الأحد 01 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الشركة المحتالة.. الأسرار المظلمة لشركة «جونسون آند جونسون»

حرف

- كتاب يكشف الممارسات التجارية غير الأخلاقية لأكبر تكتل للرعاية الصحية فى العالم

- صحفى أمريكى يكشف الفساد المتجذر وراء صورة الأطفال الرضع وهم يستحمون بابتسامة

- كيف وفرت الشركة «هالة حماية» لبودرة الأطفال المسببة للسرطان؟

- خداع وفساد وموت.. كتاب يواجه شركة أمريكا المفضلة وعملاق صناعة الصحة العالمى

- تحقيق صحفى لاذع يوثق فضائح ارتكبتها شركة الأدوية العملاقة جونسون آند جونسون

فى أحد أيام 2004، كان محرر الشئون الدوائية فى صحيفة نيويورك تايمز، قد لحق برحلته مبكرًا فى المطار، ليبدأ محادثة مع المرأة الجالسة على الكرسى المجاور له، والتى تصادف أنها مندوبة مبيعات أدوية فى شركة «جونسون آند جونسون». 

غيرت قصتها المروعة عن ممارسات البيع غير الأخلاقية والأثر المدمر الذى خلفته على عائلتها جذريًا، طبيعة تغطية هذا المحرر للشركة- وصناعة الأدوية بأكملها- لصحيفته.

وأدت تحقيقاته اللاحقة وأبحاثه المستمرة منذ تلك المحادثة إلى هذا الكتاب «لا مزيد من الدموع: الأسرار المظلمة لشركة جونسون آند جونسون»، وهو كشف لاذع لمؤسسة أمريكية موثوقة وأكبر تكتل للرعاية الصحية فى العالم.

يأخذنا الصحفى الاستقصائى جاردينر هاريس بعيدًا كل البعد عن صورة الشركة كشركة تعنى برعاية الأطفال، إذ يكشف لنا عن أدلة دامغة تثبت عقودًا من الممارسات التجارية الخادعة والخطيرة التى هددت حياة الملايين.

يعد الكتاب الذى يقع فى 464 صفحة، وصدر فى أبريل الماضى عن دار نشر «رندوم هاوس» الإنجليزية الأمريكية، من نوعية الصحافة الاستقصائية التى تكشف عن الفساد المتجذر وراء صورة الأطفال الرضع وهم يستحمون بابتسامة، ويأتى فى المرتبة الأولى للكتب الأكثر مبيعًا فى صناعة الأدوية وأخلاقيات الطب وملفات تعريف الشركات.

يوضح الكتاب كيف قامت جونسون آند جونسون بسد الفجوة بين سمعتها العامة وسلوكها الفعلى بميزانيات إعلانية ضخمة، وحملات علاقات عامة بارعة، وأموال طائلة.

وتأتى أهميته فى أنه يمثل اتهامًا لشبكة أكبر من الجهات التنظيمية والمسوقين والباحثين- متشابكة ومترابطة بطرق خطيرة أحيانًا، وعرضة للمتطلبات التى لا تضع سلامة البشر فى المقام الأول.

بيع غير أخلاقى

تأسست شركة جونسون آند جونسون فى أواخر القرن التاسع عشر، ونمت لتصبح واحدة من أكثر العلامات التجارية ثقة فى أمريكا بفضل بودرة الأطفال، وتايلينول، وضمادات الجروح، والأدوية المتطورة آنذاك. واليوم، تبلغ قيمة الشركة أكثر من ٣٨٠ مليار دولار.

ولكن وراء هذا النجاح، كما يكشف الكاتب، تكمن سلسلة من ممارسات البيع غير الأخلاقية، ويقول عن الشركة: «هؤلاء الأشخاص مخيفون للغاية. وعندما يفشلون فى رشوتك، وهو ما فعلوه على مدى عقود مع الأطباء والصحفيين والمحامين، فإنهم يرفعون دعاوى قضائية».

يقدم المؤلف فى كتابه كشفًا عن المنتجات التى يفترض أنها تقوم بالعناية بأجسامنا وعقولنا، أو التى تنقذنا وتهددنا أحيانًا أخرى، وذلك من حيث التطوير والتصنيع والاختبار والتسويق والرقابة عليها.

