الأربعاء 10 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

عقل حسام بدراوى.. الفيلسوف الذى يحلم بصناعة «المصرىّ الأعلى»

حرف

- لماذا يحاور الفلاسفة؟.. ماذا يريد من نيتشه؟.. وهل تصلح الثقافة عطب السياسة؟

- جاب ميادين الدراسة وخاض معارك العمل الطلابى وأبحر فى فضاءات الفكر الحر والفلسفة 

- كتابه الأخير «نيتشه فى الإسكندرية» يثير عاصفة تساؤلات حول الإنسان والكون والألوهية

ما الذى يفعله الدكتور حسام بدراوى اليوم؟!- يتساءل قارئ متأمل- فالرجل الذى يحمل بين ضلوعه 74 عامًا من المجد الخالص، لا يزال يبحر فى عوالم الفكر والبحث والتأمل، باحثًا عن أجوبة مفقودة، لا فى دهاليز السياسة وحدها، بل فى أسرار الكون والوجود والحياة.

وعند زاوية ما فى فضاء الشبكة العنكبوتية، يطل موقع بسيط يحمل اسمه، تتصدره أيقونة صغيرة بعنوان «سيرة ذاتية»، لكن اللافت ليس فى العنوان، بل فى طريقة السرد الموجزة والمكثفة لمسيرة عملاقة لرجل عملاق جاب ميادين الدراسة والعلم، وخاض معارك العمل الطلابى، وأبحر فى فضاءات الفكر الحر والفلسفة والإبداع المهنى، حتى غدا صاحب إنجازات تُبهر من يتوقف أمامها، كان آخرها كتابه الصادر حديثًا «نيتشه فى الإسكندرية».

ومع ذلك، حين نتتبع الخيط الخفى الذى يشدّ مكونات هذه السيرة الذاتية جميعها المليئة بالمناصب والألقاب، ندرك أن أثمن ما يملكه حسام بدراوى هو عقله، الذى ظلّ على الدوام منارةً للبحث والتأمل ومختبرًا للأفكار الكبرى التى تتجاوز حدود السياسة إلى رحابة الحياة والإنسان والكون.

صانع المجد

وُلد الدكتور بدراوى فى مدينة المنصورة فى الأول من سبتمبر عام ١٩٥١، لينشأ فى بيئة مصرية أصيلة قبل أن ينتقل مع أسرته عام ١٩٦٠ إلى القاهرة حيث التحق بمدرسة الأورمان، وهناك بدأت ملامح شخصيته تتشكل بين الدراسة والنشاط الرياضى، حتى اختاره الكابتن الجوهرى عام ١٩٦٧ للعب فى صفوف أشبال نادى الأهلى، فى تجربة مبكرة أكسبته روح الفريق والانضباط.

فى عام ١٩٧٤ تخرج فى كلية الطب بجامعة القاهرة، قسم أمراض النساء والتوليد، ليُعيَّن معيدًا فى الكلية، فاتحًا بذلك مسارًا أكاديميًا طويلًا، وسرعان ما واصل دراساته العليا فى الولايات المتحدة، حيث حصل عام ١٩٨١ على شهادات متقدمة من جامعة واين ستايت بميتشجان، ثم من جامعة نورث ويسترن بشيكاغو، قبل أن ينال عام ١٩٨٣ دبلومًا فى وضع المناهج التعليمية من جامعة بوسطن.

لم يكن نشاطه مقتصرًا على المجال الأكاديمى؛ ففى عام ١٩٨٤ أنشأت أسرته مستشفى النيل بدراوى، التى أصبحت واحدة من أكبر مؤسسات الرعاية الصحية فى مصر، وبعدها بـ٥ سنوات، أسس مع أسرته أول شركة تأمين صحى ورعاية متكاملة فى مصر تحت اسم «ميدى كير الشرق الأوسط»، فاتحًا الباب أمام نموذج جديد فى الخدمات الطبية.

