الجمعة 06 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مقابلة مع بديعة مصابنى: «أنــا ملكـة الليـل»!

حرف

- عشت أغلب حياتى فى بيروت وسافرت أمريكا وعمرى 8 سنوات

- أتحدث الفرنسية جيدًا.. وتعلمت الإنجليزية وقت الحرب العالمية فى مصر

لو كنت تعيش فى ثلاثينيات القرن الماضى وتبحث عن مكان تتفرج فيه على مسرحية، تضحك من قلبك، تشوف رقص شرقى أو غربى، أو حتى تحضر ندوة أدبية أو صالون ثقافى؟

المكان هو: كازينو بديعة.

مدرسة للفن ومصنع للنجوم. خرج من بين جدرانه عظماء الفن الجميل: فريد الأطرش، محمد فوزى، سامية جمال، بشارة واكيم، إسماعيل ياسين، عبدالمطلب... وغيرهم.

أما النجوم الذين مروا على خشبته: نجيب الريحانى، القصرى، شكوكو، فهم حكاية أخرى.

لكن كيف بدأ كل هذا؟.. ذهبت إلى دار الوثائق المصرية أفتش فى المجلات القديمة، أبحث عن سيرة هذه السيدة الغامضة.. وهنا كانت المفاجأة.

القاهرة 2025

بينما أتصفح الأرشيف الرقمى لدار الوثائق، لمحت ملفًا بعنوان:

«عميدة الرقص الشرقى وسيدة المسارح والليل والسهر- لقاء نادر مع بديعة مصابنى».

فتحت الملف، وما إن انطلق الشريط حتى ملأ صوتها الأنيق المكان، تقهقه وتقول: «يا بنتى، إنت بتحبى الفن كده؟ تعالى شوفى الزمن الجميل!».

وفجأة، وبدون إنذار، وجدت نفسى فى كازينو «بديعة» فى القاهرة، فى منتصف الأربعينيات. المكان يضج بالحياة. جاز يختلط برقص شرقى، وضحكات الجمهور تملأ القاعة.

ووسط هذا العالم، كانت «هى» تقف شامخة: تضحك، تعطى ملاحظات، توبخ عاملًا، تراجع حسابات أربعة أماكن تديرها فى نفس الوقت: الكازينو، المقهى، المطعم، والروف جاردن.

كنت مأخوذة بكل شىء، فسألتها:

■ مين هى بديعة مصابنى؟ احكيلى عن نفسك.

ابتسمت، وقالت:

«اسمى بديعة، عمرى ٤٥ سنة، وإحنا دلوقتى فى سنة ١٩٤٦.

أبويا من بيروت، وأمى من الشام. لما انفصلت بيروت عن الشام، أيام الاحتلال الفرنسى، كنا لسه بنعتبر نفسنا واحد.. أبويا اسمه حبيب مصابنى، وأمى جميلة الشهورى. اتجوزها فى الشام وخلفوا هناك، وكنت آخر العنقود.

كان عندى ٤ إخوة و٣ أخوات، كلهم توفوا، وما بقى غير أولادهم.. أنا عشت أغلب حياتى فى بيروت، لكن تركت الشام لما رجعت من أمريكا».

■ أمريكا؟! إنتى رحتى أمريكا؟

«أيوه، لما كان عندى ٨ أو ٩ سنين. رحنا أمريكا الجنوبية، بالتحديد الأرجنتين، كل العيلة.

فضلنا هناك ٧ سنين. أختى اتجوزت فى مدينة اسمها بونا زيكس، وأنا عشت هناك لغاية ما رجعنا».

■ أول مرة جيتى مصر؟

«كنت وقتها عندى حوالى ١٢ سنة. كنت رايحة ألعب باتيناج فى حديقة الأزبكية، لأن كان عندى شغف بيه.

وهناك شافنى فؤاد سليم، سألنى: إنتِ مش عربية؟

قولتله: آه، بس اتربيت فى أمريكا وبحكى إسبانى.

قاللى: تحبى تمثلى؟

قولتله: بحب التمثيل جدًا.

فقاللى: فيه شو لجورج أبيض، تحبى أقدمك ليه؟

قلتله: بس أنا ما بعرفش أقرا عربى.

قاللى: أنا أعلمك.

