الخميس 13 فبراير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

جرأة الجهل.. ماذا أضافت «25 يناير» للثقافة المصرية؟!

حرف

- لا أحد يقرأ.. لا أحد يفكر.. والجميع يظن أنه طالما فتحت 23 يوليو الطريق لكتّاب الستينيات فلا بُد لـ25 يناير من كُتّاب يتم تصديرهم فورًا.. دون إبطاء أو فحص أو مراجعة.. ودون موهبة

- هل تمر الثقافة المصرية بمرحلة تراجع عنيفة أم هى فترة الفرز والانتقاء وغربلة كل هذا الهراء؟!

- مئات الأعمال تنتجها المطابع سنويًا فى مصر.. لكن لا شىء يبقى فى الذاكرة لأبعد من حفلات التوقيع

- ما فعله ثروت عكاشة فى سنوات معدودة كوز ير للثقافة كان يكفى للوصول بمصر إلى مشهد ثقافى وأدبى فارق وشديد التميز بين دول العالم

قبل أسابيع قليلة، قرأت مقالًا لأحد النقاد يتحدث فيه عن رواية حديثة لأحد معارفه من شباب الكتّاب، ويقارنها برائعة الكاتب الكبير صبرى موسى «فساد الأمكنة»، ابتسمت، وقلت لنفسى «ربما آن الأوان لكى يكون لمصر مرة أخرى كتّاب كبار يمكن أن يقترب منتج أحدهم من عمل فريد مثل هذه الرواية الفاتنة».. وهو بالمناسبة أمر طبيعى جدًا، بل ومطلوب، وكان من المفترض أن يحدث منذ سنوات غير قليلة.. أن يكون لدينا روائيون يجاورون نجيب محفوظ، إن لم يتجاوزوه، وآخرون يحطون رحالهم بالقرب من عبدالحكيم قاسم، شعراء ترى فيهم حلمى سالم جديدًا، أو رفعت سلام، ومن قبلهما أحمد عبدالمعطى حجازى وصلاح عبدالصبور وصلاح جاهين.. مسرحيون يبنون على ما بناه محمود دياب وألفريد فرج ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوى.. غير أننى عندما بدأت فى قراءة تلك الرواية التى زعم الناقد الشاب تجاوزها لما كتبه صبرى موسى، لم أتمكن من تجاوز الصفحات الخمس الأولى، فأهديتها لأحدهم، لعله يجد فيها شيئًا لم أستطع العثور عليه.. وقلت لنفسى تلك هى «جرأة الجهل»، فهى وحدها التى تدفع ناقدًا أو كاتبًا شابًا مبتدئًا إلى الإعلان عن رأى مثل هذا، وهى وحدها التى يعلو صوتها كلما زاد جهل صاحبها.

صبري موسى

هذه الواقعة سبقتها كتابة ناقد أدبى مجتهد، وحاصل على درجة الدكتوراه، أن قصيدة شعر واحدة يمكنها أن تلخص رواية من خمسمائة صفحة، وهى ذات الفكرة التى قال بها الراحل الكبير عباس محمود العقاد قبل نحو سبعين عامًا، وتصدى له وقتها الكبير نجيب محفوظ، وأغلب الظن أنه لم يكن يعلم بتلك المساجلة المشهورة فى تاريخ الأدب، فأخذته حماسة الشباب، و«جرأة الجهل» على الذهاب إلى ما كتب، فكان نصيبه ما نال من ردود وتعليقات.

بعدها، جاءنى صديق شاب يريد الكتابة عن مساحات التشابه بين كتابات نجيب محفوظ والكولومبى جابرييل جارثيا ماركيز، فسألته عن قصص محفوظ القصيرة، وكان رده أنه سوف يقارن ما بين الروايات، ولهذا فإنه ليس بحاجة إلى قراءة بقية إنتاجه!! لم أكن بحاجة إلى سؤاله عن مقالات ماركيز ولا تحقيقاته الصحفية ولا قصصه القصيرة، لكننى قلت له «لكى تكتب عن نجيب محفوظ، أو تنتقد يوسف إدريس أو غيرهما من الكتّاب المصريين، تحتاج إلى قراءة كل أعماله، كل حواراته، وكثير مما كتبه النقاد عنه.. ولكى تعرف منطلقات ماركيز وتصوراته، تحتاج إلى قراءة كل ما كتب، وكل ما قال، وبعض مما كتب عنه، وقبل كل هذا عليك أن تعمل على ترشيد تلك الحالة من الجرأة المفرطة».