وامتد نشاطه إلى المجال الرياضى والاجتماعى، حيث انتُخب عام ١٩٩١ عضوًا فى مجلس إدارة نادى الأهلى فى أول مجلس للكابتن صالح سليم، محققًا أعلى عدد من الأصوات، ثم واصل نشاطه الطلابى بتأسيس «أسرة أحفاد الفراعنة» عام ١٩٩٤، والتى ضمت عشرات الآلاف من الطلاب، قبل أن يؤسس جمعية «الحالمون بالغد» عام ١٩٩٦، التى نظمت أكبر مؤتمر شبابى عام ١٩٩٨ بحضور ١٥٠٠ شاب. وفى عام ١٩٩٨ شارك مع نخبة من الخبراء فى تأسيس منتدى مصر الاقتصادى الدولى.

مع مطلع الألفية، دخل «بدراوى» الحياة البرلمانية، فانتُخب عام ٢٠٠٠ عضوًا فى مجلس الشعب عن دائرة قصر النيل ورئيسًا للجنة التعليم، وفى عام ٢٠٠٤ تولى رئاسة لجنة الحقوق الاجتماعية وعضوية المجلس القومى لحقوق الإنسان، أما عام ٢٠٠٧ فكان عامًا فارقًا؛ إذ انتُخب عضوًا فى مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية، ونال الدكتوراه الفخرية فى العلوم من جامعة ساندرلاند البريطانية، وأصبح عضوًا فى مجلس الشورى، ثم أسس عام ٢٠٠٨ مؤسسة النيل بدراوى للتعليم والتنمية، التى ركزت على تطوير التعليم وسياساته.

فى عام ٢٠١١ نشر كتابه «التعليم: الفرصة للإنقاذ»، مقدّمًا رؤية شاملة لإصلاح التعليم فى مصر، وخلال ثورة يناير، عُيّن أمينًا عامًا للحزب الوطنى لكنه استقال بعد خمسة أيام لعدم الاستجابة لمطالب الشباب. وفى العام نفسه انتُخب رئيسًا لجمعية «تكاتف للتنمية»، التى تميزت بتسليم الدولة مدرسة جديدة كل سبعة أشهر.

وتوالت إنجازاته الأكاديمية؛ ففى عام ٢٠١٣ نال الزمالة الفخرية من جامعة كارديف متروبوليتان تقديرًا لجهوده فى سياسات التعليم، كما اُختير محاضرًا سياسيًا فى جامعة روما ٢. وفى عام ٢٠١٦ تولى رئاسة اللجنة الاستشارية لمشروع «التعليم أولًا»، ورئاسة لجنة وضع رؤية مصر ٢٠٣٠ فى التعليم.

ولم يتوقف عطاؤه الفكرى؛ ففى عام ٢٠٢٠ أصدر كتابه «على مقهى الحالمون بالغد»، ثم فى عام ٢٠٢٢ نشر كتابين هما «حوارات مع الشباب لجمهورية جديدة» و«دعوة للتفكير»، كما اختير مستشارًا للحوار الوطنى لرؤية مصر ٢٠٣٠، وفى عام ٢٠٢٣ أصدر كتاب «أنا والميمات»، ليعود عام ٢٠٢٤ بثلاثة كتب جديدة «الجرأة على التفكير»، و«مصر التى فى خاطرى»، و«الكيميرا».

هل يهتم خالق الكون بنا؟

نعود إلى سؤال القارئ المتأمل: ما الذى يفعله حسام بدراوى بعد كل هذا المجد المتراكم؟ فإذا بنا نفاجأ بعنوان جديد يطلّ علينا كشرارة فكرية مثيرة ومفجرة للانبهار والأسئلة، كتابه الصادر حديثًا «نيتشه فى الإسكندرية»!

نعم، نيتشه! ذلك الفيلسوف الألمانى الذى حيّر العالم وقلب موازينه الفكرية فى لحظة امتدت لتصبح قرونًا من الجدل والبحث، الفيلسوف الذى غاص فى أعمق المناطق الشائكة من فلسفة الكون والخلق والألوهية وقضايا الميتافيزيقا، وترك وراءه طوفانًا من الأسئلة المفتوحة أكثر مما ترك من الإجابات، واليوم، فى عام ٢٠٢٥، يأتى حسام بدراوى ليشتبك معه من جديد.

