سميحة أيوب فى آخر مذكراتها: 3 مواقف إنسانية هزتنى وأبكتنى بالدموع

«سميحة أيوب أسطورة المسرح العربى» للكاتب الصحفى أيمن الحكيم كان آخر الكتب التى صدرت عن الفنانة الراحلة، والذى طُرح فى الدورة الماضية لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، وحرصت الفنانة الكبيرة على حضور ندوة مناقشة الكتاب، وأهم ما ميز هذا العمل أنه احتوى على مذكراتها الكاملة على لسانها بعد أن جلس إليها أيمن الحكيم عشرات المرات على مدار عام كال يستمع منها حول تفاصيل حياتها من البداية حتى النهاية، وننشر فى «حرف» فصلًا من أهم الفصول التى احتواها الكتاب، والتى تحكى فيه عن أهم المواقف الإنسانية التى صادفتها فى مشوار عمرها، وإليكم نص ما قالته:

22 فبراير 1968
جاءت علينا فترة كنت أسأل فيها سعد الدين وهبة فى كل صباح بعد أن يتناول إفطاره ويستعد للخروج: «أكلمك فى أى تليفون النهارده.. نمرة مكتب إمبارح ولا نقلوك فى مكتب جديد؟»، كان السؤال يبدو مزحة لكنه كان يعبر عن واقع نعيشه وقتها، فلم يكد سعد يستقر فى وظيفة وينجح بها حتى نفاجأ بأنهم نقلوه إلى وظيفة جديدة، وكأنهم يعاقبونه على نجاحه، ومع ذلك لم يتسرب إليه الإحباط أبدًا، دائمًا تجده فى غاية الحماس والاستعداد للعطاء.. ودائما ما تجده مبدعًا ومتألقًا.
ولم يبالغ سعدا عندما كتب مرة يقدم كشف حساب لمسيرته: «ما نزلت بى نازلة وما حاقت بى مصيبة إلا اكتشفت بعد حين أنها كانت نقلة مهمة ومؤثرة فى حياتى، لقد قضيت فى خدمة الحكومة ٣١ سنة منذ سنة ١٩٤٩ حتى سنة ١٩٨٠، شغلت فيها ٣٠ وظيفة، ومنذ أن تركتها حتى الآن، وفى ١٣ سنة شغلت ٣٠ وظيفة أخرى.. قال أحدهم للكاتب الكبير الصديق المرحوم نعمان عاشور: «سعد الدين وهبة اترفد»، وكنت أرفت من كل وظيفة أشغلها، فرد المرحوم نعمان عاشور ضاحكًا: «يبقى هيترقى»، وهكذا كان حالى، ما أريد بى شر إلا وقلبه الله خيرًا بعد حين».
أصيب سعد وهبة برصاصة كادت تودى بحياته.. فلم تنزل دموعى إلا بعدها بأسبوعين
فبعد نجاحه فى مؤسسة السينما انتقل إلى مؤسسة التأليف والنشر «هيئة الكتاب فيما بعد»، وعينته رئيسة مجلس إدارتها د. سهير القلماوى رئيسًا لمجلس إدارة الشركة القومية للتوزيع «التابعة للمؤسسة»، وبدأ عمله الجديد بهمة ونشاط كالعادة، وكنا كزوجين على اتفاق ضمنى بأن نعرف خط سير بعضنا، فلا أذهب إلى مكان إلا بعد أن أخبره، ولا يترك مكتبه إلا بعد أن يخبرنى بوجهته.
