الأحد 01 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فقه التحولات.. رحلة جهاديى سوريا من «جحيم» الصحراء إلى «نعيم» السلطة

مسلحى سوريا
مسلحى سوريا

- كتاب يوضح كيفية انخراط الجهاديين السوريين فى السياسة

- كيف وصل القائد السابق لداعش فى العراق إلى رئاسة سوريا؟

- كيف تكيفت الجماعات الجهادية السورية لكسب الدعم المحلى وتشكيل التحالفات للوصول إلى الحكم؟

- لن يحقق أهدافه الاستراتيجية.. لماذا تنصلت الجماعات المسلحة فى سوريا من الجهاد؟

- الجهاديون يبقون خارج نطاق التوقعات على مدى الأجيال الثلاثة السابقة

- عملية تسييس الجماعات المسلحة تنسب لعلماء العصور الوسطى مثل ابن تيمية

- فشل الإسلاميين يعود إلى انقساماتهم الداخلية ونقص استعدادهم ودعمهم الخارجى وترددهم

على عكس الصراعات الأخرى التى هيمن عليها سابقًا تنظيما القاعدة وداعش، رفضت أكبر جماعتين جهاديتين سوريتين، «أحرار الشام ثم جبهة النصرة»، الجهاد العالمى، وبدأتا فى بناء علاقات جديدة مع السكان وجماعات المعارضة المسلحة الأخرى، وحتى الدول الأجنبية. 

كان هذا التحول الاستراتيجى استجابة منهم لحقيقة أن الجماعات الجهادية تفشل دائمًا فى تحقيق انتصارات سياسية، وفى كتابه «من الجهاد إلى السياسة: كيف انخرط الجهاديون السوريون فى السياسة»، يقدم الباحث والمحلل جيروم دريفون دراسة للمعارضة المسلحة السورية، متتبعًا ظهور الجماعات الجهادية فى الصراع، وهيمنتها، وتحولها السياسى. 

وذلك بالاعتماد على أبحاث ميدانية ومقابلات مع متمردين سوريين فى شمال غرب سوريا وتركيا، ليوضح كيف يمكن لسياق الصراع المحلى أن يشكل سلوك الجماعات المسلحة بطرق غير متوقعة. 

الكتاب الذى يقع فى 288 صفحة، صدر فى سبتمبر 2024، عن دار نشر «جامعة أكسفورد»، وتأتى أهميته فى أنه يجمع أدلة فريدة من العالم العربى، لتفسير سبب تغير مسار الحركة الجهادية العابرة للحدود الوطنية فى السنوات الأخيرة.

ويكشف كيف تكيفت هذه الجماعات لكسب الدعم المحلى، وتشكيل التحالفات، والانخراط فى الحكم، حيث يكتسب هذا التحول أهمية خاصة اليوم، مع صعود «هيئة تحرير الشام» إلى السلطة فى دمشق، عقب سقوط نظام الأسد.

جيروم دريفون هو محلل أول لشئون الجهاد والصراعات المعاصرة فى مجموعة الأزمات الدولية «ICG»، وباحث مشارك فى المعهد العالى للدراسات الدولية والتنموية «IHEID». حصل على درجة الدكتوراه من جامعة دورهام، قبل أن يحصل على زمالتين فى جامعة أكسفورد وجامعة مانشستر. 

توجه متشدد

يتكون الكتاب من مقدمة وخمسة فصول، ويأتى الفصل الأول بعنوان: خلق التمرد، والثانى بعنوان: توسيع التمرد، والثالث بعنوان: توحيد المعارضة المسلحة، والرابع بعنوان: تسييس الجهاد، والأخير بعنوان: سوريا ومستقبل الجهاد.

تحلل مقدمة الكتاب كيف برزت جماعتان جهاديتان بارزتان، «أحرار الشام وجبهة النصرة»، كأبرز اللاعبين داخل المعارضة المسلحة السورية، قبل تسييسهما. 

ويروى «دريفون» عملية تشكيل القيادة الأساسية للجماعتين فيقول: مع انتشار الاحتجاجات السلمية فى جميع أنحاء سوريا فى خضم الانتفاضات العربية مطلع عام ٢٠١١، نظم المتشددون الإسلاميون اجتماعات فى سوريا والدول المجاورة. 

وتوقع المتشددون أن المظاهرات السلمية لن تسقط النظام، وستتحول سريعًا إلى العنف. وبدلًا من المشاركة فى الاحتجاجات السلمية، سعوا إلى عسكرة المعارضة للنظام، حيث كان لدى الكثيرين منهم خبرة سابقة فى الجهاد، إذ خاضوا صراعات مثل أفغانستان فى الثمانينيات، والشيشان فى التسعينيات، والعراق فى العقد الأول من الألفية الثانية. 

بل إن بعضهم شارك بالفعل فى أول مواجهة عسكرية ضد والد الرئيس السورى فى أواخر السبعينيات، ولذا انضم المسلحون إلى السلفيين غير الجهاديين والناشطين لتشكيل القيادة الأساسية لأحرار الشام، والتى سرعان ما أصبحت الجماعة المسلحة المعارضة الرائدة فى سوريا. 

وشكل آخرون جبهة النصرة فى أوائل عام ٢٠١٢، تحت قيادة القائد السابق لداعش فى العراق «أبومحمد الجولانى»، الذى رفض فى وقت لاحق الجماعة العراقية، وتعهد بالولاء لتنظيم القاعدة.

اقترح الجولانى تشكيل جبهة النصرة على غرار داعش فى العراق، كمشروع من شأنه أن يتجنب تكرار أخطاء التنظيم هناك، نظرًا لطبيعة الجهاد السورى المختلفة كصراع داخلى، وليس رد فعل ضد الاحتلال الأجنبى.

الفرق الرئيسي

وفى مقدمته، يفترض المؤلف أن الفرق الرئيسى بين الجهاديين يكمُن فى كيفية مأسستهم داخليًا وخارجيًا، أكثر من أى التزام أيديولوجى، مسلطًا الضوء على المفارقة الجهادية: فالسمات التى تمكنهم، تمنعهم أيضًا من تحقيق انتصارات استراتيجية. 

