الأربعاء 11 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الانهيار.. قصة سقوط «كريدى سويس»

حرف

- كتاب جديد: جشع وتهاون الرؤساء والموظفين دمر البنك.. والتاريخ المضطرب كان مقدمة للانهيار

دفعت كبرى بنوك العالم منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 مليارات الدولارات غرامات لسوء السلوك. عملاء مشبوهون، وغسل أموال، وخرق للعقوبات، وانهيارات تجارية — كل هذا الضرر الذي لحق بالسمعة أضر بمؤسسات مثل باركليز، ودويتشه بنك، وإتش إس بي سي، وحتى جي بي مورغان، التي تُعتبر على نطاق واسع الأفضل في فئتها. لكن لم يكن أحد من هذه البنوك مثل «كريدي سويس».

فعلى مدار عصور، خدمت البنوك السويسرية أغنى أغنياء العالم، متبعة ثقافة صارمة من التكتم على هوياتهم، ومحققة ثروات طائلة في سبيل ذلك. ولكن عندما انهار بنك كريدي سويس، أُسقطت ستارة السرية، وأصبح العالم فجأة مطلعًا على الفساد والفضائح والغطرسة الفارغة التي تبقي أكبر البنوك على قيد الحياة. فهذا البنك السويسرى الذى كان شامخًا فى يوم من الأيام، وصنفته الجهات التنظيمية الدولية ضمن «البنوك الثلاثين ذات الأهمية النظامية العالمية»، كشف انهياره عن انعدام الأخلاق فى قلب النظام المصرفى العالمى.

وبعد أن كان معقلًا للصيرفة العالمية عمره ١٦٧ عامًا، أخفى وجهًا أكثر قتامة وقذارة، فمن مقره الرئيسى فى زيورخ، ساعد المصرفيين الفاسدين على نهب مليارات الدولارات من عملاء البنك، وأشرف كبار مسئوليه التنفيذيين على عملية عالمية لغسل الأموال لصالح المستبدين.

وفى كتابه «الانهيار: الجشع، والفضيحة، وانهيار كريدى سويس» يروى الصحفى الاستقصائى «دنكان مافن» القصة المذهلة للانهيار الكامل والمبتذل لأحد أكبر البنوك وأكثرها نفوذًا وتورطًا فى الفضائح على وجه الأرض.

«دنكان مافن» صحفى مالى دولى مخضرم. عمل محررًا فى صحيفتى «وول ستريت جورنال» و«واشنطن بوست»، وكان المحرر المالى لأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا فى «وول ستريت جورنال». كما شغل منصب مدير تحرير مجموعة «بارونز»، وهو مؤلف كتاب «هرم الأكاذيب»، أما «الانهيار» فهو أول كتاب له ينشر فى أمريكا.

الكتاب، الذى يقع فى ٣٣٦ صفحة، صدر فى مارس الماضى عن دار نشر «بيجاسوس بوكس» الأمريكية المستقلة، وتأتى أهميته فى أنه يسرد عملية انهيار البنك فى مارس ٢٠٢٣، والتى شكلت أكبر صدمة للنظام المصرفى العالمى منذ الأزمة المالية، وأثارت ضجة إعلامية.

لحظة فارقة

تستند الرواية التى جاءت فى الكتاب إلى الادعاء بأن الفضائح المتكررة جعلت انهيار كريدى سويس أمرًا حتميًا، ففى مارس ٢٠٢٣ امتد الذعر بين مودعى البنوك الأمريكية الصغيرة إلى عملاء كريدى سويس. وفى نهاية ذلك الأسبوع استحوذ بنك UBS، المنافس الأكبر، على كريدى سويس مقابل ٣.٢٥ مليار دولار.

يروى مافن، فى كتابه، كيف دمر جشع وتهاون الرؤساء والموظفين البنك، ويشير إلى أن هذا الانهيار كان مخططًا له على مدى عقود، وأن تاريخ البنك المضطرب بأكمله كان مقدمة لهذا الانهيار المذل.

ويصف هذه اللحظة بأنها كانت فارقة فى تاريخ التمويل الأوروبى. فقد انهارت مؤسسة عظيمة ذات تاريخٍ يمتد إلى عام ١٨٥٦ أمام أعين الجميع. وبصفتها بنكًا سويسريًا، كان من المفترض أن تكون مثالًا يحتذى به فى الأمان والسرية.