ظللت بجانبه طوال إقامته بالمستشفى وأعود إلى بيتنا فجرًا ولا أنام سوى ساعتين
وحدث فى يوم ٢٢ فبراير ١٩٦٨ أمر غريب، كنت أصور مشاهدى فى مسلسل «الرحيل» بالتليفزيون، واتصلت فى فترة الاستراحة بسعد، وكنت أعرف أنه فى مكتبه، فأخبرنى سكرتيره بأسلوب تقريرى: «الأستاذ عنده اجتماع مهم»، وعاودت الاتصال بعد قليل، فأخبرنى السكرتير وهو يدارى ارتباكه: «الأستاذ خرج»، ولأننى أعرف أنه موجود بمكتبه ولا يمكن أن يخرج إلا بعد أن يكلمنى، لذلك تشككت فى الأمر وشعرت بانقباض فى قلبى وبأن هناك مكروهًا حدث له، ولا أعرف مصدر الإلهام الذى نزل علىّ لحظتها يخبرنى أنه أصيب وذهب إلى المستشفى، فعاودت الاتصال بالسكرتير وسألته بلا مقدمات وكأنى عرفت السر الذى يخفيه: «هو فى أى مستشفى؟»، وبوغت من سؤالى واعترف بلا تردد: «فى الهلال الأحمر»، وجريت على المستشفى ولحقتنى سناء جميل التى جاءت بملابس الفلاحة التى تجسد دورها، كما لحقنا بطل المسلسل عبدالله غيث الذى أصر على أن يقود السيارة ولا يتركنى أقودها وأنا فى تلك الحالة من التوتر..!
عندما زالت الغمة ونجا سعد وبمجرد عودته سالمًا معافى إلى بيته وجدتنى أجهش فى نوبة بكاء حادة
فى تلك الأيام كانت مظاهرات الطلبة فى مصر على أشدها احتجاجًا على الأحكام التى صدرت ضد قادة الطيران فى نكسة ١٩٦٧، ورأى المحتجون أنها مخففة ولا تتناسب مع الكارثة التى تسببوا فيها وورطوا فيها البلد.. وكانت واحدة من تلك المظاهرات تمر فى الثالثة عصرًا من أمام مقر الشركة القومية للتوزيع «على ناصية شارع رمسيس وامتداد شارع عماد الدين»، وكان سعد حينها يتأهب لمغادرة مكتبه لموعد مع د. سهير القلماوى قبل عودته للبيت فى الزمالك، ورأى أن يتمهل قليلًا حتى تمر المظاهرة وزحامها ويخلو الشارع، وخرج مع غيره من العاملين بالشركة ليشاهد المتظاهرين من البلكونة، وفوجئ سعد برصاصة تخترق صدره ولا يفصلها سوى مللى عن قلبه وتستقر تحت إبطه الأيسر.

ورغم نافورة الدم التى تدفقت من الجرح إلا أنه وبكل هدوء كتمها بيده، وظل متماسكًا ويقظًا ورابط الجأش، وبثبات قائد عسكرى راح يلقى تعليماته على العاملين معه «كما حكى بنفسه»: «أحدكم يذهب إلى مستشفى الهلال الأحمر القريب منا ليبلغهم لإعداد حجرة العمليات، وأنت تذهب إلى مأمور قسم الأزبكية خلفنا لتُحضر مجموعة من العساكر والضباط لتوصيلنا إلى المستشفى بين هذه المظاهرات، وأنت تذهب لإحضار صديقى الدكتور (شوقى سعد) وعنوانه كذا ورقم تليفونه كذا، وأنت تذهب لإبلاغ زوجتى الساعة السادسة بعد أن تنتهى من عملها مع نور الدمرداش فى استديو ٢ بالتليفزيون، وأنت تبلغ فى الخامسة الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة قبل أن يذهب لاجتماع مجلس الوزراء، كنت أحس بحدة الذاكرة وبنشاط غريب، وبعد أن انتهيت من كل التعليمات قدمت ساعتى وحافظة نقودى وأقلامى إلى سكرتيرى، ثم خرجت وخلفى الموظفون - وبعضهم يصرخ- إلى المستشفى حيث أجريت لى عملية أخرجت فيها الرصاصة»..