ويجادل بأن تسييس أحرار الشام، ثم جبهة النصرة، كان ردهم الاستراتيجى على هذه المفارقة، بعد أن شعر أعضاء أحرار الشام بالفزع من مسار حركة الجهاد التى احتكرها تنظيم القاعدة.

وحذت جبهة النصرة حذوها بعد بضع سنوات، حيث رفضت الجهاد العابر للحدود الوطنية فى صيف عام ٢٠١٦. ثم تحولت إلى هيئة تحرير الشام فى يناير ٢٠١٧. 

ويعتبر الباحث مسارات الجماعتين فريدة، من حيث الأفكار وأساليب التنظيم، لكنه يشير إلى أن الجهاديين يبقون خارج نطاق التوقعات، بشأن عقيدتهم وممارساتهم على مدى الأجيال الثلاثة السابقة.

ويلفت إلى أنه على النقيض من معظم الجماعات الجهادية، تفخر حركة أحرار الشام بتركيبة مؤسسية قوية نسبيًا، شكلت قيدًا حقيقيًا على قادة الجماعة المتعاقبين. 

وقد سبقت أحرار الشام معظم جماعات المعارضة السورية المسلحة فى مأسسة قيادة جماعية وسلطة دينية داخلية، بعد أن أدركت الجماعة مبكرًا ضرورة صياغة مواقف سياسية أكثر تعقيدًا فى مكتبها السياسى. 

كما طورت جبهة النصرة تنظيمها. فعندما تحولت الجماعة إلى هيئة تحرير الشام، أنشأت أيضًا مكتبًا سياسيًا لتعزيز علاقاتها مع الجهات الفاعلة الأجنبية، بما فى ذلك المنظمات الإنسانية ووكالات الأمم المتحدة. ثم، شكلت حكومة تكنوقراطية تعرف بحكومة الإنقاذ السورية لحكم محافظة إدلب وتطبيع علاقاتها الدولية.

ويوضح المحلل أنه بحلول المرحلة النهائية من الصراع، لم تكتفِ حركة أحرار الشام، والأهم من ذلك، هيئة تحرير الشام، بنزع هويتها الجهادية، بل سعت أيضًا إلى إنشاء كيان، يطمح إلى أن يكون بمثابة دولة فاعلة. 

شرعنة السياسة

ويقول «دريفون» إنه خلال البحث الميدانى المكثف الذى أجراه مع الجماعات المسلحة السورية منذ بداية الصراع، والمقابلات مع القيادات البارزة وأعضاء الجماعتين وجماعات أخرى، وجد أنهم كانوا حريصين على مناقشة العلوم السياسية والسياسة الدولية، والتعامل مع العالم كفاعلين سياسيين واقعيين، باحثين عن مخرج من مأزق السلفية الجهادية، الذى ظنوا أنه لن يحقق أهدافه الاستراتيجية.

وينسب الكاتب عملية التسييس التى قامت بها هذه الجماعات المسلحة، والتى تتوافق مع النقاشات الداخلية للجماعات حول «السياسة الشرعية»، وتترجم بشكل أفضل إلى «السياسة العامة الإسلامية المسترشدة بالشريعة»- إلى العلماء المسلمين فى العصور الوسطى مثل ابن تيمية.

ويشير إلى أن هذا المفهوم لتأسيس العمل السياسى ضمن القيود المتأصلة فى التراث الإسلامى، استخدمته الجماعات السلفية المسلحة، لتبرير الحاجة إلى المرونة فى ضوء واقعها الخارجى.

يقدم المؤلف فى الفصل الأول تحليلًا شاملًا لنشأة المعارضة المسلحة. ويدرس دور الجماعات الإسلامية فى ظل النظام البعثى السورى حتى عام ٢٠١١، وكيف أدى قمع النظام إلى عسكرة الانتفاضة وأثر على جغرافيتها المبكرة. 

ويقول: ظهرت مئات الجماعات المسلحة بين عامى ٢٠١١ و٢٠١٣، والتى تأسست على يد أفراد بدوافع مختلفة، حيث كان بعضهم قرويين يحاولون الدفاع عن مناطقهم، بينما كان آخرون جنودًا انشقوا عن الجيش بعد رفضهم قمع الاحتجاجات الشعبية. 

ومع ذلك، ذهب بعض النشطاء المحليين إلى أبعد من ذلك، ورغبوا بالفعل فى إسقاط النظام. من بينهم عدة جماعات تبنت أفكارًا سياسية نابعة من الحركة الإسلامية، بما فى ذلك حركة أحرار الشام.

ويرى الباحث أن نطاق الجماعات التى تشكلت لمواجهة النظام السورى كان أكثر تنوعًا، وأنها لم تنشأ من فراغ، ولكن على هامش حركة إسلامية أكبر، ازدهرت دوليًا على مدى العقود القليلة الماضية، على الرغم من كونها كامنة داخل سوريا قبل عام ٢٠١١.

ويرجع المحلل جذور الحركة الإسلامية السورية إلى الحركة الإصلاحية فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتى اتسمت بتنوعها الداخلى، إذ ضمت العديد من الجمعيات الإسلامية مثل جمعية الغراء، وجمعية الهداية الإسلامية، وجمعية العلماء فى دمشق.

الثورة الأولى

بعد استقلال سوريا، تأثرت الحركة الإسلامية بجماعة الإخوان المسلمين، التى نجحت فى جمع العديد من الجماعات الدينية المبكرة فى هيكل تنظيمى واحد. كانت الجماعة فى الأصل منظمة رئيسية شاركت فى النظام السياسى السورى، وانخرطت فى الأنشطة السياسية من عام ١٩٤٧ إلى عام ١٩٦٣.

لكن بعد مشاركتها فى إضرابات واحتجاجات جماهيرية فى جميع أنحاء سوريا، وخاصة فى مدينة حماة المحافظة، تم حظرها عام ١٩٦٤، وحول هذا الحظر الجماعة من حزب سياسى رئيسى إلى جماعة معارضة مذمومة. 

وأجبر نهاية النظام البرلمانى على إعادة النظر فى استراتيجيتها وأفكارها. وتفاقمت الانقسامات الداخلية، بسبب ضعف قيادتها والعداء الجغرافى بين دمشق والفروع الشمالية.