الفضيحة الكبرى

يبدأ هاريس ببودرة الأطفال التى تحتوى على بودرة التلك، وهو منتج الشركة الرائد والفضيحة الكبرى التى ميزتها، حيث طرح مسحوق الأطفال عام ١٨٩٤، ليمثل مشروع جونسون آند جونسون الناجح للغاية، متجاوزًا بداياته كشركة مصنعة للقطن والشاش المعقم. 

لسنوات، كانت الشركة تضيف علبًا من مسحوق التلك إلى شحنات الضمادات إلى المستشفيات، لكن الشركة التى نعرفها اليوم نتجت عن فكرة بيعها بشكل فردى للمستهلكين كعلاج لطفح حفاضات الأطفال. ارتبطت جونسون آند جونسون طويلًا بالحرب والجراحة، وبدأت تطلق على نفسها اسم «شركة الأطفال».

ولأكثر من قرن، كانت بودرة الأطفال أول تجربة للطفل الأمريكى مع خبث التسويق الحديث. لم تكن رائحتها الفريدة طبيعية ولا عرضية، بل ولدت من جهد مختبرى جمع أكثر من ٢٠٠ مكون لإنتاج «قاعدة حلوة تشبه الفانيليا» مع «نفحات من الياسمين والليلك والورد والمسك والحمضيات». 

باعت الشركة صورًا من البراءة للأمهات، بينما كانت تربى الجيل التالى من عملائها فى مهدهم. يقول الكاتب: «تتغذى الروائح مباشرة على الجهاز الحوفى فى الدماغ، وهو المعقل القديم للعاطفة البشرية». شكلت هذه الرؤية أساسًا لارتباط لا يقدر بثمن بالولادة والأمومة، ووفرت «هالة حماية» دائمة حتى مع كشف براءة الشركة عن زيف رائحتها الشهيرة.

ويوضح بالتفصيل كيف قامت الشركة على مدى عقود بإخفاء القصص السلبية عن بودرة الأطفال التى تحتوى على آثار من الأسبستوس، تزيد من خطر إصابة المستخدمين بسرطان المبيض، من خلال «تهديد وسائل الإعلام بالخراب المالى» فهى من أكبر المعلنين فى العالم، حتى أجبرت دعوى قضائية عام ٢٠١٥ الشركة على دفع ٢.١ مليار دولار كتعويضات.

يشير المؤلف إلى أن أولى الدراسات التى أوضحت المخاطر المحتملة فى استخدام بودرة التلك للأطفال، مع التركيز على تهديدات الاختناق، صدرت عام ١٩٢٢. وتبعتها دراسات بعد عقود لاحظت ارتفاع معدلات الإصابة بداء التلك، وهو مرض رئوى قاتل، بين عمال مناجم التلك. 

ثم توسع البحث ليشمل الأسبستوس، وهو معدن ليفى وملوث شائع فى التلك محمل بإبر بلورية مجهرية قوية، لدرجة أن استنشاق كميات ضئيلة منه، يتلف الحمض النووى لأنسجة الرئة، ويمكن أن يسبب السرطان. 

وبحلول أوائل الستينيات، ربط الباحثون التعرض للأسبستوس بارتفاع معدلات الإصابة بورم المتوسطة، وهو سرطان رئة وبطن عدوانى. لم يكتسب هذا البحث شهرة عامة إلا عام ١٩٦٨، عندما نشرت مجلة «نيويوركر» تحقيقًا يحتوى على بيانات تشير إلى أن نصف سكان نيويورك لديهم أسبستوس فى رئاتهم. 

وقد شعر أحد الباحثين الذين تمت مناقشتهم، وهو الدكتور إيرفينج جيه سيليكوف من مستشفى ماونت سيناى، بالقلق من ارتفاع معدلات التلوث بين ربات البيوت. وعندما فحص بودرة الأطفال تحت المجهر الإلكترونى وجد أنها تحتوى جميعها على الأسبستوس.

يلفت هاريس إلى أن الشركة كانت تعرف منذ عام ١٩٥٨ أن منتجها الأكثر مبيعًا يحتوى على ما يصل إلى ٣٪ من الأسبستوس. وبعد ست سنوات، اشترت منجمًا للتلك فى فيرمونت، يقع على بُعد ثلاثة أميال من أكبر منجم للأسبستوس فى البلاد. 

ويؤكد أن هذا التواجد المشترك لم يكن مصادفة. «التلك والأسبستوس متشابهان كيميائيًا وجيولوجيًا وهيكليًا لدرجة أن عروق أحدهما غالبًا ما تكون محصورة بين أو متشابكة مع الآخر». 