استحقاقات غير مبررة

هنا وجدتنى أتساءل بينى وبين نفسى: «ألهذه الجرأة علاقة بثورة ٢٥ يناير؟! هل يمكن اعتبارها واحدة من نتائج الثورة فى الثقافة والأدب والإبداع؟!، وهل من الإجحاف أو التجنى رد ما تمر به الحياة الثقافية فى مصر من فقر فى الإبداع والفكر، وخلو المنتج الثقافى المصرى من القيمة الحقيقية، وتصدر حفلات التفاهة المشهد الأدبى والثقافى عمومًا إليها؟! أم أنها هى الحقيقة التى لا يريد أحد الاعتراف بها، أو حتى مجرد النظر إليها ووضعها فى موضع البحث والدراسة أو حتى الاختبار؟!

ما مدى مصداقية الفكرة من الأصل؟!

بمعنى.. هل تمر الثقافة المصرية بالفعل بمرحلة تراجع عنيفة؟! أم هى فترة الفرز والانتقاء وغربلة كل هذا الهراء؟! أم أنك على عكس ما أظن، ترى أننا نمر بمرحلة ازدهار ثقافى وفكرى، وأصبحنا نمتلك رموزًا جديدة يمكنها أن تطور من العقل العربى، وتفتح معه آفاق التجديد والتنوير والفعل الثقافى، من أمثال يوسف زيدان وخالد منتصر وإبراهيم عيسى وأحمد مراد وريم البسيونى وهشام الجخ، وكلهم فاعلون فى مجالات الإعلام والأدب والإبداع الفنى والفكرى، يملأون الدنيا بإنتاجهم الغزير، وندواتهم ولقاءاتهم التليفزيونية.. كتب فكرية وروايات وأفلام ومسلسلات ومقالات وأحاديث وشهادات، لم يسلم منهم سوى الشعر والمسرح والقصة القصيرة.. «لا لشىء إلا لأن كتابتها صعبة شوية.. معلش»!!

العقاد

والواقع يقول إن هناك عشرات الأعمال الأدبية والفكرية والفنية التى يتم إنتاجها فى مصر سنويًا، والواقع يقول أيضًا إن أسماءً جديدة كثيرة، وكثيرة جدًا دخلت الحياة الثقافية خلال تلك الفترة، صبية وشبان وفتيات وربات بيوت، ورجال متقاعدون، وسيدات مجتمعات، ومنهم مَن تزيد قائمة الأعمال التى تم نشرها لهم على ما كتبه صلاح عبدالصبور وإبراهيم أصلان معًا، أو يحيى الطاهر عبدالله وعبدالحكيم قاسم وحلمى سالم، بل وربما تجاوز بعضهم عدد ما نشر أنيس منصور فى حياته وبعد مماته. 

والواقع يقول أيضًا إن لا شىء من كل هذه الكتابات يمكنه أن يبقى فى الذاكرة لأكثر من ساعات تلى حفلات التوقيع، وجلسات التصوير فى قاعات الندوات بعد تحولها إلى مناسبات احتفالية لا أكثر ولا أقل، يمتلئ الهواء خلالها بعبارات المدح والتفخيم والدهشة، و«عظمة العظمة التى ما بعدها عظمة».. ولا مانع من أن يقوم بعض المعارف أو المنتفعين والأصدقاء ورفاق الجيل بالكتابة هنا أو هناك، والكلام هنا أو هناك.. فى الصحافة، فى مواقع التواصل الاجتماعى، فى جلسات النميمة والمقاهى، ولا مانع أيضًا من بعض السباب والذم واتهامات الشللية.. ثم لا شىء مطلقًا.

هشام الجخ

فهل هؤلاء هم ورثة نجيب محفوظ وطه حسين وصلاح عبدالصبور وألفريد فرج ورجاء النقاش وهيكل؟! هل يمكن اعتبار الإنتاج الأدبى الحالى بمثابة امتداد لأعمال مهمة مثل «يوسف والرداء»، أو «الحرافيش»، أو «مسافر ليل»، أو «بالأمس حلمت بك»؟!