ومع تزايد عنف النظام وسيطرة الأقليات الريفية على أجهزة الدولة، بدأت جماعة الإخوان فى تطوير مواقف أكثر طائفية وتشددًا. وبحلول أواخر سبعينيات القرن الماضى، ظهرت الطليعة المقاتلة على هامش الجماعة، والتى نفذت هجمات ضد النظام، وأجرت تدريبات عسكرية.

رد النظام بحملة قمع واسعة النطاق على الجماعات التابعة للإخوان وأنصارهم السنة، مما أسفر عن مقتل مئات المتظاهرين. وأعلن النظام أن العضوية فى جماعة الإخوان المسلمين، يعاقب عليها بالإعدام فى القانون السورى. 

بحلول عامى ١٩٧٩ و١٩٨٠، انضمت جماعة الإخوان المسلمين إلى صراع مسلح لم تكن مستعدة له، وسحق النظام فى نهاية المطاف، انتفاضة حاسمة فى مدينة حماة عام ١٩٨٢. 

ويعزى دريفون فشل الإسلاميين إلى عوامل مختلفة، منها انقساماتهم الداخلية، ونقص استعدادهم ودعمهم الخارجى، وترددهم.

أدى ذلك إلى شل الإخوان المسلمين فى سوريا بشكل فعال، مما أجبر العديد من قادتها وأعضائها على الهجرة إلى الأردن والعراق. وظل بعض أعضائها منخرطين فى القتال المسلح.

شارك العديد من المتشددين وأبنائهم فى الحرب بعد عام ٢٠١١ وانضموا إلى جماعات مسلحة مختلفة. وصوروا أفعالهم على أنها استمرار لما أطلقوا عليه بأثر رجعى اسم «الثورة الأولى».

التحرر الاقتصادى

ويوضح الكاتب أن فشل التحرر الاقتصادى للنظام السورى عزز استيعاب الحركات الإسلامية، إذ أجبره على قبول دور متنامٍ للجمعيات الخيرية غير السياسية، التى يمكنها تقديم إعانات أساسية للسكان، الذين لم يعد النظام قادرًا على دعمهم.

نقاط تحول

ومع ذلك، يلفت المؤلف إلى أن السياسات المحلية لم تكن هى العوامل الوحيدة التى تدعم نمو شبكات السلفية والنشطاء الإسلاميين فى سوريا. فقد شكلت نقطتا تحول إقليميتان ودوليتان مهمتان، تطور هذه الشبكات. 

تزامنت المرحلة الأولى مع حرب الخليج الأولى، حيث استلهمت أجيال إسلامية جديدة غير تابعة لجماعة الإخوان المسلمين من حركة الصحوة التى ظهرت فى المملكة العربية السعودية. كانت هذه الحركة بمثابة رد إسلامى على التحالف السعودى مع الولايات المتحدة.

أما المنعطف الثانى، فقد حدث عام ٢٠٠٣، عندما غزت الولايات المتحدة العراق. وقد أثار هذا الحدث احتجاجات إسلامية سلمية فى سوريا، وأعاد إشعال النقاشات الداخلية حول الجهاد بين الإسلاميين السوريين. 

وينقل الباحث ما قاله خالد أبوأنس، أحد أبرز مؤسسى حركة أحرار الشام، عن مشاركته المبكرة فى الحركة الإسلامية السورية حيث يقول:

«بدأت انخراطى عام ١٩٩١. لم أكن ملتزمًا دينيًا قبل ذلك. نحن من جيل ما بعد الإخوان المسلمين الذين كانوا يلتقون فى الجامعات. بدأت بقراءة كتب إسلامية مختلفة والاستماع إلى شيوخ محليين فى إدلب. كانت قراءاتنا واسعة جدًا. بدأنا بالأصول، ابن تيمية وابن القيم. ثم توجهنا إلى شيوخ آخرين، منهم محمد ناصر الدين الألبانى، أبو بصير الطرطوسى وآخرون. 

حاولنا بناء شبكة واسعة فى جميع أنحاء البلاد. بدأنا أيضًا بالتركيز على الجهاد. سعينا جاهدين لتغيير الشباب وبناء جيل جديد. كثير منا ينتمى إلى السلفية الجهادية. هذا التوجه هو رد على الظلم. عندما يهاجم الإسلام، يكون الجهاد حلًا ومخرجًا من المأزق الذى نعيشه. لهذا السبب يلجأ الشباب إلى الجهاد. 

لو تأملنا الأمر، لوجدنا تاريخيًا نموذجين إسلاميين فقط: الإخوان المسلمون والقاعدة. فى ظل هذه الظروف، أيهما كان الأكثر ملاءمة وإقناعا؟ الإخوان المسلمون واستراتيجيتهم فى المشاركة السياسية أم القاعدة والكفاح المسلح؟ كانت القاعدة أكثر جاذبية لمن أرادوا القيام بشىء ما».

شبه مستحيل

ويرى المحلل أن الانتقال السلمى للسلطة فى سوريا كان شبه مستحيل، وأن العنف كان الخيار الأكثر ترجيحًا منذ البداية، حيث لم يكن من الممكن تفكيك هياكل النظام، التى أعاقت التمثيل السياسى، بالإضافة إلى ذلك، لم تقدم طبيعة النظام السورى وأدواته للتعامل مع التحدى على المستوى الوطنى لسلطته أى بديل تقريبًا للقمع العنيف. 

وتميزت سوريا بخصائص حاسمة أعاقت الانتقال السلمى للسلطة أو أى مستوى من الانفتاح السياسى والشمول. وذلك مع اعتماد النظام التاريخى على أجهزة أمنية مستمدة فى الغالب من أفراد من أقلية دينية، وضعف مأسسة الجيش واحترافيته، ونخبة اقتصادية وسياسية مرتبطة عضويا ببقاء النظام، صممت جميعها لحمايته.

وحسب «دريفون» دفع ضعف المجتمع المدنى والقمع العشوائى للنظام، الجماعات المسلحة المبكرة إلى الاعتماد على الشبكات الاجتماعية المحلية، بما فى ذلك الأصدقاء والمعارف والأحياء، من أجل الهيكل والدعم، مما أسهم فى رسوخها وبناء الثقة.