وفعلًا، ودانى عند جورج أبيض فى دار التمثيل العربى فى نفس الحديقة، وقدمّنى ليه.

جورج استحسننى جدًا، وقال لفؤاد: اهتم بيها.

وفى خلال ٣ أشهر كنت بقرأ عربى بطلاقة، بس لسه ما بعرفش أكتب».

■ أهلك كانوا موافقين؟

«أهلى؟ كانت أمى معايا بس، وكنت عايزة أشتغل وأسهر، كانت كل شوية تسألنى: كنتى فين؟ روحتى فين؟ عملتى إيه؟، فقلت لها: يلا نرجع بيروت.

وفعلًا، حضرنا الشنط ورحنا محطة القطار، بس لما جينا نركب، قطعتلها تذكرة واحدة، وركّبتها القطر، وأنا فضلت!، كانت أول مرة أهرب من أمى، وعمرى وقتها كان ١٢ أو ١٣ سنة.

كنت عفريتة، طويلة، وجسمى كويس، وشعرى كان حلو أوى».

■ بيقولوا إنك كنتِ أول ست عربية تقص شعرها وتسوق عربية وتركبى طيارة!

«أيوه، كنت أول واحدة فى حاجات كتير.. أول ما بدأت التمثيل أخدت أدوار صغيرة عند جورج أبيض، وبعدين انضميت لفرقة الشيخ أحمد (الشامى)، كانت فرقة جوالة فى الأرياف، وكنت بمثّل أدوار ملكات، ورقاصات، ومغنيات».

■ بس الناس مش عارفين إنتى رقاصة؟ ممثلة؟ مغنية؟ صاحبة صالة؟

«أنا كنت كل ده.. كنت ممثلة عظيمة، عندى مخارج ألفاظ ممتازة، وذاكرتى قوية، وطاقة ما تنتهيش.. غنيت، ومثلت، ورقصت، وافتتحت صالات ومسارح».

■ بتتكلمى إسبانى؟

«إسبانى قراية وكتابة وكلام.. وبتكلم كمان فرنسى كويس جدًا، وإنجليزى شوية- اتعلمته وقت الحرب فى مصر.. أيامها كان الجيش البريطانى بيسهر فى الكازينو، وفى الآخر، باتكلم يونانى كمان، عشان كل أهلى كانوا بطاركة وخوارنة.

وتعلمت تركى لما كنت فى تركيا، بيروت والشام كانوا تحت الدولة العثمانية، فتعلمت التركى بطلاقة، بس مش كتابة».

■ الحب والجواز؟ احكيلى بقى...

«آه يا بنتى، اتجوزت مرتين.. الأول كان نجيب الريحانى، اتجوزته سنة ١٩٢٥، وفضلنا سوا حوالى ١٨ سنة. كنا بنتخانق ونرجع، وبعدين نفترق تانى. لكن حتى بعد الطلاق، اشتغلنا سوا... حب كبير وشغل كمان.

مرة سافرنا سوا على البرازيل، كنا رايحين شهر عسل، بس قعدنا نشتغل سنة كاملة! قدمنا عروض فى ريو دى جانيرو، سامتوس، وغيرها... كنا ناجحين جدًا، خدنا (سوكسيه) عظيم. الله يرحمه، كان فنان كبير وأنا كمان».

■ ليه اتطلقتوا؟

«أنا وهو شخصيتان مختلفتان. هو يحب يسهر مع بديع خيرى، يقعدوا يكتبوا روايات لحد الفجر، وأنا بحب أعيش النهار، أخرج، أتمشى... أسأل: فين نجيب؟ نايم. فين نجيب؟ بيكتب. فين نجيب؟ محدش يعرف.

فى الآخر، بعد ما تعبنا، افترقنا... بس كنا دايمًا أصدقاء. كنت آخد منه مغنيين، وهو ياخد من عندى رقاصات.. ولو كان عايش لحد النهارده، كنا رجعنا لبعض!».

■ لما توفى كنتوا لسه متجوزين؟

«لا، أنا طلبت الطلاق، بس ما كانش فيه طلاق رسمى لأن القانون ما كانش بيسمح».

■ والجوازة التانية؟

«ما كملتش شهرين. اللى حوشته فى ٥٠ سنة، كان عاوز يخلصه فى ٥ شهور!. طلقته من غير إذنه، ما استحملتش الجشع».

