الجمعة 06 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

تجربة النشوة.. كيف يكون التصوف أسلوب حياة؟

حرف

- كيف يمكن أن تعيش حياة أكثر عمقًا وحرية من خلال احتضان طيف التجربة الصوفية؟

- المؤلف: الاهتمام الواسع بالتصوف فى السنوات الأخيرة يعود إلى القلق خلال فترات التغيير الثقافى الحاد

- كتاب يستكشف تاريخ التصوف وممارسته من أصوله فى الديانات وصولًا إلى الحداثة

التصوف ظاهرة قديمة بقدم البشرية نفسها، على الرغم من عصيانه الشديد للتعريف العقلانى، إلا أن الناس منذ ألف عام حاولوا وصف هذا النوع الغريب من النشوة وتفسيره، والذى قالت عنه الكاتبة والداعية الكاثوليكية إيفلين أندرهيل عام 1911 بأنه «تجربة فى أشد صورها». هذه التجربة سواء تم اعتبارها دينية أو روحية أو جمالية، فهى تعزز حواس الإنسان وذاته إلى شعور حى خالص، وتتيح سبيلًا عمليًا لتوسيع مداركنا وتعميق إدراكنا لحياتنا، سواء من خلال اتصال عام بالله أو من خلال المشاركة فى تجارب تغير العقل.

والرابط المشترك بين كل الديانات الإبراهيمية - اليهودية والمسيحية والإسلام - هو أن لها مسارًا صوفيًا للتركيز على والسعى وراء تجربة شخصية ومباشرة لحضور الله.

ويطلق اليهود على تقاليدهم الصوفية اسم «القبالة»، أما فى الإسلام والمسيحية فهذه التجربة تعرف باسم التصوف، وفى المسيحية كان هذا المسار يطلق عليه حتى القرن السادس تقريبًا اسم «التأمل».

وفى كتابه «عن التصوف: تجربة النشوة» يستكشف أستاذ الفلسفة الإنجليزى سيمون كريتشلى تاريخ التصوف وممارسته، بدءًا من أصوله فى الديانات الشرقية والغربية، مرورًا بارتباطه بالمعرفة الباطنية والغيبية، وصولًا إلى الحداثة مع ت. س. إليوت وآخرين. 

سيمون كريتشلى، يبلغ من العمر ٦٥ عامًا، وهو أستاذ فلسفة هانز يوناس فى المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية فى نيويورك، بالولايات المتحدة الأمريكية. ومدير مؤسسة أوناسيس. ألف أكثر من عشرين كتابًا، منها دراسات عن كرة القدم، والانتحار، وشكسبير، وكيف يموت الفلاسفة؟.

الكتاب الذى يقع فى ٣٢٥ صفحة، صدر بنهاية أكتوبر ٢٠٢٤ عن دار نشر «بروفايل بوكس» الإنجليزية، وتأتى أهميته من كونه سردًا نهائيًا لسعى البشرية لفهم الله، ودعوة للمفكرين فى كل مكان لتوسيع عقولنا نحو حياة أكبر من أنفسنا وأكثر عمقًا وحرية، من خلال احتضان طيف التجربة الصوفية.

إهمال عصرى

يقول المؤلف عن الأسباب التى دفعته إلى إعداد كتابه: «أنا منجذب بشدة إلى الطريقة التى يختبر بها الصوفيون ما يختبرونه، ثم يفكرون ويتحدثون ويكتبون عنه. لكن قد يكون وصفه صعبًا للغاية، خاصة للعيون المتشككة التى قد ترى الصوفيين مجانين، وهم كذلك نوعًا ما. مجانين بالله (أيًا كان هذا الإله)».

ويضيف: هناك الكثير من التصوف أكثر من أى وقت مضى فى السنوات الأخيرة، فهذا الاهتمام الواسع يعود إلى ذلك القلق الميتافيزيقى الذى يتصاعد خلال فترات التغيير الثقافى الحاد.

