلى بحد ذاتها؛ بل يرى أن التكنولوجيا وسيلة للتنسيق الاجتماعى بين مجموعات من الناس عبر الزمان والمكان. ورغم بساطة هذا الأمر، يجادل بأن هذا الشعور أشبه بتجربة صوفية.
ويتساءل: لماذا، عندما نستخدم التكنولوجيا، تبدو دائمًا ميتافيزيقية.. على حدود السحر والدين؟ «إنه نفس النوع من الروح الدينية للإنجاز الجماعى... مع التكنولوجيا، نتزامن مع الآخرين».
ويستمر فى الاستشهاد باللغة نفسها والقاموس كتقنيتين بارزتين، كان لهما تأثير كبير على كيفية اكتساب البشر المعرفة وإنتاجها، مما يمنح أى شخص يستخدمهما هذه التجربة من الإنجاز الجماعى.

طفرة معاصرة
يقول الكاتب: «الذكاء الاصطناعى هو مصطلح آخر للذكاء المشترك، والذكاء المشترك سحرى. إنه أقرب ما يكون إلى الدين فى العالم الحديث».
يصبح مفهوم الذكاء المشترك مرشحًا رئيسيًا يرسم من خلاله تينن التطور التكنولوجى: ما هى أشكال التنسيق الجديدة، سواء كانت متزامنة أو غير متزامنة، التى تتيحها تقنية معينة للناس؟
يشير إلى أن الشاعر كويرينوس كولمان، فى القرن السابع عشر، اعترض على «الجهاز الرياضى» للعالم الألمانى الموسوعى أثناسيوس كيرشنر- وهو جهاز على شكل صندوق مزود بنظام معقد من الألواح الخشبية، يمكنه، عند ترتيبه بشكل صحيح، «تأليف الموسيقى وكتابة الشعر... وحتى إجراء حسابات رياضية متقدمة»- لأن كولمان كان يعتقد أنه يقلل من شأن المستخدمين، مقلدًا المعلومات، بدلًا من إنتاج معرفة حقيقية.
فى سياق آخر، يتناول المؤلف تجارب مثل دليل «بلوتو» لويليام كوك عام ١٩٢٨ لتوليد أفكار القصص «نظام أتاح للمؤلفين رسم حبكة من البداية إلى النهاية»، ومحاولات اللغوى نعوم تشومسكى شبه الناجحة لتعليم قواعد اللغة الإنجليزية لجهاز كمبيوتر بدائى فى ستينيات القرن الماضى.

ويشير إلى أنه فى عام ١٩٥٩، حصلت مختبرات بيل للهواتف على براءة اختراع لجهاز للقراءة الآلية للنصوص المتصلة. ومولت ابتكارات مثل مولد الجمل الإنجليزية العشوائية بشكل كبير من قبل الجيش الأمريكى والقوات الجوية.
واستفادت شركة بوينج من كتاب فلاديمير بروب «مورفولوجيا الحكاية الشعبية» الصادر عام ١٩٢٨، لتعزيز قدرتها على توليد تقارير مفيدة حول أحداث الطائرات غير العادية.
يلفت الكاتب إلى أن التاريخ يقدم منظورًا حاسمًا حول طفرة الذكاء الاصطناعى المعاصرة، ويقدم تحليله الثاقب تفاؤلًا حذرًا بشأن المستقبل، مشيرًا إلى أنه بينما سيحدث الذكاء الاصطناعى ثورة فى وظائف القانونيين والكتّاب وغيرهم من «العمال الفكريين»، فإن هؤلاء العمال سيحررون أيضًا من تكرار الحقائق، ويمكنهم بدلًا من ذلك «تحدى أنفسهم بمهام أكثر إبداعًا».

كيفية العمل
يؤكد تينن أن الذكاء الآلى «لا يحتوى على عقل بحد ذاته»، بل «يعبر عن العقول مجازيًا من خلال تشبيه مبهم وغير دقيق مع الأدمغة البشرية».