■ والحب؟

«الحب؟ عادى يا بنتى... شهرين تلاتة وأرجع لشغلى ومصلحتى.. لكن الحب الحقيقى كان متأخر، حبيت آخر مرة وأنا عندى ٦٥ سنة».

إحنا دلوقتى ١ فبراير سنة ١٩٦٦، وفجأة.. لقيت نفسى فى أوضة صغيرة ببنسيون قديم فى بيروت.

الدنيا ساكنة، بس فيه ريحة كيك مولعة، وعلى الترابيزة تورته، وشموع بتلمع كأنها بتستنانى.بديعة، لابسة فستان بسيط وأنيق، ابتسمت وقالت بحماس طفولى:

«النهارده عيد ميلادى... اتفضلى طفى الشمع معايا!».

احتفلنا.

غنينا، وضحكنا، وأنا لقيتنى بسألها فى نص الفرحة: إزاى بتقدرى تعملى كل ده؟ تفضلى واقفة... نجمة... بعد السنين دى كلها؟.

ضحكت وقالت وهى بتقطع أول حتة من التورتة:

«ده سرّ... بس مش وقته، نرجع لموضوعنا».

سكتت لحظة، وبعدين كملت:

«عارفة؟ زمان، الراجل كان يتجوز وهو عنده سبعين أو تمانين، ويخلف كمان.. أنا ليه لأ؟ أنا كمان حبيت وأنا عندى ٦٥.. وهحب لو عشت للمية!، الحب ملهوش سن.. اللى عنده قلب، يفضل يعيش».

■ وليه مخلفتيش يا بديعة؟

«أنا كان نفسى أخلف، بس حصللى حادثة وأنا حامل وأجهضت، وماخدتش بالى غير بعد أربع شهور من التعب».

■ ما صادفكيش راجل بعد نجيب تضحى عشانه وتعيشى بس كزوجة وتستغنى عن الشهرة والأضواء؟

«والله اتعرض عليا الجواز كتير... وكان فيه ناس كويسين عرضوا عليا أعيش فى بيت وأستقر.

لكن كنت غلطانة إنى رفضت.. إزاى أسيب جمهورى، الألوف اللى بييجوا يتفرجوا عليّا، وأقعد فى بيت لوحدى؟ دلوقتى حسيت بالوحدة.

أنصح كل واحدة تتجوز جواز حلال، وتخلف، وتبقى جنب جوزها، وهو كمان ما يستغناش عنها.

مفيش حد هيسندك فى كبرك غير اللى شاركك الحياة.

تعرفى امبارح رحت أزور حد فى مستشفى الجامعة... لقيته ما عندوش حد غير مراته».

عياله؟ 

«ولا حد منهم جه.

هى اللى نايمة جنبه فى المستشفى بقالها شهر ونص، ماسكة إيده حتى وهو نايم من الألم، أو بعد ما يدوله إبرة.. أول ما يصحى، بيدوّر عليها.. ده هو الجواز الحقيقى.

دلوقتى الجواز بقى نادر.. تعرفى ليه؟، الست دلوقتى أول ما تتجوز، تطلب غسالة، أتومبيل، راديو!، زمان، البيت كله كان مع بعض.

دلوقتى، أول شرط: (أنا عايزة أعيش لوحدى)»!

همم- كان عندكم صعوباتكم المادية برضه- طيب نرجع للرقص.. إيه أكتر شىء حببك فى الرقص؟

أنا عمرى ما حبيت الرقص المبتذل، طورت الرقص الشرقى. كان الرقص التقليدى بالبطن ، دخلت عليه التركى، واليونانى، والإسبانيولى. عملت تابلوهات، وكان عندى فرقة شباب وبنات، وكنت أول من دمج التخت الشرقى مع الموسيقى الغربية.

■ ليه دمجتى الشرقى بالغربى؟

لأن الشرقى لوحده ما بقاش يشبع الجمهور.. أما الاتنين مع بعض؟ بقى شىء عظيم جدًا جدًا.

■ كنتى بتسافرى؟

طبعًا، كنت أزور أوروبا مرتين تلاتة فى السنة. أشترى ملابس، وأشوف الجديد، وأجهز للمسرح.

■ كنتى بتصرفى كتير؟

آه، بس كنت بكسب كويس جدًا.