ووفقًا للكاتب، كان شمال غرب سوريا يتمتع بموقع فريد بحدوده المتاخمة لتركيا، وهو أمر بالغ الأهمية لجمع الدعم الأجنبى، الذى تم تنظيمه إلى حد كبير حول الشبكات الشخصية، حيث حصل السوريون المحليون الذين كان أفراد عائلاتهم يدرسون أو يعملون فى الخارج على مساعدة مالية محدودة، لشراء الأسلحة الأساسية استعدادا للحرب. 

ويرى المؤلف أن هذا الدعم المبكر كان له دور فعال فى إرساء الأساس لظهور جماعات مسلحة أكبر وأكثر تنسيقًا فى المنطقة فى نهاية المطاف. وقد حشدت الألوية المحلية نواة ألوية أحرار الشام «كتائب أحرار الشام» صفوفها قبل الوجود الرسمى للجيش السورى الحر فى يوليو ٢٠١١. 

ويتعمق الباحث فى أسباب وعوامل نجاح حركة أحرار الشام، التى ظهرت كأبرز جماعة فى المراحل الأولى من الصراع، لافتًا إلى أن ما يميزها عن الجماعات المسلحة الأخرى هو مزيجها الفريد من عدة خصائص، على رأسها البنية اللامركزية متعددة الشبكات للجماعات المرتبطة بالحركة الإسلامية الكامنة التى بدأت بالتجمع. 

حيث كانت هذه الجماعات مترابطة عبر شبكات اجتماعية متنوعة، بما فى ذلك المنظمات الطلابية، والدوائر الدينية، والناشطين، والمقاتلين الجهاديين. 

وسهّل هذا الترابط حشد عدد كبير من الأفراد ذوى الموارد المالية أو الخبرة فى الحرب. ووفرت الروابط المتعددة مع النشطاء والجهاديين الآخرين قوة فريدة للنواة التى شكلت حركة أحرار الشام. ونسق أعضاء الجماعة الأوائل جهودهم فى سوريا وتركيا والخليج. 

كان لبعض الأفراد خبرة سابقة فى الجهاد، بما فى ذلك فى العراق، مما زودهم بمعارف ومهارات قيّمة فى الكفاح المسلح، بما فى ذلك تصنيع المتفجرات. وأسهمت هذه الخبرة أيضًا فى التطور الأيديولوجى المبكر للجماعة.

وعزز إطلاق سراح السجناء الإسلاميين من سجن صيدنايا، والذين غالبًا ما كانت لهم صلات بالإسلاميين خارج السجن، من تعبئة خلايا أحرار الشام الأولى من خلال المساهمة بصلاتهم وخبراتهم.

الهيكل التنظيمى

ويؤكد المحلل أن الهيكل التنظيمى اللامركزى لأحرار الشام، كان عاملًا أساسيًا فى صمودها. فبفضل عملها عبر مناطق جغرافية متعددة ووحدات عسكرية أساسية، كانت الجماعة أقل عرضة لقمع النظام. 

سمح هذا النهج بالحفاظ على مستوى معين من الاستقلالية والمرونة، حيث كان لكل وحدة فرعية قادتها وعمليات صنع القرار الخاصة بها. لم يساعد هذا فقط فى حماية الجماعة من هجمات النظام، بل جعلها أيضًا أكثر مرونة وقدرة على الاستجابة السريعة للظروف المتغيرة. 

ويوضح «دريفون» أن شبكات هيكلة أحرار الشام شكلت آراءها الأيديولوجية المبكرة. 

ووفقًا لحسام الطرشة، رئيس العلاقات الدولية فى أحرار الشام، فإن الجماعة تتكون فى البداية من أفراد إما تركوا الأفكار التى روجت لها آراء القاعدة فى وقت مبكر، مثل حسن عبود، أو كانوا مرتبطين بالتيار الجهادى لكنهم يهدفون إلى تصحيح التجاوزات التى ارتكبتها القاعدة، مثل خالد أبوأنس، أو لديهم خبرة فى أماكن مختلفة من الجهاد، مثل إياد الشعار، الذى كان مقربًا سابقا مما يسمى بالأب الروحى للحركة الجهادية، عبدالله عزام. 

هذا المزيج من الاتجاهات المختلفة إلى جانب السلفيين السوريين المحليين، بنى أحرار الشام حوله مشروعًا سياسيًا يجمع بين الجهاد والإصلاح. 

ويشير الكاتب إلى أنه فى غضون ذلك، كانت جبهة النصرة، التى ستصبح المنافس الرئيسى لأحرار الشام على قيادة المعارضة المسلحة لاحقًا، أصغر بكثير فى البداية وأقل تأثيرًا، على الرغم من هجماتها الناجحة رفيعة المستوى ضد أهداف النظام.

ويلفت إلى أن شرق سوريا كان ثانى أكبر معقل للمعارضة المسلحة، حيث كانت مدينة الرقة أول عاصمة محافظة، تقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة الكاملة فى عام ٢٠١٣، عندما انسحبت قوات النظام بسبب الضغط العسكرى للمعارضة المسلحة. 

وتكمن الأهمية الاستراتيجية لشرق سوريا بشكل رئيسى فى وجود النفط والغاز اللذين يمثلان معظم إنتاج سوريا.

ويوضح المؤلف أن خلال العامين الأولين من الصراع السورى، ظهر العديد من الجماعات المسلحة إلى جانب حركة أحرار الشام، إلا أن معظم هذه الجماعات لم يدم طويلًا، ولم ينج منها سوى عدد محدود. 

واندمجت فصيلتان من أصل ثلاث من هذه الفصائل جزئيًا أو تحالفت مع حركة أحرار الشام فى مرحلة لاحقة من الحرب، وهذه الجماعات هى حركة نور الدين الزنكى، وصقور الشام، وجيش العزة. وجميعها مقرها فى شمال غرب سوريا.

