الأحد 19 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

«الفيل الأزرق» فى مجلس الشيوخ: لماذا يثير أحمد مراد كل هذا الإزعاج؟

أحمد مراد
أحمد مراد

- لقد أعاد مراد إلى الرواية المصرية بريقها الجماهيرى دون أن يتنازل عن الحِرفة

- أحمد مراد يجمع بين حس المصور ودقة السيناريست وجرأة الروائى

تعودتُ السباحة ضدّ التيار، حتى وأنا على مشارف نهايات عمرى غير المجدى وغير المجيد كناقدٍ وكاتبٍ ظلّ يراهن على جوهر الفن لا على صفقاته. أقول هذا وأنا أتابع المشهد الأدبى المصرى الذى بات يموج بأسماءٍ كثيرة تُكتب وتُنسى بسرعة الضوء، غير أنّ بعض الأسماء تفرض حضورها لا بسطوة الإعلان، بل بقدرة الفنّ على أن يخلق أثرًا لا يُمحى. ومن هؤلاء أحمد مراد.

تختلف أو تتفق مع نوعية الروايات التى يكتبها أحمد مراد، لكنك لا تستطيع أن تنكر أنه ظاهرة أدبية متفردة، خرجت من قلب الواقع المصرى لتعيد تعريف العلاقة بين الأدب والسينما، بين الصورة والكلمة، وبين الفن والسوق.

فمراد، كما قال أستاذى الكبير عبدالوهاب داود: «ليس كوهين يُعاد إنتاجه فى المعامل الغربية، ولا نَكِرة سقطت صدفة على مائدة الكتابة، ولا أرزقى يتهم الباحثين عن المعلومة بأنهم همج».

هو كاتب صاحب مشروع، ومبدع من طراز خاص تشهد له أعماله المتنوعة والمتماسكة فنيًا وبصريًا، كما تشهد له لغته المشحونة بالإيقاع والضوء والظل، التى لا تنفصل عن تكوينه الأصيل كفنان تشكيلى ومصور محترف.

من العدسة إلى الورق

درس أحمد مراد التصوير السينمائى فى معهد السينما، وعمل مصورًا قبل أن يكتب روايته الأولى «فيرتيجو» عام ٢٠٠٧، التى كانت بمثابة إعلان ولادة كاتب يرى العالم بعدسته قبل أن يصوغه بالحروف.

فى أعماله التالية، من «تراب الماس» إلى «الفيل الأزرق» و«١٩١٩» و«لوكيميا» و«أرض الإله»، تتجلى روح المصور والرسام بوضوح.

شخصياته ليست مجرد أسماء على الورق، بل كائنات تتحرك أمام الكاميرا الذهنية، فى لقطات قريبة ولقطات عامة، فى مونتاج سردى بارع يتقاطع فيه الضوء بالعتمة، والعقل بالغريزة، والتاريخ بالأسطورة.

الرواية كلوحة متحركة

تبدو روايات مراد وكأنها لوحات ضخمة تتحرك بالحبر والخيال.

ألوانه السردية كثيفة، وملامحه التعبيرية حادة، وأسلوبه فى بناء المشهد يعتمد على اقتصاد الجملة وتوتر الإيقاع. لا غرابة فى ذلك، فهو فنان تشكيلى بالأساس، يقرأ العالم من خلال الظلال والفراغات، ويؤمن بأن الجمال يمكن أن يُصنع من الفوضى.

وفى الوقت الذى يتهمه فيه البعض بالميل إلى «السينمائية الزائدة»، فإن هذه السينمائية نفسها هى ما منحت السرد المصرى الحديث أفقًا جديدًا من الرؤية البصرية والتشويق المعرفى.

الواقعية المظلمة

يرى كثير من النقاد أن مراد يمثل جيلًا جديدًا من الروائيين الذين جمعوا بين الوعى السردى والذكاء التجارى، لكنه فى الوقت ذاته كاتب يبحث فى أعماق النفس البشرية، عن تلك اللحظة التى يفقد فيها الإنسان توازنه الأخلاقى والنفسى، ليواجه ظله فى المرآة.

