الأربعاء 30 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

قل لنا يامولانا

حرف

1 - ما هو الاختصاص الدستورى للمؤسسات الدينية؟

2- ولماذا تعارض الخطاب الدينى الرسمى مع الواقع المصرى؟

3 - وماذا عن ظواهر استدراج مصر لارتداء ثوب سلفى لا يناسب هويتها؟

- هناك مشكلة كبرى عندنا فى فكر وعقل رجل الدين المسلم بصفة عامة ولا أستثنى منهم سوى من رحم ربى

- هناك فكرة عقائدية تؤمن بأن ديانة الإسلام يجب أن تتداخل فى كل مفردات الحياة

فى الأشهر الماضية بدأت بعض المشاهد والظواهر تثير انتباه قطاعٍ كبير من المصريين وتدفع إلى عقولهم بكثيرٍ من التساؤلات التى أعتقد فى مشروعيتها التامة. قد يصمت البعض عن البوح بها علانية حياءً أو إيثارًا لعدم التعرض لمزايداتٍ واتهاماتٍ بمعاداة «الدين».

لكننى أعتقد أن مصر الآن قد تجاوزت هذه الهواجس، وأن المسئولية الوطنية والأخلاقية والضميرية، بل والدينية تلزمنا بخوض نقاشٍ صحى من أجل صالح بلادنا «مصر»، والذى لا نختلف عليه قطعًا مع مؤسساتنا الدينية المصرية كغاية، لذلك والتزامًا منى بتلك المسئولية، وثقة منى فى أن غايتنا جميعًا كمصريين واحدة، أنقل هذه التساؤلات وأطرحها كموضوعٍ للحوار الوطنى العاقل الهادئ، بلا تشنجٍ أو مزايدة من أحدٍ على أحد.

فى الحقيقة كثيرٌ مما سيرد فى هذا المقال هو تساؤلات تحتاج إلى إجابات علّ الذين يتساءلون- وأنا أحدهم- يكونون قد أخطأوا فهم هذه المشاهد، فتصوب تلك الإجابات سوء فهمهم، وتريح عقولهم، وتمنحهم طمأنينة مشروعة على وطنهم.

1

منذ أيامٍ طالعنا صورة إعلامية وخبرًا عن لقاء فضيلة شيخ الأزهر بصفته الرسمية مجموعة من سفراء مصر الذين تم اعتمادهم بالفعل لتمثيل مصر فى بعض الدول. ولقد جاء اللقاء قبيل توجههم مباشرة لبدء مهامهم. مما يفهمه العامة مثلى أن لقاء السفراء بهذا الشكل الرسمى، وفى هذا التوقيت- أى بعد الاستقرار على اختيارهم واعتمادهم، وغالبًا بعد لقاء رئيس الجمهورية- يكون مع معالى وزير الخارجية لكى يوضح لهم مهامهم، ويفصل لهم بعض فنيات وأسرار مناصبهم، لكى يقوموا بتمثيل مصر بالشكل الذى يتوافق مع رؤى الدولة المصرية.

لكن أن يقوم فضيلة شيخ الأزهر بصفته الشخصية- مع كامل الاحترام لفضيلته والاحترام للمؤسسة المصرية التى يرأسها- بمقابلتهم كان هذا علامة استفهامٍ كبرى. فهل ينص الدستور المصرى على أنه من بين مهام شيخ الأزهر أن يقوم بهذا اللقاء الرسمى؟ وهل تنص اللوائح القانونية فى الدبلوماسية المصرية العريقة على هذا اللقاء؟ وهل مثلًا قام فضيلته بإعطاء توجيهات- دينية أخلاقية- للسادة السفراء قبل سفرهم، إذا كنا متفقين على أن السياسة المصرية لا تصنعها المؤسسة الدينية؟ وإن الأمر كذلك، فهل يحتاج من تربوا فى دهاليز أعرق دبلوماسيات المنطقة، ومن تم الاستقرار عليهم بالفعل إلى توجيهات دينية أخلاقية؟! ومن المنطق نفسه نتساءل عن اللقاءات السياسية الشبيهة التى يجريها فضيلة الإمام بشكل جماعى أو بروتوكولى مثل لقائه مثلًا بالسفراء الأجانب بعد توليهم مناصبهم؟ قد يحدث لقاءٌ ثنائى مع أحد السفراء- بحضور الخارجية المصرية- بخصوص مسألة بعينها أو توقيع اتفاقيةٍ بعينها بين المؤسسة الدينية «المصرية» ومؤسسة موازية فى إحدى الدول فهذا طبيعى، لكن أن يتحول الأمر إلى ما يشبه آلية مستقرٌ عليها فهو الذى يثير هذه التساؤلات. 

