الأربعاء 25 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

المعادلة الصعبة.. القارئ أولًا أم أخيرًا؟!..

هل يمكن الرهان على ذائقة القراء وقدرتها على الفرز والاختيار.. وإن طال الزمن؟!

حرف

- «القراءة بالشبه» أسوأ عاداتنا في التعامل مع الكتب والجوائز لم تفلح في تقديم كتاب حقيقيين

- كل ما يصلنا عن الكتاب فى الدول العربية لا يعبر عن واقع الحياة الثقافية فيها

- «شكسبير» لم يعرف به الإنجليز إلا بعد رحيله بنصف قرن.. ونجيب محفوظ لم يسلم من التجاهل فى بداياته

لسنوات طويلة، انشغلت الأوساط الثقافية بمحاولات للإجابة على سؤال التلقى.. فى الفن والكتابة والفكر، وفى كل دروب الإبداع الأدبى والفنى، تحججت السينما فى فترات هبوطها بعبارة «الجمهور عايز كده»، وانفصل الشعر والأدب والإبداع عمومًا عن جمهوره لسنوات طويلة بدعوى الارتقاء بذائقة القراء، ودعاوى الحداثة وما بعدها، وغرق النقد الأدبى والفكر والفلسفة فى تنظيرات محيرة، فصلت الإبداع عن محيطه، وأفقدتها جميعًا مكانتها التى ظلت راسخة لقرون طويلة، كحلقة وصل رئيسية ما بين المبدع أو الفنان والمتلقى، وربما كبوصلة للإبداع فى كثير من الحالات.. 

نجيب محفوظ 

راجت مقولات «تشظى النص»، و«حقول الدلالة»، و«تثوير اللغة»، وما شابهها من مقولات تبدو فى ظاهرها جيدة وعميقة، لكنها عند التجريب والدخول إلى أرض الواقع تحولت إلى سيف يقطع الطريق بين المبدع وناسه، ويفصل بينهما فيما يشبه القطيعة، إما بفعل أنصاف المبدعين الذين ينتجون نصوصهم بالشبه، أو النقاد الذين يستنطقون تلك النصوص، ويلبسونها ثيابًا ليست لها، فيجعلونها تقول ما ليس فيها.. ليضيع الإبداع الحقيقى وسط ركام من الكتابات الشبيهة بالكتابة، والنقد الشبيه بالنقد، ما أدى إلى وقوع القارئ فى متاهة كبيرة، إحدى نتائجها البديهية أن تصيبه حالة التسمم الثقافى والمعرفى التى تحدثنا عنها فى العدد السابق، فالكتابات الجادة تختلط بمثيلاتها المتوسطة والرديئة، وكلها يتحدث عنها النقاد والأكاديميون بذات الحماس، وذات المصطلحات، ويطبقون عليها ذات المناهج وذات المقولات، ويقولون عنها ذات العبارات.. ليبقى السؤال كأن لم يتم طرحه والبحث له عن إجابة لقرونٍ طويلة.. هل يمكن الرهان على ذائقة القراء وقدرتها على الفرز والاختيار؟!

أمير تاج السر

الحقيقة أننى رغم كل شىء أجدنى أكثر ميلًا للقول بأنه دائمًا ما يبقى الرهان على ذائقة القراء، وقدرتها على الفرز والانتقاء باعتباره أحد المحفزات الرئيسية للكاتب على مواصلة العمل، يتوقف بعضهم عن الكتابة أحيانًا، ويصيب اليأس البعض الآخر، لكن شيئًا ما يظل هناك فى عقل الكاتب يصر على وجود الأمل فى وصول ما يكتبه إلى الأيدى التى يبحث عنها.. يعرف، مثلًا، أن شكسبير الذى هو شكسبير لم يعرف به الإنجليز إلا بعد رحيله بنصف قرن كامل من الزمان.. 