نهج تنازلى

ويشير الباحث إلى أنه بالمقارنة مع حركة أحرار الشام، التى توحدت حول ألوية محلية لا مركزية، اعتمدت جبهة النصرة نهجًا تنازليًا فى التعبئة. تجمع قادة الجماعة الأوائل فى دمشق فى البداية، قبل أن ينتشروا فى جميع أنحاء البلاد، مستخدمين شبكاتهم القائمة مسبقًا، لتجنيد الأفراد وتنظيم تفجيرات عالية المستوى ضد قوات النظام.

سعى أعضاء الجماعة الأوائل إلى البيعة الفردية والتوصيات الشخصية «التزكية» فى عملية تعبئة وتلقين أيديولوجى من أعلى إلى أسفل. كما قاموا بالتنسيق مع السجناء المحررين حديثًا.

ووفقًا للمحلل، فإن عسكرة الانتفاضة أدت إلى تهميش جماعة الإخوان المسلمين، التى كانت تعتبر سابقًا المعارضة الرئيسية للنظام فى سوريا. وعلى الرغم من الدور السياسى البارز للجماعة فى المنفى، إلا أن هياكلها التنظيمية كانت فى حالة احتضار داخل سوريا.

لم تشكل جماعة الإخوان فصيلًا خاصًا بها فى سوريا، بل عملت بشكل رئيسى فى الخارج، لإيجاد بديل سياسى للنظام، إلا أن جهودها افتقرت إلى التنظيم والنجاح فى استقطاب جماعات أخرى.

بعد سبتمبر ٢٠١٢، افتقر التنسيق العسكرى لجماعة الإخوان المسلمين إلى الكفاءة والانضباط الداخلى. واعتبرت الجماعة منظمة قديمة عاجزة عن مواجهة التحديات التى تواجهها المعارضة المسلحة، فقبلت العديد من الجماعات دعمها، دون تأييد مطالبها.

تعزيز العلاقات

وحسب دريفون، أنشأت حركة أحرار الشام مكتبها السياسى خارج سوريا فى وقت مبكر، بهدف تعزيز علاقاتها مع الجهات الفاعلة الخارجية، وطرح أفكار ومقترحات جديدة لتوحيد المعارضة، وتطوير المواقف السياسية، وسيكون المكتب السياسى لها حاسمًا فى معارضة التصنيف الدولى المحتمل كجماعة محظورة فى السنوات التالية.

ويرى الكاتب أن النصر يولد النصر. ومن هنا اكتسبت جماعات المعارضة المسلحة ميزة من خلال الاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة من مخازن النظام، أثناء استيلائها على القواعد العسكرية. 

ومع تلقى المزيد من الدعم من الدول المتحالفة مع المعارضة، يلفت المؤلف إلى أن هذه الديناميكيات أدت إلى إطالة خطوط المواجهة مع قوات النظام، والتى كان من الصعب إدارتها بشكل فعال. 

كانت الخسائر فى الشرق كبيرة بشكل خاص، نظرًا لوجود موارد النفط والحدود مع العراق، مما ساعد فى النهاية داعش على التوسع فى المنطقة. بحلول عام ٢٠١٣، سيطرت المعارضة المسلحة على جميع الحدود تقريبًا مع تركيا والعراق، بالإضافة إلى مناطق واسعة حول دمشق.

وفى عام ٢٠١٥، شكّل التدخل الروسى فى سوريا نقطة تحول مهمة فى الصراع، فبعد زيارة الجنرال الإيرانى قاسم سليمانى لموسكو فى الصيف، شنت روسيا تدخلًا عسكريًا مفاجئًا، يهدف إلى تثبيت نظام الأسد والتصدى للمحاولات الغربية المزعومة لاستبداله. 

ورافق ذلك جهد دبلوماسى لتقويض العملية السياسية التى ترعاها الأمم المتحدة، وفى النهاية استعادت روسيا زمام المبادرة وأجبرت المعارضة المسلحة على إعادة تنظيم صفوفها فى منطقة واحدة فقط، وهى الشمال الغربى. 

يوضح الباحث أنه إلى جانب محافظة إدلب فى الشمال الغربى، كانت هناك خمس مناطق رئيسية تسيطر عليها الجماعات المسلحة فى جميع أنحاء سوريا. كانت المنطقتان الأوليان جيوبًا معزولة فى شمال حمص وضواحى دمشق، بينما تقع المناطق الثلاث الأخرى فى محيط البلاد جنوبًا وشرقًا وعلى طول الحدود الشمالية مع تركيا.

ويشير إلى أنه بينما تواجدت معظم الجماعات فى منطقة واحدة فقط من المناطق التى تسيطر عليها المعارضة المسلحة فى سوريا، دون أن يكون لها وجود فى جميع أنحاء البلاد، كانت أحرار الشام وجبهة النصرة من بين الجماعات القليلة التى تمكنت من الانتشار فى أكثر من منطقة. 

ويرى المحلل أن تطور أحرار الشام كان فريدًا، من حيث إنها تشكلت فى نظام تحالف من القاعدة إلى القمة للعديد من الفصائل التى مأسست روابطها مع بعضها البعض قبل مأسستها داخليًا ككيان تنظيمى واحد، وهذا النمط هو ما يفسر أيضًا انغماس الجماعة المحلى فى المجتمعات السورية، خاصة فى الشمال الغربى.

عمليات التوسع

كانت أحرار الشام وجبهة النصرة وداعش، الجماعات الوحيدة القادرة على التوسع والحفاظ على وجودها فى مناطق متعددة. 

وشكلت جبهة النصرة فى البداية خلايا فى جميع أنحاء سوريا، وبعد الانفصال عن داعش فقدت جبهة النصرة معظم جنودها، لكنها حافظت على وجودها فى معظم المناطق. 

من ناحية أخرى، جمعت داعش معظم الألوية والمقاتلين الأجانب على الرغم من طردها من الشمال الغربى ومحيط الغوطة. فى المقابل، تمكنت أحرار الشام من التوسع فى جميع أنحاء المناطق السورية من خلال عملية أكثر تصاعدية.

ويرجع دريفون انفصال جبهة النصرة عن داعش عام ٢٠١٣ إلى عوامل متعددة، أهمها ديناميكيات القوة. كان جوهر المسألة هو مقاومة قيادة جبهة النصرة بضراوة لمحاولات داعش لاستعادة السيطرة عليها. 