2

فى العامين الأخيرين صدر عن المؤسسة الدينية الأكبر فى مصر عددٌ من التصريحات الرسمية- السياسية والمجتمعية- قمتُ بمراجعتها على الصفحة الرسمية للمؤسسة تلقى بمجموعة من التساؤلات عن كيفية صياغة هذه التصريحات داخل المؤسسة، وعن هوية المستشارين الذين يقومون على صياغتها قبل أن تصدر باسم فضيلة الإمام الأكبر.

فنحن أمام مؤسسة كبيرة يحترمها المصريون وغير المصريين، وننتظر جميعًا أن نقرأ ما يصدر عنها فى المواقف الكبرى. رغم أننى- وبشكلٍ شخصى - كنتُ أتمنى أن تنأى أى مؤسسة دينية مصرية عن الزج بنفسها فى الشأن السياسى، لكن لا بأس فنحن أمام واقع على الأرض، وربما ما زال أمام مصر عقودٍ حتى نصل إلى تلك المرحلة، لذلك فعلينا قبول الأمر الواقع-بتعبير المؤسسة رسميًا عن رؤيتها فى مواقف سياسية أو تكنوقراطية- بأن نناقش تفاصيل ما يصدر عن المؤسسة فى هذين المضمارين، وأن نناقش- بكل موضوعية واحترام وصدق نية ومحبة، وتغليب للصالح العام- مدى توافق مواقف المؤسسة الرسمية مع كلٍ من مفردات الواقع المصرى، والشخصية الأصيلة لمصر، ومفردات السياسة الإقليمية التى لا يمكن فصل مصر ومواقفها عنها. 

ففى الشأن السياسى، وفيما يخص المحنة التى بدأت فى المنطقة منذ أقل من عامين، والتى تصدت لها مصر بمفردها كما تصدت لكل مخططاتٍ إنهاء القضية الفلسطينية، صدر عن المؤسسة الدينية المصرية عددٌ من التصريحات السياسية التى قمتُ بمتابعتها فى وقتها شأن كل المصريين، ثم قمت بمراجعتها مرة أخرى قبل كتابة كلماتى هذه. ومن خلال هذه المتابعة لاحظت أن بعض تلك التصريحات- وقت صدورها وفى إطار الملابسات والوقائع التى صدرت من أجلها- لم تكن تعبر عن الموقف المصرى الشعبى الجمعى، بل إن بعضها- مثل نعى بعض من اعتدوا على مصر سابقا وتسببوا فى محنة القطاع والإقليم بأكمله- مثّل صدمة حقيقية لقطاعٍ من المصريين. 

الملاحظة الثانية أن بعض هذه التصريحات الرسمية تتفق مع الموقف المصرى العام، بل والإنسانى والضميرى برفض تهجير أهل القطاع، ورفض تصفية القضية الفلسطينية، وإدانة الجرائم المقترفة ضد الأبرياء، لكن هذه التصريحات فى مجملها تجاهلت التصدى للخطر الذى واجهته مصر ولا تزال تواجهه فى استهداف أراضيها.

أى أن المؤسسة- بحصر نسبة التصريحات- قد تناولت هذا الشأن السياسى من وجهة نظر فلسطينية وإسلامية أممية أكثر منها وجهة نظر مصرية، رغم مصرية المؤسسة وخضوعها فى كل تفاصيلها للدستور المصرى.