ورغم تلك التعليمات الدقيقة والخطة الصارمة فوجئ سعد بوصولى إلى المستشفى- وكان يجلس على الكرسى الطبى استعدادًا لدخول غرفة العمليات- وسألنى باستغراب: «عرفتى إزاى!.. أنا قلت لهم محدش يبلغك إلا لما تخلصى شغلك.. هو أنتى مش عندك سواريه فى المسرح (وكنت وقتها أقوم ببطولة مسرحية «المسامير» من تأليفه وإخراج سعد أردش)؟!»، وقلت له: سواريه إيه وشغل إيه.. معقولة عايزنى أسيبك وأنت فى الحالة دى؟!، وقطع الطبيب حوارنا ليطمئننى: «بسيطة إن شاء الله.. هيدخل العمليات دلوقتى.. بس يا ريت بسرعة تروحى تجيبى له بيجامة وماكنة الحلاقة وأشياءه الشخصية اللى هيحتاجها فى المستشفى»، وذهبت بصحبة سناء جميل، ولما رجعنا كان سعد قد خرج من العمليات وبدأ يستعيد وعيه، وكان كل ما يشغله حتى وهو لم يزل تحت تأثير البنج: «يا سميحة لازم تروحى السواريه»، وبالفعل صمم على ذهابى للمسرح، ورجعت من المسرح إلى المستشفى، وظللت بجانبه طوال إقامته بالمستشفى، أعود إلى بيتنا فجرًا ولا أنام سوى ساعتين، أصحو لأجهز له الإفطار وأحمله إليه فى المستشفى، وأعود ظهرًا لأجهز له وجبة الغداء وأحملها إليه، لأنه لا يأكل إلا «أكل بيتى» كما اعتاد، ثم أتوجه لتصوير مشاهدى فى مسلسل «الرحيل» بمبنى التليفزيون، ومنه إلى المسرح، وأعود إلى المستشفى من جديد.

المدهش أننى كنت متماسكة بشكل ملفت طوال الحادثة، لم تزرف عينى دمعة واحدة، أنا نفسى اندهشت من نفسى وكنت أخشى أن يظن أحد بى الظنون، ويتصور أننى لم أجزع ولم أهتز، فى حين كانوا يرون صديقتى سناء جميل مثلًا وهى «تسح» الدموع حزنًا على ما جرى لسعد، وكنت أنا زوجته الأحق والأولى بهذه الدموع وذلك الجزع..
وعندما زالت الغمة ونجا سعد، وبمجرد عودته سالمًا معافى إلى بيته، وجدتنى أجهش فى نوبة بكاء حادة، وكأننى كنت أختزن دموعى إلى وقت لاحق، أطمئن فيه أن الخطر زال، وهى عادة لاحظتها فى نفسى، ففى أوقات الأزمات والشدائد والمحن ترانى قوية ومتماسكة وصلبة، أتحكم فى نفسى وفى ثباتى الانفعالى فلا أنهار ولا أبكى، فإذا ما مرت المحنة تركت العنان لدموعى وللأحزان.. وبكيت بأثر رجعى!
حدث هذا مرات فيما عشته من محن وأزمات، بينها مثلًا يوم وفاة والدى قبل ٤ ساعات فقط من رفع الستار على عرض «أجا ممنون»، كان ذلك فى يوم ٢٧ أكتوبر ١٩٦٨، فعندما كنت أجهز نفسى للذهاب إلى مسرح الجيب فوجئت بتليفون من أمى وأختى الكبيرة، ومن بين بكاء ونشيج وعبارات متقطعة دامعة عرفت أن والدى مات.

كانت علاقتى بوالدى فى الفترة الأخيرة من حياته رائعة، عوضت فيها سنوات الجفاء وغضبه منى لإصرارى على العمل بالفن، وغيابه عنى لانشغاله فى استعادة «الوقف» الخاص بجده الأمير المملوكى على كاشف أيوب، حيث أضاع من عمره سنوات طويلة فى سبيل «الوقف»، حتى إن صديقنا الكاتب الساخر «سليط اللسان» جليل البندارى كان يسميه «صاحب الوقف الضائع والبخت الضائع»، وكتب مرة فى مقاله الشهير ليلة السبت بأخبار اليوم «١٤ نوفمبر ١٩٦٤»: «الليلة فى الثامنة والنصف تمامًا سوف يحرص واحد من ملايين المستمعين على مشاهدة سميحة أيوب فى التليفزيون وهى تمثل دورها فى الحلقة الأولى من مسلسلة (خيال المآتة) التى يكتبها إمبراطور الصعاليك زكريا الحجاوى ويخرجها نور الدمرداش.. إن هذا المتفرج هو عثمان أيوب صاحب الوقف الضائع والبخت الضائع.. وأمام شباك التذاكر بالمسرح شوهد أبوها أيضًا ببذلته الشتوية وحذائه الأبيض وهو يشترى تذكرة ليرى ابنته البريمادونة الصغيرة فى أول تطلعاتها على المسرح، وعندما سألته: لماذا لم تقل لى إنك ترغب فى مشاهدة المسرحية لأحجز لك فى الصف الأول، فقال فى كبرياء: أنا جلست أعلى التياترو».