يعتمد جزء كبير من علوم الحاسب على الاستعارة، تمامًا كما هو الحال فى الأدب. لكن روبوتات الدردشة «تعمل بآليات غير بشرية قطعًا. فنحن بالتأكيد لا ننتج اللغة فى عقولنا بالاحتمالات الإحصائية».
ويختار مصطلحًا مناسبًا لوصف كيفية عمل الذكاء الاصطناعى عمليًا، ويشرح ذلك بتفكيك الافتراضات العديدة المدمجة فى «الاصطناعى» و«الذكاء».
يتساءل «ما الذى يفصل القوى الطبيعية عن الاصطناعية فى هذه السلسلة؟» «هل ينتهى الذكاء الطبيعى عندما أفكر فى شىء ما لنفسى، بصمت، وحدى؟ ماذا عن استخدام دفتر ملاحظات أو الاتصال بصديق لطلب النصيحة؟ ماذا عن الذهاب إلى المكتبة أو استشارة موسوعة؟ أو التحدث مع آلة؟ لا يبدو أى من هذه الحدود مقنعًا.
ويلفت إلى أن الذكاء يتطلب مهارة. يعرف قاموس ويبستر الذكاء بأنه «الاستخدام المتقن للعقل». المهارة نفسها مشتقة من الكلمة اللاتينية ars، التى تعنى العمل المتقن، وfacere، التى تعنى «الصنع».
بعبارة أخرى، الذكاء الاصطناعى يعنى ببساطة «العقل + المهارة». لا توجد حدود صارمة هنا- «فقط تآزر بين العقل البشرى وامتداداته».
يدعو هنا المؤلف إلى أساس محدد لفهم التكنولوجيا، والتى تشمل الحوسبة والذكاء الاصطناعى والقواميس واللغة نفسها، ويرى أن تحديد تاريخ التكنولوجيا الطويل يتطلب إدراج العلوم الإنسانية، التى غالبًا ما تهمل لصالح الإنجازات التقنية الكبرى.

لعبة بشرية
يستكشف الكاتب مسألة قدرة الآلات على فهم الأدب وتأليفه، من خلال تتبع التطور التاريخى للنظرية الأدبية إلى جانب التطورات فى تكنولوجيا الحوسبة. ويجادل بأن صعود الأساليب الحاسوبية لم يغير طريقة دراسة الأدب فحسب، بل غيّر أيضًا فهمنا لمعنى الكتابة والقراءة بشكل جذرى.
ويوضح كيف يمكن للخوارزميات تحليل النصوص الأدبية، بل وحتى توليدها، مزيلًا بذلك الحدود بين التأليف البشرى والتأليف الآلى. ومع ذلك، يحذر من إغراء اختزال الأدب إلى مجرد بيانات، مشددًا على أهمية التفسير البشرى والسياق فى التحليل الأدبى.
يقول تينن: «الأدب سيظل دائمًا لعبة بشرية يلعبها ويشاهدها البشر. لسنا مهتمين بالروبوتات، بل نحن مهتمون ببعضنا البعض».
ويحذر من جميع الاستعارات التى تنسب جوانب معرفية بشرية مألوفة إلى الذكاء الاصطناعى. «فالآلة تفكر، وتتحدث، وتشرح، وتفهم، وتكتب، وتشعر، وما إلى ذلك، عن طريق القياس فقط».
لماذا؟ لأن اللغة التى نستخدمها يمكن أن تشكل علاقتنا بالعالم من حولنا، وإذا كنا نستخدم لغة غير دقيقة أو غير صحيحة حول كيفية عمل نماذج الذكاء الاصطناعى، فإننا نفقد فرصة فهم ما هى عليه بالفعل بشكل كامل.