الملاحظة الثالثة فيما يخص تصريحات قيادة المؤسسة فى الشأن العام، فقد لاحظتُ أن نصيب الأحداث فى مصر- وبعضها كان محل اهتمام غالبية المصريين- من تلك التصريحات لم يكن النصيب الأكبر، وأن النصيب الأكبر صب فى صالح قضايا غير مصرية. 

3

فى شأنٍ آخر اجتمعت قيادة المؤسسة الأسبوع الماضى مع مدير عام المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألكسو»، ثم فاجأنا فضيلته بطرحٍ فى منتهى الخطورة، حيث قال نصًا: «لماذا لا يكون هناك اتفاقٌ على منهجٍ مشترك وموحد للغة العربية والتاريخ العربى يُدرس فى كل البلاد العربية؟ مبينًا فضيلته أن تدريس التاريخ العربى بتوجهات مختلفة فى كل دولة أثر على وحدة الجسد العربى وعلى قضايا الأمة العربية وفى مقدمتها القضية الفلسطينية...».

أنا أعتقد أن هذه العبارات من أخطر ما سمعته من فضيلته، لأنها تعكس رؤيته لواحدة من أهم مكونات الهوية لأى شعب، ولأنها تطرح تساؤلات أعمق عن رؤية فضيلته للهوية المصرية، وهل يؤمن فضيلته بأن لكل شعبٍ هوية مستقلة، وأن تاريخ مصر مثلًا- وفضيلته ينتمى لواحدة من أقدم مدن العالم- لا يبدأ من الغزو العربى لمصر؟!

أنا أدرك أن التاريخ ليس تخصص فضيلته الأكاديمى، لكن من المفترض أنه لدى المؤسسة عدد كبير من المستشارين المتخصصين فى التاريخ، وأنهم يقدمون لفضيلته أوراقًا بحثية تنير له الطريق قبل عقد لقاءاتٍ ذات علاقة بالتاريخ، أو قبل الإدلاء بتصريحات سوف يتعامل ملايين المصريين معها بجدية تامة. 

فمثلًا وردًا على تساؤل فضيلته الوارد فى بدء الفقرة أقول.. لن يكون منطقيًا إطلاقًا الاتفاق على منهجٍ موحدٍ للتاريخ العربى، لسبب منطقى جدًا لا علاقة له بالتوجهات التى تحدث عنها فضيلته، إنما لأن كل شعب ممن يطلق عليهم الدول العربية كان تاريخه وموضعه فى الحقبة العربية مختلفين تمامًا عن باقى الشعوب. ففى مصر مثلًا كان هناك غزوٌ عربى لمصر اكتظت صفحاته بآلاف المظالم، وعصف بكثيرٍ من مفردات الحضارة المصرية، ويرى البعض أن له أيضًا صفحاتٍ مضيئة.. فكيف سيكون هناك منهجٌ موحد يدرسه شعبٌ تم غزو أرضه، وشعبٌ قام أسلافه بالغزو؟! لن يمكن هذا إلا بتدريس تاريخ مفصل مجتزأ لا يعبر عن الحقيقة، أو تاريخٍ مزيف يتحكم فى زيفه الأقوى أو الأكثر ثراءً مثلًا، ولا أعتقد أن فضيلته يقصد أو يوافق على ذلك. التاريخ هو جزءٌ من شخصية كل شعب وهويته، وهذا يقودنا إلى العبارات التالية لفضيلته وما بها من أفكارٍ لا تتوافق مع حقائق ما حدث فى الماضى القريب. 

حديث فضيلته عن وحدة الجسد العربى، وبكل أسفٍ، هو حديثٌ خارج التاريخ والواقع والحقيقة. ولو أن فضيلته كلف مستشاريه من متخصصى التاريخ بتقديم مختصر من تاريخ كل دولة عربية على الأقل فى القرن العشرين لأدرك فضيلته أنه يحاول مزج ما لا يمكن مزجه، لأنه عناصر متنافرة. لقد أثبت التاريخ ذاته فشل وفساد أى جهود سياسية تحاول فرض فكرة وهمية عن دولة أو أمة عربية موحدة. هى فكرة وهمية ساذجة نسفتها حقائق التاريخ والمسلك السياسى لكل شعب. وهذا لا يعيب الدول العربية. ففى كل العالم، لكل شعبٍ شخصيته ولكل دولة مصالحها.