والحق أننى لم أعرف أن والدى كان يأتى لمشاهدة أعمالى خلسة فى المسرح إلا منه وهو على فراش مرضه الأخير، كنت ألازمه فى تلك الفترة، أعتنى بشئونه وأتابع علاجه وأجلس تحت قدميه مستمتعة بهذا القرب الإنسانى الذى حرمتنى منه الظروف طويلًا، وكنت أناوله مرة الدواء فوجدته يربت على يدى برقة ويقول لى بحنان أبوى آسر: «يا سميحة أنتى بتعملى شغل كويس قوى فى المسرح.. أنا اتفرجت عليكى فى كل أدوارك وانبسطت منك.. كنت باروح فى السر وأتفرج من غير ما تشوفينى»، قلت له وأنا فى غاية السعادة بهذا الاعتراف المتأخر: «طيب ليه ما قولتليش؟!»، أجاب بدهاء: «خفت لحسن تتغرى»، ثم كانت العبارة التى أثلجت قلبى: «يا بنتى أنا راضى عنك».
27 أكتوبر 1968.. مات أبى قبل رفع الستار بساعات فكتمت الخبر وأديت دورى ثم أجهشت بالبكاء
طاف بذهنى هذا الشريط الطويل من ذكرياتى مع والدى عندما وصلنى خبر رحيله، وكعادتى فى المحن والمواقف الصعبة حاولت الثبات والتماسك، كتمت ألمى وحبست دموعى وذهبت إلى المسرح ووضعت كل طاقتى وهمى وتركيزى فى ذلك الدور الذى ألعبه وفى تلك الشخصية الدموية بكل انفعالاتها الحادة التى تبدأ بمشهد غير مسبوق فى عنفه وقسوته لامرأة تخرج من الحمام بعد أن قتلت زوجها..

كنت أؤدى الدور وأنا أصارع دموعى وحزنى وأهرب من تلك الذكريات التى تداهمنى والأحزان التى تنتظرنى، ومرت ليلة العرض بسلام، ولكن زميلى العزيز عبدالله غيث لاحظ أن مزاجى منحرف وأننى فى حالة غير معتادة من الوجوم، فجاءنى بعد العرض ليسأل ويستفسر: «مالك يا سميحة.. شكلك فيه حاجة غريبة الليلة فى أدائك وباينة على شكلك!»، هنا لم أستطع أن أتمالك نفسى، وانهرت فى بكاء مرير وأنا أخبره بأنى «أبويا مات قبل العرض بكام ساعة.. بس كان لازم آجى المسرح احترامًا للجمهور.. ومارضيتش أعلن الخبر علشان كلمات العزا كانت ممكن تخلينى أنهار».
لكن هناك محنة لم أستطع فيها الصمود والثبات وشعرت معها بالانهيار فور معرفة الخبر، ونزلت دموعى فى لحظتها ساخنة..
28 سبتمبر 1970
كان ذلك فى عزاء آخر عقب رحيل والدى بعامين، وشعرت معه أننى أصبحت يتيمة للمرة الثانية، وأقصد به يوم رحيل جمال عبدالناصر «٢٨ سبتمبر ١٩٧٠»، وعبدالناصر بالنسبة لجيلنا لم يكن مجرد رئيس أو حاكم بل كان زعيمًا أسطوريًا وأبًا لكل المصريين، وحتى الآن أحمل له هذا التقدير العظيم والعشق الكبير وأحسب نفسى «ناصرية» الهوى، وأغضب من حملات الهجوم عليه وتشويه تجربته، وغالبًا لا أدخل فى هذا الجدل الممجوج حولها وأقول لشانئيه «قرفًا»: لكم دينكم ولى دين!