يوسف زيدان 

عاش ومات وملأ الدنيا بأشعاره ومسرحياته، ولم يكن يُعرف بعظمة إنجازه غير رواد مسرحه، وبعض المهتمين والأصدقاء والمقربين.. وها هو الآن بعد أكثر من أربعمائة سنة على رحيله، الكاتب الأكثر شهرة على وجه الأرض، لا فى المملكة المتحدة وحدها، ولا بين من يقرأون الإنجليزية وحدهم، فلا توجد لغة لم تتم ترجمة أعماله إليها، ولا دولة إلا واستلهم مبدعوها أفكاره ومسرحياته للعمل عليها.. المسألة بالطبع ليست بهذه البساطة، فليس كل كاتب هو شكسبير، وإن ظن بنفسه التفرد والعظمة، وليس كل جمهور كجمهور شكسبير ونقاده ومن نقبوا عن أعماله وأعادوا اكتشافها وتقديمها للعالم بعد أكثر من خمسين عامًا على رحيله.. تظل هناك دائمًا معوقات تقف بين الكاتب وجمهوره، بعضها مفهوم وطبيعى، وبعضها يُستعصى على الفهم والإدراك، بعضها يخص النقد ووسائل الإعلام، وبعضها يخص الكتَّاب أنفسهم، لكن أهمها فى تصورى يكمن فى سلوكيات القراء، وعادات القراءة التى تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن بيئة وثقافة لأخرى.. وربما كان من المناسب أن أتوقف هنا قليلًا أمام عدد من عادات القراءة غير المفهومة فى مصر والعالم العربى، ربما يكون هناك أمل فى التخفف منها، أو حتى مراجعتها.

بهاء طاهر

الصورة الذهنية والقراءة بالشبه

قبل فترة قصيرة، جمعتنى جلسة فضفضة بصديقىَّ الشاعرين أحمد الجعفرى وياسر الزيات، تحديدًا ظهيرة يوم انتخابات نقابة الصحفيين، كنا نبحث عن استراحة قصيرة بمقهى «زهرة البستان» وسط يوم مرهق وشاق، وتطرق الحديث إلى فكرة الصورة الذهنية عن الكتاب والصحفيين عمومًا، وتأثيرها على تلقى كتاباتهم وعلى حياتهم عمومًا، وضحكنا كثيرًا عندما قال لى ياسر الزيات أنه فى بداية معرفتنا فى تسعينيات القرن الماضى، كان لديه انطباع يدفعه إلى التردد فى الاقتراب منى، وقال لى «كان شكلك يدى على خبيث، يتخاف منه»، وعندما سألته «طب وإيه اللى حصل وخلانا أصحاب قوى كده؟»، ارتفعت ضحكته وهو يقول: «ما انت طلعت أهبل للأسف، لا خبيث ولا تخوف نملة»، يومها تذكرت واقعة مشابهة حدثت قبلها بعدة أشهر، كنت فى إحدى الندوات العامة، وجمعتنى المصادفة فى حديث جانبى مع فنان وصحفى لم تكن بيننا أى علاقة شخصية سابقة، فلم نلتق، ولم يجمعنا حوار خاص أو عام، لكننى كنت أعرف اسمه جيدًا، وأقرأ ما يصلنى من كتاباته باهتمام، ومما قاله لى إنه كان فى لقاء مع ناشر كتبى، وعندما سأله عن جديده من الكتب، رشح له الناشر أحد كتبى لقراءتها، مع بعض المديح بالطبع، لكن صاحبنا تردد فى شراء الكتاب، أو حتى الحصول عليه على سبيل الإهداء، وضحك وهو يقول لى إنه رد على الناشر بأن لديه شعورًا بأننى شخص حاد ومتعالٍ، ويصعب التعامل معه.. ربما ضحكت وقتها، أو رسمت ابتسامة مغتصبة فوق وجهى وأنا أردد بينى وبين نفسى «مش لوحدك.. حصلت مع ناس كتير قبلك».. 

