الأحد 15 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

برمجة العقول.. التاريخ الخفى لغسل الدماغ

حرف

- كتاب يوثق المحاولات المرعبة لبرمجة عقول الآخرين والتحكم فى أفعالهم

- غسل الدماغ ليس نادرًا بل شائع.. والحقيقة لا يمكن التأكد منها بسهولة

- صحفى أمريكى كان وراء ظهور مصطلح «غسل الدماغ».. وصاغه لوصف أساليب الإقناع الصينية

- أول ظهور لمفهوم «غسل الدماغ» يعود إلى منتصف القرن العشرين فى ملفات مكتب الخدمات الاستراتيجية

كثيرًا ما نسمع عن غسل الدماغ، وغالبًا فإننا لا ندركه أثناء حدوثه، فهو أكثر شيوعًا مما نعتقد، فهو لا يتعلق بما يحدث للآخرين، بقدر ما يتعلق بما يمكن أن يحدث لأى شخص على وجه الأرض.

وفى كتابها «عدم استقرار الحقيقة: غسل الدماغ، والسيطرة على العقول، والإقناع المفرط»، تكشف المؤرخة والباحثة ريبيكا ليموف، التاريخ الخفى لغسل الدماغ، وتداعياته المقلقة على العالم اليوم.

ففى عالم اليوم الذى يعتمد على البيانات بشكل متزايد، يمكن لأى شخص أن يقع ضحية للتحكم فى العقل، وهناك طرق عديدة يمكن من خلالها العمل ضد إرادتنا، وهو ما تتبعته ليموف بالدراسة، راصدة كيف انتشرت فكرة التحكم فى العقول حول العالم، وتسللت إلى قاعات المحاكم، والمختبرات السرية، والمدارس العسكرية، والمواقع الرقمية الحديثة.

الكتاب صدر فى مارس الماضى، عن دار نشر «دبليو دبليو نورتون أند كومبانى» الأمريكية فى ٤٦٤ صفحة، ويأتى فى المرتبة الثانية للكتب الأكثر مبيعًا فى تاريخ علم النفس الشعبى.

وتنبع أهميته فى أنه يقدم دروسًا من تجارب التحكم فى العقول فى الماضى والحاضر، خاصة أن الهندسة العاطفية ليست منتجًا جديدًا فى العصر الرقمى، فالحقيقة دائمًا ما تكون موضع تساؤل فى مناحى الحياة الأكثر بساطة مما يعتقده معظم الناس.

ريبيكا ليموف مؤرخة علوم فى جامعة هارفارد، وباحثة زائرة فى معهد ماكس بلانك. تتناول أبحاثها البيانات والتكنولوجيا وتاريخ العلوم الإنسانية والسلوكية. 

أصدرت ثلاثة كتب، الأول عام ٢٠٠٥ بعنوان: العالم كمختبر: تجارب على الفئران والمتاهات والبشر، والثانى عام ٢٠١٣ بعنوان: كيف كاد العقل أن يفقد عقله: المسيرة الغريبة لعقلانية الحرب الباردة، والثالث عام ٢٠١٥ بعنوان: قاعدة بيانات الأحلام: السعى المفقود لفهرسة البشرية.

أول ظهور

تبدأ المؤلفة كتابها بإجابة عن سؤال كثيرًا ما كانت تتعرض له، وهو هل غسل الدماغ موجود بالفعل؟ وتكتب: «الإجابة هى نعم»، وتتابع: «ما نسميه غسل الدماغ ليس نادرًا، بل شائع».

وترجع ليموف أول ظهور لمفهوم «غسل الدماغ» إلى منتصف القرن العشرين، فى ملفات مكتب الخدمات الاستراتيجية «وكالة استخبارات أمريكية سابقة أُنشئت أثناء الحرب العالمية الثانية»، وهو سلف وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. 

حيث برز المصطلح إلى حد كبير بفضل كتابات صحفى أمريكى يدعى «إدوارد هانتر» كان يغطى أخبار الصين، واشتهر بكتاباته المناهضة للشيوعية، وكان مرجعًا معترفًا به فى مجال الحرب النفسية. ادعى أنه ترجمة لعبارة صينية، ولكن ربما كان، كما زعم فى موضع آخر، صياغة خاصة به لوصف أساليب الإقناع الصينية.