قبل عام واحد فقط من قصة نيويوركر، اختبرت الشركة التلك من المنجم الجديد ووجدت نوعين من الأسبستوس. وبدلًا من تحذير الجمهور والتحول من التلك إلى نشا الذرة، أعلنت الشركة ما يسميه الكاتب «حملة علاقات عامة للأرض المحروقة» على العلوم المزعجة. 

حيث ابتكرت الشركة طريقة جديدة لقياس التلوث كانت مصممة للفشل؛ ولجأت إلى باحث داخلى من مدرسة منجيل، يُدعى الدكتور ألبرت م. كليجمان، لإجراء تجارب مقلقة تضمنت حقن التلك والأسبستوس فى أجساد سجناء سود. 

أكدت تقارير كليجمان المقدمة إلى الشركة أن هذه المعادن تسبب تهيجًا شديدًا عند حقنها، لكنها لم تشر إلى السرطان، لأنه لم يكن موضوعًا للدراسة.

البيضة الذهبية

حسب المؤلف، لأكثر من ثلاثة عقود بعد التجارب، واصلت جونسون آند جونسون تطبيق الاستراتيجية نفسها بنجاح، محتفظة بسمعتها الجيدة، ومبيعاتها قوية، وثقة الجمهور بها سليمة. 

وجاء فى مذكرة داخلية للشركة: «نعزو هذا الرأى المتنامى إلى البيانات الإيجابية من مختلف الدراسات التى رعتها جونسون آند جونسون، والتى نشرت بفعالية فى الأوساط العلمية والطبية فى المملكة المتحدة والولايات المتحدة».

وواصلت الشركة حملتها التضليلية مع ظهور المزيد من المخاطر. عام ١٩٨٢، نشرت مجلة «كانسر» بيانات تظهر أن الاستخدام المنتظم لبودرة التلك على الأعضاء التناسلية الأنثوية، يضاعف خطر الإصابة بسرطان المبيض. 

وحتى مع تأكيد تسع دراسات لاحقة هذه الصلة- حيث أفاد معظمها بارتفاع خطر الإصابة- التزمت الشركة بقواعدها. حيث كان بالنسبة لجونسون آند جونسون، يعد التحول إلى نشا الذرة بمثابة اعتراف بالخطأ ومخاطرة بكسر حجر الأساس فى أسطورة الشركة. 

تصف شريحة من عرض تقديمى داخلى ادعاءات الشركة بشأن «الرابط بين الأم والطفل ولمسة الأم» بأنها «البيضة الذهبية» للشركة. وتصور شريحة أخرى حصالة نقود معدنية بجوار عبارة «الرابط بين الأم والطفل».

لكن فى أواخر التسعينيات، برزت أولى الدعاوى القضائية ضد الشركة بخصوص مسئولياتها المتعلقة ببودرة الأطفال، وأنفقت الشركة ٢٥ مليار دولار فى مواجهة دعاوى تمثل مئات الآلاف من الأشخاص.

ومن بين أسوأ الهزائم دعوى قضائية عام ٢٠١٨، حيث منحت هيئة محلفين ٢٢ امرأة مصابة بسرطان المبيض ٢٥ مليون دولار لكل منهن، وأمرت الشركة بدفع ٤.١٤ مليار دولار كتعويضات عقابية. 

فى عام ٢٠٢٠، أوقفت الشركة مبيعاتها المحلية من بودرة التلك التى تقدر روبرتا نيس، الرئيسة السابقة للجمعية الأمريكية لعلم الأوبئة، أنها عامل فى تشخيص ٢٥٠٠ حالة سرطان و١٥٠٠ حالة وفاة بالسرطان سنويًا. واستمرت الشركة فى بيع المنتج فى الخارج حتى عام ٢٠٢٣.

وتشير تقديرات نيس إلى أن حوالى ٨٥٠٠٠ امرأة توفين بسبب سرطان المبيض حصريًا بسبب استخدامهن بودرة جونسون للأطفال. وإن حوالى ١٥٪ من النساء فى الولايات المتحدة اللاتى يتوفين بسبب سرطان المبيض ربما أصبن بالمرض بسبب بودرة جونسون للأطفال. 