فى «الفيل الأزرق» مثلًا، لم يكن الجنون سوى استعارة للغوص فى قاع الذات، وفى «تراب الماس» تحوّل القاتل إلى ضمير جمعى يبحث عن العدالة المفقودة فى مجتمع مشوّه.

مراد بين الأدب والسياسة

جاء تعيين أحمد مراد فى مجلس الشورى خطوة رمزية تحمل دلالاتٍ تتجاوز الشخص ذاته، فهى تعنى اعتراف الدولة بمكانة الأدب فى صياغة الوعى العام، واحتفاءً بجيلٍ من المبدعين الذين نجحوا فى الوصول إلى الجمهور دون وسطاء.

لكن هذه الخطوة لم تمرّ بهدوء، فقد أثارت موجةً من الجدل داخل الأوساط الثقافية، بين من رأى فيها تتويجًا مستحقًا لمشروع كاتبٍ شقّ طريقه بالكفاءة والموهبة، وبين من اعتبرها ترضيةً أو محاولةً رسمية لاختراق المشهد الأدبى الحرّ.

فى خضم هذا الجدل، ظهرت أصواتٌ معارضة تُعبّر عن قلقٍ مشروع أحيانًا، وغير مبرَّر أحيانًا أخرى؛ فبعض المثقفين يخشون من تسييس الثقافة وإخضاعها لسلطة الدولة، فيما يرى آخرون أنّ رفض تعيين كاتب بحجم أحمد مراد لا يقوم على أساسٍ موضوعى، بل على خلفيات أيديولوجية أو نزعات نُخبوية تنظر بعين الريبة إلى أى نجاحٍ جماهيرى خارج دوائر الصالونات الأدبية المغلقة.

غير أنّ هذا الرفض- فى جانبٍ منه- قد يُفَسَّر بوصفه أثرةً ثقافية أكثر منه موقفًا مبدئيًا، إذ يشعر بعض رموز الأدب الكبار بأنّ تجاهلهم فى مثل هذه التعيينات إغفال لتاريخهم ومكانتهم، خاصةً حين لا يُختار أسماء بحجم إبراهيم عبدالمجيد - عميد الروائيين المصريين فى وقتنا هذا - أو غيره من الرموز التاريخية التى تغرّد خارج سرب وهوى الحكومة فى كثير من المواقف.

وهنا يختلط الحق بالانفعال، والنقد بالخذلان، لأنّ المسألة فى جوهرها ليست مفاضلة بين الأسماء بقدر ما هى تحوّل فى رمزية الاختيار: بين واقع آنى حاضر بكل قيمه، وتاريخ بكل ما كان يحمله من قيم وأحداث مفصلية فارقة.

ورغم ما بين الموقفين من اختلاف، فإنّ تعيين أحمد مراد يظلّ — فى الجوهر — اختبارًا لعلاقة المثقف بالمؤسسة: هل يمكن للأديب أن يكون قريبًا من دوائر القرار دون أن يفقد استقلاله؟ وهل تستطيع الدولة أن تُنصت إلى صوت الفن لا أن تستخدمه؟

وجوده داخل المجلس، فى هذا السياق، إضافة نوعية حقيقية، لأنه يفتح الباب أمام الحوار بين الثقافة وصناعة القرار، بين الخيال والواقع، بين ما يُكتب وما يُنفَّذ، ويعيد الاعتبار لدور المبدع بوصفه شاهدًا ومشاركًا فى آنٍ واحد.

نبذة عن أعماله

فيرتيجو «٢٠٠٧»

رواية «الجريمة الأولى» فى مسيرته، تدور حول مصور صحفى يكتشف مؤامرة كبرى فى أحد الملاهى الليلية الراقية بالقاهرة. تحولت إلى مسلسل تليفزيونى عام ٢٠١٢ من بطولة هند صبرى.