نماذج اللغة
يضيف المؤلف: عندما تقرأ عن تاريخ نماذج اللغة الكبيرة، غالبًا ما تبدأ بمقال «الانتباه هو كل ما تحتاجه»، وهو البحث الأصلى الذى يقترح بنية التعلم العميق المحول. أو ربما يبدأ مع تطور التعلم العميق فى ثمانينيات القرن الماضى.
وبالعودة إلى الوراء، قد ينظر البعض إلى اختراع أول روبوت دردشة، «إليزا»، عام ١٩٦٦ على يد «جوزيف وايزنباوم» فى مختبر الذكاء الاصطناعى بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا- أو حتى إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى عشرينيات القرن الماضى، مع إنشاء نموذج «إيزينج».
يشير ذلك إلى أن تاريخ الذكاء الاصطناعى متجذر بالضرورة فى تاريخ اللغة. بالنسبة للذكاء الاصطناعى التوليدى تحديدًا، ينطبق هذا بشكل خاص عند النظر إلى تاريخ نماذج اللغة التركيبية أو النموذجية. من الناحية المثالية، سيغير هذا الفهم المستند إلى العلوم الإنسانية لتاريخ الذكاء الاصطناعى، كيفية بناء المطورين لهذه الأدوات.
ويوضح الكاتب أن بفهم هذا الإطار، لم تعد نماذج اللغة الكبيرة مثل ChatGPT تمثل تهديدًا قاطعًا لتفوق ذكاء الإنسان العاقل. إنها ببساطة أدوات معالجة نصوص أكثر ذكاء، وتسهم أحدث الأدوات- كالأقلام والموسوعات والمعلمين والمدارس الحكومية- فى تراكم الذكاء الذى يعتمد عليه البشر.
يلفت أيضًا إلى دور القوالب فى الأدب الأمريكى، متتبعًا الارتفاع المتوازى فى عدد الكتب المنشورة سنويًا وشعبية الأدلة- من «جنى الحبكة» إلى «تقنية القصة الغامضة»- التى منحت الكتاب مخططات لأعمالهم.
لكن يوضح كيف أسهمت مثل هذه النماذج فى تطور اللغويات، وبرامج الكتابة المبكرة، والكلاسيكيات الأمريكية التى تمت إعادة إنتاجها على نطاق واسع مثل جميع حلقات مسلسل القانون والنظام، البالغ عددها ١٣٩٤ حلقة.
ويرى تينن أن الكلمات مجرد رموز تعلم الذكاء الاصطناعى إعادة ترتيبها، وأن أنظمة الذكاء الآلى لا تعرف كيفية تجنب البذاءات إلا بعد إخبارها بذلك صراحة. يكتب: «الكلمات هى كل ما يعتمدون عليه، والنصوص التى يستوعبونها... تحتوى على أكثر من مجرد أثر للسياسة الإنسانية».

مفهوم الإبداع
يقول المؤلف إنه يشعر بالإحباط من منح الذكاء الاصطناعى صلاحيات خاصة. فإذا نظرت إلى ما ورائه، ستجد أنه كيان مصمم، من صنع فرق بشرية، موضحًا أن التكنولوجيا اليوم تغير مفهوم الإبداع، لكن لا تغنى عنه. يضيف: «قبل عشرين عامًا، كنت تستعين بمصور زفاف لحفلات الزفاف. أما الآن، فالجميع يمتلك كاميرا على هاتفه، إنها فائقة الذكاء. تلتقط صورًا مذهلة. عندما طرحت تقنية كاميرا الآيفون لأول مرة، اعتقد الناس: (يا إلهى، انتهى عهد المصورين المحترفين! الجميع يمتلك كاميرا هاتف!) حسنًا، هذا ليس صحيحًا. المصورون اليوم ناجحون جدًا، تمامًا كما كانوا فى السابق. نعم، ما يعنيه أن تكون مصورًا اليوم مختلف تمامًا. لم يعد بإمكانك ببساطة أن تظهر بكاميرا وتضغط على الزر. الآن، قد يسير المصورون طائرة بدون طيار، مستخدمين أدوات تحرير متطورة».