صلاح فضل

بالطبع لم أفوت فرصة ظهور صديق ثالث لإنهاء الحديث.. لم أجب أو أعلق على ما قاله، لكننى لم أستوعب فكرة التعامل مع الكتابة بالشبه، أو بما نتصوره عن الكاتب، إلا أننى أظن أنه يجب الاعتراف بأنها واحدة من أسوأ عادات القراءة فى مصر والعالم العربى، قديمة ومتكررة، وأغلب ظنى أننا جميعًا نقع فيها ولكن بدرجات متفاوتة.. لديك تصور مسبق عن خفة ظل الشاعر عزت الطيرى، وتظن أنه كاتب ساخر، أو يكتب بعض القفشات الموجزة، فلا تقرأ له بالجدية الكافية، وبناء عليه تحجب اسمه عن جوائز الدولة دون أن تدرك أنه واحد من أشعر أهل مصر فى عصرنا الحديث.. ولن أكون مغاليًا إذا ذهبت إلى أن اسمه سوف يظل طويلًا فى ذاكرة الشعر العربى، فالرجل تأتيه القصيدة كما يدخل الهواء الجسد، بلا عناء ولا مجهود.. لديه خفة ظل؟! نعم، وهى نعمة لا نقمة ولا نقيصة تقلل من نصه ولا من إبداعه، لكنها تقلل من استمتاعك به.. لا تحب الموقف السياسى لمحمد الباز وتخالفه أو توافقه، فهل قرأت شيئًا من روايتيه «الزينة.. سيرة وجع» أو«آدم الأول»؟! هل سمعت أصلًا عن مجموعته القصصية «كأنه أنا.. حياة فوق كف الله»؟!.. بالتأكيد لا، وإن حدث فغالبًا ستقرأها وأنت تحت تأثير تلك الصورة الذهنية المخالفة والعدائية.. ولعله من المناسب هنا أن أعترف أننى مثلًا لم أحب رواية «عزازيل» ليوسف زيدان، وكان لدى موقف من بعض سلوكياته على مواقع التواصل الاجتماعى، وأفكاره المخالفة لثوابت التراث وقصص التاريخ المثيرة للجدل، فاعتبرت فوزه بإحدى الجوائز من قبيل المجاملة، ولم أقرأ له أى كتاب بعدها.. هل هذا موقف صحيح؟! لا أظن، وربما كان علىَّ مراجعته وإعادة التفكير فيه، كما أظن أنه عليك أيضًا مراجعة تصوراتك عن الكتب والكتَّاب، وإعادة النظر فى عاداتك فى شراء الكتب وقراءتها..

جابر عصفور

قواعد «النقوط» فى الأفراح

أغلب ظنى أن الخطوة الأولى والأهم للتخلص مما لحق بنا من عادات قرائية سيئة، تبدأ من التسليم لعقلك بقدرته على الفرز والاختيار، دعك ممن «يطبل» لهم زملاؤهم ورفاقهم فى «التنطيط» على كل الموائد وفى كل المؤتمرات وحفلات الجوائز فى العواصم العربية، مصريين وعربًا، فجميعهم فى «التطبيل» سواء، لا فرق بين ناقد أو كاتب كبير وبين محرر بالقطعة فى صحيفة حكومية، لا يكاد أحدهم يعلن عن قرب إصداره لكتاب جديد، حتى تجد السماء امتلأت بكلمات الاحتفال والتمجيد الفارغة، قبل أن يتم نشر الكتاب، وقبل أن يقرأ أحدٌ حرفًا منه.. فهو يكتب عن صديقه أو رفيقه أو شريكه، لا عما يكتبه أيًا كان ما اقترفت يداه من هراء، هؤلاء يكتبون لرد الجميل، وهى كتابة أقرب إلى «نقوط» الحفلات الشعبية، هى ديون يردونها لبعضهم البعض.. وكم من حكايات يعرفها الجميع عن مجاملات الراحل الكبير جابر عصفور التى تحولت إلى صكوك عبور لأسماء ما كان لها أن يقرأها أفراد عائلتها الصغيرة، وكم من مقالات دبجها الراحل صلاح فضل، بل ودعنى أقول لك إنه حتى العظيم رجاء النقاش لم تسلم كتاباته من بعض المديح فى غير محله، ليس أقلها تجاهل رائعة عبدالحكيم قاسم «أيام الإنسان السبعة» لصالح «موسم الهجرة إلى الشمال» للسودانى الكبير الطيب صالح، ما كانت له نتائج نفسية شديدة السوء على قاسم فى وقتها.. ولعلى لا أكون مغاليًا إذا ذهبت إلى أن نصف ما يصلنا فى مصر عن الكتاب المغاربة وفى لبنان أو غيرها من الدول العربية لا يعبر بحالٍ من الأحوال عن واقع الحياة الثقافية فى بلدانهم.. وربما كانت الحسنة الأكبر لمواقع التواصل الاجتماعى أنها فتحت المجال أمام كاتبات وكتاب سوريين ولبنانيين وعراقيين لم يكن بالإمكان الوصول إلى كتاباتهم بدونها، إذ ليس لديهم سوى الكتابة والإبداع، ولا يجيدون تسول الدعوات الحكومية لحضور معارض الكتب، وتبادل المنافع هنا وهناك..