28 سبتمبر 1970.. رحل عبدالناصر وأنا فى برلين فزلزلنى الخبر ووقفت فى السفارة لأتلقى العزاء
عشت تجربة عبدالناصر وآمنت بزعامته وصدقت وطنيته، لكنى لا أنكر أخطاء فى التجربة قادت إلى النكسة فى ٥ يونيو ١٩٦٧، وكانت صدمة بكل المقاييس، وجعتنا وزلزلتنا وقصمت ظهورنا وأفقنا من الخدر الذى وضعنا فيه إعلام أحمد سعيد، وعبدالناصر نفسه اعترف فى خطبه وفى اجتماعات الاتحاد الاشتركى بعد النكسة بتلك الأخطاء وحاول تداركها وقاد تلك المعركة الوطنية الشريفة لتحرير الأرض واستعادة الكرامة.

لم يتخل الشعب عن زعيمه رغم النكسة، لا أنسى خطاب التنحى وتلك النظرة المكسورة التى لم نعهدها ولم نتعودها فى عيون عبدالناصر، وخرجت الجماهير بعدها تطالبه بالبقاء، وهنا أرفض ما يقال عن تلك المظاهرات وبأنها كانت مصنوعة ومدفوعة ومدبرة، أبدًا هذا كذب وتضليل، أنا شاهدت سيدات خرجن بقمصان النوم من هول الصدمة احتجاجًا على قرار التنحى، لأنهن شعرن مثلما شعرت الملايين التى خرجت للشوارع بأنها أصبحت يتيمة، ولا تستوعب أن تكون تلك النهاية الحزينة للرجل الذى أحبته وآمنت بزعامته وعاشت معه أحلامه.
فى سنوات الاستنزاف، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المعركة- زرت الجبهة مع مجموعة من المسرحيين وقابلنا جنودنا على خطوط النار، ولمسنا روحهم المعنوية العالية وترقبهم ليوم الثأر، وشاركت فى سرادقات شعبية ألقيت فيها أشعارًا وطنية حماسية، وشاركت فى برامج وأعمال إذاعية تستنهض الهمم وتبث الثقة فى النصر وعبور الهزيمة، ربما كان أبرزها برنامج «جرح على أرض السلام» الموجه إلى أشقائنا الفلسطينيين فى الأراضى المحتلة يحثهم على الصمود والمقاومة..
وأذكر أن الناقدة إيريس نظمى كتبت عن البرنامج مقالًا فى «آخر ساعة» «أكتوبر ١٩٦٧» يفيض بالحماس والتقدير: «.. وسميحة أيوب تمثل أدوارها وتعيش فيها كما تعيش أم كلثوم فى أغانيها الخالدة، وحين أسمع صوتها الممتلئ حرارة وعمقًا- تخنقه الدموع أحيانًا- يتحول إلى هدير يهز المشاعر ويعمق المأساة بهول الفجيعة والكارثة التى حلت بالأراضى المقدسة.. وتقول سميحة أيوب أو الفتاة اللاجئة التى ترمز للسلام: يا ولدى أكتب إليك رسالة بلا عنوان/ رسالة لم يُخترع لها بريد/ إننى أذكر يا ولدى أننا كنا معًا فى الضفة الغربية/ وكان هناك حشود من البشر/ وفقدتك فى الزحام/ وأنا الآن لا أعرف قبرك أو مكانك/ هل أنت شهيد أم تدافع عن الوطن/ لا أستطيع أن أتصور أنك فى الكنيسة لأنهم يا ولدى قد دمروا الكنائس والمعابد/ لقد كنت وعدتك أن أحكى لك حكاية قبل النوم ونحن بجانب الموقد فى البيت/ وإذا بنا نسمع صوت انفجارات/ وكنت وعدتك أن أكمل لك الحكاية والآن أكملها لك/ لكن ليس فى الدار بل تحت خيمة/ فأنا كما يسمونى لاجئة.. وتكمل سميحة أيوب كل يوم بقية مأساتها المفجعة فى البرنامج الذى يعده ظافر الصابونى ويخرجه إسلام فارس (جرح على أرض السلام)، وليس هذا كل ما تقدمه سميحة أيوب للمشاركة