ويوضح أن التصوف قد أُهمل وتم تجاهله فى الفلسفة الحديثة «مع استثناءات نادرة مثل نيتشه وجورج باطاى»، التى يفضل تحيزها العقلانى والرصانة والاجتهاد والدقة. ويرى فى كتابه محاولة للتصدى لهذا الإهمال العصرى.

يحاول الكاتب إيجاد تعريف محدد لمفهوم التصوف، فيشير إلى أنه يرفض أن يقيد، وفى عام ١٩١١ وصفته الكاتبة الإنجليزية إيفلين أندرهيل بأنه «سعى روحى غير ملموس: إيجاد مخرج أو طريق عودة إلى حالة مرغوبة لا يستطيع فيها المتصوف إلا إشباع شغفه بالحقيقة المطلقة». 

وفى صياغة سابقة، وصف ويليام جيمس التجارب الصوفية بأنها تلك التى «ينكشف فيها فجأة شعور بعظمة هائلة». بالنسبة للمتشكك، «التصوف» مجرد كلمة أخرى للتضليل. أما بالنسبة للمؤمن، فهو نقيض التضليل: ليس طمسًا للواقع، بل توضيح له، اتحاد بالله، أو بالكون، يفرغ الذات ويعيد تشكيلها.

يكتب كريتشلى أن التصوف «قد يسمح لنا بمقاومة ضغط الواقع العنيف، ويسمح بثراء الحياة، وربما بتحول الذات والعالم». لكن التصوف لا يدعى مقاومة الواقع، بل يدعى كشف الحقيقة، وتمكيننا من رؤية الأمور، كما هى لو كانت لنا أعين نبصر بها.

يلفت المؤلف إلى أن التصوف هو «ميل، خلاصة لممارسات عبادية قائمة، وتفسير للنصوص، وتعليم لاهوتى، وتأمل مفاهيمى وفلسفى». يؤطر الكاتب التصوف كحوار بين «الطريق الإيجابى» و«الطريق السلبى»، أو بين ما هو كائن وما هو غير كائن. 

ويلاحظ أن التصوف أدائى، بمعنى أنه شكل من أشكال التعبير، لا يقتصر على تسجيل تجربة المتصوف، بل ينتجها أيضًا. أشكال جديدة منها ربما لم تُعش من قبل.

يرى كريتشلى أن التصوف شىء نعرفه عمليًا، أى من خلال الكتابة. وأن الكتابة الصوفية هى تباين، حيث يكون وجود المتكلم كفاعل نتيجة للكلام، ممكنًا من خلال الآخر الذى يتحدث من خلال الفاعل، والذى عادة ما يكون هذا الآخر هو الله. 

ويشير المؤلف إلى أنه يستحيل الكتابة عن التصوف دون الكتابة عن الكتابة. يكتب المتصوفون فى مفارقات وسلبيات؛ تنهار الكلمات وتسقط فى ذاتها. قراءة النصوص الصوفية هى خوض غمار تراكم الاقتباسات - الاستعارات، والمرايا، والتكرارات - وفى الوقت نفسه نزع «الأنا». 

يقتبس الكاتب من الكاتبة آنى ديلارد قولها إن الكتاب فتيل شمعة، بينما كلماتهم هى اللهب: «عندما تحترق الشمعة، من ينظر إلى الفتيل؟».

ويضيف: «الكتابة هى محاولة إشعال النار فى نفسك، والسعى إلى التضحية بنفسك. لا يهم اسم الكاتب أو الفنان أو هويته أو دواخلهم أو ذاتيتهم على الإطلاق».

هذا القول يتعلق بالكتابة، صحيح، ولكنه يتجاوز ذلك بكثير. إنه يتعلق بعيش حياة ذات معنى. يجادل كريتشلى بأن هذه الحياة تتطلب إخلاصًا حارًا لشغف المرء، وحرفته، وإلهه. إنها حياة تفقد فيها الذات بطريقة صوفية.

نشيد الأنشاد

يركز الكتاب على التصوف المسيحى، ويرى المؤلف أن أهم نص فى التصوف اليهودى والمسيحى، هو سفر نشيد الأنشاد، من أسفار العهد القديم.