مثال نموذجى

يروى هاريس أنه عندما اشترت شركة جونسون آند جونسون شركة ماكنيل لابوراتوريز عام ١٩٥٩، استحوذت على مسكن الألم الجديد للشركة، تايلينول، والمصنع من الأسيتامينوفين. بعد سنوات من طرح هذا الدواء الرائج دون وصفة طبية، كشفت الأبحاث عن الآثار السامة للدواء على الكبد. 

وعندما تقدمت الشركة بطلب للحصول على نسخة «قوة إضافية» عام ١٩٧٥- بزيادة الجرعة الموصى بها بنحو الثلث، إلى ٥٠٠ ملليجرام- أعلنت مجلة «ذا لانسيت» أن الأسيتامينوفين «أحد أكثر الأسباب شيوعًا» لفشل الكبد فى بريطانيا، وذكرت فى افتتاحيتها أنه إذا «تم اكتشافه اليوم فلن تتم الموافقة عليه». 

ومع موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على الجرعة الإضافية عام ١٩٧٦، اختفى هامش الخطأ الضئيل للدواء بين الجرعات الموصى بها والجرعات الخطيرة تقريبًا. 

تظهر الوثائق أن جونسون آند جونسون كانت على دراية بهذا الأمر، وكانت تعلم أن إضافة حتى كميات صغيرة إلى الجرعات الموصى بها بالإضافة إلى الشرب المعتدل يمكن أن يسبب «تلفًا كبديًا كارثيًا». 

ويؤكد الكاتب مرة أخرى أن الشركة ناضلت بكل ما أوتيت من قوة لحماية وهم سلامة تايلينول، متحدية حتى تحديث ملصقات التحذيرات حتى عام ١٩٩٤، موضحًا أن هذا كان ضارًا بشكل خاص بالنسخ المخصصة للأطفال من المنتج، بما فى ذلك حليب الأطفال. 

بين عامى ٢٠٠٠ و٢٠٠٩، تقدر إدارة الغذاء والدواء الأمريكية أن ٢٠ طفلًا على الأقل لقوا حتفهم بسبب جرعات زائدة. وكما هو الحال مع بودرة الأطفال، لا يزال هذا الإرث قائمًا لدى ١٥٠ أمريكيًا على الأقل يموتون و٣٠ ألفًا يدخلون المستشفى سنويًا، بسبب جرعات زائدة من الأسيتامينوفين. 

لكن ومع ذلك لسنوات عديدة، أصرت الشركة على أن جميع وفيات البالغين المرتبطة بالأسيتامينوفين كانت انتحارًا متعمدًا.

يغطى المؤلف أيضًا ببراعة فضيحة التلاعب الشهيرة عام ١٩٨٢، والتى توفى فيها عدة أشخاص فى إلينوى بعد تناول تايلينول ملوثًا عمدًا بالسيانيد. بينما لا يزال رد فعل الشركة يدرس فى كليات إدارة الأعمال كمثال نموذجى لإدارة الأزمات المؤسسية المسئولة.

حيث صرحت الشركة للجمهور وأسهمت فى إطلاق عصر «التغليف المقاوم للتلاعب» للكبسولات- فإن القصة الحقيقية كانت كما هو متوقع دنيئة. فبدلًا من أن تكون نموذجًا يحتذى به فى المساءلة، أخفت الشركة أدلة كثيرة على أن حالات التسمم ناجمة عن نقاط ضعف فى نظام التوزيع الخاص بها، وليس عن «مختل عقليًا فى قطاع التجزئة»، كما أُوهم الجمهور. 

وفى وقت لاحق، أخبر مبلغ عن المخالفات فى الشركة المحققين، بأن الشركة كانت تعلم أن القاتل يعمل لدى مقاولها، لكنها «أخفت هذه المعلومة ليس فقط عن الجمهور، بل عن المحققين أيضًا».

منتج العام

ينتقل هاريس إلى دواء بروكريت، الذى يحفز نخاع العظم على إنتاج خلايا الدم الحمراء، ولكنه تبين أيضًا أنه يحفز نمو الأورام لدى مرضى السرطان.

وكانت بداية هذا المنتج من خلال بروتين يسمى إريثروبويتين، والذى زاد من عدد خلايا الدم الحمراء. طور هذا البروتين فى البداية لمساعدة مرضى غسيل الكلى على تجنب عمليات نقل الدم، ولكن فى الفترة التى سبقت طرحه لأول مرة عام ١٩٨٩ تحت الاسم التجارى بروكريت، رأت الشركة أن السوق محدودة للغاية.

