قصة من مجموعة «العود الأبدى» للكاتبة السودانية نور صلاح الدين حميدة
أنثى الصرصور.. يومٌ فيما بعد الحرب

- استغرقنى الأمر بضع ساعات حتى وجدت متجرًا غنيًا بالأطعمة
- لم أكن أسمع شيئًا لا صوت القذائف التى تخترق عنان السماء ولا صرخات أولئك الذين تسلخ النيران جلودهم
أريد أن أعيش. يريد قلبى أن ينبض، تريد الدماء أن تسرى فى عروقى، وتريد رئتاى أن تمتلئا بالهواء فى كل نفس. ما الغرابة فى هذا؟ ما الغرابة فى أننى ما زلت أريد البقاء على هذه الأرض رغم كل ما حدث لى فيها!.
بدأ ذلك اليوم كأى يوم عادى فى مدينتى، قبل أن يؤذن مؤذن فينا أن اختبئوا فى جحوركم أيها الناس فجيوش العدو قد عبرت الحدود. كنت صغيرةً وقتها وكانت أمى تربطنى بملاءة على ظهرها ليسهل علينا الركض كل مرة تداهمنا فيها قوات الأعداء. لكن تلك المرة كانت مختلفة، لم يقتصر الأمر على إطلاق الرصاص الحى وقتل بضعة منا وأسر آخرون كما يحدث دائمًا. سرعان ما انهالت علينا القذائف الصاروخية لتمزق أنحاء مدينتنا مع بقايا جنود المقاومة. لم تكن لدى هؤلاء النفر أىّ فرصة لكنهم مع ذلك حملوا بنادقهم البدائية ووقفوا بصمود أمام فوهة مدافع الدبابات ليتحولوا فى كسر من الثانية إلى أشلاء. كان من بين صفوف هذه المقاومة المثيرة للشفقة والداىّ العزيزان، لكن لم يمت فى تلك المواجهة منهما سوى أبى لتفر بى أمى من المكان بعد أن تفوقت غريزة الأمومة لديها على غريزة النضال. راقبتُ حبات العرق التى تفصدتْ على جبينها وهى تسيل لتغطى وجهها المتسخ بالغبار بينما تركض مرتعبة بين أنقاض المبانى وتدوس جثث أصدقائنا وأقربائنا وجيراننا. نظرت إلى الخلف واتسعت عيناى هولًا من الجحيم الذى أراه. النيران فى كل مكان والسحب السوداء تغطى سماءنا الزرقاء الجميلة، تصطبغ الأرصفة والجدران ونافذات المحلات بالدماء ويقف فى وجه شياطينهم العاتية حفنة من جنودنا البائسين يشكلون صفًا واحدًا ويرابطون على الحدود الداخلية للمدينة. كان المشهد أشبه بلوحة سوداوية من العصور الوسطى أو فيلم سينمائى متقن الصنع، فيلم صامت بالطبع لأننى لم أكن أسمع شيئًا.. لا صوت القذائف التى تخترق عنان السماء ولا صرخات أولئك الذين تسلخ النيران جلودهم. كنتُ صماء منذ ولادتى ولم يتغير شىءٌ حتى اللحظة. تعثرتْ أمى فجأة وسقطت على وجهها لكننى بقيت متشبثة بظهرها الذى بدا لى حينها متينًا لا يقهر. دفنتُ وجهى فيه وأسدلت جفنىَّ معتقدة أن لا شىء سيصيبنى ما دمت لا أراه. لكنّ شيئًا ما أصابنى، شعرت به يجذبنى من ساقى بقوة. كان مجرد طفل شقّ طريقه بصعوبة من أسفل حطام أحد المنازل. نهضت أمى واضعة يديها تحت مؤخرتى لتثبتنى جيدًا ثم مررتها على فخذى واستقرت أخيرًا تحت ركبتىّ. نظرَتْ إلى الطفل مليًا وكنت أعلم ماهية الصراع الذى يدور داخله حينها، لكن قطعة قرميد طارت من مكان ما نحونا لتهشم رأس الصغير، حسمت الأمر. غطيتُ عينىَّ بسرعة حتى لا أرى دماغه يخرج من جمجمته وبدأتْ أمى بالركض مجددًا. بضع أمتار فقط ثم سقطت قذيفة أخرى أمامنا مباشرة ودفع بنا الانفجار إلى الوراء.