الحرب الكورية

وتستكمل الكاتبة التأريخ لأصل مصطلح «غسل الدماغ»، الذى تقول إنه فى الواقع نشأ خلال الحرب الباردة، واستخدم لأول مرة لوصف ما يشتبه بأنه التلقين الصينى لأسرى الحرب الأمريكيين خلال الحرب الكورية «١٩٥٠-١٩٥٣»، حيث تم أسر حوالى ٤٧١٤ من الجنود الأمريكيين من قبل القوات الكورية الشمالية والصينية.

ترصد المؤرخة بدايات غسل الأدمغة الحديث من معسكرات الاعتقال فى كوريا الشمالية والصين خلال الحرب الكورية، حيث تعرض هؤلاء الأسرى لجلسات «نضال» أُجبروا فيها على الاستماع إلى محاضرات حول النظرية الماوية وانتقاد الرأسمالية الأمريكية.

وبعد فترة طويلة من الحرب، عندما صدّق بعض الأسرى الأمريكيين الشيوعية، عادت كلمة «غسل الدماغ» إلى الواجهة، حيث يحاول الخبراء شرح كيفية إقناع الناس بتصديق أشياء غريبة.

وكانت الدعاية التى استخدمتها القوات الصينية، مصحوبة بمكافآت لمن قابلوها بإيجابية ومعاقبة لغير المتعاونين، وتروى الباحثة التجربة المروعة لموريس ويلز، أسير الحرب، الطالب فى السنة الثانية البالغ من العمر ١٧ عامًا، والذى أُرسل مباشرة إلى كوريا بعد المدرسة الثانوية. 

تقول: «لقد وصف كيف أنه فى النهاية، بمجرد أن يتم تقليصك بالكامل وتزحف مثل الكلب، فإنك لا تحتفظ بأى إحساس بهويتك بعد فترة من الوقت».

واجه موريس ويلز، شتى أنواع الحرمان، إذ ترك يعانى من سوء التغذية، وحول إلى ظروف قذرة وسط تهديد دائم بالإعدام. تعاقب الرعب والملل. تحسنت الظروف عندما نقل إلى ما يسمى بالمعسكر الأول. تحسن الطعام، وأصبح من الممكن إرسال الرسائل إلى الوطن، بل كانت هناك مباريات كرة طائرة.

تشير المؤلفة إلى أن تلك المرحلة المبكرة كانت من عملية تعرف بإعادة التأهيل. حيث اعتبر ويلز عضوًا فى الطبقات المستغلة، وكان هدفًا واعدًا لهذه الطريقة. 

وفى معرض استحضاره تجاربه بعد سنوات عديدة، قال: «غسل الدماغ لا يجرى بأقطاب كهربائية ملصقة بالرأس». بل كانت «عملية طويلة ومروعة، يقتنع من خلالها الإنسان تدريجيًا- خطوة بخطوة، فكرة تلو الأخرى- اقتناعًا تامًا، كما اقتنعت أنا، بأن الشيوعيين الصينيين قد كشفوا سر سعادة الإنسان، وأن الولايات المتحدة تدار من قبل مصرفيين أثرياء، ومن أتباع مكارثى، ومعتدين إمبرياليين».

بعد الهدنة، شعر المواطنون ووسائل الإعلام بالرعب عندما رفض ٢٣ أمريكيًا العودة. وعلى مدى العقود التالية، سئم معظمهم الحياة فى الصين وعادوا، معلنين أن التعذيب الذى لا يوصف أدى إلى انشقاقهم. تعلم الجيش الدرس الخاطئ، وهدف إلى تدريب الجنود على مقاومة غسل الأدمغة. 

وقد أثار بحث وكالة المخابرات المركزية غير المتقن حول التلاعب بالدماغ إعجاب الكتاب الشعبيين، مع انتقال مؤسف إلى أبحاث الدماغ المشروعة. 