فبدلًا من ذلك، استهدفت جونسون آند جونسون سوق السرطان الأكبر بكثير «وغير المجرب» من خلال تسويق بروكريت كعلاج لمرضى فقر الدم الذين يخضعون للعلاج الكيميائى. 

وقد رأت «وول ستريت» أن هذه الاستراتيجية ملهمة؛ فقد اختارت مجلة «فورتشن» بروكريت «منتج العام» حينها. لكن كانت هناك مشكلة واحدة فقط. سرعان ما اكتشف باحثون مستقلون أن هذا الدواء لا يشكل مخاطر الإصابة بالنوبات القلبية فحسب، بل يحفز أيضًا نمو الأورام. وتبين أن بعض الأورام تحتوى حتى على مستقبلات إريثروبويتين. 

ومع ترسيخ الأدلة، أطلق كبير المسئولين الطبيين فى الجمعية الأمريكية للسرطان على المنتج اسم «ميراكل- جرو للأورام»، لكن بدلًا من سحب بروكريت من سوق علاجات السرطان، سعت الشركة إلى طمس وتشويه العلم الذى يربط بروكريت بنمو الأورام.

يوضح الكاتب أن هناك باحثًا فى الشركة شهد لاحقًا بأنه سمع أحد موظفى جونسون آند جونسون يقول لآخر: «علينا القضاء على هذا العمل». وقد فعلوا ذلك. ويشير إلى أن الشركة وظفت أطباء لكتابة نتائج لأبحاث علمية خادعة لتبرئة المنتج.

بعد بضع سنوات من إطلاقه، حقق بروكريت أرباحًا للشركة تفوق أى دواء آخر فى تاريخها، حيث مثل ١٠٪ من مبيعات أدويتها وأعلى هوامش ربح لها. كانت الشركة تتقاضى ١٠٠٠ دولار للجرعة، وقد حصد أطباء الأورام ما يقرب من ثلثها. 

ويقدر المؤلف أن أطباء الأورام المشاركين فى عملية الاحتيال القاتلة التى قامت بها جونسون ضاعفوا رواتبهم، فى المتوسط، من ٣٠٠ ألف دولار إلى ٦٠٠ ألف دولار. 

ولم يكن بإمكان الشركة ادعاء الجهل. فقد كشف لاحقًا أن جونسون آند جونسون أوقفت العديد من الدراسات الداخلية لاختبار مستويات الهيموجلوبين، لأن مرضى السرطان الذين حصلوا على الدواء، أظهروا نموًا متسارعًا للأورام ووفاة بمعدلات أعلى بكثير. 

ويذكر هاريس أحد علماء الأوبئة الذى يقدر عدد وفيات بروكريت بمئات الآلاف، وما زال العدد فى ازدياد.

ويلفت إلى أن فى عام ٢٠١٦، وبعد أكثر من عقد من التحقيق الذى أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» والذى كشف الفضيحة، أصدرت الشركة أخيرًا بيانات داخلية من إحدى الدراسات التى أظهرت أن النساء المصابات بسرطان الثدى اللاتى تناولن دواء بروكريت كن أكثر عرضة للإصابة بالسكتة الدماغية أو الانسداد الرئوى بمرتين، وكان لديهن خطر أكبر للوفاة. 

وفى نفس العام أيضًا، باعت جونسون آند جونسون دواء بروكريت بقيمة مليار دولار فى سوق أدوية السرطان، معظمها لأطباء محليين، لم يكن لديهم على الأرجح اشتراكات فى صحيفة نيويورك تايمز أو المجلات الطبية الرائدة.

اللاصقة القاتلة

يحكى الكاتب أنه فى عام ١٩٩٠، وافق كورتيس رايت، رئيس قسم مسكنات الألم فى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، على لاصقة فنتانيل «مؤقتة المفعول» مدتها ٧٢ ساعة، من إنتاج شركة جونسون آند جونسون، واسمها ديوراجيسيك. 

عانت اللاصقة من عيب تصميم، وحتى عند استخدامها وفقًا للإرشادات، تلقى المرضى، فى المتوسط، ١٥٠٪ من الجرعة المستهدفة فى اليوم الأول. بعد وفاة ٥٢ شخصًا أثناء نومهم بعد ساعات من وضع اللاصقة على أجسادهم، أمرت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية الشركة بإضافة ملصق تحذيرى.