جذور المشكلة

يعود المؤلف إلى أصول البنك السويسرى العملاق، والذى أنشأه ألفريد إيشر، ابن إحدى السلالات العريقة فى البلاد، كبنك سويسرى للقروض، وهو بنك محلى أُنشئ لإقراض الأموال لدعم نمو السكك الحديدية وتمويل البنية التحتية، التى تشكل أساس سويسرا الحديثة. وذلك تحت اسم «المؤسسة السويسرية للقروض»، لكن استغل كريدى سويس السرية المصرفية على أكمل وجه لجذب أموال من عملاء أثرياء فى دول الجوار، فرنسا وألمانيا وإيطاليا، الراغبين فى التهرب من الضرائب العقابية.

يرى الكاتب أن جذور المشكلة تكمن فى أن كريدى سويس كان منظمة هجينة: بنك خاص سرى، ظاهريًا، رصين، مقره زيورخ، مرتبط بشركة استثمار عالمية «عالية الكفاءة»، تشكلت من استحواذات على بنك الاستثمار «فيرست بوسطن» عام ١٩٨٨ والشركة الاستثمارية المصرفية «دونالدسون، لوفكين وجينريت» عام ٢٠٠٠.

وأن هذه الاستحواذات جاءت بعد أن بدأت عملية «أمركة» كريدى سويس فى الستينيات من خلال علاقة مثمرة مع مكتب زيورخ لبنك الاستثمار الأمريكى «وايت ويلد»، حيث أطلق الأمريكيون إصدارات دولية من السندات، والتى قدمها السويسريون لعملائهم.

وبعد أن تغيرت ملكية «وايت ويلد»، أصبح مشروع مشترك جديد فى شكل كريدى سويس فيرست بوسطن «CSFB» قوة لا يستهان بها فى أسواق رأس المال العالمية، يعمل بها أذكى صناع الصفقات فى ذلك العصر، ويقودها من القمة رئيس مجلس إدارة كريدى سويس «راينر جوت»، وهو رجل دولى ملتزم وشريك سابق فى «لازارد فرير» للاستشارات المالية فى نيويورك.

لكن بدأت الأمور تسوء فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى، عندما أسس راينر جوت مشروعًا مشتركًا مع «فيرست بوسطن»، وهو بنك استثمارى نشيط فى وول ستريت.

يشير «مافن» إلى أن هذا المشروع وانتقال كريدى سويس إلى الولايات المتحدة بعد استحواذه على «فيرست بوسطن» كان سببًا فى العديد من المشاكل، فالسوق المصرفية الأمريكية تختلف اختلافًا كبيرًا عن الثقافة السويسرية المحافظة والمتشددة.

ومع محاولات البنك للنمو بسرعة كبيرة خارج الحدود السويسرية أدى ذلك فى النهاية إلى انهياره، ففى السنوات الأولى تدفقت أموال طائلة، لكن كريدى سويس كان يعمل فى قطاع عالى المخاطر، دون آليات مناسبة لتقييم المخاطر والحد منها.

بل إن هذه الخطوة أثارت فترة من التوسع المفرط والصفقات المشبوهة، بما فى ذلك تحويلات سرية زائفة للأموال لصالح الحكام الديكتاتوريين وزعماء الجريمة.

وقد أدى ذلك إلى سلسلة من الفضائح. يكتب المؤلف: «منذ عام ٢٠١٠ فصاعدًا، دفع البنك غرامات تجاوزت ١٥ مليار دولار بسبب سوء سلوك موظفيه». ومع تزايد الخسائر التشغيلية الناتجة عن الاستثمارات السيئة، شهد البنك تغييرًا كبيرًا فى كبار المديرين التنفيذيين.

فى فترة سبع سنوات، تولى أربعة رؤساء تنفيذيين إدارة البنك. كل هذا أدى إلى انهيار الثقة بالسمعة، وفى عام ٢٠٢٣، هندست السلطات السويسرية على عجل صفقة استحواذ من قبل منافسه القديم بنك «يو بى إس» فى ظل القلق من تفاقم أزمة مالية. ويعلّق الكاتب: «كان لدى كريدى سويس عادة رأسمال كافٍ، لكنه فى النهاية نفدت منه الثقة».

اختلافات ثقافية

يرى «مافن» أن ذراع الخدمات المصرفية الاستثمارية فى كريدى سويس اكتسبت سمعة طيبة بفضل ذكائها وابتكارها- خاصة فى مجال المشتقات المالية- وتركيزها على العملاء، إلا أنها لم تتجاوز أبدًا الاختلافات الثقافية بين زيورخ ونيويورك.

يصور المؤلف ثقافة كريدى سويس على أنها مزيج غير متناسق ومتقلب من الجمود السويسرى والمخاطرة على الطريقة الأمريكية، مغطاة بسياسات مكتبية قاسية أبقت الإدارة العليا فى حالة اضطراب.