الفرقة، الموسيقيين، البرفانات.. كلهم كانوا مرتاحين.. بس للأسف، جالى ضرايب ٨٤ ألف جنيه من كتر الزحمة!

■ كنتى بتكسبى كام؟

فى يوم ممكن أكسب ٥٠ جنيه، وده من ٢٠ أو ٣٠ سنة.

قبل كده كنت أكسب ١٠ أو ١٥.

■ ليه لقبك «عميدة الرقص الشرقى»؟

عشان خرج من عندى كتير رقاصات.. وكنت أعرف كل أنواع الرقص: التركى، العجمى، اللبنانى، العربى، الإسبانيولى.

■ مين أشهر واحدة خرجت من عندك؟

تحية كاريوكا.. كانت شرقية خالصة، وغنت كمان، وكان جسمها حلو، ووشها سمبتيك.

ملتزمة، وعندها حس بالمسئولية.. شفتها مؤخرًا.. اتفاجئت! جسمها اتغير، بقت زى البرميل!

ههه!

هى وسامية جمال.

سامية كان اسمها «زينب»، وسميتها «سامية جمال» على اسم الراجل اللى جابها، كان اسمه الجمال.. وتحية كان اسمها «تحية محمد».

جات موضة شوية أيام كده رقصة اسمها «كاريوكا» من جنوب أمريكا، واحترفتها، والناس بقت تطلبها بالإسم: «عايزين كاريوكا!»، ومن هنا بقت «تحية كاريوكا».

■ بالمناسبة، اسمك الحقيقى كان «وديعة»، صح؟

أيوه. كنت أنا وبنت خالتى اتولدنا سوا، بس أنا كنت أجمل شوية، فسّمونى «بديعة»... من كتر حلاوتى!.

ولحد النهاردة، ما شاء الله... لما أبص لوشك أقول: حتى لو الوردة دبلت، ريحتها فيها.

تسلميلى!، أنا بفرح لما حد يشوفنى ويتلخبط، يقول: «هى لسه زى ما هى!»، مع إنى وقعت ٣ مرات.

مرة على صدرى، ما قدرتش أغنى من ٥ أو ٦ سنين، ووقعة تانية على السلم، نزلت ١١ سلمة، رجلى اتكسرت وإيدى كمان.. لكن لسه واقفة، ولسه بحكى.

عودة إلى دار الوثائق 2025

ضحكت بديعة، وهى قاعدة على كرسى دار الوثائق، نفس الهولوجرام، نفس النظرة العميقة،

بس المرة دى كان فيها رضا.. زى اللى شاف الدنيا ومشى وهو مطمّن. قالتلى وهى بتعدل شعرها:

«حبيت اللى شُفته! دنيتكم دوشة وزحمة بس سهلة – سهلة أوى.. الدنيا بقت أسهل، وكل حاجة متاحة.. يا بختكم! عندكم فرص كتير، كل موهوب يقدر يطلع للنور، من غير ما يتبهدل ولا يدور سنين».

بصت لى وغمزت:

«مصر لسه ولادة... وهتفضل، بس.. تسمحيلى.. الراب؟!

إيه الراب ده؟! ده فن؟.. أنا أفهم الشعبى.. المواويل.. الطرب، إنما الكلام اللى متقطع، متوتر، ولا نغمة فيه ولا طرب؟!»

ضحكت، وبديعة كملت:

«بس ماشى... الزمن له ناسه، وأنا كنت زمن، وانتهى، بس حكايتى هتفضل، تتكتب، وتتحكى، وتتلون، زى المسرح... كل ليلة له وشه».

قامت من الكرسى، وبصّت لى آخر نظرة، الهولوجرام بدأ يتلاشى، وقالت همسًا، زى وشوشة من بعيد:

«أنا رجعت، واطمنت، وسبت لكم الدنيا فيها الخير... وفيها اللفت. افتكرونى لما تسمعوا اسم بديعة.. مش مجرد راقصة، أنا كنت الحكاية نفسها».

واختفت.

رجعت أبص للكرسى الفاضى، وأسأل نفسى: هل حصل ده فعلًا؟.. ولا أنا اللى عايزة أسمع صوتها.. كل ما أفتح مجلة قديمة فى دار الوثائق...؟