الحديث الوحيد المنطقى الواقعى هو تبادل المصالح بين الدول، غير ذلك يعتبر إهدارًا للوقت والجهد ومناطحة لطواحين الهواء.

أعتقد أنه- وبناء على حديث فضيلته- لدينا مشكلة معرفية كبرى فى المؤسسة الدينية الأكبر فى مصر، وهذه المشكلة المعرفية تتمثل فى رؤيتها للتاريخ بشكلٍ عام، ورؤيتها لتاريخ مصر، ورؤيتها لمصر ذاتها، وهل تؤمن المؤسسة بأن مصر «أمة» فى حد ذاتها، وأنها - أى المؤسسة- هى مؤسسة تنتمى بحكم القانون والدستور والواقع لهذه «الأمة المصرية المستقلة»، أم هل تصر المؤسسة على تبنى خطاب أممى شمولى، وأنها تمثل أمة أكبر من الأمة المصرية؟ وهل هذا هو السبب فى بعض أو أغلب مواقف وتصريحات المؤسسة السياسية على الأقل فى آخر عامين؟ وإن كانت هذه هى رؤية المؤسسة، أفلا يكون فى ذلك دافعٌ كبير لقلق مصريين كُثر لأن هذا يعنى أن المؤسسة مثلًا تؤمن بعودة الخلافة الإسلامية فى يومٍ ما، وما يترتب عليه من تقزيم رؤيتها لمصر؟ أنا فقط أتساءل ولا أقدم أيًا مما سبق كحقائق، وعلى المؤسسة أن تفسر لبعض المواطنين- وأنا منهم- ما استعصى عليهم فهمه.

4

فى لقاءٍ مهم بين فضيلة الإمام الأكبر وبين رئيس الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد، وحسب ما نُشر فى الموقع الرسمى للمؤسسة الدينية قال فضيلته «إن المؤسسات التعليمية فى عالمينا العربى والإسلامى عليها مسئولية مضاعفة لمواجهة حملات التغريب والذى تنشره بعض المدارس الأجنبية والدولية، وما يترتب عليه من إضعاف منظومة التعليم الوطنية..»، وأشار فضيلته إلى إحدى الظواهر المقلقة التى يجب التوقف أمامها، وهى ظاهرة تباهى الأسر بإجادة أبنائها للغات الأجنبية، مع ضعفهم الشديد فى الإلمام بأبسط قواعد اللغة العربية، والتى تصل فى بعض الأحيان إلى عدم القدرة على القراءة والكتابة بشكلٍ صحيح.. 

وهنا مرة أخرى يبرز التساؤل الأهم.. فى لقاءٍ بين مسئول مصرى رسمى عن جودة التعليم فى مصر مع رأس مؤسسة دينية مصرية لنقاش مسألة مصرية خالصة، فى مثل هذا اللقاء لماذا يتحدث فضيلته باسم دولٍ أخرى، أو يهتم بمشاكلها فى التعليم التى يراها فقط فى مواجهة ما يعتقده فضيلته بقيام المدارس الدولية بنشر التغريب؟ لماذا إصرار فضيلته على مناقشة مشاكل مصر بمنطق أنها جزءٌ من كلٍ وليست كيانًا مستقلًا له مفرداته وتفاصيله المتفردة والمختلفة عن باقى الدول؟ 

لقد بدأ فهمى لما يمثله منصب شيخ الأزهر فى الارتباك بشكلٍ حقيقى، وأصبح الأمر متضاربًا أشد التضارب. ففى الظروف المعادية فى العالم يكون مفهومًا أن يمتد نشاط الأزهر «الدعوى والروحى» لدولٍ أخرى، وأن نعتبر ذلك من تمام قوة مصر الناعمة. لكن فى الظروف السياسية الحاسمة التى تمر بها مصر فى هذه السنوات، ألا تكون مصرية المؤسسة الدينية مطلبًا وجوبيًا، وألا يكون طموح المصريين فى أن تتبنى المؤسسة خطابًا مصريًا خالصًا هو طموحٌ عادل تمامًا؟ 