وانضم جون ماك، الرئيس السابق لمورجان ستانلى، إلى كريدى سويس عام ٢٠٠١ لإدارة عملياته فى وول ستريت. لكنه رفض تعلم اللغة الألمانية، لغة مجلس إدارة البنك، كما ورد أنه دخل فى صدامات مع أعضاء المجلس فى مناسبات عديدة، وبعد ثلاث سنوات، طرد.

ويلفت المؤلف إلى أنه دائمًا ما تعانى البنوك الأجنبية من أجل ترسيخ وجودها فى وول ستريت. ولم يكن كريدى سويس استثناء. حيث كشف تقرير داخلى صدر عام ٢٠٢٢ عن أن البنك لديه عدد من الموظفين ونفقات مماثلة لتلك الخاصة بجولدمان ساكس، بينما كان يحقق خمس إيرادات جولدمان للفرد.

ويضيف الكاتب أنه فى السنوات العشر التى سبقت انهيار البنك عام ٢٠٢٣، تكبد كريدى سويس خسائر تراكمية تجاوزت مليارى دولار، لكنه دفع حوالى ٣٥ مليار دولار كمكافآت.

هذه المكافآت كانت تشير إلى معاناة البنك من مشكلة فى الإنفاق، ووفقًا لهيئة الرقابة على السوق المالية السويسرية «FINMA»، اتبع كريدى سويس نهجًا سخيًا للغاية فى التعويضات، فقد مُنح الموظفون مكافآت ضخمة، بغض النظر عما إذا كان البنك قد مر بعام جيد أم سيئ.

ويوضح «مافن» أن أحد أسباب انهيار البنك هى الاستثمارات الغبية، مثل شركة إدارة الأصول المشبوهة Archegos Capital، التى كلف فشلها البنك ٥.٥ مليار دولار.

يشير المؤلف إلى أنه كان لدى كريدى سويس ولع بتعيين موظفين فى وول ستريت، مثل ألين ويت وبرادى دوجان، فى مناصب قيادية. وأدى تساهل مجلس الإدارة وهؤلاء الموظفين مع المخاطرة إلى تهورهم.

يقدم الكاتب، أيضًا، قائمة موجزة لأعظم إخفاقات مسئولى الامتثال والمخاطر فى بنك كريدى سويس. وتتراوح هذه الإخفاقات بين مخطط بونزى فى سبعينيات القرن الماضى، موّله متهربون من الضرائب الإيطاليون، وحادثة «أرشيجوس» فى عام ٢٠٢١، وهى حادثة شهيرة تورط فيها عميل صندوق التحوط فى نيويورك، أركيجوس.

يرى «مافن» أن تيجان ثيام، الفرنسى الإيفوارى الذى أدار البنك من عام ٢٠١٥ إلى عام ٢٠٢٠، ساهم فى استقرار كريدى سويس ماليًا، لكنه أثار حفيظة حلفائه المحتملين بأسلوبه الرئاسى فى القيادة. فمن الجيد أن تكون أكثر ذكاء وجاذبية من زملائك، لكن من الخطر المبالغة فى إظهار هذه التفاوتات.

وقام «ثيام» بالعمل على تحويل مسار الأعمال، حيث أنشأ هيكلًا جديدًا للإبلاغ، وكبح جماح بنك الاستثمار. ويعتقد المؤيدون له أن حل المشاكل قد قُوض من قبل المدراء المتوسطين الأنانيين ونخبة رجال الأعمال فى سويسرا، الذين شاب عدم ثقتهم به العنصرية.

لكن بعد تهديده بالفصل عام ٢٠٢٠، استقال وحل محله توماس جوتشتاين، وهو سويسرى متواضع.

فضيحة التجسس

يحكى المؤلف أن إقبال خان كان فى قمة نجاحه عام ٢٠١٥، فهو شاب يبلغ من العمر ٣٤ عامًا، انتقل من باكستان إلى سويسرا فى سن المراهقة، وتمت ترقيته إلى رئيس إدارة الثروات الدولية فى بنك كريدى سويس. يعلّق الكاتب: «حتى خان صدم من صعوده السريع. لكن نجاحه لم يدم طويلا».

خان، الذى كان ينظر إليه على نطاق واسع على أنه «ولى عهد» كريدى سويس، والرئيس التنفيذى المنتظر، سرعان ما تورط فى واحدة من أغرب الفضائح فى تاريخ القطاع المالى العالمى، «فضيحة كشفت عن الغيرة والغرور والخيانة التى اتسم بها البنك فى كثير من الأحيان»، يكتب مافن. عرفت القضية باسم «فضيحة التجسس».

بعد بضع سنوات فقط من صعوده المذهل داخل كريدى سويس، أدرك خان أنه ملاحق من قبل محققين خاصين، عينهم مسئولون تنفيذيون فى البنك. كانوا جزءًا من فريق يتتبع خان منذ أسابيع.

