السبت 27 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

التنطع الدينى.. لماذا يجب أن نحسم المعركة مع «المزايدين»؟

حرف

- عزيزى كابتن كرة القدم.. يمكنك أن تصلى المغرب لو أردت ذلك دون كيل هذه الاتهامات للآخرين!

- مشهد المترو بين الرجل المسن والفتاة كان موذجًا لمحاولة فرض أفراد لقيم معينة بالقوة على الآخرين

بعض ما نعيشه هذا الأيام فى مصر يمكن تسميته مرحلة المزايدة الدينية أسلوب تفكير لتحقيق شهرة شعبية سهلة وسريعة. خرج علينا المدير الفنى لإحدى الفرق غير الشعبية لكرة القدم بتصريحات نموذجية لفكرة المزايدة الدينية، حيث قال نصًا «إننا نعيش كابوسًا فى مجال الرياضة، وهناك تعمد من القائمين على النشاط لعدم احترام العقيدة الدينية وبدء مباريات الكرة قبل دقائق من أذان المغرب ما يضع الحكام واللاعبين والأجهزة الفنية فى خيارين صعبين، إما ترك الصلاة فى موعدها أو ترك مصدر رزقهم!».

فى هذه الأجواء التى تعيشها المنطقة فى السنوات الأخيرة، يصبح مثل هذا الخطاب مما تطرب له آذان بعض الكتل الشعبية بترويج فكرة شيطنة كل إدارات ومؤسسات الدولة المصرية واتهامها بأنها ضد الإسلام. هو تصريح من نوعية اللعب بالنار ولا يمكن فهمه، إلا أنه مزايدة رخيصة لتحقيق بطولة شعبية زائفة بغض النظر عما يمكن أن تسببه من لغط شعبى وما تحتويه من تضليل كامل. 

أيمن الرمادى

فهذا الحديث يغفل عدة حقائق بديهية عن التوقيت الشتوى وقصر ساعات النهار وتقارب مواعيد الصلوات الثلاث من العصر حتى العشاء وتقارب موعد آخر صلاتين. كما يغفل بديهية إمكانية إقامة صلاة المغرب جماعة فى استراحة الشوط الأول، وأخيرًا فهو يتجاهل فكرة إمكانية قيام الأجهزة الفنية والطبية بالصلاة التى لا تستغرق سوى دقائق معدودة كجماعات منفصلة، على أن يؤديها اللاعبون فى الاستراحة. ولا وجود لتلك المفاضلة المزعومة، أو ذلك الاختيار بين ترك العمل كلية وبين الصلاة، إنما على أسوأ تقدير يمكن للمدير الفنى ترك خمس دقائق من متابعة الشوط الأول- من مباريات مملة هجرها غالبية المصريين- لمساعده ليقيم الصلاة مع بعض البدلاء. فهو تصريح- من الناحية الفقهية البحتة- مضلل وغير صادق، لأن الدين لم يشترط فى غير صلاة الجمعة أن تقام جماعة واحدة. 

أما من الناحية الأخلاقية والأدبية، ومن ناحية مسئولية كل مواطن عما يقول- خاصة إذا كان شخصية عامة وما قاله وجد طريقه لوسائل الإعلام- فإن المدير الفنى صاحب هذا التصريح مطالبٌ بتقديم ما يبرهن به على صدق اتهاماته عن تعمد الجهة الإدارية عدم احترام العقيدة الدينية، لأنه اتهامٌ خطير لو ثبت يمكنه أن يضع من قاموا به تحت طائلة القانون. وبالمنطق نفسه فإن إطلاق هذا الاتهام الخطير دون سند أو إثبات يجب أن يضع مطلقه لنفس المساءلة، لأن العبث فى هذه المنطقة التى من شأنها إثارة عواطف الناس الدينية غير مقبول. ويجب على الجهة الإدارية التى اتهمها المدير الفنى أن تدافع عن نفسها، وأن تلزمه بإثبات اتهامه أو أن تخضعه لمساءلة مشروعة ومطلوبة منعًا من الانزلاق فى هذا الاتجاه الفوضوى من إطلاق اتهامات لإثارة المشاعر الدينية للمصريين. 

فى مصر الآن هناك التباسٌ كبير فى مسائل يجب أن تصبح بديهية. محاولة البعض فرض رؤيته القيمية والدينية على الآخرين أصبحت تجد رواجًا بين قطاعات من المصريين. محاولة البعض الآخر اتهام آخرين بتعطيله عن ممارسة شعائره الدينية نقطة أخرى يجب حسمها مجتمعيًا. ثم أخيرًا محاولة فرض نموذج معين لممارسة الشعائر الدينية بشكل جمعى- مثلما كان يحدث فى بلدان أخرى بغلق المحال بشكل إجبارى أوقات الصلاة- هى محاولة لفرض شخصية غير مصرية على مصر. 