ويوضح الكاتب أن فى اليهودية، يفسر نشيد الأنشاد مجازيًا، ليس على أنه حب بين فتاة وشاب، بل على أنه حب إسرائيل لله وشعبه المختار. أما فى المسيحية، فيعتبر نشيد الأنشاد الكتاب الصوفى الأسمى، حيث تحل الكنيسة محل إسرائيل، ويتحول العاشقان إلى الله فى شخص المسيح، وتتجلى روحهما من خلال جماعة الكنيسة. 

ويصبح السفر أنشودة حب بين المسيح والروح. ويلفت كريتشلى إلى أنه يمكن فهم التصوف المسيحى على أنه تأمل ممتد لآلاف السنين فى معنى هذا الحب.

حالة التسامى

يكتب المؤلف لإدراك كيف يتسلل الفن إلى حياتنا ويغيرنا، مسلطًا الضوء على الترابط بين الجماليات والعاطفة والتسامى. ويتوج اهتمامه بالجماليات بهذا السؤال: «هل يمكن القول إن التصوف يبقى حيًا فينا فى تجربة الفن، وباعتباره تجربة فنية، بأى ثمن؟».

ويجادل بأن التصوف، بمفهومه الجمالى الصرف، هو خسارة. وبدلًا من ذلك، يحث القارئ على التفكير فى كيفية تسجيل الكتابة الصوفية للتجربة وإنتاجها لها. فى النصوص الصوفية، نجد علاقة جدلية، لا ثنائية، بين الإيمان والجماليات، بين الروح والمادة. 

فنحن «نفترض أن تجربة الفن تتضمن تجربة مقدسة، حيث تنبض الأشياء بالحياة، وننبض نحن بالحياة فى عملية الملاحظة، والحضور، والمشاهدة، والاستماع، أو القراءة». هذا الشعور «بالحيوية» هو المفتاح.

ويستكمل الكاتب توضيح هذا الشعور الذى يصفه بتجربة النشوة أو الذروة، وهى حالة التدفق أو التسامى التى اختبرها معظمنا فى مرحلة ما من حياتنا، عند تسلق الجبال أو ركوب الأمواج أو ممارسة تأمل عميقة، أو ربما ببساطة ذلك الشعور الذى ينتابك على المسرح فى حفل موسيقى رائع.

وهو أمر كتب عنه الناس واستكشفوه لقرون. فى الواقع، هناك تقليد كامل من التفكير الصوفى يحاول فهم هذه التجارب وتقديم مخططات لتحقيقها. 

فهذه التجربة معقدة وغامرة كالتى صورت كلاسيكيًا فى غلاف الكتاب لتمثال القديسة تريزا الشهير للنحات الإيطالى برنينى، والذى تم نحته فيما بين عامى ١٦٤٧ و١٦٥١ بتكليف من الكاردينال كورنارو، حتى يتم وضعه على قبره أينما يكون فى كنيسة القديسة ماريا دى فيكتوريا فى روما، حيث يوجد بالفعل فى الوقت الحالى.

ويصور التمثال قصة عشق صوفية روتها الراهبة الإسبانية الشهيرة القديسة تريزا الأفيلية فى كتاب سيرتها الذاتية، والتى عاشت فى فترة شهدت أوروبا خلالها الكثير من الاضطرابات الدينية والسياسية، وكانت حياتها مضرب المثل فى الزهد والتقشف.

قوة الخيال

يستمر كريتشلى، فى شرح فكرة النشوة التى يدور جزء كبير من الكتاب حولها، فالممارسات الصوفية تتيح لك التحرر من عاداتك التقليدية، وأوهامك وتخيلاتك المعتادة، ورؤية ما هو موجود، والوقوف معه بنشوة.

حيث إن هذه النشوة مشتقة من الكلمة اليونانية «إكستاسيس» التى تعنى «الوقوف خارج الذات»، وتعرف التصوف. فخوض تجربة صوفية يعنى الخضوع لتحول جذرى فى الذات: إصلاحها، وتجاوزها، والتغلب عليها، وتركها وراءك، أو إبادتها.