فى المعركة، فمنذ بدأت المعركة نزلت سميحة أيوب إلى عدد من السرادقات المقامة فى الشوارع والأحياء الشعبية أيام التعبئة، وفى المؤتمرات كانت سميحة تلقى بصوتها الجهورى أشعارها الوطنية على الشباب، وتذهب سميحة صباح كل يوم إلى مبنى الإذاعة لتسجيل برنامجها (جرح على أرض السلام)، ثم تتوجه إلى التليفزيون لتؤدى دورها فى (عذراء مكة) الذى يحكى عن حروب قريش أيام ظهور الإسلام، ولا تعود بعد ذلك لتستريح فى منزلها بل تتوجه إلى مسرح الجمهورية لتوجه رسالة إلى جونسون (الرئيس الأمريكى المنحاز لإسرائيل) تقول فيها: ما يستفزك أن تترك الأطفال فى الدنيا الحالمة يضحكون؟.. ماذا تريد من الصغار.. ماذا تريد من الشيوخ الآمنين.. ماذا تريد من النساء الوادعات أو الشباب الآمنين؟.. وتخرج سميحة أيوب من مسرح (الجمهورية) لتؤدى دورها فى مسرحية (إيزيس) فى مسرح (الجيب).. وسميحة لا تؤدى دورًا إلا إذا كانت مقتنعة به تمامًا وأحسته بصدق.. إن هذا الصوت الفريد بنبراته القوية أصبح من معالم الأدوار الخالدة التى تحكى لنا فى سلاسة وقوة أصدق المعانى لتاريخ عروبتنا الملىء بالبطولات.. وهو أيضًا الذى يبث فينا الشعور بالوطنية والإصرار على كسب النصر فى معركة المصير التى نعيش فيها هذه الأيام».

ثم جاء الرحيل المفاجئ لعبدالناصر فى قلب الاستعداد للحرب ومعركة المصير، وجاء رحيله كدليل دامغ وبرهان ساطع على مكانته فى وجدان وقلوب الشعب، وكانت جنازته أسطورية وغير مسبوقة ولا ملحوقة فى التاريخ، فلم يعرف التاريخ أن شعبًا بكامله خرج يودع رئيسه، ملايين فاضت بها الشوارع وغاصت، بل كانت هناك جنازة وعزاء فى كل قرية.
يومها كنت فى ألمانيا الشرقية مدعوة من مسرح برلين إنسامبل «مسرح بريخت» لحضور افتتاح موسمه الجديد (وهى زيارة تاريخية تستحق أن أرويها بتفاصيلها فى فصل لاحق)، وسافرت بمفردى لارتباط سعد بمهام عمل منعت سفره معى، ولكن أسعدنى وخفف من إحساسى بالغربة وجود عدد كبير من الزملاء الذين كانوا يستكملون دراستهم، وبينهم سناء شافع ومحمد صديق ووفاء البيه، إضافة إلى د. مرسى سعد الدين مستشارنا الثقافى ومدير المركز الثقافى المصرى ببرلين وزوجته الجميلة عنايات، فتحولت أيامى فى برلين إلى حالة من السعادة والونس وجو الأسرة المصرى الحميم، إلى أن كان ذلك المساء الذى دخل علىّ فيه سناء شافع متجهمًا وأنا أتناول عشائى فى مطعم الفندق، وباغتنى بلا مقدمات: «البقية فى حياتك.. جمال عبدالناصر تعيشى أنتى»، فلم أتمالك نفسى ونهرته بحدة متصورة أنها مداعبة ثقيلة أراد بها أن يستفزنى، لكنه أقسم أن الخبر صحيح وكل تليفزيونات وإذاعات العالم تنقله، وتنبهت إلى شاشة التليفزيون الموجودة فى قاعة المطعم وهى تذيعه، لحظتها شعرت وكأننى اصطدمت بشاحنة مسرعة، فقدت توازنى وتوقف عقلى عن التفكير، ونزلت دموعى بلا إرادة منى، ولأول مرة لا أستطيع التماسك والسيطرة على نفسى فى محنة، لأن المحنة هذه المرة كانت أكبر من طاقتى البشرية.