هل هؤلاء هم الامتداد الطبيعى لهؤلاء؟

لا أريد الذهاب إلى أحكام نهائية وقاطعة، لكننى ربما كان لى الإفادة من شيوع جرأة الجهل تلك بين عموم المصريين، والتى يمكنك أن تراها بوضوح أكبر على مواقع التواصل الاجتماعى، من «هبد»، و«فتى بغير علم»، وتطاول وسباب ومواقف عجيبة، يتساوى فيها مَن ينتمون إلى فئة الكتّاب والفنانين والمثقفين، ومن لم يصل حظه من التعليم حد فك الخط، هنا حيث أوضح تجليات الثورة الاشتراكية، حين تتذوب الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمعرفية، فنتحول إلى كتلة صماء من الهبيدة المعتبرين، والفتايين العالمين ببواطن الأمور وحقائق الدهور.. خصوصًا أن ما نراه الآن بعد أربع عشرة سنة من ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، لا يبشر بشىء سوى الخيبة الثقيلة، ربما لم ينج منها سوى الشعر والقصة القصيرة والمسرح، فمازالوا يتمتعون بوجود أصوات مميزة، وجادة، لا تبحث عن التربح، ورغم أنها أصوات قليلة جدًا، ومحدودة جدًا، لا يراها الإعلام، ولا جمهور القراء، إذ تصعب كتابة أى منها على غير موهوب حقيقى لا يهتم بالدعاية والترويج لأفكاره وتصوراته، لكنها أصوات موجودة، ومؤثرة وفاعلة، وإن لم يرها العامة، فهذه المسألة لا تشغلهم بقدر انشغالهم بالإبداع والفن.

أعرف أن مجرد قراءة العنوان سوف تصيب البعض بانفعالات غاضبة، هى بالضبط واحدة من نتائج تلك الجريمة التى يبدو أنها سوف تستمر معنا إلى وقت أطول، فهؤلاء الذين أغضبهم العنوان هم نتاج طبيعى لتلك الحالة من الاستحقاق غير المبرر التى انفجرت فى كل مظاهر الحياة الثقافية المصرية منذ ما يقرب من أربع عشرة سنة، وربما يصيبنى منها سيل من الشتائم والاتهامات التى أعرف جيدًا منطلقاتها وأسبابها، فلن يقرأ هؤلاء المكتوب ولن يجهدوا أنفسهم بحثًا عن أى معرفة، وهذه بالضبط هى الخطيئة الكبرى التى لعبت ثورة ٢٥ يناير الدور الأبرز فيها.. لا أحد يقرأ، لا أحد يفكر، لا أحد يريد أن يرى موضع قدميه، والجميع يظن أنه طالما فتحت ثورة سابقة هى يوليو ٥٢ الطريق أمام نجومية كتّاب وأدباء الستينيات، فإن ٢٥ يناير لا بد لها بالضرورة من كتّاب يتم تصديرهم فورًا، ودون إبطاء أو فحص أو مراجعة، ودون موهبة أو دراسة أو جهد أو حتى قراءة.

وما أدراك ما الستينيات

من الطبيعى جدًا أن الأحداث المهمة والمؤثرة فى حياة الشعوب، تحتاج إلى بعض الوقت حتى تبدأ فى تقديم وبلورة الأصوات المعبرة عنها، ولنفترض أن تلك الفترة تدور حول عشر سنوات مثلًا، باعتبار هذه الأصوات واحدة من النتائج الطبيعية لأى ثورة، أو حركة سياسية تنجح فى تغيير نظام الحكم، أن تكون لها أصوات تعبر عنها، تبشر بها، وتسير معها، وترسم لها ما يشبه العقد الجديد، اجتماعيًا أو سياسيًا أو حتى اقتصاديًا.. كتّاب وروائيون وشعراء ومؤلفون موسيقون ومطربون وممثلون وفنانون يشكلون معًا ما يشبه الثورة الثقافية المواكبة والمصاحبة، إن لم تكن القائدة.. هذه الأصوات تتوزع وفقًا لخريطة الحياة الثقافية الموجودة بالفعل، والتصورات المستحدثة بحكم ما يصحب الثورات من تقليب لكامل التربة وصولًا إلى ما يناسب العصر الجديد من أفكار وعلاقات.

حدث ذلك بالفعل مع ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، فصاحبتها وبشرت بها وسارت معها أصوات ونخب ثقافية ما زالت أسماؤها تمثل علامات فارقة فى تاريخ الثقافة المصرية والعربية، بل والعالمية، فكان فى مقدمة من استقرت أسماؤهم خلال سنوات ما قبل يوليو الدكتور طه حسين، بكل ما طرحه من أفكار وتصورات، سابقة ولاحقة، تمثل ثورة موازية لحركة الضباط الأحرار، وسابقة عليها، وكان نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وتوفيق الحكيم ويحيى حقى وبيرم التونسى، كان محمد عبدالوهاب وأم كلثوم ورياض السنباطى ومحمود مختار ومحمود سعيد.. وغيرهم كثير من الكتّاب والمفكرين والفنانين، فى كل صنوف المعرفة والإبداع. 