والهدف النهائى منه هو وجود متحرر، حيث يحرر التفكير من طغيان الإرادة. فى جوهر التصوف فكرة الحرية، وهى ليست حرية الإرادة، بل حرية من الإرادة. هذا ما يعنيه الوجود المطلق - التحرر فى الانفتاح.

وعن أثر التصوف، يقول المؤلف إنه يسمح لنا بالابتعاد عن العالم الذى يغمرنا - بضجيجه اللامتناهى وإشعاراته وتحديثاته وأخباره السريعة - باستخدام قوة الخيال. يحارب التصوف العالم بالتعاطف واللطف.

حيث يعطى التصوف إحساسًا مختلفًا تمامًا بالبيئة التى نعيش فيها. له دلالات بيئية، بيئة أقل مركزية على الإنسان وأكثر اتساعًا وغنى بالحياة - حياة الإنسان، وحياة الحيوان، وحياة النبات، وحياة الأشياء، وحياة الله. بالنسبة للمتصوف، كل شىء له قدرة على الفعل، وكل شىء حى.

العصور الوسطى

ويرجع الكاتب ممارسات التصوف إلى العصور الوسطى: القراءة، والتأمل، والصلاة، والتأليف. ويقول إن كل شىء هنا يبدأ بالقراءة.

كل شىء فى الحقيقة يبدأ بالقراءة. لم يكن المتصوفون مجرد أشخاص خاضوا هذه التجارب الغريبة والمتطرفة، بل كانوا أناسًا بدأ كل هذا بالنسبة لهم بقراءة النصوص.

لذا، من نواحٍ عديدة، فإن أسهل طريقة لوصف كيف تصبح متصوفًا هى القراءة، بأن تسمح لشىء ما، نص ما، أن يجذب انتباهك بصدق، وأن تسلط عليه طاقتك. ليس بالضرورة أن تسأل دائمًا عن مدى صحته أو منطقيته، بل أن تحاول الدخول إلى عالمه. 

ويستعرض كريتشلى فى بحثه، صوفيات العصور الوسطى المبكرة - معظمهن نساء أوروبيات مثل كريستينا المذهلة (١١٥٠-١٢٢٤ ميلادى) و ميشتيلد من ماجديبورج (حوالى ١٢٠٧-١٢٨٢ ميلادى).

لكن بطلته الأساسية فى الكتاب هى الناسكة الإنجليزية جوليان النورويتشية (حوالى ١٣٤٢-١٤١٦)، خاصة عملها الذى يوثق الرؤى الصوفية، والذى استوحيت منه عبارتها الأكثر رقة وخلودًا: «كان لا بد من وجود خطيئة؛ ولكن... كل شىء سيكون على ما يرام».

ويصف الكاتب جوليان بأنها عقل جرىء استثنائى، يعيد صياغة مجموعة كاملة من الأفكار اللاهوتية ببراعة وجرأة لا تزال تدهش، وأنها «منشط علاجى ضد الاكتئاب»، ويلخص رؤيتها المركزية فى القناعة بأن «الحب يسبق الخلق».

يلخص كريتشلى ذلك بقوله: «إن تفكك الذات يتيح لنا رؤية الحب الذى لا نهاية له». ولا علاقة لهذا بكراهية الذات المرضية»، ويوضح أن شعارها «كل شىء سيكون على ما يرام» يقول إن شيئًا ما فينا لا يبتعد أبدًا عن الله؛ والخليقة ليست بعيدة عنه، لأن الله هو طاقتها الداعمة ومركزها دائمًا. الله ليس بحاجة إلى أن يستمال أو يستغل ليحب أو يغفر، المشكلة تكمن فى حيرتنا وخوفنا.

وفى نهاية الكتاب، نجد أنفسنا أمام الحب: «ما يقدمه التصوف هو ارتقاء وتحول للحب». الحب، بالنسبة لكريتشلى، هو «عملية تجريد، واستئصال، وتمزيق، تفتح لنا آفاقًا تتجاوز الذات وعالم المعرفة». الحب هو جوهر التصوف. والتصوف هو «الجوهر النارى والقلب النابض» للدين ولكل وجود.