لكن الشركة رفضت التخلى عن اللاصقة أو عن مشروعها المتعلق بتطبيع استخدام المواد الأفيونية لعلاج الآلام الشائعة. قاد أليكس جورسكى رئيس قسم المبيعات هذه الحملة، حيث نشط جمعية الألم الأمريكية- التى تأسست بمنحة من شركة جونسون آند جونسون عام ١٩٧٧- وجمع خرائط بمواقع أكثر الأطباء حساسية للألم فى البلاد. 

توسعت هذه الجهود بوتيرة متسارعة مع النجاح الهائل الذى حققه دواء أوكسيكونتين فى أواخر التسعينيات، حيث استكشف المسئولون التنفيذيون فى جونسون آند جونسون، الذين كانوا يشعرون بالحسد علنًا، شراكة مع شركة بيردو للترويج المشترك لموادهم الأفيونية كعلاجات للألم المتوسط.

ولمساعدتهم على اللحاق ببيردو، استعان مسئولو الشركة عام ٢٠٠٢ بمجموعة من مستشارى ماكينزى الذين شجعوا الشركة على تسويق دواء ديوراجيسيك لعلاج آلام الظهر المزمنة و«استهداف المرضى المعرضين لخطر إساءة الاستخدام بشكل كبير (مثل الذكور دون سن الأربعين)» لفترات علاج مطولة.

ويكتب المؤلف، الذى يلاحظ ببرود أن جورسكى سيمنح لاحقًا لقب «إنسانى العام» من قبل التحالفات المجتمعية لمكافحة المخدرات فى أمريكا، قائلًا: «كلتا الاستراتيجيتين ضمنتا ارتفاعًا حادًا فى معدلات الإدمان والوفيات».

عالم معقد

ثم يذهب هاريس إلى عالم الأجهزة الطبية الأقل تنظيمًا، وخاصة غرسة استبدال مفصل الورك المعدنية التى تسوق بكثافة لجراحى العظام، على الرغم من أن العديد من التقارير تشير إلى ارتفاع مقلق فى معدل فشل الجهاز، والذى كان أعلى بكثير من منافسيه البلاستيكيين، وسممت المرضى بأيونات معدنية.

بالإضافة إلى شبكة مهبلية استمرت الشركة فى بيعها، حتى بعد أن دمرت الحياة الجنسية لعشرات الآلاف من النساء بشكل مؤلم؛ ولاصقة منع الحمل «أورثو إيفرا»، التى كانت تطلق طفرات هرمون الأستروجين التى تسببت فى حمل غير مرغوب فيه وسكتة دماغية ووفاة. 

خلال ذلك، تأتى قصة دواء بروبولسيد، والذى كان من المعروف أنه يسبب عدم انتظام ضربات القلب ويشكل خطرًا كبيرًا على الرضع. يلفت الكاتب إلى أن جونسون آند جونسون «دعمت بهدوء حملة تسويقية نجحت فى إعطاء هذا الدواء الخطير وغير المفيد لواحد من كل خمسة أطفال خدج فى البلاد». 

سحبت الشركة المنتج عام ٢٠٠٠، مرة أخرى فقط مع ظهور الدعاوى القضائية الأولى. وينتقل إلى إفساد لقاح كوفيد أحادى الجرعة، الذى منح حماية ضعيفة ضد الفيروس، والذى ألغت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية ترخيصه فى عام ٢٠٢٣ بعد التحقيق فى نوع نادر وخطير من تخثر الدم فى المخ وأكثر من ١٠٠ حالة مشتبه بها من متلازمة جيلان باريه بين أولئك الذين تلقوا اللقاح. 

وتم حظره فى عام ٢٠٢٤ لتسببه فى جلطات دموية قاتلة. تشعرك هذه الحكايات بهذا العالم المعقد علميًا وأخلاقيًا واقتصاديًا الذى ينطوى عليه تنظيم صناعة الصحة، وموضوعات التعاون والفساد والعداء ويقظة الجهات الرقابية التى غالبًا ما تكون متداخلة.

ويوضح المؤلف مع التعمق البارع كيفية التشابك، وكيف يمكن لأموال الشركات أن تدعم العلم ولكنها تفسده أيضًا، وكيف يمكن لتحالفات الشركات مع الحكومة أن تؤدى إلى التقدم، ولكن أيضًا إلى التواطؤ.