حمور زيادة

دعك من الجوائز المحلية والدولية، حكومية وغير حكومية، بما فيها جائزة «نوبل» الأشهر عالميًا، فكلها فيها ما فيها من عيوب وأمراض وتشوهات، وكلها لديها مما تخفيه أكثر بكثير مما تعلنه، وقبل كل هذا، دعك من كل الجوائز العربية، فلم تفلح واحدة منها فى تقديم كتاب حقيقيين خلال سنوات وسنوات، اللهم إلا المصرى عادل عصمت، والسودانيين حمور زيادة وأمير تاج السر والسعودى عبده خال، والكويتى سعود السنعوسى وإن كانت لدى بعض المآخذ على روايته «ساق البامبو»، ما عدا ذلك فكلها لم تخرج، فى ظنى، عن مكافآت لنهاية الخدمة، أو لتمرير أفكار وتصورات سياسية خاصة، أو حسب الشلة وحسابات دور النشر، أو لاكتساب أرضية جغرافية متوهمة كما حدث مع «بوكر» الراحل الكبير بهاء طاهر، والتى فاز بها عن رواية ليست الأفضل من بين أعماله، ولا بين إصدارات السنة التى فازت فيها.. شخصيًا كنت أميل إلى «تغريدة البجعة» للراحل مكاوى سعيد التى نافسته «لا روايته» فى القائمة القصيرة للجائزة.

سعود السنعوسي

دعك من هراء أبناء الفصيل أو التيار السياسى أو الحزب لكل ما يكتبه رفاقهم، فهؤلاء أقرب إلى «الرعاة والمروجين» منهم للنقد والأدب أو الفن، حساباتهم فى الأغلب مخادعة، لا صلة لها بجوهر حرية التفكير والإبداع، ولا الفن، وهى بالمناسبة حالة ليست جديدة ولا طارئة على الثقافة فى مصر والعالم العربى، فلم يكتب أحد عن بهاء طاهر فى بداياته، لمجرد أنه كان يعمل فى مهنة جيدة ويظهر فى الحياة العامة كرجل مستقر ماليًا، فيما كان المزاج العام يميل إلى القادمين من صفوف الفقراء والكادحين، ومن أبناء العمال والفلاحين وصغار الموظفين، وكان «المؤثرون» وقتها من القادمين من أحزاب اليسار الشيوعى، واليمين المتطرف، فتم نفيه وتجاهل كتاباته، وهو من هو.. تكرر ذلك مع خيرى شلبى، وعبدالحكيم قاسم وصبرى موسى، وقيل ما قيل فى حق يوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس.. نجيب محفوظ بعظمة موهبته ودأبه وإخلاصه للكتابة والإبداع لم يسلم من النفى والتلاسن، ولم ينجه قلمه من هجوم المعارضين، واعتباره «أديب السلطة» رغم ما فى ذلك الاتهام من جهل مقيم، وغيرها.. كم من الجرائم ارتكبها اليسار واليمين على حد سواء فى حق الثقافة المصرية والعربية، فاعتزل كثيرون الكتابة يأسًا من الوصول إلى القراء، بينما ظل بعضهم يكتب ولكن دون جدوى، ودون اهتمام حقيقى من نقاد ومؤثرى تلك الأزمنة، ولأن القارئ كما قلنا يفضل اللهاث وراء مطاعم «الجانك فوود» ذات الدعاية والإعلان المدفوع.

عادل عصمت