وتؤكد الكاتبة أن الضربة المزدوجة من الصدمة الجسدية والتوهان، متبوعة بالتلقين العقائدى، شكلت نموذجًا لتقنيات التحكم فى العقول فى كل شىء، من دورات البقاء العسكرية الأمريكية إلى برامج التجنيد فى الطوائف الدينية.

النقد الذاتى

وتتابع ليموف رواية ويلز، فتوضح أن النظرية الكامنة وراء هذه الطريقة، كما صاغها الرئيس الصينى «ماو تسى تونج»، سيئة للغاية. كتب ماو أنه لا يمكن إجبار الناس على اعتناق الماركسية. بل أوصى، بدلًا من ذلك، بأساليب «ديمقراطية» قائمة على «النقاش والنقد والإقناع والتثقيف». 

وسميت مرحلة مهمة من هذه العملية «التعبير عن المرارة». كان لدى الجنود الأمريكيين، مثل الفلاحين الصينيين الذين جربت عليهم هذه الطريقة لأول مرة، قدر كبير من المرارة ليتحدثوا عنها: عن العنصرية والفقر فى وطنهم، وعن التمييز داخل القوات المسلحة. 

وأُجبر ويلز على التأمل فى نفسه، لكتابة سيرة ذاتية. وتلقى هو وغيره من أسرى الحرب ساعات من المحاضرات حول النظرية الماركسية. وأمام مطالبة ويلز بتبرير «النظام الأمريكى»، وجد نفسه، عاجزًا عن التعبير عن ماهيته، يسير فيما وصفه آسروه بالتوجه التقدمى وليس الرجعى. 

أصبح يعتقد أن المجتمع الأمريكى متعفن، وأن الطريقة الصينية هى المستقبل. اختار عدم العودة إلى وطنه. ولكن، بينما أُرسل سجناء آخرون اتخذوا القرار نفسه للعمل فى المزارع ومصانع الورق، أُرسل هو إلى جامعة الشعب فى بكين.

لم تكتمل عملية غسل الدماغ. طلب منه مرارًا وتكرارًا القيام بأعمال «توبة» مبالغ فيها، كان ويلز قد اضطر بالفعل للمشاركة فى ندوات «النقد الذاتى». تعلم المزيد عن الماركسية وتاريخ الصين. حتى إنه شهد إعدامًا علنيًا. لكنه فى النهاية بقى فى الصين اثنى عشر عامًا.

تلفت المؤرخة إلى أن سرد ويلز لتجربته، بعد عودته إلى الولايات المتحدة وتمكنه من التفكير فيما تعرض له، كاشف للواقع. فمن الواضح أن آسريه الصينيين قد نجحوا، ولو لفترة وجيزة، فى إحداث تغيير حقيقى فى رأيه. لقد كان، كما قال هو نفسه، «مقتنعًا تمامًا».

مسائل الإيمان

تنتقل الباحثة إلى ادعاء ماو بأنه لا يمكن إكراه أحد على الإيمان الصادق، والذى به يردد فكرة قديمة فى الفكر الأوروبى الحديث، تجسدت فى أكثر تجلياتها تأثيرًا فى رسالة الفيلسوف الإنجليزى «جون لوك» الصادرة عام ١٦٨٩ بعنوان «رسالة فى التسامح». 

حيث أدان لوك استخدام الإكراه فى مسائل الإيمان، وهو ما نربطه الآن بمحاكم التفتيش الإسبانية، وكان من بين حججه أنه ببساطة لا يمكن أن ينجح. وكتب أن الإيمان الحقيقى هو نتاج «الإقناع الباطنى للعقل». 

يستطيع الجلاد الفعال أن يجبر ضحاياه على تحريك أطرافهم، كما يأمرهم، أو حتى أن يقولوا الكلمات، اعترافات إيمان، اعترافات ذنب، التى يهمس بها فى آذانهم. ولكن «هذه هى طبيعة الفهم، أنه لا يمكن إجباره على الإيمان بأى شىء بالقوة الخارجية».