ويشرح: «سيتغير معنى الكتابة. أعتقد أنه اتجاه إيجابى، لأن المهنة أصبحت أكثر إثارة للاهتمام وأكثر تعقيدًا. غالبًا ما نضفى طابعًا رومانسيًا على هذا العمل التقليدى. وهذا جيد! أنا أحب دفاتر الملاحظات. لكن من المثير أن نتخيل الكتابة كمؤسسة أكثر تعقيدًا وإبداعًا».
ويوضح: «بالنسبة لمؤلف المستقبل، ستتضمن الكتابة تنسيقًا للموارد. مخرجة الأفلام المعاصرة، على سبيل المثال، لا تقوم بكل شىء فى الفيلم، إنها توظف فريقًا. هى من تنظم. (أنت تفعل هذا. تقف هناك، وهذه الكاميرا تتحرك هكذا). هناك عمليات تحرير لاحقة. كانت الكتابة بمثابة وضع القلم على الورق بالتتابع. لكن الكتابة غدًا ستبدو أشبه بإخراج فيلم. أنت تنظم الموارد، تنتج شيئًا ما، تمررها عبر مرشح، ثم تطبق مرشحًا آخر، وتضبط الأمور. الصورة إشارة. الكتابة أيضًا إشارة إلى أنك تمرر عددًا من التحولات لإنتاج فنك».
لا ينكر الكاتب أن أتمتة شىء ما تقلل من قيمته. ولكنه يعبر عن ذلك بطريقة أخرى: «الأتمتة تقلل من عوائق الدخول، مما يزيد من توفر السلع للجميع». أصبح التعلم أقل تكلفة الآن، وبالتالى فإن امتلاك مفردات غنية أو ذخيرة من الحقائق المحفوظة لم يعد يمثل الميزة التنافسية التى كانت عليه فى السابق.
ويقترح قائلًا: «يمكن للكتبة والعلماء اليوم تحدى أنفسهم بمهام أكثر إبداعًا». «أسندت المهام المرهقة إلى الآلات».

قدرة متزايدة
يوظف تينن معظم طاقته ليس ضد وحشية الآلات المحتملة، بل ضد جنون العظمة الحقيقى لدى مصنعيها. وينتقد عجز المجتمع الواضح عن «محاسبة مصنعى التكنولوجيا على أفعالهم»، ويحذرنا من السماح للذكاء الاصطناعى بالانضمام إلى نادى «الأشخاص الوهميين»، حيث تتواجه الدول والشركات وجهًا لوجه فى معارك قضائية ضد الكائنات الحية.
يقدم المؤلف حجة قوية لصالح «الذكاء الاصطناعى الممل»: فكرة أن هذا مجرد تغيير تدريجى فى تاريخ العمل الفكرى، والمساعدين الآليين، وأصحاب الأعمال عديمى الضمير.
حيث يجيد تشات جى بى تى ونظراؤه حساب متوسط الإجابة أو الإجابة الأكثر ترجيحًا؛ وهذا مفيد عند العمل على مهام عادية، مثل كتابة محتوى لموقع Airbnb، لكنه أقل فائدة عند محاولة استخدام اللغة للتعبير عن حدس لا يعبر عنه عن العالم. فالآلات لا يمكن أن تمتلك حدسًا.
يقول الكاتب: «نشعر دائمًا بالقلق إزاء هذه القدرة المتزايدة والاعتماد المتزايد- فى البداية يبدو الأمر وكأنه اعتماد متزايد على الأدوات، لكنه فى الحقيقة اعتماد متزايد على بعضنا البعض من خلال الأدوات».
تينن لا يتحدث عن موت المؤلف هنا، لكنه يشير إلى شعوره الشخصى بـ«تراجع دور المؤلف». يقصد أنه يستخدم القواميس والموسوعات ومحركات البحث- وعند قيامه بذلك، يستعين بـ«فريق ظل من العلماء والمهندسين» الذين طوروا هذه الأدوات.