وقد تزايد قلق داعش من ازدياد نفوذ جبهة النصرة داخل سوريا، ومن أن زعيمها، الجولانى، أثبت استقلاليته وصعوبة إدارته. وبالإضافة إلى صراعات القوة الداخلية، كانت هناك أيضًا خلافات استراتيجية بين الجماعتين. 

حيث ترددت جبهة النصرة فى تنظيم هجمات مسلحة ضد المعارضة السورية الرئيسية المتمركزة فى إسطنبول، وهو ما طالب به داعش، واتبعت نهجًا أكثر براجماتية فى تعاملها العام مع الفصائل المتمردة الأخرى.

أدى ولاء معظم الأجانب لداعش إلى القضاء تقريبًا على جبهة النصرة عند حدوث الانقسام. ووفقًا لقادة جبهة النصرة، فقدت الجماعة أكثر من ٧٠٪ من مواردها وأفرادها. 

نجحت جبهة النصرة فى البقاء عبر ترسيخ علاقاتها الخارجية مع القاعدة. وكانت جبهة النصرة والقاعدة خاضعتين سابقًا بشكل غير مباشر من خلال ولاء داعش للظواهرى. 

فبعد انشقاقها عن داعش، رأى الجولانى، زعيم جبهة النصرة، أن على الجماعة إعلان الولاء العلنى للقاعدة، للحفاظ على ولاء جنوده وإنقاذ الجماعة. 

وأوضح فى مقابلة: «عندما انفصلنا عن البغدادى لم تكن لدينا خيارات جيدة. كنا على وشك أن نباد على أيديهم، لذا جمعت دائرتى المقربة لاتخاذ قرار سريع. أخبرتهم أننى أفكر فى مبايعة القاعدة. نصحونى بالتراجع عن ذلك، ووصفه البعض بأنه خطوة انتحارية. لكن لم يقدم لى أحد بديلًا. لم يكن أمامنا خيار سوى مبايعة القاعدة حتى لا نخسر الجميع أمام داعش. لكننى ربطت مبايعتى للقاعدة بفكرة أننا لن نستخدم سوريا كنقطة انطلاق لعمليات خارجية، ولن نسمح للآخرين باستخدامها لذلك. كتبت هذا إلى الظواهرى ووافق عليه، وإذا تذكرتم ردى على الظواهرى بعد قرار فك الارتباط، فسترون أننى لم أغير موقفى قط».

جماعة مهيمنة

يوضح المؤلف، فى الفصل الثالث، أن معظم محاولات توحيد المعارضة المسلحة كانت مدفوعة فى المقام الأول بالضرورة العسكرية، ما أدى إلى مزيد من الاستقطاب حول المتنافسين الرئيسيين على القيادة: جبهة النصرة وأحرار الشام. 

ويجادل المحلل بأن نتيجة صراعهما كانت محددة إلى حد كبير من خلال عمليات التأسيس الداخلية المتباينة. وسمح تركيز جبهة النصرة على المركزية والانضباط لها بالحفاظ على قبضة أقوى على السلطة، ما أدى فى النهاية إلى ترسيخها كجماعة مهيمنة فى آخر محافظة سورية متبقية تحت سيطرة المعارضة، على الرغم من القوة الكبيرة لأحرار الشام.

منذ عام ٢٠١٢ فصاعدًا، اتسع نطاق التدخل الأجنبى مع تقديم الدول الأوروبية والإقليمية دعمًا عسكريًا وغير عسكرى محدودًا لمختلف الجماعات المسلحة، بهدف زيادة الضغط على النظام، لإجباره على التفاوض مع معارضيه.

ويقول دريفون إن الجماعات المسلحة بدأت فى مأسسة علاقاتها مع بعضها البعض، من خلال تشكيل تحالفات جديدة، أعطت الأولوية للقتال الداخلى ضد داعش، مثل تحالف جيش المجاهدين، الذى تم تشكيله فى ريف حلب لطرد الجماعة العراقية.

يعتقد الكاتب أن الاختلافات الأيديولوجية لم تكن أبرز الفروقات بين أحرار الشام وجبهة النصرة. فقد كانت أحرار الشام نتاج سلسلة من عمليات الاندماج والتحالف المؤسسية، ما أدى إلى ظهور جماعة تتميز بتوزيع متوازن للسلطة الداخلية، ما جعلها أكثر قابلية للمفاوضات الفصائلية، مع أن هذا أدى أيضًا إلى ضعف القدرة على اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة. 

من ناحية أخرى، عززت جبهة النصرة وجودها من خلال تركيز السلطة من أعلى إلى أسفل، مع سيطرة أكثر رسوخًا لقائدها وشركائه المقربين. وعلى الرغم من إضعافها جراء الانقسام مع داعش عام ٢٠١٤، حافظت جبهة النصرة على انضباط وتماسك داخليين قويين، ما سمح بتوسيع نطاق التجنيد والاندماج المحلى خلال السنوات القليلة الماضية.

إعادة تسمية

وفى صيف ٢٠١٦، أعادت جبهة النصرة تسمية نفسها، حيث غيرت اسمها إلى جبهة فتح الشام، ونبذت ولاءها لتنظيم القاعدة. أصرت الجماعة فى البداية على أنها لا تزال ملتزمة بمعتقداتها السلفية وأسس الجهاد فى الشريعة الإسلامية.

ويلفت الكاتب إلى أن جبهة فتح الشام كانت مجرد إعادة تسمية داخلية دون توسع تنظيمى، لكن القرار واجه اعتراضًا داخليًا من بعض الأعضاء البارزين الذين تركوا المنظمة. 

وأشارت تصرفات الجماعة اللاحقة إلى أنها كانت أكثر اهتمامًا بتضليل أنصار القاعدة فى الداخل من الدول الغربية. واستشاط تنظيم القاعدة المركزى ومنظروه غضبًا من القرار.

ولم ينضم إلى جبهة فتح الشام سوى فصيل فرعى حديث التأسيس من حركة أحرار الشام، جيش الأحرار، إلى جانب فصائل أصغر أخرى، مشكلًا كيانًا جديدًا يسمى «هيئة تحرير الشام».