والتساؤل الثانى عما ذكره فضيلته عن تباهى الأسر «المصرية» بإجادة أبنائها اللغات الأجنبية..ما العيب فى ذلك؟ ومن قرر أن أزمة الطلاب مع اللغة العربية مثلًا سببها تعلم اللغات الأجنبية؟ وماذا عن مئات الآلاف من خريجى التعليم الحكومى ممن لا يجيدون قواعد اللغة العربية؟ أليس من المحتمل أن أزمة اللغة العربية تكمن فى طرق تدريسها واختيارات واضعى المناهج من مقررات معقدة، أو لا تنتمى إلى البيئة المصرية، فيشعر تجاهها الطلاب بالنفور؟! وهل موقف فضيلته من تعلم اللغات الأجنبية فى مصر هو امتداد لموقفٍ سابق منذ أشهر حين طُرِح بشكلٍ رسمى عن طريق المؤسسة ما عرف وقتها بتعريب علوم الطب والصيدلة؟

علوم اللغة العربية مهمة ولا شك، لكن وبكل صراحة أقول، إن بناء الأمم فى العصر الحديث يتطلب وجوبيًا الاهتمام باللغات الأجنبية. لمصر تجربة تاريخية مهمة لا أدرى إن كان مستشارو المؤسسة يعلمون عنها شيئًا أم لا؟ كانت مصر قبلة العلوم التطبيقية فى العالم القديم، وكانت الإسكندرية أهم جامعة وقتها، يفد إليها آلاف الطلاب من كل الدول لتعلم الطب والهندسة والصيدلة والفلك، وكل العلوم التى ابتدعها المصريون قبل ذلك بقرونٍ طويلة. بعد الغزو العربى لمصر، وطبقًا لطبيعة الشخصية العربية المهتمة بعلوم اللغة فقد توارى واندثر كثيرٌ من العلوم المصرية، وهرب من مصر مئات العلماء إلى أنطاكية ومنها إلى الرهة ثم بغداد فيما بعد، وبهم أُسست دار الحكمة، ولقد أوردت فى أحد كتبى هذه القصة المؤلمة بالتفصيل والأسماء والتواريخ. علوم اللغة العربية وحدها غير كافية لنهضة أى أمة، لأن كثيرًا من العلوم يتم تعلمها بلغاتها الأصلية، ولأن العالم قد تعارف على لغة عالمية دولية مشتركة هى الإنجليزية. على الأسر المصرية واجب وطنى أن يقوموا بتحفيز أبنائهم على تعلم اللغات الأجنبية، ويجب أن نتقدم لهذه الأسر بالشكر والتقدير، لأنهم نجحوا فى تأهيل أبنائهم للمشاركة فى نهضة مصر.

5

أما التساؤل الثالث الوارد فى عنوان المقال، فهو تخوف مشروع له ظواهره ومفرداته، ويمكننى صياغته بشكلٍ آخر أكثر وضوحًا.. هل هناك من يحاول انشغال الدولة المصرية فى تفاصيل مواجهات وطنية حاسمة ومفصلية فى تاريخها المعاصر، لكى يستدرج مصر والمصريون بشكلٍ ناعم متدرج للوقوع فى شرك أو كمين السلفنة؟ 

هناك تغير ظاهر فى الخطاب الدينى الرسمى عبر بعض منابر مصر، تغير يتجه اتجاهًا معروفًا لمن لديه الحد الأدنى من الثقافة الدينية، وهو اتجاه السلفية المتشددة دينيًا، حتى لو نأى بنفسه عمدًا عن الخوض فى الشأن السياسى. فى خطبتى جمعة متتاليتين صادفتُهما فى مسجدٍ مقام داخل نادٍ رياضى خاص كبير ومعروف بإحدى المدن الجديدة بجنوب مصر، استمعتُ- فيما يزيد على خمس وأربعين دقيقة فى كل خطبة- إلى خطاب دينى أعرفه جيدًا.. سلفية متشددة وإمام يصرخ فى المصلين، ويعترض على اعتراض البعض على تطويل خطبة الجمعة فى بعض المساجد بحجة أذهلتنى.. ليس الإمام من حبسك فى المسجد، بل الله لأنك فى معية الله! وما تستمع إليه ليس حديث الإمام بل كلام الله! 