يقول فى الفصل قبل الأخير: «إن متعة تجميع أحجية الكلمات فى جملة جميلة لا تقل عن حقيقة أن شخصًا ما أو شيئًا ما يستطيع القيام بذلك بشكل أفضل أو أسرع منى أو بكمية أكبر. ربما ببساطة نستمتع بلعب هذه اللعبة كثيرًا. إنها مصممة تمامًا لتلائم نطاق حدودنا الخاصة- بما فى ذلك انتصاراتنا وهزائمنا الصغيرة».
ويتابع: «نحن البشر مهووسون بالتواصل وإسماع صوتنا. سنتحدث ما دامت هناك أذن صاغية على الأرض، وسنكتب ما دامت هناك عين أو أذن أو إصبع تقرأ. إنها فى حمضنا النووى».

أحدث خطوة
يؤكد المؤلف مرة ثانية فى خاتمة الكتاب على الفكرة الأهم والرئيسية له، وهى أن الذكاء الاصطناعى هو مجرد أحدث خطوة فى تاريخ الذكاء الجماعى، حيث يستخدم البشر الكتب والأدوات والتكنولوجيا وبعضهم البعض، لإنجاز مهام جديدة.
ويوضح قائلًا: «كان الخطأ.. هو تصور الذكاء فى وعاء من الإنجازات الاستثنائية الخاصة». يحدث التفكير، وبالتالى الكتابة، بالتعاون مع ملهمات المرء وأقرانه وأسلافه، ومع أدواته، من القواميس ومعالجات النصوص إلى «أدلة الأسلوب والمخططات ومخططات القصص وقواميس المرادفات والآن برامج الدردشة الآلية».
ويضيف: «الذكاء الاصطناعى هو فى الواقع ذكاء جماعى مقنع. إنه مجرد وسيلة للتعاون مع الآخرين عن بعد. تخيل فقط: لو كنت قادرًا على تحمل التكاليف، لكان لديك فريق من المهندسين يرافقك ككاتب. فى كل مرة تكتب فيها، سيقولون لك: (لدينا هذا! سنجرى عليه جميع عمليات التدقيق. سنذهب إلى المكتبة، ونتحقق من مصادرك، وسنؤتمته لك)».
ويشير إلى أن الذكاء الاصطناعى جهد تعاونى هائل. وهذا بحد ذاته أمر مذهل، أن يتمكن آلاف الأشخاص من التعاون على مدى قرون لتدقيق جملتك نحويًا. إنه ليس ذكاء اصطناعيًا؛ إنه عمل جماعى يتم من خلال التكنولوجيا. ويرى الكاتب أن توسيع نطاق تاريخ التكنولوجيا- ومعه الذكاء الاصطناعى- لدمج جذوره فى العلوم الإنسانية ليس مجرد تمرين فكرى؛ بل له آثار واضحة على كيفية بناء ومناقشة تقنيات ومنصات الذكاء الاصطناعى الجديدة.
يوضح أن الذكاء الاصطناعى يجب أن يصبح فى نهاية المطاف منفعة عامة، بدلًا من أن يكون فى أيدى الشركات الخاصة التى تتعامل مع نماذجها ومجموعات بياناتها كمزايا تنافسية فى السوق.
يقول تينن: «٩٩.٩٪ من قوة الذكاء الاصطناعى تأتى من المجال العام، ولذلك يجب أن تبقى ضمن نطاقه العام. إنها أكبر بكثير من أى جهة فاعلة منفردة».
يوضح فى النهاية: «إن المقصود بـ(الابتكار) هو إدراك أى سمات التصميم الموروث تبقى ضرورية، وأيها يمكن التخلص منها أو تحسينها. فبدون التاريخ، يصبح الحاضر ثابتًا، ينزلق نحو المعتقدات التقليدية. تشكل معالم التاريخ مسارًا نحو مستقبل محتمل».