وجمعت هيئة تحرير الشام، جبهة فتح الشام وجيش الأحرار وحركة الزنكى وأنصار الدين وجيش السنة ولواء الحق، تحت مظلة تنظيمية واحدة. وتم تقاسم المسئوليات بين الجماعات المكونة. 

حيث تم تعيين زعيم أحرار الشام السابق، أبوجابر الشيخ، قائدًا عامًا، وأصبح الجولانى من جبهة فتح الشام القائد العسكرى، وتولى رئيس حركة الزنكى شهاب الدين منصب رئيس مجلس الشورى. 

بالإضافة إلى ذلك دمجت هيئة تحرير الشام معظم الدعاة الدينيين الإسلاميين المستقلين الذين انتشروا خلال الصراع السورى تحت مظلتها، وكان هدف اندماجهم هو السيطرة على الأصوات الدينية المستقلة، بهدف الحد فى نهاية المطاف من نفوذهم على الأرض، من خلال إضفاء الطابع المؤسسى على دورهم ووظائفهم داخل المجموعة الجديدة.

ويشير المؤلف إلى أن هيئة تحرير الشام فقدت زخمها فى أواخر عام ٢٠١٧، عقب انضمام عدة جماعات بارزة ودعاة دينيين مستقلين إليها فى البداية. ورغم تحقيقها مكاسب أولية ضد أحرار الشام، فشل مشروعها التوحيدى فى دمج جميع الجماعات، وفرض واقع جديد على الدول الإقليمية والمجتمع الدولى. 

ومن ثم أعادت هيئة تحرير الشام تركيزها حول نواة جبهة النصرة وأقرب حلفائها. وكانت الميزة النسبية الرئيسية للجماعة هى وجود قوة عسكرية مركزية متحركة يمكن نشرها فى جميع أنحاء منطقة إدلب لضرب الفصائل المتصارعة.

حكومة الإنقاذ

بينما يرى الباحث أن هيئة تحرير الشام نجحت بشكل أكبر فى مأسسة مشروع حوكمة لحكم محافظة إدلب، حيث استغلت الجماعة مبادرة طرحها أكاديميون ومثقفون مستقلون لتوحيد الإدارة المحلية. 

استخدمت الهيئة هذه المبادرة لتشكيل ما يسمى بحكومة الإنقاذ، التى تبناها زعيمها الجولانى فى النهاية، والتى يمكنها تسهيل المساعدات الإنسانية والحصول على اعتراف إقليمى ودولى، دون أن تكون رسميًا تحت سيطرة الهيئة.

أدى الانتصار العسكرى لهيئة تحرير الشام إلى فرض حكومة الإنقاذ على جميع المناطق التى كانت تسيطر عليها سابقًا فصائل مختلفة، بما فى ذلك حركة أحرار الشام. 

قامت حكومة الإنقاذ بمركزة أنظمة المحاكم، وسيطرت على السجون المحلية، ونفذت تغييرًا إداريًا تدريجيًا فى جميع أنحاء محافظة إدلب. 

يعتقد المحلل أن العلاقة بين الكيانين أكثر غموضًا من كونها مباشرة. وبينما احتفظت هيئة تحرير الشام فى البداية بالسيطرة على الأمن فى المحافظة، وأبقت على سجونها ومحاكمها الداخلية للقضايا الأمنية والسياسية، خاصة تلك المتعلقة بخلايا داعش، كان لدى حكومة الإنقاذ هامش أكبر من الحرية فى المجالات التى لم تتمكن هيئة تحرير الشام من السيطرة عليها بالكامل، أو لم تكن مستعدة لذلك. وقدمت هيئة تحرير الشام نفسها على أنها الحل للمطالب الشعبية بإضفاء الطابع المؤسسى على الثورة. 

وبعد إدانة الفصائل الأخرى لتعاونها مع تركيا، أشارت هيئة تحرير الشام إلى استعدادها للتعاون مع جارتها. وعلى الرغم من رفضها فى البداية التعاون مع تركيا فى الشمال، إلا أن زعيم الهيئة، الجولانى، دعم لاحقًا حرب تركيا ضد وحدات حماية الشعب، التى يعتبرها أعداء الثورة. 

ويعلق دريفون بأن هذا كان تحولًا مهمًا لجماعة جهادية، تعارض عادة التعاون مع الدول التى لا تطبق الشريعة الإسلامية بالكامل. أكدت هيئة تحرير الشام فى بياناتها أن أعداءها الرئيسيين هم النظام وروسيا، وليس تركيا.

ويقول إن إعادة هيكلة الهياكل الداخلية لهيئة تحرير الشام ساعدت فى تحولها، حيث ازدادت عضوية الجماعة بشكل ملحوظ مع انضمام أفراد من فصائل أخرى، وكان الكثير منهم أقل التزامًا دينيًا وتلقوا تعليمًا أيديولوجيًا من علماء الدين فى الجماعة.

كما قتل العديد من المعارضين الداخليين للتوجه الجديد للجماعة، خاصة بين المقاتلين الأجانب، وتم إسكات المعارضة الداخلية. 

القرار العسكرى

كما أعادت هيئة تحرير الشام تنظيم نفسها عسكريًا من خلال إنشاء كتائب جديدة، بهدف مركزية قواتها العسكرية لحماية المناطق التى تسيطر عليها المعارضة بشكل أفضل. ومثل الجماعات الأخرى، جندت هيئة تحرير الشام أفرادًا تتراوح أعمارهم بين ١٧ و٣٠ عامًا، والذين لم يتجاوزوا العشرين عامًا عند بدء الانتفاضة.

ويلفت الكاتب إلى أن توحيد هيئة تحرير الشام للمجلس العسكرى، بالتعاون مع حركة أحرار الشام، منحهما سلطة فرض غرفة عمليات الفتح المبين العسكرية كإطار مؤسسى وحيد للشئون العسكرية فى إدلب.

وقد رافق هذا التطور إنشاء أكاديمية عسكرية من قبل ضباط سابقين، لتحسين تدريب المعارضة المسلحة. ويوضح المؤلف أن هذه الخطوة تشير إلى محاولة الجماعات المسلحة السورية تكرار معايير الجيش المحترف، وتطوير إطار واضح لتوجيه عملياتهم وتكتيكاتهم واستكشاف عقائد القوات المسلحة الغربية.