وفى بقعة أخرى من مصر، وفى التوقيت نفسه تقريبًا، كانت هناك صورة صادمة.. شاهدنا مسئولًا دينيًا رسميًا يتولى منصبًا تنفيذيًا كبيرًا، وهو يمد يده لمرؤسيه ليهموا بتقبيلها! ليست لدى أزمة فى تقبيل رأس أى عالمٍ فى أى تخصص أفاد البلاد والعباد، لكننى أقبل رأسه كمواطن تقديرًا لما قدمه لوطنه وشعبه، وربما لعموم البشرية من علوم- طب وهندسة وفلك وعلوم تصنيع التسليح وأيضًا علوم دينية لتجديد ما هو جامد- تفيد فى مجملها فى إعمار الأرض ونهوض الأمة المصرية. لكن أن نقوم بتقبيل يد موظف عمومى فلا أدرى تحت أى مادة من مواد الدستور المصرى واللوائح التنفيذية المنظمة لعمل الموظفين الكبار يمكن أن نفسر هذا المشهد، وهل كانت يد هذا المسئول تُقبّل فى مصر قبل توليه منصبه العام؟ أم أنه مشهد نفاق وظيفى ذميم ما كان له أن يحدث؟ وهل نحن أمام مسئول تنفيذى رفيع المستوى يجب أن يمارس مهامه طبقًا لدستور وطنى، أم أننا أمام «شيخ طريقة» له مريدوه وأتباعه، وربما فى هذه الحالة يكون قد قام بأخذ بعضهم معه حين تولى المنصب وهم الذين رأيناهم يقبلون يده؟!

احترام علماء الدين فى الإسلام، ومهما يكن قدرهم يجب أن يخضع لآداب النبوة. فهل كان المسلمون فى عصر النبوة أو فى عصر الصحابة من بعده يقبلون يدى «العلماء؟» ومن كان منهم وقتها يحمل هذه الصفة؟ أم أننا أمام بدعٍ تم ابتداعها فى قرونٍ تالية، ويراد إعادة غرسها فى مصر مجددًا كمظهر من مظاهر إعادة صياغة المشهد المصرى؟ مرة أخرى إننى أتساءل ولا أرى فى طرح هذه التساؤلات أى خروجٍ عن اللياقة أو التأدب.

6

يبدو للبعض أن فتح الطريق فى مصر لانتشار تيار دينى سلفى متشدد هو فكرة إيجابية آمنة، يمكن من خلالها إعادة نشر القيم الدينية الأخلاقية دون المخاطرة أو الخوف من تحول أو تحور هذه الفكرة لتنقلب فى لحظة معينة إلى «سلفية جهادية» أو يقرر بعض شبابها- بعد عدة سنواتٍ مثلًا وحين يرون أن الظروف مواتية- القيام بتغيير هذه القيم بأنفسهم تحت راية فتاوى سلفية تعتنق فكر المراحل وتغير فقه كل مرحلة. أقول لهؤلاء مخلصًا إن هذه مقامرة محكومٌ عليها بالفشل التام، وستكون نتائجها كارثية على مصر. 