ترتبط وجهة نظر لوك بفكرة فلسفية أعم حول الإيمان: لا يمكن لأحد أن يقرر الإيمان بشىء ما. جرب، على سبيل المثال، أن تصدق أن المجلة أو الكمبيوتر أو الجهاز اللوحى أو الهاتف أمامك ثعبان سام، أو أن كوب قهوتك مصنوع من حمم بركانية منصهرة.

مع كل ذلك، قد تجبرك بالتأكيد مواقف على قبول القناعة المطلوبة دون طلب. حتى فى القرن السابع عشر، أدرك الناس محدودية رؤية لوك. 

وافق رجل دين من أكسفورد يدعى «جوناس برواست» على أنه لا يمكن فرض الإيمان بالإكراه مباشرة، ولكن، بكلماته المرعبة، قد يوقع القاضى «عقوبات على من يرفض اعتناق عقيدته... قد تدفعه إلى إعادة التفكير فى نفسه».

ترى المؤلفة أن عملية إجبار شخص ما على تصديق أمر ما، يتطلب إخفاء دور القوة فى هذه العملية. لا يمكن لمن خضعوا لغسل الدماغ أن يتصوروا أنفسهم مغسولى دماغ؛ ففعل ذلك يدل على أن الدماغ لا يزال غير مغسول. 

حيث لا يمكنهم وصف تجربتهم بشكل متماسك إلا بأنها رؤية النور، وازدياد وعيهم، وشعورهم بالذنب. وكما تنقل الكاتبة عن أحدهم أنه أخبرها عن غسل الدماغ: إذا نجحت الطريقة، فإنها «تمحو نفسها».

وتقول ليموف إن طرق إقناع الناس بالأشياء لا تقسم بوضوح إلى إقناعية وإكراهية، فنموذج غسل الدماغ يفند هذا التمييز. وكما تكتب مرددة رأى عالم النفس «إدجار شاين»، فإن الأمر «ليس إقناعًا خالصًا ولا إكراهًا مطلقًا، بل كليهما: إقناع بالإكراه».

وتعبر عبارة «الإقناع القسرى» بفاعلية عن جوهر الاعتراض على ما تصفه. فهى تقمع الممارسة الأساسية للاستقلالية البشرية، وتمنعك من اتخاذ قرارك الخاص. 

حالة نموذجية

وهنا تجيب المؤرخة على سؤال آخر يتعلق بمحاسبة المغسولة أدمغتهم قانونيًا، فتشير إلى أن محاكمة «باتى هيرست»، حفيدة قطب الصحافة «ويليام راندولف هيرست» عام ١٩٧٦، قد حسمت هذه الإشكالية.

فعندما اختطفها أعضاء جيش التحرير السيمبيونى «التكافلى»، وهى جماعة عصابات مناهضة للرأسمالية، واحتجزوها فى خزانة معصوبة العينين لما يقرب من شهرين. واغتصبت عدة مرات من قبل قادة الجماعة أثناء احتجازها.

بعد ذلك بوقت قصير، عرض عليها خيار شكلى. هل تنضم إليهم؟ أم ترغب فى التحرر؟ كان واضحًا لها أن مظهر الخيار كان وهميًا، وأنها كانت تختار بين الانضمام إلى الجماعة والموت. 

اختارت الحياة أو، كما قالت لاحقًا: «كيفت أفكارى لتتوافق مع أفكارهم». وكما حدث مع أسرى الحرب الكوريين الذين سبقوها، لم يكن مجرد التظاهر، فى ظل هذه الظروف، خيارًا حقيقيًا. قالت لاحقًا: «عندما انتهوا منى، كنت فى الواقع جنديًا فى جيش التحرير السيمبيونى».

وبعد أكثر من شهرين بقليل من اختطافها، التقطت كاميرات المراقبة هيرست وهى تسرق بنكًا فى سان فرانسيسكو، وبندقية فى يدها. عندما ألقى القبض عليها، كان وزنها ٨٧ كيلو، وكانت، حسب تقييم عالمة النفس «مارجريت سينجر»، «زومبيا منخفض الذكاء وقليل التأثر». 