وقد وحدت غرفة العمليات المشتركة عملية صنع القرار العسكرى، ولكن دون توحيد الدخل المالى أيضًا، حيث لا تزال كل جماعة مسلحة داخل غرفة العمليات تتلقى مصادر تمويل مستقلة خاصة بها.

انحراف كبير

يستكشف الباحث، فى الفصل الرابع، المسار المؤسسى لأحرار الشام، ويشير إلى أنه على الرغم من كونها واحدة من أنجح الجماعات المسلحة فى سوريا، فإنها واجهت العديد من العوائق المؤسسية التى أعاقت قدرتها على تحقيق تطلعاتها السياسية بالكامل.

ويرى المحلل أن حركة أحرار الشام انبثقت من الحركة الإسلامية التى كانت خامدة فى شمال غرب سوريا قبل عام ٢٠١١، حيث نشأ العديد من قادتها، وهو ما يمثل انحرافًا كبيرًا عن معظم الجماعات الجهادية الأخرى، التى نشأت أو شكلت بشكل كبير خارج دوائرها المحلية. 

وكما جادل خالد أبوأنس: «عندما التقينا بالآخرين، كنا جميعًا نرغب فى بناء شىء جديد. كانت القاعدة مخيفة للكثيرين، لذلك كان علينا الابتعاد عنها. أردنا أن نأخذ ما هو جيد فى جميع التجارب الإسلامية السابقة. فى الإخوان، كنا نأخذ الرؤية الشاملة والتطوير التنظيمى. فى القاعدة، كنا نأخذ القتال. نعتبر الجهاد والسياسة متكاملين. بالنسبة للقاعدة، السياسة هى احتضان الديمقراطية، لذا يرفضونها. أما نحن، فالجهاد والسياسة متلازمان. كنا أول تنظيم من هذا النوع».

ووفقًا لدريفون، أتاح الصراع الجديد فرصة فريدة لأحرار الشام لتطوير مشروع إسلامى جديد لا ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين أو تنظيم القاعدة، وهو «مشروع الأمة الإسلامية»، الذى أصبح الشعار الأولى للجماعة، وسيكون المشروع الجديد سلفيًا، ولكن بشرط أن يكون مجاهدًا. 

بمعنى آخر، ستكون أحرار الشام جماعة مسلحة سلفية منخرطة فى الجهاد نظرًا للظروف. لن تكون جهادية، بل مجاهدة، لأن الجهاد ليس غاية فى حد ذاته، بل وسيلة لتحقيق أهداف سياسية محددة.

حيث كان على أحرار الشام والجماعات الأكبر الأخرى مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التى تؤثر على المدنيين الخاضعين لسيطرتهم، ما استلزم تطوير نظام حكم محلى. 

ومع ذلك، افتقرت الجماعات المسلحة إلى الخبرة فى حكم المدنيين ولم يكن لديها برنامج عملى واضح للتنفيذ.

ويلفت الكاتب إلى أنه على الرغم من أن الدول الغربية، خاصة بعد عام ٢٠١٤، استمرت فى رفض أى جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة أو داعش، وكذلك تلك التى تدعو إلى العنف خارج سوريا، إلا أنها أبدت أيضًا استعدادًا للتفاعل مع الإسلاميين الذين ينكرون الجهاد العالمى. 

وفى بعض الحالات، عارضت حتى تصنيف مجلس الأمن الدولى لجماعات معينة لارتباطها بتنظيم القاعدة، بما فى ذلك أحرار الشام

مراجعة المفاهيم

فى هذه الأثناء، راجعت حركة أحرار الشام مختلف المفاهيم التى تتبناها الجماعات السلفية الجهادية الأخرى. واستنادًا إلى التراث الإسلامى، جادلت الحركة بأن ادعاءات داعش بالخلافة لا أساس لها من الصحة. 

ومع ذلك، لم تتوقف الحركة عند هذا الحد، بل نبذت المفهوم الضيق لـ«الطائفة المنصورة»، الذى يتبناه السلفيون، لتبرير أن منهجهم فى الإسلام هو وحده الشرعى. 

وبدلًا من ذلك، زعمت أن طبيعة الانتفاضة ضد العدو المهاجم تقتضى وحدة الجميع، حتى أولئك الذين لا يعتنقون المعتقدات الدينية نفسها.

بالإضافة إلى هذه المنشورات، أصدرت الجماعة مجموعة متنوعة من الدراسات التى تبحث فى تركيا ونظام حكمها، والواقع السياسى للثورة، وضرورة الاستفادة من القاعدة الشعبية للجماعة من أجل بناء نظام سياسى مستدام.

يعتقد المؤلف أنه مع ذلك لم يكن تبنى مواقف أيديولوجية جديدة وحده كافيًا لأحرار الشام، لمواجهة التحدى الذى تشكله جبهة النصرة. ومن المفارقات أن جبهة النصرة ستتبنى لاحقًا خطابًا دينيًا وسياسيًا مشابهًا لتبرير مواقفها السياسية بعد عام ٢٠١٧، عندما تحولت إلى هيئة تحرير الشام.

بحلول عام ٢٠٢٤، شهدت حركة أحرار الشام تراجعًا كبيرًا، ما أدى إلى إعادة تموضع دورها فى المقام الأول كقوة عسكرية متحالفة مع هيئة تحرير الشام.

ونتيجة لذلك، اختفت مكانة الجماعة كمشروع سياسى مستقل تقريبًا. وأدى الدور الجديد لهيئة تحرير الشام إلى تهميش حركة أحرار الشام بشكل حاسم، ويرى الباحث أنه رغم التحديات التى واجهتها هيئة تحرير الشام إلا أنها كانت أكثر نجاحًا.

وأدى هذا النجاح فى احتواء منافسيها الأكثر تهديدًا وتحقيق أهدافهم إلى أن تكون الطرف المهيمن فى المعارضة المسلحة، لتتفوق على حركة أحرار الشام فى نهاية المطاف.