يتحدث الدكتور حسام بدراوى فى مقدمة كتابه عن الهدف من وراء كتابته قائلًا: «لا أطرح فى هذا الكتاب إجابات نهائية، بل أفتح أبواب الأسئلة. أحاول أن أكون شاهدًا مفكرًا، لا مدّعيًا للحقيقة ولا متعاليًا على الواقع. إن ما يجمع بين هذه الصفحات هو الإيمان بأن الفكر أداة للتحرر، وأن الإنسان فى جوهره سؤالٌ مستمر، وضميرٌ حىّ، وعقلٌ يبحث عن الضوء. هذا الكتاب محاولة للفهم ودعوة للنظر».

ويرسم «بدراوى» خريطة لمحتويات الكتاب قائلًا: «الفصل الأول هو ثقبٌ فى الزمكان... وجسر بين العقول، حيث دار حوار على طاولة (الحالمين بالغد) فى مكتبة الإسكندرية مع الفلاسفة عبر التاريخ. فى حضرة الوعى، سرنا معًا فى رحلة إلى قلب الحقيقة؛ رحلة بدأت بالسؤال، وانتهت بالذوبان فى دهشة الوجود».

ويضيف: «طرحنا الأفكار واستدعينا أرسطو وابن رشد، تحاورنا مع ابن خلدون وابن سينا. ثلاثة فلاسفة نعلّق صورهم فى كتبنا ونفتخر بإنجازاتهم فى تاريخنا: ابن رشد، ابن خلدون، وابن سينا. لكن ما لا يعرفه كثيرون أن هؤلاء لم يكونوا عربًا بالمعنى العِرقى؛ فابن رشد أمازيغى أندلسى، وابن خلدون من أصول بربرية، وابن سينا فارسى. ومع ذلك حملوا لواء الفكر بلغتنا، وكتبوا أعظم أعمالهم فى حضارة إسلامية نكّلت بهم فى زمانهم: كُفّروا، نُفوا، أُحرقت كتبهم، وسكتت عنهم العصور طويلًا.. ثم عادوا بعد قرون رموزًا نحتفى بهم ونحن لا نقرؤهم».

ويتأمل «بدراوى» فى أبعاد الكون، قائلًا: «فى حوارى مع الزمان والمكان قلت لهما: أنتما من صنعتما سجنى، أنتما من قيدتما فكرى منذ وُلدت. متى بدأتما؟ ومن صنعكما؟، فيرد الزمان: أنا لا أبدأ ولا أنتهى، أنا حركة تجربتك نفسها. وجودى يبدأ حين تتوالى لحظات وعيك، كل لحظة شعور لديك تصنعنى. ويضيف المكان: وأنا لست إلا وهم الثبات، ترتيب للعلاقات، لا وجود لى دونك. أنت تعرّفنى كلما قلت: هذا هنا، وذاك هناك»».

ثم ينتقل إلى الفصل الثانى من الكتاب والمعنون بـ«مستقبل البشرية»، حيث يطرح تصورًا متعمقًا عن التحولات الكبرى المقبلة، ويثير نقاشات حول العلاقة بين الإنسان والآلة، الهوية والقيم، الدين والروحانية، والسياسة فى عالم قد يختلط فيه الحقيقى بالافتراضى، وتصبح فيه الإنسانية على المحك. 

ويكمل: «الحقيقة ليست شيئًا واحدًا، بل متعددة الأوجه؛ نسبية فى إدراكنا، ومطلقة فى جوهرها. نعيش فى عالم تخلقه حواسنا وتعيد تشكيله عقولنا، وربما لا نصل يومًا إلى (الواقع كما هو)، بل إلى (الواقع كما نستطيع إدراكه)، إننا مجرد لقطة فى فيلم كونى لا ندرك بدايته ولا نهايته. فهل وعينا ذاته حقيقة أم وهم منظم؟ وهل نعيش الواقع فعلًا أم محاكاة له؟».

أما الفصل الثالث وعنوانه: «الإنسان والكون والوعى»، فيقول عنه: «طرحنا فيه أفكارًا حول الازدواجية فى النفس البشرية، وتنوير الإنسانية، وتساءلنا حول من يصنع التاريخ، وهل يهتم بنا خالق هذا الكون اللا نهائى». 