أجرى الطبيب النفسى «روبرت جاى ليفتون» من جامعة ييل مقابلة مع هيرست لمدة خمس عشرة ساعة تقريبًا، ثم أعلن أنها «حالة نموذجية» لغسل الدماغ. خلال فترة احتجازها، أنكرت ولاءها لجيش التحرير السيمبيونى. عندما مثلت أمام المحكمة لدورها فى سرقة البنك، جادل محاموها بأنها كانت ضحية إكراه وتهديد.

توضح الباحثة أنها كانت استراتيجية محفوفة بالمخاطر. لم يكن «غسل الدماغ» دفاعًا معترفًا به قانونيًا. كما أن أحد الأطباء النفسيين الذين شهدوا كشاهد خبير للدفاع لم يقدم لهيرست أى خدمة باعترافه بلا مبالاة بأن «غسل الدماغ» ليس مصطلحًا ذا «أى أهمية طبية». 

وقال إنه أصبح «نوعًا من الاستغلال لوصف أى نوع من التأثير الذى يمارسه الخاطف على الأسير، لكن هذا ليس دقيقًا تمامًا من الناحية العلمية أو الطبية».

فشل الدفاع. أُدينت هيرست وحكم عليها بالسجن سبع سنوات. بعد أن أمضت ما يقارب عامين، خفف الرئيس «جيمى كارتر» الحكم إلى «المدة التى قضتها». ولم تحصل على عفو كامل إلا فى آخر يوم من ولاية «بيل كلينتون»، عام ٢٠٠١.

تتساءل المؤلفة: لماذا وجد المحامون أن غسل الدماغ «مستحيل استخدامه كإطار قانونى لتبرئة المتهمين»؟ من الواضح أن هذا المفهوم يضع محامى الدفاع فى مأزق. إذا لم يجد غسل الدماغ نفعًا، فلا يمكن للمتهمين ادعاء ذلك كدفاع. 

ولكن، إذا نجح، فإن المتهمين يتصرفون بناءً على معتقداتهم الخاصة، ولم يعودوا مكرهين. بعد أربعين عامًا من محاكمة هيرست، طرح محاور على إذاعة NPR «الراديو الوطنى العام الأمريكى» السؤال بطريقة كاشفة: «هل أُكرهت، أم أصبحت مؤمنة؟». 

وتعلق الكاتبة، لماذا لا يمكن أن يكون الأمران معًا. لماذا لا نقول إن «هيرست أكرهت على أن تصبح مؤمنة حقيقية؟».

المشكلة، كما ترى ليموف، هى أن نموذجنا البديهى للتفكير فى غسل الأدمغة يشخصه بأنه «خلل عقلى وإدراكى». ومن هنا تأتى السخرية التى يتعرض لها من خضعوا لغسل الأدمغة. 

تشير المؤرخة إلى أن جنود الحرب الكورية الذين خضعوا لغسل الأدمغة كانوا يعتبرون مجرد حمقى «انخدعوا» بالشيوعية. وتدعونا إلى التفكير فى مثال مشابه من القرن الحادى والعشرين: الازدراء الموجه لمن يخسرون مدخراتهم لصالح العملات المشفرة.

رهانات معاصرة

بالنسبة لمؤرخى غسل الدماغ المعاصرين، تحمل هذه القضية رهانات معاصرة بالغة الأهمية. على سبيل المثال، قصة «ألكسندر أورتولا» المزعجة فى عام ٢٠٢١، الذى انتحر بعد تلقيه سبعة وأربعين ألف رسالة نصية من صديقته التى ظلت تحثه على ذلك.

فإذا كان بإمكانك استخدام وسائل التواصل الاجتماعى لإقناع شخص تعرفه جيدًا بفعل شىء فظيع، فهل يمكنك إقناع دائرة أوسع من الأصدقاء والمعارف؟، بالنظر إلى الموارد المتاحة- على سبيل المثال، «مصانع التصيد» التى تستطيع الجهات الفاعلة الحكومية حشدها- يبدو أنه يمكنك ذلك أحيانًا.