كان ذلك قبل أكثر من خمسة عشر عامًا، أنا الآن فى الواحدة والعشرين من عمرى على ما أظن. وكل شىء فى عالمى أصبح أسوأ وأكثر قتامة. خرجتُ صباح هذا اليوم من منزلى- وهو عبارة عن ركن من أركان بناية محطمة- بعد أن تأكدت من انحسار مستوى الغازات السامة فى الجو. كنت قد عقدت العزم على الذهاب إلى المتجر اليوم والحصول على طعام نظيف بعد أسابيع من أكل الجرذان والقاذورات. بعد تلك الغارة التى دمرت مدينتنا حدث إعادة توزيع للطعام. أفضل وأجود المأكولات يُحتفظ بها فى مستودعات على أطراف المدينة وتتم حراستها من قِبل العصابات، أما المتاجر التى نجت من القصف فهى تُنهب يوميًا وبشكل مستمر، لذا من الوارد جدًا أن أقطع مسافة أميال قبل أن أجد متجرًا فيه شىء صالح للأكل. وحتى حينها قد يصارعنى عليه المتشردون أمثالى. جميعهم الآن يعيشون فى مجموعات. ينصبون خيمهم على ضفة النهر بعيدًا عن العصابات وعن مناطق تركيز الغازات. ويرسلون مجموعة صغيرة منهم كل شهر إلى وسط البلدة للتفتيش عن الطعام. هذا النوع من العيش الجماعى، والتنقل الجماعى عند ارتفاع نسبة الغازات فى الهواء وحماية ظهور بعضهم البعض لهو أمر مفيد حقًا، ولكنى لا أستطيع الانضمام إليهم. لم أعتد على مرافقة الآخرين فلطالما كنت أنا وأمى وحدنا، ولا أعرف كيف يفترض بى التعامل معهم، كما أن هناك الكثير من الضجة التى لا يمكننى سماعها. يتساءل الناس دائمًا عن كيف هو شعور أن تكون أصمًا، كيف يرى الصم العالم؟ حسنًا.. الأمر أشبه بأن تكون عائمًا فى الفضاء، أو أن تكون نائمًا بعينين مفتوحتين.. لا لا، هذا تشبيه سىء. أنا لا أعرف فى الحقيقة، ليس لدى شىء آخر لأقارنه به فأنا لم أعرف سوى الصمت فى حياتى. الأجدر بأولئك السامعين أن يخبرونى ماذا يعنى «صوت» وكيف بالضبط «يسمعون» الأشياء!.
أسكن وسط المدينة قريبًا من المتاجر حيث لا يسكن أحد غيرى هنا بصورة دائمة بل يأتون ويرحلون باستمرار. لا أظن أن الغازات تؤثر بى أكثر مما يؤثر بى الجوع الشديد. يقولون إنها تتسبب فى العقم ولكن من يريد الإنجاب فى هذه الظروف على أى حال! كما أن لدى جهازًا يقيس نسبتها فى الجو بدقة، إنه بحجم الهاتف الجوال ويطلعنى على معلومات أخرى مثل الحرارة والطقس. تظهر على شاشته علامات حمراء عندما يصبح الجو سامًا للغاية أو تكون السماء على وشك إمطارنا بالأحماض. ربما يطلق صفيرًا مزعجًا أيضًا ولكنى لم أكن لأعرف. لقد انتشلته من حزام جندى ميت من جنود الأعداء قبل عدة أعوام. كان قد أتى ضمن حملة من حملات التطهير العرقى التى أبادت منا عددًا ضخمًا وراحت أمى ضحيتها. آه أمى! ما زلت لا أفهم دوافعها وكيف وهبت نفسها هكذا مرتين: مرة لأجل الوطن ومرة لأجلى. لكنهم ما عادوا يسيرون إلينا حملات كهذه. لا بد أنهم انشغلوا بتدمير بقية المدن فى المقاطعة أو ربما انتقلوا إلى مقاطعة أخرى غنية بالبترول كما كانت خاصتنا. ذاك السائل الأسود اللعين! ليتنا شربناه أو وهبناه أو أحرقنا أنفسنا به قبل أن تتحول مقاطعتنا بسببه إلى بؤرة صراع بين الدول العظمى، وتتحول مدينتنا الحبيبة إلى جحيم مقيم.