تسويق عدوانى

يظهر هاريس عالم التسويق الطبى الغامض، حيث يروى قصة التسويق المباشر للأطباء- من خلال مندوبى الأدوية الذين يقدمون للأطباء عينات مجانية بأسعار مناسبة، ووجبات عشاء فاخرة، ورحلات فاخرة.

ويضرب مثالًا على ذلك بعقار ريسبردال، وهو «مضاد ذهان غير نمطى»، تم تسويقه بكثافة لاستخدامه مع الأطفال الذين يعانون من مشاكل سلوكية، وكذلك للاستخدام فى دور رعاية المسنين. 

وتتبع الكاتب عمليات التسويق العدوانى، حيث أقام مندوبو المبيعات حفلات آيس كريم وفشار فى عيادات أطباء نفس الأطفال، ووزعوا المصاصات وألعاب ليجو وأوعية حلوى تحمل علامة عقار ريسبردال التجارية.

وكان الدواء طور فى مختبرات شركة جانسن للأدوية، أكبر شركة أدوية تابعة لجونسون آند جونسون. وتم طرحه عام ١٩٩٣ ليحل محل هالدول، وهو دواء مشابه باعته الشركة وانتهت صلاحية براءة اختراعه. 

ويوضح المؤلف أن الشركة ركزت على إقناع الأطباء بوصف هذا المهدئ القوى لأكبر عدد ممكن من الأشخاص ولأكبر عدد ممكن من الحالات. 

ويقتبس مسودة خطة المبيعات من بداية العملية، حيث يلاحظ أحد المديرين التنفيذيين، نظرًا لمحدودية سوق مرضى الفصام، «أن التوسع العدوانى فى استخدام ريسبردال فى دواعٍ أخرى أمر ضرورى». 

هنا يظهر مرة أخرى دور أليكس جورسكى، رئيس قسم المبيعات، والمكلف بإنشاء أسواق لريسبردال. وركزت الاستراتيجية التى ابتكرها، والتى كانت غير أخلاقية وغير قانونية فى آن واحد، على إخبار الأطباء النفسيين بأنه نظرًا لاعتماد الدواء لمرضى الفصام، فيمكن وصفه لأى حالة مرتبطة بالفصام. 

أنشأ جورسكى فريق مبيعات «رعاية المسنين» للترويج لفوائد الدواء لمرضى الخرف «العدوانيين»- على الرغم من التجارب التى أجرتها الشركة نفسها، والتى أظهرت أن الدواء يسبب ارتفاع ضغط الدم والسكتات الدماغية والنوبات القلبية، وارتفاع معدلات الوفاة بين المرضى المسنين.

بجانب فريق آخر ركز على أطباء الأطفال النفسيين، الذين تم منحهم عينات وكتيبات تروج لريسبردال كعلاج واسع النطاق للاضطراب ثنائى القطب وأى «سلوكيات عدوانية تزعج الآخرين».

وبصرف النظر عن الضرر الواضح الناجم عن إعطاء الأطفال مفرطى النشاط مهدئات قوية، أخفت الشركة مدى تأثير ريسبردال على جهاز الغدد الصماء من خلال رفع مستويات البرولاكتين فى الغدد المفرزة للهرمونات. بمعنى آخر، تسبب الدواء فى زيادة وزن الذكور الصغار ونمو الثديين وزيادة إفراز اللاكتات. 

ويقول هاريس إن قبل الحملة التسويقية لجونسون آند جونسون، كانت تشخيصات الاضطراب ثنائى القطب لدى الأطفال نادرة للغاية؛ وكان وجود الاضطراب فى حد ذاته موضع نقاش. 

ولكن كان ذلك قبل أن يبدأ ثلث الأطباء النفسيين فى البلاد العمل كممثلى مبيعات بدوام جزئى لشركات الأدوية. وبعد طرح ريسبردال، ارتفعت التشخيصات بشكل كبير، حيث نمت أربعين ضعفًا بين عامى ١٩٩٤ و٢٠٠٣. وكان الشخصية الرئيسية فيما أسماه الكاتب «مخطط التضليل المتطور» للشركة هو جوزيف بيدرمان من جامعة هارفارد، الذى تلقى ملايين الدولارات لإضفاء الشرعية على فكرة أنه يمكن تشخيص الأطفال الصغار جدًا بالاضطراب ثنائى القطب، ووصف مضادات الذهان لهم. 

ويشير إلى أنه كان يستحق كل قرش دفعته له الشركة. فى عام ١٩٩٧، بلغت مبيعات ريسبردال ٦٠٠ مليون دولار.

