الثلاثاء 28 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

رءوف مسعد.. صاحب المفاجآت المتمردة دائمًا

حرف

- سافر إلى إسرائيل فى أواخر التسعينيات.. ورد على الانتقادات بالقول إنه ذهب ليكشف جرائم الاحتلال

- عاش معظم سنوات عمره فى هولندا إلا أنه كان يعود للقاهرة وينشر كل ما يكتبه من نصوص أدبية وصحفية فيها

الاقتراب من حياة وتقلبات وتطورات الكاتب والمثقف الراحل رءوف مسعد، لا يقتصر على كلمات الرثاء المعتادة، ولا كلمات المديح أو الهجاء العاطفية التى اعتدناها فى حالات الرحيل مثلما يحدث دائمًا، فالرجل خاض تجربة شائكة وطويلة ومركبة بشكل مفرط، كما استطرد هو فى وصفها وسردها وشرحها، وحاول أن يقترب من نفسه كلما أمسك القلم لكى يكتب، وهو لا يكف عن الكتابة عن نفسه حتى يكتشفها، ونكتشفها معه فى كل ما يكتبه، وهو نفسه كان مندهشًا من حياته، ولا يتردد فى التصريح بذلك، فهو ككاتب وكإنسان دومًا كان صادمًا ومفاجئًا، وأحيانًا يجد نفسه فى حرب لا علاقة له بها، وهو نفسه كان مندهشًا من كل ما حدث حينما كتب شهادة فى مجلة «بدايات» يونيو ٢٠١٨:

«حين أتأمل حياتى الآن، وأنا فى الحادية والثمانين من عمرى، أعجب لتصاريف القدر معى وبى، فها أنا أعيش فى مدينة أمستردام لمدة خمسة وعشرين عامًا بشكل منتظم، وقد رتبت حياتى منذ أن استقررت بهولندا وقررت البقاء هنا؛ رغم صعوبات اللغة التى لم أستطع إجادتها، لا سيما أننى قدمت إلى هولندا بعد سن الخمسين، بالتالى من السهولة أن يستقبل عقلى لغة جديدة بسرعة».

لم تكن تلك هى المفاجأة الأولى بالنسبة لى للأستاذ رءوف مسعد، فهو دائمًا كان صاحب منطق المباغتة فى كل ما يكتبه، وفى كل ما كان يعيشه منذ طفولته المركبة، واستخدام مفردة «مركبة»، ليست فذلكة لغوية منى، بقدر ما كانت حياته بالفعل فيها عناصر منذ طفولته، كانت لا بد أن تؤدى إلى ذلك الرجل الصدامى فى كثير من أداءاته فى الحياة وفى الكتابة. إذ إنه ولد فى «أم درمان» بدولة السودان، وكان والده قسًا بروتستانتينيًا، وكان له تاريخ قديم فى الطائفة الأرثوذكسية، رغم أن «رءوف» عاش طيلة حياته لم يعرف لماذا ترك والده الأرثوذكسية، وانتمى إلى البروتستانت، وكانت والدته قد نذرت الولد الأول للرهبنة، وعندما جاء ذلك الولد احتفظت به، وتمنت أن يكون طبيبًا، وعادت ووضعت ذلك النذر فى الولد الأصغر، وهو رءوف، واعتبرها رءوف بأنها عملية «تضحية» من والدته فى سبيل أخيه، لذلك كان يشعر بالاضطهاد، ومن ثم التمرد الذى ظل فاعلًا ولصيقًا به طوال حياته، لذلك كان متمردًا على كل شىء، وبعدما جاء والده إلى القاهرة، وأحيل إلى المعاش، كان يتقاضى مخصصًا أربعة جنيهات فقط لا غير، وبالتالى عاشت الأسرة حياة بائسة للغاية، وتركت آثارًا وخيمة على حياة رءوف وسلوكه، فعندما كان يدرس فى الجامعة، كان يحاول بقدر الإمكان أن يظهر بمظهر يشى بأنه ينتمى إلى طبقة أعلى من الطبقة تلك التى ينتمى إليها بالفعل، وهذا ما حكاه رءوف نفسه، فهو كان يتمتع بقدر كبير جدًا من المصارحة، فالكثير من كل ما كان يكتبه، مجرد اعترافات تثير القارئ إلى حدود قصوى، حتى لو جاءت تلك الاعترافات ببعض الأذى الذى كان يلحق به من هنا وهناك، ورغم أنه بدأ حياته الكتابية بالمشاركة فى تأليف كتاب عن السد العالى مع رفيقيه «كمال القلش، وصنع الله إبراهيم»، وكان كتابًا ممتعًا بالفعل، فهو لم يكن كتابًا يضج بالدعاية الفجة إلى عبقرية وعظمة مشروع السد العالى وصانعيه، رغم أن الأمر لا يخلو من تلك الحقيقة، إلا أن الكتّاب الثلاثة «الرفاق»، آثروا أن يكتبوا عن ذلك الإنسان العادى الذى تكوّنت مشاعره وثقافته ومعارفه من الحركة الجبارة التى صنعتها سواعد وعقول عبقرية فعلًا، والكتاب كان نتيجة رحلة قام بها الثلاثة «رءوف، القلش، صنع الله» إلى مدينة أسوان بتكليف من الدولة المصرية، وكان ذلك فى يونيو ١٩٦٥، واستمرت الرحلة لمدة ثلاثة أشهر فى أقسى شهور الصيف، ونشر الكتاب فى يناير ١٩٦٧، وقدمه الأبنودى بقصيدة خاصة، يقول مطلع القصيدة:

«الله الله.. هيلا هيلا

يا واقف تحت الشمس عشان الحفنة تصير كيلة

الله الله... هيلا هوبة

يا طابع إيدك فوق بوابة الشمس الخضرا أمانى ومحبة

اعمللى من الحبة قبة

واعملى من جيل الراحة مليون عيلة

الله الله ياحليلة..»

ورغم أن تلك القصيدة تم تذييلها بـ«من قصيدة أغنية السد العالى للشاعر عبدالرحمن الأبنودى»، فإننى عندما عدت لمتن القصيدة المنشورة فى ديوان «عمليات» للأبنودى، وراجعت قصيدة «أغنية السد»، لم أجد ذلك المقطع، ويبدو أن الأبنودى كتبه بشكل خاص للكتاب، ولم يعد نشره مرة أخرى.

إذن بدأ رءوف مسعد بتلك الكتابة عن السد العالى، ولكنه ظهر ككاتب قصة مرة أخرى فى مجلة «جاليرى ٦٨»، وفى العدد الذى صدر فى يناير ١٩٦٩ نشر قصيدة عنوانها «الحديقة»، ولم يضمها لأى كتاب له بعد ذلك.

قبل أن أسترسل فى رصد مفاجآت رءوف التى لم تنته حتى رحيله، لا بد أن ألفت النظر إلى أنه قبض عليه ضمن كتّاب ومثقفى اليسار فى مطلع عام ١٩٥٩، ولم يخرج إلا فى أبريل عام ١٩٥٩، ورغم أننى بحثت فى كشف المعتقلين المنشور فى كتاب «محاكمة الشيوعيين المصريين»، فلم أجده، وقلت لنفسى: ربما يكون منشورًا فى مصدر آخر، لكنه كان بالفعل معتقلًا مع عدد كبير من الشيوعيين المصريين، رغم أنه فى إحدى شهاداته يقول إنه «تم حشره» فى إحدى القضايا، فهو دائمًا ما كان يصرّح بأنه يكره السجون تحت مسميات النضال والكفاح، وكذلك لم يكن يحب القاهرة، كما كان يكتب دائمًا فى كثير من اعترافاته، لذلك كان أكثر المثقفين والكتّاب المصريين سفرًا إلى الخارج، حياته لم تكن مستقرة، رغم أنه عاش معظم سنوات عمره فى هولندا، إلا أنه كان يعود للقاهرة، وينشر كل ما يكتبه من نصوص أدبية وصحفية فيها.