تراب الماس «٢٠١٠»

رواية تجمع بين التشويق والتحقيق الفلسفى فى مفهوم العدالة والفساد. تحولت إلى فيلم سينمائى عام ٢٠١٨ من إخراج مروان حامد وبطولة آسر ياسين ومنة شلبى.

الفيل الأزرق «٢٠١٢»

عمله الأبرز، يجمع بين النفسية والماورائية فى قالب بوليسى غامض. تحولت إلى فيلمين ناجحين من بطولة كريم عبدالعزيز ونيللى كريم.

١٩١٩ «٢٠١٤»

رواية تاريخية تعود إلى زمن الثورة المصرية ضد الاحتلال البريطانى، وتعيد بناء القاهرة من منظور سينمائى حى. تم الإعلان عن تحويلها إلى مسلسل تليفزيونى قيد الإنتاج.

أرض الإله «٢٠١٦»

رحلة تأمل فى التاريخ الدينى والفرعونى من خلال مغامرة بحث فى جذور العقيدة القديمة، تجمع بين الأسطورة والبحث العلمى.

لو كيميا «2020»

رواية إنسانية تمزج المرض بالرمز، والموت بالحياة، وتكشف عن هشاشة الوجود فى عالم ينهشه الطمع واللامبالاة.

مراد الفنان

قبل أن يكون كاتبًا، كان أحمد مراد مصورًا ومصمم جرافيك وأغلفة روايات حاصلًا على جوائز دولية.

تخرّج فى مدرسة ليسيه الحرية بباب اللوق سنة ١٩٩٦، ثم فى المعهد العالى للسينما عام ٢٠٠١ بترتيب الأول على قسم التصوير، ونالت أفلام تخرّجه «الهائمون، الثلاث ورقات، وفى اليوم السابع» جوائز فى مهرجانات بإنجلترا وفرنسا وأوكرانيا.

تكوينه البصرى هذا انعكس بوضوح فى أعماله الروائية التى تُقرأ وكأنها سيناريوهات مكتوبة بالضوء لا بالحبر.

خلاصة القول

أحمد مراد ليس كاتبًا عابرًا، ولا نجمًا مؤقتًا فى سماء الرواية المصرية.

هو فنان متعدد الوسائط، يجمع بين حس المصور ودقة السيناريست وجرأة الروائى، وبين وعى الفنان التشكيلى وإيقاع الموسيقى.

هو ابن جيله، يكتب بعيون مفتوحة على المستقبل، ويصوغ واقعه بلغة تليق بعصر الصورة والدهشة.

باختصار، تعيين أحمد مراد فى مجلس الشورى مكسب للأدب والأدباء، واحتفاء بقدرة الإبداع المصرى على تجديد نفسه فى كل جيل.

ألف مبروك لأحمد مراد، وللثقافة المصرية التى أنجبته.

موقعة فى خريطة الرواية

فى المشهد الروائى المصرى الراهن، يقف أحمد مراد فى نقطة تقاطع نادرة بين الأدب الشعبى واسع الانتشار والأدب النخبوى العميق الدلالة. فهو يختلف عن هشام الخشن فى النزوع الاجتماعى التقليدى، وعن محمد صادق فى الرومانسية الوجدانية، وعن ريم بسيونى فى اهتمامها بالتاريخ والهوية، لكنه يجمع من كلٍّ منهم خيطًا ليغزل نسيجًا خاصًا به.

هو كاتب السوق الواسعة الذى لم يتخلَّ عن فنه، وصاحب الحس البصرى الذى لم يضحِّ بالمعنى من أجل اللقطة.

لقد أعاد مراد إلى الرواية المصرية بريقها الجماهيرى، دون أن يتنازل عن الحِرفة، وأثبت أن الأدب يمكن أن يكون ممتعًا ومقروءًا ومتفكرًا فى آنٍ واحد.

وهذا فى ذاته درسٌ نادر لجيله ولمن سيأتون بعده: أن تكون مختلفًا لا يعنى أن تكون ضدًّا، بل أن تكون على وعيٍ بما تراه من زاويةٍ أخرى.