استغرقنى الأمر بضع ساعات حتى وجدت متجرًا غنيًا بالأطعمة، كان يقع بين الشوارع الداخلية للمدينة وحوله الكثير من الأنقاض لهذا لم ينهبه الكثيرون من قبل. أدرت عينىَّ حول المكان قبل أن أقترب وأدفع الباب وأبدأ على الفور بملء حقيبة ظهرى الضخمة بالمعلبات. ثم ارتحلت إلى الثلاجات لأجمع بعضًا من اللحوم المجمدة والأجبان التى لم تفسد بعد. كانت الأضواء فى المتجر تومض باستمرار والبرودة تنبعث من ثلاجاته إلى الأرضيات ومن المكيفات التى تعمل بكفاءة مستغربة إلى الأرفف والمناضد المغطاة بطبقة رقيقة من الغبار. وكانت الرائحة فى قسم العطور والمنظفات قوية تصيبك بالصداع ورائحة الأسماك تزكم الأنوف، أما رائحة المناديل والفوط الصحية وحفاضات الأطفال فهى المفضلة لدى. أمسكت بكيس يحوى بعضًا من تلك الفوط الصحية وتأملته لثوانٍ. كم مضى من شهر لم أحظَ فيه بهذا النوع من الرفاهية! قررت أن آخذ كيسين فقط حتى أترك مساحة لبقية المستلزمات ونويت أن أقتصد فى استخدامهما. وعندما انتهى تسوقى الممتع أخيرًا، ووقفت على باب المتجر حاملة حقيبة مثقلة بخيراته لأُلقى عليه نظرةً أخيرة انتابنى شعور بالسعادة. ورغبت- كأى مخلوق أنانى- ألا يكون هذا النعيم لأحد سواى. لم يكن بإمكانى العيش داخله بالطبع فستقتلنى الغازات هنا فى غضون أيام. لذا وضعت حقيبتى جانبًا وذهبت إلى غرفة التحكم حيث قمت بإغلاق الأضواء والمكيفات ثم خرجت وغطيت واجهة المتجر ببعض الصخور واللافتات الصغيرة. كان هذا عملًا صعبًا خاصةً لكونى أحادية اليد. الآن لم يعد ظاهرًا ولا أظن أن أحدًا سيجده. كنت سأحمل حقيبتى وأرحل لكننى أحسست بشخص ما خلفى. أكثر من شخص فى الحقيقة. كانوا مجموعة من الفتيان يبحثون عن طعام أيضًا، بدوا أكثر نظافة وصحة منى بقليل. كانت نظراتهم الغريبة لى ممتزجة بالدهشة والشفقة والتقزز. لماذا؟ لماذا يا ترى؟ هل أنا بشعة لهذه الدرجة؟ خطوت نحوهم فتراجعوا مذهولين ثم داروا حولى بحذر وصولًا إلى واجهة المتجر حيث أزاحوا الصخور واللافتات ببساطة وولجوا. لم يكن بوسعى فعل شىء سوى حمل حقيبتى والرحيل من هناك.

قطعت طريقًا طويلًا فى الظلام، استغرقتنى رحلة الذهاب والعودة يومًا كاملًا رغم أن المسافة لم تكن كبيرة، ولكن بسبب العراقيل الكثيرة من أعمدة ساقطة وجيف مرمية تنبعث منها الروائح ومبتعثى المخيمات الباحثين عن الطعام والذين أحاول بقدر الإمكان تجنب الالتقاء بهم، بسبب كل هذا أتأخر دائمًا. ألقيت حقيبتى وأزلت القماش الرمادى المتسخ عن المرآة مستطيلة الشكل ووقفت أتأمل نفسى لوهلة فيها. كنت قد أخذتها من إحدى مكبات القمامة لأزين بها منزلى. كان إطارها خشبيًا حُفِرتْ عليه بعض الزخرفات، وكان اللوح الزجاجى متشققًا فى أكثر من موضع لكنه يعكس الصور بوضوح معقول. نظرت إلى نفسى فوجدتنى لم أتغير كثيرًا منذ الشهر الماضى. جسدٌ شديد الهزال تغطيه أسمال بالية وقطع من القماش الملفوف بإهمال حول خصرى المتيبس وذراعى المقطوعة. عينان كبيرتان غائرتان وتحتهما سواد، عظام وجه ناتئة وشفتان أرجوانيتان متشققتان. شعر طويل متسخ أشبه بالأعشاب الضارة، متموج معقوف شديد الجفاف والخشونة، ينسدل على كتفين نحيلين مشدودين إلى الأمام وعلى ظهر محدودب. وكانت ساقاى ضامرتين تجتاحهما الكدمات والجروح الملتهبة كأى بقعة أخرى من جلدى المتغضن. كل هذا طبيعى، كل هذا عادى.. بل هو أفضل مما بدوت عليه قبل أعوام قليلة. إذًا لماذا تلك النظرات؟ ربما هم يستغربون كونى ما زلت حيةً بمفردى هكذا. أشعر دائمًا بالحاجة لتبرير رغبتى بالعيش... حتى لنفسى. وأرى ذلك السؤال يطل علىَّ جليًا من نظرات المبتعثين أمثال هؤلاء عندما يروننى أسعى لكسب قوتى، أو أستحم فى الترع الضحلة، أو أبحث عن شىء مفيد بين جثث الجنود والمدنيين، أو آكل من مكبات القمامة..: لماذا ما زلتى حية؟ لماذا تتمسكين بهذه الحياة؟ نحن نملك أطفالًا وأحبابًا لا نريد مفارقتهم.. ولكن أنتِ! مقطوعةٌ من شجرة، فردة حذاءٍ باليةٍ لا زوج لها ولا عائلة، فاقدة السمع والسبب. مقطوعةُ اليد والنسل والعلاقات الإنسانية! أنا أيضًا لا أعرف لماذا أتمسك بحبال النجاة دائمًا وفى كل المواقف. هل يتمادى الجميع لهذه الدرجة فى وقت الحروب أم أننى أشبه فى هذا فصيلة الصراصير! شىء ما لمع فى عينى أمى قبل أن يمزقها الرصاص جعلنى أكره الموت وأحاول تجنبه قدر الإمكان. لكن هل من حد لهذه المعاناة؟ هل من معنى؟ أو ليس الموت أسهل وأنبل وأقل مهانةً من هذه العيشة؟!.