مشهد المترو بين الرجل المسن والفتاة كان نموذجًا لمحاولة فرض أفراد لقيم معينة بالقوة على الآخرين فى مكان عام. الأزمة الحقيقية لهذا المشهد هو تناقضه مع مشاهد أخرى تثبت أن بعضنا يحاول فرض ما يراه فقط على من يعتقد بضعفهم. لأن وسائل المواصلات بها كثيرٌ من المشاهد التى يكون أبطالها ذكورًا ولا يجرؤ أحد على التدخل لضبطها. وفى الشوارع نجد الشىء نفسه. والحل المنطقى هو الاتفاق المجتمعى على منظومة ملزمة للجميع، وهذه المنظومة هى القانون فقط. وعلى كل من يريد فرض نموذج قيمى معين أن يفعل ذلك فى نطاق أسرته. لأننا لو وافقنا أو قبلنا تحت أى مسمى أحقية الأفراد- مهما تكن أعمارهم- على فرض رؤاهم على الآخرين خارج القانون الموحد فهذا معناه الفوضى العارمة. وحين يكون هؤلاء الآخرون فتيات أو نساء تصبح الفوضى عدم أمان يصاحب أى مصرية تسير فى الشارع أو تستقل وسيلة مواصلات عامة. القيمة المجتمعية الأقوى التى يجب أن نقبلها هى عدم التعرض للفتيات أو النساء فى الشارع أو وسائل المواصلات بأى شكل ومهما يكن الادعاء. تهذيب المجتمع مسئولية الأسر داخل المنازل أو المؤسسات، وليس مسئولية أو حق الأفراد خارج نطاق أسرهم. إن الخطوة تجر خطوات تدهس الحرية الشخصية.

ولكل من احتفى بموقف الرجل أقول: ماذا لو حدث هذا مع ابنتك أو زوجتك إذا اضطرتها ظروفها الجسدية لأى سبب أن تجلس بطريقة معينة، أو كانت تحادث أحدًا فى تليفونها الشخصى، أو تضع لنفسها إطار حماية شخصيًا عن طريق سماعات أذن تفصلها عن الاستماع لفوضى وسيلة المواصلات وما يُسمع بها أحيانًا من ألفاظ بذيئة؟! 

هناك ثقافة تحتاج إلى النشر فى المجتمع المصرى وهى ثقافة احترام حرية الآخرين ومساحتهم الشخصية. والحد الفاصل بين هذه الحريات هو مواد القانون التى تسنها وتقوم على تطبيقها المؤسسات الشرعية المسئولة. فلو أن المجتمع قد استقر على «درس كود» مثلًا فى وسائل المواصلات العامة، فيجب أن يكون الحق الحصرى فى تطبيقه هو المؤسسات لا الأفراد. وما دام القانون لا يمنع ممارسات فردية شخصية معينة، فلا يحق لفرد أن يتدخل لفرض رؤيته الخاصة. ويجب أن تتمتع المصريات بحماية قانونية مطلقة فى الشارع وأماكن العمل ووسائل المواصلات. 

كان موقفًا عابرًا لكنه فتح نقاشًا مجتمعيًا مشروعًا لوضع الأمور فى نصابها الصحيح. ليس مطلوبًا من فتاة أو أمرأة مصرية أن تصرخ فى وسيلة مواصلات لتبرر سبب طريقة جلوسها أو ماذا تفعل فى تليفونها الشخصى. الأمان المطلق لأى مصرية فى الأماكن العامة يجب أن يصبح أمرًا مفروغًا منه لا يقبل المساس. 

أما فكرة التنطع الدينى، فلقد عاصرنا بعض مشاهده فى الشوارع، مثلًا حين يقرر بعضهم غلق الطريق لإقامة الصلاة، أو حين قرر بعضهم يومًا الاستيلاء على مساحة من معرض الكتاب للصلاة، فى حين توجد مساحة مخصصة للصلاة فى مكان آخر. يفعلون ذلك ويتهمون المعترضين بأنهم ضد الدين وضد الصلاة، وأنهم يحاولون منعهم من إقامة شعائرهم الدينية. مثل الذى يقرأ القرآن فى نهار رمضان فى ساعات العمل الرسمية، أو غير تلك المشاهد التى تنزل بمقام سمو الشعائر الدينية- التى من المفترض أن تكون علاقة خاصة جدًا- إلى مجرد مزايدة على كل الآخرين. وأنا أضع تصريحات هذا المدير الفنى فى سياق المزايدات نفسها والمشاهد .. عزيزى كابتن كرة القدم.. يمكنك أن تصلى المغرب لو أردت ذلك دون كيل هذه الاتهامات للآخرين! 