أقول هذا لأسبابٍ محددة، منها ما هو تاريخى، وما هو فقهى خالص. لقد خُدعَ مصريون كُثر فى موقف التيار السلفى من ثورة يونيو «الوطنية». لقد قيل لى وقتها من أصدقاء كثيرين- لا يلمون بمعلومات عن هذه الجماعات ولا تلك الأفكار- إن السلفيين غير الإخوان ولا ينشغلون بالسياسة ولا يعتنقون أفكار تغيير المجتمع بالقوة، فلا خوف منهم، واستندوا فى ذلك إلى موقف السلفيين من ثورة يونيو. لكننى أعرف على سبيل القطع أن السواد الأعظم ممن يعتنقون الفكر السلفى قد بنوا موقفهم بناءً على موقف تاريخى محدد. لقد استرجعوا مشاهد بداية توريث معاوية ابن أبى سفيان للخلافة لابنه يزيد، وإصراره على أخذ البيعة له من أهل المدينة بالقوة والترهيب والوعيد.. ساعتها اتفقت جماعة من أهل المدينة على مبايعة يزيد- رغم عدم قناعتهم به ورغم ثبوت آراء بعضهم السلبية فى شخصه- لعدم تفريق صفوف المسلمين. وفيما بعد صيغ هذا الموقف فقهيًا تحت عنوان وجوب «مبايعة الإمام المتغلب»، أى وجوب طاعة الحاكم صاحب الغلبة بالقوة. 

هذا هو سبب موقفهم من ثورة يونيو. وهذا أبعد ما يكون عن فكر الدول الحديثة وأفكار المواطنة، والإيمان بالدولة الدستورية. وهذا يعنى أيضًا أنهم لو لا قدر الله تغلبت عصابات الإخوان ومن والاها على الدولة المصرية، فإن جموع السلفيين كانوا سيرضون بهم حكامًا لمصر طبقًا للمنطق الفقهى نفسه.

من رحم السلفية، خرجت ما تعرف بالسلفية الجهادية بمسمياتها المختلفة وجماعاتها المختلفة عبر العقود الماضية، وكثيرٌ من أفرادها قد انضموا بالفعل لميليشيات المقاتلين ضد الدولة المصرية. والمسمى نفسه «سلفيون» هو مسمى يؤذى الأذن لأنه يتعارض صراحة مع نص القرآن الكريم وما اختاره لأتباع محمدٍ «ص» من اسم «المسلمين». ولو لم يختر الله لنا هذا المسمى، فقد كان من المنطقى أن يكون مسمى «المحمديين» هو ما يناسبنا، لكن هذا الاسم يستخدمه المستشرقون طعنًا فى صحة الرسالة المحمدية، فهرب منه هؤلاء ونسبوا أنفسهم لهذا المسمى «السلف» بديلًا عما اختاره الله تعالى! 

إننى وبصراحة قاسية أقر.. أنا أكره أى رجل دين يردد هذه العبارات السمجة فى محاولة لتمرير هذه الخديعة.. «يا جماعة ما احنا كلنا سلفيين نتبع السلف الصالح.. حد يزعل لما ننسبه للسلف الصالح؟!» نعم هناك من يرفض هذا، ويفضل اختيار الله على اختياركم! نحن المسلمون وكفى!

7

أيها السادة نحن لن نخترع العجلة من جديد، ولا يمكن أن نعيد نفس معطيات المأساة ونتوقع نتيجة مختلفة. أقول للمصريين وأحملهم مسئولياتهم أمام الله وأمام ضمائرهم الوطنية، إن هناك مشكلة كبرى عندنا فى فكر وعقل رجل الدين المسلم بصفة عامة. ولا أستثنى منهم سوى من رحم ربى ممن قضى عمره فى التعلم بموضوعية، وليس مكتفيًا بالنقل، وغالبية هذه القلة تتم مواجهتها من الغالبية، وأحيانًا السخرية منها، وتسفيه أفكارها، ومحاولة نبذها أكاديميًا أو مجتمعيًا.