وفى عام ٢٠٠٠، أظهرت دراسة مستقلة أن ١٣٪ من الأطفال الذين تناولوا الدواء نما لديهم ثدى دائم، أى أكثر من مئة ضعف المعدل المذكور على ملصق التحذير. ويقدر المؤلف، بحذر، أن «اثنى عشر ألف صبى أصيبوا بتشوهات فى تلك السنة وحدها». 

الأدورة المكافئة

من الأزمات الأخرى التى يرويها المؤلف، منافسة الأدوية الجنيسة «المكافئة»، حيث جرى التفاوض على قانون هاتش- واكسمان لعام ١٩٨٤- الذى خفض العوائق أمام شركات الأدوية الصغيرة لطرح نسخ غير مسجلة من الأدوية التى انتهت صلاحية براءات اختراعها- فى الوقت الذى كانت فيه شركات كبيرة مثل جونسون آند جونسون تواجه «هاوية براءات الاختراع» التى ستستمر لأجيال. 

تطلبت هذه العاصفة المثالية منهم، حسب هاريس، الإبداع للحفاظ على هوامش ربحهم وأرباحهم الاستثنائية. ومثل أقرانهم، استجابت جونسون آند جونسون، ليس بزيادة الاستثمار فى البحث والتطوير، بل برفع الأسعار وتوسيع الأسواق من خلال ابتكار وطرح حالات استخدام جديدة للأدوية الحاصلة على براءات اختراع. ولتحقيق ذلك، وظفت الشركة فريق مبيعات وطنيًا- كان مشجعو القسم الأول وخريجو ويست بوينت من بين المفضلين- وأنفقت مبالغ طائلة فى رشاوى منهجية لأطباء البلاد وقادة الفكر الطبى. 

ومثل المناورات السابقة، حقق هذا نجاحًا باهرًا. يقول الكاتب: «كل دولار يمنح للأطباء أدى إلى زيادة مبيعات الأدوية بما يتراوح بين ٣.٥٠ و٥ دولارات».

جهات تنظيمية

يدرس المؤلف سلوك وصف الأطباء للأدوية، مشيرًا إلى أنه غالبًا ما يتأثر الأطباء بشدة بأموال الشركات التى تدفع لوصف أدويتها، سواء فى دعم الأبحاث أو التسويق، ولا يستثنى فى ذلك إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، التى لا يعتبرها بطلة. 

ويكتب عن الهيئة الحكومية الأمريكية المسئولة عن الصحة العامة: «الحقيقة المحزنة هى أن إدارة الغذاء والدواء تجاهلت، أو مكنت، أو شجعت، كل كارثة لشركة جونسون آند جونسون فى هذا الكتاب». 

ويجادل هاريس بأن الخير الذى تستطيع إدارة الغذاء والدواء تحقيقه، لا يتحقق إلا لأنها متشابكة مع الشركات التى يفترض أن تنظمها، واصفًا الشركة وقطاع الصحة بأنهما لا يخضعان لتنظيم فعال، رافضين قبول بيانات «مخيبة للآمال» أو مقلقة تعرض الأرباح للخطر.

فى حين أن الجهات التنظيمية تضعف تدريجيًا، بسبب اعتمادها المالى على صناعة الأدوية بعد عام ١٩٩٢، فلم تعد إدارة الغذاء والدواء تزور منازل كبار المسئولين التنفيذيين فى شركات الأدوية الكبرى دون سابق إنذار، ولم تؤخر الموافقة على أى دواء جديد أثناء استمرار التحقيق، ولم يعد التعامل بصرامة مع شركات الأدوية من اختصاصها.

يقدم الكاتب مقترحات وحلولًا مثل وضع حد للأطباء فى تلقى الأموال أو الامتيازات من شركات الأدوية، بما فى ذلك الأبحاث الممولة من قبل الصناعة؛ وإصلاح إدارة الغذاء والدواء، خاصة هيكل تمويلها، وإنشاء هياكل تنظيمية إضافية؛ ومقاضاة المسئولين التنفيذيين المذنبين فى شركات الأدوية بحزم، وإلغاء الحماية التى توفرها موافقة إدارة الغذاء والدواء فى بعض الولايات الأمريكية ضد دعاوى الإصابات الشخصية.

اقرأ أيضًا: 

المؤلف: مؤسسة محتالة.. واستغرقت أكثر من 5 سنوات لإكمال الكتاب