عودة «لاعب النرد».. شاعر القضية يعتمد تقنية بانورامية فى السرد التاريخى

- الفيلم نجح فى رسم «ببليوجرافيا» إنسانية لـ٦٧ عامًا عاشها صاحب «جدارية»
يسأل سائل: ما الذى يعنيه مصطلح «الخطاب الثقافى» الذى طالما لاكته الألسن طوال السنوات الخمس عشرة الأخيرة؟ ويجيب البعض بأنه القدرة الناعمة البنَّاءة على النفاذ إلى داخل العقل وتغذيته بالمعارف العامة والفكر النقدى والذائقة الحية. هذا بالضبط ما استرجعته داخل عقلى، وأنا أشاهد فيلم «درويش شاعر القضية» على قناة «الوثائقية» فى عرضه الأول فى العاشرة مساء الخميس الماضى ١٥ مايو ٢٠٢٥، الذى يتواكب مع ذكرى نكبة ١٩٤٨.
الفيلم الذى يحلل ويوثق لسيرة الشاعر العربى الكبير محمود درويش، يمثل بعينه صلب «الخطاب الثقافى»، فهو لا يسترجع المسيرة الشعرية لواحد من أساطير القصيدة العربية وفقط، بل يعيد سرد تاريخ قضيتنا الأساسية قضية فلسطين، التى تلخص سيرة «درويش» ملامحها الرئيسية بكل ما تحمله من مآس وأحزان.
لماذا يوثق الفيلم لسيرة فلسطين ككل؟ لأنه يصطحب مُشاهده فى رحلة الألم والعذاب منذ هجوم العصابات الصهيونية على قرى بيت المقدس وتنفيذ واحدة من أكثر عمليات الإبادة الجماعية إجرامًا، حيث كان «درويش» الطفل صاحب السنوات القليلة يعيش مثل كل نظرائه، فيجد نفسه يخوض مأساة الفرار والشتات مُهجرًا من وطنه، تاركًا خلفه ذكريات الطفولة وبراءتها مثله مثل كل أبناء فلسطين.

يعتمد الفيلم تقنية بانورامية فى السرد التاريخى عبر توثيق الحدث وتتبع مآلاته وتوابعه المادية والمعنوية على التكوين النفسى والإنسانى لبطله محمود درويش، الذى يمتلئ بطاقة شعورية جبارة مصدرها الرئيس موهبته الجارفة أولًا ثم تجربته المليئة بالمحن والأهوال ثانيًا، فلا شىء يحدث هباء فى فلسطين، وكل هذا فى إيقاع بصرى وسردى هادئ ومنضبط، يوازن جيدًا بين جانبين رئيسيين هما السرد السياسى والتطور الشعرى فلا يجور أحدهما على الآخر.
على مستوى الكتابة، نجح الفيلم فى رسم «ببليوجرافيا» إنسانية لـ٦٧ عامًا عاشها محمود درويش امتلأت بالنزق والتمرد والمخاطرة والانفجار على الورق، مدعومًا بلغة تسير على شعرة بين ما هو صحفى وما هو أدبى، مجتذبةً المشاهد العادى الذى لا يعرف شيئًا عن الشاعر الكبير، والمشاهد المثقف الذى يدخل إلى العمل عن خلفية ودراية، فكان التنقل الإيقاعى داخل السرد مرنًا مع صياغة أنيقة وبليغة لنص التعليق الصوتى الذى كان بمثابة صوت روائى موازٍ.
كما نجح الفيلم فى صناعة توليفة متنوعة متناغمة الاتجاهات بين أسماء المتحدثين الذين أدلوا بشهاداتهم العميقة عن كل ما يخص محمود درويش من سيرة ومسيرة، وتباينت خلفياتهم بين الشعراء والأدباء والنقاد والكتاب الصحفيين، فضلًا عن تعدد جنسياتهم بين المصريين والفلسطينيين والعرب والأجانب، وهو ما أضفى على العمل ثقلًا إقليميًا وقوميًا يتناسب وطبيعة ومكانة محمود درويش كرمز شعرى خالد فى الوجدان الجمعى العربى.

واللافت فى شهادات المتحدثين أنها رصدت بعمق شكل التحولات النفسية والفنية التى مرت بها شخصية الشاعر الكبير، وكيف ارتبطت بما مر به من تجارب سياسية ونضالية كان لها بالغ الأثر فى تطور سمات وروح قصيدته، ما بين الصوت الثورى الغنائى ثم الصوت التجريبى على مستويات اللغة والإيقاع، ثم الصوت الوجودى الفلسفى الأكثر نضجًا وتأملًا واكتمالًا فنيًا.
ورغم قصر مدة الفيلم التى بلغت بضعًا وخمسين دقيقة، حقق التكثيف الفنى فكرة «الدفقة المعرفية» مسيطرًا بشكل كامل على انتباه المشاهد دون فقدان انتباهه أو إشعاره بالملل وفى نفس الوقت تغذيته بجرعة تاريخية ومعرفية ذات قيمة عالية.
الإخراج كان عاملًا حاسمًا فى تحقيق هذه المعادلة، عبر صناعة انتقالات بصرية سلسة وجاذبة مع مشاهد تمثيلية بسيطة وديكورات معبرة، تخدّم على اللغة الشعرية وتضرب على وتر «النوستالجيا» وتتواءم مع إيقاع السرد وشهادات المتحدثين، بشكل أدخل المشاهد فى قلب التجربة وجعله يتنقل مع حركة التاريخ.

واستعان صناع الفيلم بحشد ضخم من المواد الأرشيفية، سواء الصحفية أو الفيلمية وكذلك من التراث الصوتى لـ«درويش»، كان لها بالغ الأثر فى تدعيم السرد التوثيقى وتسهيل الانتقالات بين الجوانب التاريخية المختلفة.
وينتهى «درويش.. شاعر القضية» وقد ترك فى قلب المشاهد شحنة من الجمال الممزوج بالأسى، وكأنه لا يقدم فقط توثيقًا لسيرة الشاعر الكبير بل بكائية ممتدة على النكبات المستمرة التى يتعرض لها الشعب الفلسطينى خاصة وسط حرب الإبادة الدائرة حاليًا على قطاع غزة.
وقصد صناع العمل أن يكون عرضه مواكبًا لذكرى النكبة، ليكون صرخة فى الضمير القومى يذكر المشاهدين بقضية فلسطين من جهة، ويمنحهم جرعة جمالية تدفعهم لقراءة منجز شعرى لا يزال نابضًا بالحياة والروح القومية من جهة أخرى.
من أجل هذا لا تكمن قيمة العمل فى جانبه الفنى فقط، بل فى الطاقة المعنوية التى يبثها فى العقل العربى عبر سرد هذه الرحلة الكبيرة لمحمود درويش بكل ما تحمله من شحنة جمالية تنفخ الروح فى جسد الذكريات وتمنح الوجدان قوة مقاومة حتى ولو بالفن الذى لا يملك إلا أدواته الناعمة وبالقصيدة التى لا تمتلك إلا كلماتها.
لكن هذه الكلمات هى الأبقى وهى التى تهزم الشر والعدوان والفناء وتخلد صاحبها محمود درويش، الذى عبر عن ذلك بقوله: «هزمتك يا موت الفنون جميعها.. هزمتك يا موت الأغانى فى بلاد الرافدين، مسلة المصرى، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبد، هزمتك وانتصرت، وأفلت من كمائنك الخلود.. فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد!».