هذه المشكلة عبارة عن فكرة عقائدية تؤمن بأن «ديانة الإسلام يجب أن تتداخل فى كل مفردات الحياة»، إلى هذا الحد لا مشكلة، فكل المسلمين يعتقدون هذا حين يتصرفون، وحين يعملون ويتزوجون.. إلخ. الفهم الآمن لهذه الفكرة أن كل فرد مسلم مأمورٌ بأن يضبط سلوكه وحياته طبقًا لآداب الإسلام. أما ما يعتنقه غالبية رجال الدين فهو عكس هذا.. يعتقدون أن لهم حقًا- طبقًا لهذه الفكرة أو المعتقد وبصفتهم الذين يحملون هذا الدين ويدافعون عنه- فى التداخل فى كل مفردات الحياة بدءًا من الولادة، مرورًا بكل علم وكل مؤسسة فى الدولة وكل فن وهكذا. 

أعضاء الجماعات أرادوا اختصار خطوات طويلة والبدء بتغيير رءوس الدول أو أنظمة الحكم، ورأوا أن ذلك يكون باستهداف أركان قوة هذه الأنظمة من جيوش وطنية وشرطة وقضاء وساسة ومفكرين. أما من نتحدث عنهم، فهم يرون دائمًا المفاضلة بين المكاسب والأضرار. لو أن تغيير منكرٍ معين سوف يترتب عليه منكرٌ أكبر- كإزهاق أرواح مثلًا- فلا بأس من ترك المنكر الأول، ولكن إلى حين! لكنهم جميعًا يؤمنون بمجمل الأفكار من ضرورة تغيير المجتمعات المعاصرة، ويضعون هدفًا أعلى هو تكوين دولة الإسلام الكبرى. فاليوم مثلًا يمكن أن تكون خطوة تسلل الأفكار للمساجد، وغدًا يكون النزول للشارع أو الخروج فيما يسمى بقوافل الدعوة مع رمزية الكلمة وما تعنيه ضمنًا! 

لذلك أقول إن الشروع فى هذه المقامرة- بترك مصر للاستدراج للكمين السلفى- معناه ببساطة إعادة تدوير العقود الخمسة الماضية باستثناءٍ واحد هو تأجيل مشاهد الصدمة! كما ذكرتُ أننا لن نخترع العجلة من جديد. لقد اتخذت مصر قرارها بإنشاء جمهورية جديدة تكون جمهورية وطنية دستورية، لكل مؤسسة دورٌ لا تتخطاه طبقًا للدستور والقانون، ولكل فردٍ نفس الحقوق والواجبات يجب ألا يتخطاها بمنطق اعتقاده فى حقه أن يدعو المجتمع لصحيح الإيمان. ودور المؤسسات الدينية الشعبية أو المساجد هو إقامة الشعائر، ودور الأئمة هو الوعظ والإرشاد طبقًا لما تقرره الدولة، وليس دورهم هداية المصريين! هذا الفارق لا يدركه أئمة كثيرون، فيصرخون من فوق المنبر ويتشنجون، وأحيانًا يقومون بتثبيط وإحباط المصلين طبقًا لنفس الطريقة القديمة التى كان يتم بها استدراج المصريين لاعتناق أفكار متشددة انطلاقًا من شعورهم- الذى غرسه الأئمة- ببعدهم عن صحيح الإسلام! لقد كان بالفعل هناك تغير إيجابى كبير فى السنوات الماضية، وهدأت نبرة الأئمة بما يتفق مع وقار المنبر، وبما يتفق وصحيح أخلاق النبوة. لكننا عدنا مرة أخرى لما كانت عليه بعض المساجد قبل عشرة أعوام تقريبًا. 

ومن ناحية أخرى فأنا أدعو بشكلٍ واضح لمراجعة خريطة انتشار الجمعيات الأهلية السلفية فى مصر، ومراجعة ما تقوم به من أنشطة خاصة مع الأطفال، ووضع آليات لضبط هذا الأداء. كما أدعو أن تراجع وزارة الأوقاف أداءها فى الأشهر القليلة الماضية، وأن تراجع آلياتها فى ضبط خطاب المساجد يوم الجمعة، وما يتم إلقاؤه من دروسٍ بعد بعض الصلوات. إن ما يحدث حاليًا به بعض التراجع عن خط وزارة الأوقاف فى السنوات الماضية بشكلٍ يثير الدهشة، ويدعو للتساؤل عن أسباب هذا التراجع ومن متخذ قراره؟!