ويواصل: «تساءلت عن الحياة التى تسكننا، وعن تريليونات البكتيريا والفيروسات التى تعيش داخل أجسادنا، وتصورت حوارًا بين خليتين من الخمسين تريليون خلية التى تكوّن الإنسان؛ مما دفعنى للتساؤل: هل يمكن أن يكون الكون كائنًا حيًا ونحن فيه مثل خلية داخل جسده؟».

موت الإله

يتساءل المفكر والكاتب المغربى الدكتور خالد فتحى عن السبب الذى دفع حسام بدراوى للاشتباك مع نيتشه تحديدًا، فى كتاب يراه جديرًا بأن يستغرق من وقت قارئه ما يليق بجدته، وأن يكلفه من الجهد ما يستحقه من اهتمام وتدبر، فالدكتور بدراوى، كما يصفه «فتحى»، قد صب فى هذا العمل عصارة حياة ثرية متعددة الأبعاد، تغذت من الفكر والسياسة والطب، وامتدت إلى الأدب والفن والتأمل الفلسفى. يقول «فتحى»: «يقيم حسام بدراوى حوارات حية مع هؤلاء العظام، فيُنطقهم ويستفتيهم من جديد، عارضًا عليهم آلام الأمة وأدواء العصر. هكذا تتوالى على الصفحات أسماء أعلام كبار: سقراط، ابن رشد، ابن خلدون، ابن سينا، جون لوك، مكياڤيلى، آينشتاين، راسل، هوكنغ.. وغيرهم من الرواد الذين شكّلوا الوعى الإنسانى عبر التاريخ».

ويتابع: «بهذا المعنى، لسنا أمام عمل فردى، بل أمام عمل جماعى لعقول جبارة استعار فيلسوفنا أقوالها وأفكارها. لكن بين كل ضيوفه الفلاسفة، يختار نيتشه ليبوّئه الصدارة، ويمنحه شرف العنوان، مقيمًا معه الحوار المركزى فى رحاب مكتبة الإسكندرية، وقد بعثها من جديد مسرحًا للمناظرات والتفكر وإعادة بناء الإنسان». أما عن تناوله لفكرة «موت الإله» فى فكر نيتشه، فيوضح «فتحى»: «تناولها لا كموت فيزيقى، بل كتحرر من التواكل، وانتصار للإنسان الفاعل القادر الباحث عن معنى دنيوى متجدد. موت الإله، كما ينبغى أن نفهمه، ليس موتًا ماديًا، وإنما مجاز واستعارة تفيد انتصار الإنسان الصانع على الإنسان الساحر، وانتصار الإنسان الدنيوى على الإنسان الخرافى، ضحية الأوهام والأفاقين». ويخلص «فتحى» إلى أن «القارئ سيكتشف أن تركيز (بدراوى) على نيتشه لا يعنى الدعوة إلى الفوضى أو الثورة العمياء، بل إلى الهدم البنّاء الذى ينبثق منه المصرى الأعلى، والعربى الأعلى، والمسلم الأعلى. إنه يدعو إلى التحول نحو الأفضل من خلال إرادة القوة، بوصفها تحريرًا للطاقات وتحريكًا لكوامن الإبداع والخلق والتفوق. إنه يكاد يلزمنا بهذا الهدم البناء من أجل التجدد الدائم». ويختم بقوله: «أجمل ما فى الكتاب أنه لا يملى عليك أفكاره، بل يدعوك للتفكير من خلاله، إلى بناء الجسر الخاص بك نحو الحقيقة، أيًا كان موقعك على ضفتى العلم أو الإيمان، الفلسفة أو الفن، التجريب أو الحدس، ومن هنا، فإن هذا العمل يستحق أن يُقرأ، لا لمكانة كاتبه فقط، بل لصدق الرسالة، وعمق الرؤية، ونبل المقصد، وعظمة الهدف، قد لا يغير هذا الكتاب العالم دفعة واحدة، لكنه بالتأكيد سيغير شيئًا فى قارئه».