كانت هناك محاولات مستمرة عبر سنوات طويلة لفرض نموذج غير مصرى على المصريين. مرة بالتنطع فى الزى، ومحاولة أسلمة ملابس معينة ليس لها أى علاقة بالإسلام سوى مصادفة وجودها فى الجزيرة العربية وقت رسالة النبى «ص».. فهى أزياء محلية تخص أصحابها وليست أزياء دينية.

ومرة بمحاولة شيطنة الفنون المصرية عبر عدة عقود ماضية كالموسيقى والتمثيل، مثل قصص التوبة من الفن ودفع أموال طائلة ثمنًا لاعتزال بعض الفنانات وسب الفن والتبرؤ منه، حتى ثبت أنها كانت محاولة لوأد مكانة مصر الفنية تمهيدا لنقل مكان الثقل الفنى إلى بلادٍ أخرى! 

ومرة ثالثة ما كان يفعله- وبعضهم ما زال يفعله- بغلق محالهم ووضع لافتة «مغلق للصلاة». لو كانت النية خالصة للصلاة لأقامها بعضهم واستمر البعض الآخر فى تقديم الخدمة أو العمل. أو لأغلقوا المحال وصلوا دون وضع هذه اللافتة، لأنها لافتة سياسية وليست دينية. لافتة سياسية تهدف لفرض نموذج بعينه على الشخصية المصرية. الكابتن يريد فرض هذا النموذج فى الرياضة. كما حاول منذ عقود فرضه بعض لاعبى الكرة الذين ابتدعوا «الشورت الشرعى»، ثم ثبت بعد ذلك أن هؤلاء اللاعبين كانوا منتمين تنظيميًا وفكريًا لجماعة عاصرنا جرائمها ضد مصر بعد أن سقطت أقنعتهم وأقنعتها. 

مصر تحتاج إلى حسم وجهتها، وأن تنتصر بوضوح لشخصيتها، لا أن تُخدع مرة أخرى تحت زعم الحفاظ على الشعائر الدينية فتنزلق تدريجيًا لارتداء ثوب ليس ثوبها. مصر دولة متدينة بشكل حقيقى، يحمل المصريون سجاجيد الصلاة فى حقائب سفرهم ليقيموا صلاتهم دون ضجيج ومزايدة. عمل البعض فى دول غير مصر وتأثروا بنموذجها وعادوا ليحاولوا فرض ذلك النموذج على المصريين. مصر دولة متسامحة لا تعادى الإسلام أو أى ديانة سماوية، لكنها تأنف من التنطع الدينى. هذه شخصيتها الحقيقية وما تعرضت له فى العقود الماضية كان جملة عارضة فى تاريخها الممتد. لو تسامحنا فى الخطوة الأولى فسوف تأتى باقى الخطوات تباعًا حتى نرى من يطالب بسن قوانين بغلق المحال أوقات الصلاة. المصريون يمارسون طقوسهم من منطق حب العبادة لا منطق الجبر والإلزام. 

الدفاع عن ثقافة احترام الحرية الشخصية للأفراد لا يعنى الدفاع عن انفلات أخلاقى، إنما يعنى حماية حقوق المصريين التى كفلها القانون.

روى أحد المحامين واقعة مؤسفة بأحد مدن الصعيد.. طالب من محافظة شمالية التحق بالجامعة الجنوبية. دأب على توصيل إحدى زميلاته لباب السكن الجامعى الرسمى حين تكون هناك محاضرات متأخرة. وفى مرة اعتدى عليه من يعتقدون أن لهم حقًا فى الوصاية على المجتمع وأحدثوا به عاهة. تمسك الطالب بحقه القانونى وتم حبس المعتدين. فى الفترة بين الاعتداء والحكم القانونى حاول البعض دفع الطالب للتنازل عن حقه مستخدمين كومة من العبارات الإنسانية! رفض الطالب- وحسنًا فعل- العودة مرة أخرى لتلك المدينة كما رفض التنازل عن حقه. الغريب فى هذه الواقعة أن تلك المدينة سياحية، وأن أحدًا من هؤلاء المعتدين لا يمكنه أن يتجرأ على محاولة فرض ما يعتقد بصوابه على أى سائح! فهل نقدس حرية السائح وندهس حرية المصريين؟!