ومع ثبات سلطة ثورة ٢٣ يوليو، تم فتح المجال أمام كل الطبقات الاجتماعية للتعبير عن نفسها، لم يعد الأدب والفن من المهن الدنيا التى تصم صاحبها بما ليس فيه بالضرورة، لم يعد الشعر هو أحمد شوقى بك، أو حافظ إبراهيم، ولا حتى بيرم التونسى، ابن التاجر ووريث محلات والده، وظهرت أصوات من القرى والنجوع، ومن الصعايدة والفلاحين وأبناء العمالة المؤقتة، بل وخريجى السجون أيضًا كأحمد فؤاد نجم، فالأصل كان هو الموهبة، وما يمكن تقديمه للحياة الجديدة.

جاءت الثورة فلم تمضِ سنوات معدودة حتى رسخ الكثير من الأصوات المعبرة عن طموحات مصر الجديدة، وأهدافها، وطبيعة تكوينها.. فكان الناقد الكبير رجاء النقاش، والقاص الملهم، وكاتب المحكمة يحيى الطاهر عبدالله، وزميله عبدالرحمن الأبنودى، وكان بليغ حمدى ويوسف شاهين وصلاح عبدالصبور.. كان محمود دياب وعبدالرحمن الشرقاوى.. دفعت ثورة ٢٣ يوليو أبناء العمال والفلاحين وصغار الموظفين إلى مقدمة المشهد الثقافى والأدبى، ولعبت النخب الناقدة الراسخة دورها فى اكتشاف وتسليم الراية إلى الجيل الجديد من كتّاب الستينيات، وما أدراك ما الستينيات!! 

بالطبع لم يخلُ الأمر من بعض الأصوات الغريبة أو الدخيلة على الثقافة والإبداع، لكنها لم تستمر طويلًا، وسرعان ما استقرت حركة النشر والكتابة والنقد والمعرفة، ولا يمكن إغفال أن ما فعله الضابط ثروت عكاشة فى سنوات معدودة كوزير للثقافة، كان يكفى فى زمنه للوصول بمصر إلى مشهد ثقافى وأدبى فارق وشديد التميز والروعة بين دول العالم.

هكذا أصبح لدينا، وحتى بدايات الألفية الجديدة، حشدٌ من الأسماء الكبيرة والمؤثرة، يوسف إدريس ومحمد مستجاب وسعيد الكفراوى وإبراهيم أصلان ومحمد المخزنجى وغيرهم، كثير من الأسماء التى يمكن الرهان على منتجها فى القصة القصيرة، استقرت أسماء صبرى موسى ومحمد البساطى وخيرى شلبى ومحمد جبريل وعبدالحكيم قاسم فى الرواية، إلى جانب الكبير نجيب محفوظ بالطبع.. كان لدينا صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى وعبدالرحمن الشرقاوى وفاروق شوشة وعبدالرحمن الأبنودى فى الشعر.. وغيرهم كثيرون.. وكثيرون جدًا كمان.

حتى الصحافة تجلت فى أبهى صورها، فكانت لدينا أقلام ذهبية لا تخطئ الاستعارة أو التشبيه، وتأتيها بلاغة القول من حيث تربت وتعلمت وعاشت، بداية من هيكل، الأستاذ الذى غار من جمال كتابته نجيب محفوظ، وصولًا إلى صلاح حافظ ومحمود عوض، وفيليب جلاب وصلاح عيسى وغيرهم كثيرون.. وكثيرون جدًا كمان.

فى الموسيقى والغناء والاستعراض تجلت مواهب على إسماعيل وكمال الطويل، وطافت قرى مصر فرقة رضا للفنون الشعبية، لتملأ أركان المحروسة بالبهجة والمحبة والموسيقى، وأثمرت ألحان بليغ حمدى ما لم تقترب منه الموسيقى العربية من قبله بسنوات وسنوات.

وحتى مع بدايات الألفية الجديدة كان وجود حلمى سالم ورفعت سلام فى الشعر يكفى لتشتعل مواهب بقية الجيل والأجيال التالية إنتاجًا وشعرًا.. فلما رحلا، رحل الشعر، لم ينشر عبدالمنعم رمضان ولا حسن طلب ولا محمد سليمان أو أحمد طه أى جديد، وربما كان الوحيدان الباقيان على الكتابة من ذلك الجيل هما المتفردان منذ البداية جمال القصاص ومحمد آدم.. تحرك شعراء الثمانينيات قليلًا، لكن محاولاتهم تظل محدودة وخجولة، وتحرك شعراء التسعينيات الذين ما زالوا يحافظون على وهج تلك التجربة الفارقة فى مسيرة الشعر العربى، لكن الأمر لا يسلم من بعض المنغصات الرخيصة التى سوف نتحدث عنها هنا.