تكمن قوة هؤلاء المتصيدين فى قدرتهم على التلاعب بالبيئة المعرفية. فما كان فى السابق صوتًا وحيدًا يهذى فى زاوية شارع، أصبح جوقة متآزرة. «عندما يتلقى المراقبون الرسالة نفسها من مصادر متعددة، يجدون الرسائل أكثر مصداقية، حتى لو كانت سخيفة». عندما يقول لنا الرئيس ترامب إن «الكثير من الناس يقولون...»، فإن هذا الادعاء صحيح على الأقل.

ريبيكا ليموف

الهندسة العاطفية

تذهب الباحثة إلى عالم شبكات التواصل الاجتماعى، وبالتحديد فيسبوك عندما سادت حالة من الغضب حين كشف عن تلاعب باحثى فيسبوك بمشاعر المستخدمين، من خلال إدخال تعديلات طفيفة على خلاصاتهم فيما تسميه «هندسة عاطفية واسعة النطاق». 

لكنها تشير إلى أن رد الفعل العنيف، لم يمنع الباحثين من إجراء هذه التجارب؛ بل زاد من تحفظهم بشأن نتائجهم. وصرح أحد الباحثين فى المشروع بأن رد الفعل بلغ حد تفكير الناس: «لا يمكنك التلاعب بمشاعرى. الأمر أشبه بالتلاعب بى. إنه تحكم فى عقولهم».

تقتبس المؤلفة تعليقًا عاطفيًا لعالمة الاجتماع «زينب توفيكجى» من جامعة برينستون حول كيف توظيف سلطة الشركات على الإنترنت «أدوات جديدة وأساليب خفية لنمذجة شخصياتنا ونقاط ضعفنا، وتحديد شبكاتنا، وتوجيه أفكارنا ورغباتنا وأحلامنا وتشكيلها بفاعلية». هذا هو القلق الحقيقى هذه الأيام، ليس مجرد تأثير، بل سيطرة خفية وشخصية.

إنه نمط مألوف فى عصرنا المستقطب. يتهم اليمين اليسار باستخدام المؤسسات التى يهيمن عليها- البيروقراطية الفيدرالية، والمنظمات غير الربحية، والجامعات، وهوليوود، ووسائل الإعلام «التقليدية»- لغسل أدمغة الجمهور. وبدوره، يوجه اليسار التهمة نفسها لليمين، مشيرًا إلى الإذاعات الحوارية، وشبكات التليفزيون الحزبية، والبودكاست الذكورية. ويدين كل طرف نشاط الطرف الآخر على وسائل التواصل الاجتماعى. بطبيعة الحال، لا أحد يعترف بفعل ما يندد به لدى خصومه. لكن هذا متوقع: الإقناع هو ما نفعله؛ وغسل الأدمغة هو ما يفعلونه.

سعى العلم

وتلفت الكاتبة إلى سعى «العلم»- بدءًا من المحققين الماويين، مرورًا بسلوكية إخصائى علم النفس الأمريكى «بورهوس فريدريك سكينر»، وزرعة نيورولينك الدماغية لإيلون ماسك- إلى اختزال جوهر الشخصية الغامض إلى وحدات بناء قابلة للترتيب.

وتذكرنا بعض التجارب التى أجراها الأطباء النفسيون تحت رعاية وكالة المخابرات المركزية الأمريكية خلال الحرب الباردة، بباحث طبى ألمانى يدعى «منجيله». 

فمثل طبيب معسكر الاعتقال، كانوا تابعين لمؤسسات أكاديمية، ونشرت أبحاثهم فى مجلات محكمة، ومثل منجيله، ولكن مع عدد أقل من الضحايا، أظهروا تجاهلًا صادمًا لموضوعات أبحاثهم. 

إن وجهة نظر ليموف هى أن الحقيقة حقيقية، وهى مهمة، ولكن من الخطأ الإصرار على أن «الفئات النهائية يمكن تطبيقها، وترتيب الأشياء على أمل أن الحقيقة، يمكن النقر عليها بسهولة والتحقق منها بسلاسة».