يقول المؤلف: «راقبوه فى منزله، أثناء ركضه، وأثناء احتساء القهوة مع زملائه السابقين. كانت مهمتهم التقاط صور وتسجيل أدلة عن أى شخص التقى به خان»، بمن فى ذلك أطفاله.

أُجرى التحقيق بدافع الشكوك فى أن خان قد يحاول استقطاب أفضل زملائه ونقلهم إلى بنك منافس. ورغم أن تيجان ثيام، الرئيس التنفيذى للبنك، لم يقر علنًا بالمخطط، إلا أنه تذمر خلف الكواليس من أن «عمليات التجسس كانت غير احترافية»، وفقًا للكاتب.

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه بعد أسابيع فقط من كشف فضيحة التجسس، انتحر المستشار الذى دبر عملية المراقبة فى ظروف غامضة.

يعلق مافن: بالنسبة لأى بنك آخر، لربما كانت الفضيحة كفيلة بتدميره. لكن بالنسبة لبنك كريدى سويس، أحد أكبر بنوك العالم، سارت الأمور على ما يرام. كيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟

يوضح المؤلف أن البنك، الذى تأسس فى سويسرا، «كان راسخًا فى الاقتصاد العالمى. كان عملاؤه من أصحاب المليارات والشركات متعددة الجنسيات. موّل استثمارات ضخمة فى البنية التحتية، وقدّم قروضًا للشركات والحكومات على حد سواء. كان أكبر من أن يفلس».

ويستكمل مافن: حتى فضيحة التجسس عام ٢٠١٩ لم تكن حادثة منفردة. فقد كشف تحقيق أجرته السلطات عن أدلة إضافية على تعقب محققين خاصين موظفين آخرين، بالإضافة إلى طليقة شريك الرئيس التنفيذى.

وكشف التحقيق عن أدلة على وجود سبعة برامج تجسس منفصلة، كان العديد من أعضاء المجلس التنفيذى لبنك كريدى سويس على دراية تامة بها. لكن «لم يوثق أى شىء رسميًا»، حسب المؤلف.

فقد تواصل المدراء التنفيذيون «عبر حسابات واتس آب شخصية أو عبر رسائل نصية بعيدة عن متناول الجهات التنظيمية. وفى إحدى الحالات، تم تعديل فاتورة لإخفاء ارتباطها بتكلفة توظيف جواسيس».

ملاذ آمن

يرى الكاتب أن البنوك السويسرية وفرت «ملاذًا آمنًا لكل من يرغب فى ادخار ثروته بعيدًا عن أعين أعدائه المتطفلين».

وكان من بينهم لصوص وحكام مستبدون ورجال أقوياء وحشيون ومسئولون فاسدون. والأمر الأكثر فظاعة هو أنهم عملوا أيضًا وسطاء للنازيين والفاشيين، خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، حيث كانوا يستولون على الذهب وغيره من المقتنيات الثمينة المسروقة من اليهود ويطهرونها «من وصمة النازية»، وفقا لمافن.

كان لدى رادو ليكا، الضابط النازى البارز فى رومانيا، والديكتاتور الإيطالى بينيتو موسولينى، حسابات لدى بنك كريدى سويس. ويذكر المؤلف أن أحد فروع البنك فى نيويورك ساعد الألمان على «إخفاء الملكية الفعلية» لودائعهم.

يلفت «مافن» إلى أن تحت غطاء قوانين السرية المصرفية السويسرية اتضح أن كريدى سويس وآخرين كانوا يفرضون رسومًا على مئات الآلاف من الحسابات- ربما مليون منها- التى كانت مملوكة لضحايا الهولوكوست، ويستنزفون أموالهم بشكل ممنهج.

أسرار سويسرا

يستكمل المؤلف روايته فيقول: فى فبراير ٢٠٢٢، سربت مجموعة تدعى «مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد» معلومات عن ١٨ ألف حساب من البنك السويسرى، أطلق عليها اسم «أسرار سويسرا».

وأظهرت الوثائق أن كريدى سويس «أودع فيه عشرات الشخصيات غير المرغوب فيها، بمن فى ذلك إيطالى متهم بغسل أموال إجرامية، ومدير تنفيذى ألمانى رشى مسئولين نيجيريين للحصول على عقود اتصالات».

ثم فى أبريل ٢٠٢٣، كشف النقاب عن معلومات جديدة تفيد بأن البنك لم يغلق حسابات مع مئات المسئولين النازيين، بمن فيهم مسئول حُكم عليه فى نورمبرج بألمانيا، إلا قبل بضع سنوات فقط.