أربعة عشر عامًا من الضجيج

هذا ما فعلته ثورة ٢٣ يوليو، وما عشناه حتى سنوات قليلة مضت.. 

طيب.. ماذا لدينا الآن، بعد أربعة عشر عامًا من ثورة يناير؟! فى الشعر والقصة والرواية؟! فى النقد والفلسفة وعلوم الكلام؟! فى السياسة والجغرافيا والاقتصاد والهندسة والطب؟! فى الموسيقى والنحت والتصوير والدراما التليفزيونية والسينمائية والمسرح؟!

هل يمكنك أن تذكر لى عناوين عشر روايات جيدة قرأتها منذ يناير ٢٠١١، لغير المعارف والأهل والأصدقاء؟! فهؤلاء من المعلوم بالضرورة أن كتاباتهم فى تصورك غير مسبوقة، وفذة، ومتجاوزة، ولم تشهد اللغة العربية مثيلًا لها منذ مئات السنين!!.. هل يمكنك أن تذكر لى خمسة دواوين شعرية لشعراء اللقاءات التليفزيونية التى واكبت الثورة وتلتها؟! ما عدد معارض الفن التشكيلى التى زرتها وتركت فى نفسك أثرًا أو جذبتك إحدى لوحاتها؟ كم مسرحية قرأت؟! وكم اشتريت أو اقتنيت منها؟! كم كتاب نقدى لفت انتباهك أو على الأقل قدم للحياة الثقافية صوتًا جديدًا مميزًا؟!

هل يمكن اعتبار ما نشرته جريدة «أخبار الأدب» عن شعراء التسعينيات مادة ثقافية حقيقية يمكن من خلالها مراجعة تجربة جيل مفصلى فى حركة الشعر الحديث؟! فماذا ضم الملف؟! شهادات عن تجارب شخصية كتبها بعض شعراء الجيل، وكتب محرر الملف مقالًا شتم فيه من شتم، وغمز هذا ولمز هذا.. ودمتم.. لا قرأنا نقدًا لتجربة الجيل، ولا ضمت صفحاته تحليلًا لما أسفرت عنه تجربة قصيدة النثر، ولا أى شىء.. مجرد ملء لصفحات بالضجيج والكلام الذى لا يقود إلى أى شىء.

حتى فكرة الملف المتخصص لم يعد يفهمها الصحفى المتمرس، أو ذو السنوات الطويلة من حمل كارنيه نقابة الصحفيين، والسفر هنا وهناك، والجلسات المطولة مع صحفيين لم يتعلم منهم ولو حتى بدافع الغيرة، وليس ببعيد عن سوء الظن ما حدث بعد ثورة يناير بقليل من تدشين عدد من جوائز الأدب المليونية، والتى أنشأتها جهات ودول لا تلقى بأموالها اعتباطًا، فهى تبحث عن مساحة للوجود والتأثير فى محيطها على أقل تقدير!!

إن نظرة متفحصة لمنتج الأجيال الجديدة لن تخرج منها بغير روايات الموعظة الحسنة، وقصائد الأخلاق الحميدة، وقصص التنمية البشرية، أو الانتقام من ثورة ٢٣ يوليو، سواء لبقايا النظام الملكى أو ضحايا الثورة من المنتمين لتنظيم الإخوان أو الواقعين تحت تأثيرهم.. لن تجد سوى الاحتفاء بالأصدقاء وأبناء وبنات المعارف والرفاق، حتى ما كتبه البعض عن أحداث الثورة والميدان لم يخل من تدليس وافتراء لا أصل له، وحكايات شخصية لتمجيد أفرادها أو شيطنتهم.. بالفعل لعب استخدام الصحافة الثقافية كبابًا للاسترزاق دورًا شديد الرداءة فى انتشار تلك النوعية من الكتابات المراهقة والجرأة الجاهلة، ولعبت انتماءات دور النشر «غير المعلنة بالطبع» دورًا آخر أشد خطورة فى شيوع حالة الاستحقاق غير المبررة، وغير المفهومة.. وتلعب الجوائز الموجهة الدور الأبشع فى تشويه ما تبقى من الثقافة العربية كلها، وترسيخ ما يوافق أهواءها منها، وتطويعها لأهداف لا يعلم مقصدها ومنتهاها غير الله.