بعد كتاب «إنسان السد العالى»، وقصة «الحديقة»، فاجأ رءوف الحياة الثقافية بمسرحيتيه «لومومبا، والنفق»، وهما تحتاجان إلى قراءة أعمق من تلك السطور السريعة، ونشرت المسرحيتان فى الهيئة المصرية العامة للكتاب عام ١٩٧٠، بعد ذلك يكتب رءوف فى شهادته التى نوهنا عنها فى مجلة بدايات «.. ثم حصلت على منحة من اتحاد الكتاب المصريين للسفر إلى بولندا لدراسة اللغة البولندية عام ١٩٧٠..»، لكننى لاحظت أن الخيال جمح برءوف كثيرًا، لأن اتحاد الكتّاب المصريين لم ينشأ إلا فى أكتوبر عام ١٩٧٥، ولا أعتقد أنه حتى بعد نشأته كان يعطى تلك المنح، وربما تكون الذاكرة خانت كاتبنا، لكنه يخبرنا فى الفقرة التالية مباشرة بأنه ذهب إلى العراق عام ١٩٧٥، ثم فاتحه رفيقه كمال القلش للانضمام إلى الحزب الشيوعى، ولكنه مكث حتى عام ١٩٨٠، وانفصل إلى غير عودة.

هناك ملاحظات كثيرة على كثير مما كتبه رءوف، ويبدو أن السرعة والذاكرة كانتا كثيرًا ما يوقعانه فى تلك الارتباكات المعلوماتية، رغم حرصه على التمرد الذى كان يضعه فى اعترافاته المذلة، حتى جاءت روايته «بيضة النعامة»، التى نشرت فى طبعتها الأولى عام ١٩٩٤، وصدرت عن دار رياض الريس فى لندن، وكانت مفاجأة كاملة، لم يخش رءوف أن يكتب ويصدر رواية وهو فى السابعة والخمسين من عمره، لكن الكتابة هى التى كانت تقوده، رغم أنه كان يعترف كعادته بأنه لم يعرف إلى أى جنس أدبى تنتمى تلك الكتابة الاعترافية، والتى تقع بين الخيال والمنحى السير ذاتى، ويقول فى برنامج تليفزيونى، إنه عرض تلك الإشكالية على الناقد إبراهيم فتحى، فنصحه إبراهيم بأن ينشر الكتاب دون أن يضع أى تجنيس على الغلاف، وبالفعل صدر الكتاب دون أى تجنيس له، ولكن القارئ اعتبره رواية، وجاءت بعد ذلك رواياته أو كتاباته التالية مثل «إيثاكا»، و«مزاج التماسيح»، وهى كتابات تتسم بذلك الأمر الذى يمزج بين ما هو ذاتى، وما هو سير ذاتى، وفى المنتصف، أى فى عام ١٩٩٦، أصدر مجموعة قصصية عنوانها «صانعة المطر»، وهى لا تتطرق كثيرًا إلى ما هو سير ذاتى.

أما مفاجأة رءوف الأكبر، فهى سفره إسرائيل فى أواخر عقد التسعينيات، وأنشأ كتابًا عن تلك الرحلة، صدر عام ٢٠٠٠، وقوبل الكتاب بعاصفة من الهجوم المطلق، لكنه كان مقتنعًا بما فعله، وقال- كما يقول كثيرون- إنه سافر لكى يكشف عن جرائم إسرائيل، وسافر باعتباره كان يعمل فى التليفزيون الهولندى، ربما تكون تلك الرحلة جرّت كثيرًا من المتاعب لرءوف مسعد، لكنه لم يكن يبالى ولا يهتم، فهو المتمرد والمغامر الذى كان يباغتنا دائمًا، ولذلك لم أتفاجأ بموقفه الأخير الذى كتبه على صفحته بهجاء كل من تساءلوا عن سبب وجود المدعو رفائيل كوهين إلى جائزة تحمل اسم نجيب محفوظ، ووصف المتسائلين بأنهم صغار لا يريدون سوى الصخب.