وخلال دقائق كان المصريون الموجودون بالمكان يتجمعون، وكلنا نشعر بنفس إحساس الضياع والفقد وعدم التوازن ولا نعرف ماذا نفعل ولا إلى نذهب، وألهمنى تفكيرى واقترحت أن نتوجه إلى السفارة المصرية فى برلين، فلابد أن السفير والبعثة الدبلوماسية يرتبون لهذا الحدث الجلل، واتفقنا على أن نذهب للسفارة صباح الغد فى مسيرة، نتجمع فيها فى واحد من أهم ميادين برلين ومنه نتوجه للسفارة، وكنت أتصور أن المسيرة ستقتصر على المصريين فى ألمانيا، فالمصيبة مصيبتهم والحزن حزنهم والفقيد زعيمهم، فإذا بحشد من المواطنين الألمان يتوافدون إلى الميدان ويشاركوننا المسيرة إلى السفارة المصرية ويرفعون لافتات العزاء بالألمانية، وفى مبنى السفارة وقفنا نتلقى ونتبادل العزاء كأننا فى «مأتم».

ولكن «المأتم» الأسطورى كان فى مصر، وحكى لى سعد (وكان يومها وكيل وزارة الثقافة للثقافة الجماهيرية) عن ليلة وفاة عبدالناصر: «بعد أن أطل أنور السادات نائب رئيس الجمهورية على شاشة التليفزيون ينعى وفاة عبدالناصر.. لا أعرف ماذا حدث بالضبط، وجدت نفسى أرتدى ملابسى وأخرج إلى الشارع، وفى شارع أبوالفدا وفى شوارع الزمالك الفرعية شاهدت النساء بملابس النوم يبكين ويصرخن ويلطمن والرجال يبكون بصوت عال، والجميع يسيرون إلى غير هدى، أما أنا فقررت أن أذهب إلى وزارة الثقافة فى قصر عائشة فهمى.. مرت أكثر من ثلاث ساعات وصوت النحيب والهرولة يأتى لنا من الشارع.. أخذت سيارتى وعبرت كوبرى أبوالعلا وفى مواجهتى حى بولاق، ولا أنسى هذه الليلة طوال حياتى، كانت الساعة قد اقتربت من الثالثة صباحًا وكان حى بولاق مضاء جميعه، البيوت والدكاكين، وكان بالشارع جميع أهالى بولاق الرجال والنساء والأطفال، وأمام كل منزل جنازة، رجال يبكون ونساء يلطمن وأطفال يصرخون، أما الشباب فقد أخذوا طريقهم إلى شارع ٢٦ يوليو ثم إلى شارع رمسيس فى طريقهم إلى بيت جمال عبدالناصر، سرت فى شارع رمسيس وعند ميدان المحطة كان (كردون) الشرطة يمنع الجماهير من عبور الميدان، وشاهدنى أحد ضباط الشرطة وعرفنى وكان أول من قدم لى العزاء فى جمال عبدالناصر: البقية فى حياتك يا أستاذ سعد، ورددت: البقية فى حياتنا جميعًا.. وقال لى الضابط إن الطريق من ميدان باب الحديد حتى منشية البكرى حيث بيت عبدالناصر ازدحم بالجماهير.. الآلاف من الرجال والنساء يسدون شارع رمسيس.. الصراخ هو الفعل الوحيد الذى تستطيع فعله الجماهير.. وفى الثامنة صباح يوم الثلاثاء ٢٩ سبتمبر ١٩٧٠ جلست فى مقعدى باجتماع يرأسه ثروت عكاشة ويحضره قيادات الوزارة.. وأثناء الاجتماع تلقيت تليفونًا من والدى وقمت لأرد وأنا أتوقع أن يسألنى من الذى سيخلف عبدالناصر أو شيئًا من هذا القبيل، ولكن فوجئت به يقول لى: البقية فى حياتك والدتك اتوفت من ساعة عند أختك عفاف فى فارسكور»..
المدهش أن سعد بعد أن حضر جنازة والدته وعزاءها، عاد إلى القاهرة يوم الخميس ليشارك الجماهير فى الجنازة المهيبة لفقيد الأمة، ووقف يبكى ويصرخ مع طوفان المودعين: الوداع يا جمال يا حبيب الملايين..
ورجعت من برلين لأشارك فى عزاء عبدالناصر.. وعزاء حماتى، وكانت والدة سعد سيدة جميلة وطيبة القلب وبيننا علاقة ود حقيقية ولذلك حزنت لرحيلها، وكأنه كان موسم الأحزان..
