الإثنين 20 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

شهادة بقرن غزال.. كيف ذبح محمد الغزالى فرج فودة فى قبره؟

الدكتور محمد الباز
الدكتور محمد الباز والغزالى وفرج فودة

الغزالى: وجدت فرج فودة يكره الإسلام ونظامه وينكر صلاحية أحكامه للبقاء أى أنه يؤيد حكم الإعدام الذى أصدره الاستعمار على شريعتنا

محمد الغزالى شهد أمام المحكمة بأن فرج فودة يعتبر مفارقًا للجماعة ومرتدًا عن الإسلام وحكمه أن يستتاب وإن لم يرجع يقتل

مناظرة فرج فودة مع مأمون الهضيبى ومحمد الغزالى ومحمد عمارة كانت الإشارة التى فرضت ضرورة التخلص من المفكر الكبير

الغزالى: لقد اشتركت مع فرج فودة فى مناظرة لأنى كنت طامعًا إذا شرحت له الحق وبسطت أدلته أن أعود بالرجل إلى الإيمان

 

 

من بين الجرائم الظلامية الكثيرة التى ارتكبتها جريدة «النور»- لاحظ المفارقة- أنها كانت صاحبة الرصاصة قبل الأخيرة التى اغتالت المفكر الكبير فرج فودة. 

 فرج فودة قرر تأسيس حزب المستقبل بعد أن رأى حزبه القديم «الوفد» يتحالف مع جماعة الإخوان

كانت جريدة «النور» التى صدرت فى العام 1982 بترخيص مؤجر من حزب «الأحرار»، وترأس تحريرها فى إصدارها الأول الحمزة دعبس تصنف نفسها على أنها جريدة إسلامية، قد شنت هجومًا منفلتًا على فرج فودة، واتهمته بأنه يعرض أفلامًا إباحية ويدير حفلات للجنس الجماعى فى جمعية «تضامن المرأة العربية».. وهو ما دعا فودة إلى مقاضاة الجريدة واتهامها بالقذف فى حقه.. فقد جاءت بالكذب الكامل عليه دون أن تقدم دليلًا ولو عابرًا على ما تقوله. 

قبل خمسة أيام فقط- 3 يونيو 1992- من اغتياله، نشرت جريدة «النور» تقريرًا عنوانه: ندوة علماء الأزهر الشريف تحذر: حزب المستقبل خطر على أمن الأمة واستقرارها. 

كانت الجريدة بما فعلته تستخدم الأزهر فى تكفير فرج فودة، مستغلة البيان الذى صدر عما يسمى بـ«ندوة علماء الأزهر» بعد أن تقدم بأوراق حزبه «المستقبل» إلى لجنة شئون الأحزاب، وقدمت له بقولها: أكدت «ندوة العلماء» التى شكلها علماء الأزهر الشريف للرد على مزاعم العلمانيين ضد الإسلام، أن محاولة العلمانيين للحصول على موافقة لجنة الأحزاب على تشكيل حزب جديد لهم تحت اسم «المستقبل» يمثل خطرًا على أمن الأمة واستقرارها. 

بعد ذلك بدأ التصعيد الذى يصل بفرج فودة إلى درجة الكافر الكامل وعدو الإسلام المكتمل. 

جريدة «النور» الإسلامية نشرت بيانًا أحل دم فرج فودة وألقى به لقمة سائغة لمن يريد أن يتقرب إلى الله بقتله

تقول الجريدة: أكد علماء الأزهر أن أعضاء هذا الحزب العلمانى أعداء لكل ما هو إسلامى، وهدفهم المعلن هو منع تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بدعوى تفوق القانون الوضعى، وأشاروا إلى أن أعضاء هذا الحزب دأبوا على الهجوم على التاريخ الإسلامى والتطاول على بعض أصحاب النبى الكريم صلى الله عليه وسلم وعلماء الأمة، كما دأبوا على الهجوم على التيار الإسلامى واستعداء النظام وتحريضه على ضرب هذا التيار. 

لم يكن الخلاف بسبب الغيرة على الإسلام إذن، كانت الجريدة التى تعبر عن التيارات الإسلامية وبتمويل مباشر منها ترد الهجوم الذى يشنه فرج فودة عليهم باتهامه بأنه يهاجم الإسلام ذاته، رغم أن الفارق بين الإسلام والجماعات الإسلامية كان كبيرًا ولا يزال. 

نشرت الجريدة بعد ذلك بيان ندوة العلماء كاملًا، وهو البيان الذى أحل دم فرج فودة، وألقى به فى عرض الطريق لقمة سائغة لمن يريد أن يتقرب إلى الله بقتله. 

وقد يكون من المفيد أن أقدم لكم نص البيان كاملًا، فهو الوثيقة القاتلة التى لا بد أن نتذكرها ولا ننساها أبدًا لنعرف حجم الجرم الذى ارتكب فى حق مفكر حر. 

يقول البيان: 

طالعتنا الصحف فى يوم الخميس ١٤ مايو ١٩٩٢ بإعلان المدعى العام الاشتراكى بناء على اخطار من سيادتكم بإشهار حزب جديد يدعى «حزب المستقبل» ويحتوى هذا الإشهار على قائمة بأسماء السادة المؤسسين لهذا الحزب، والتى ضمت مائة وأربعة وستين اسمًا. 

وقد تفضلتم مشكورين ببيان أن من لديه اعتراض على أى من الأسماء المذكورة أن يتقدم إليكم باعتراضه مؤيدًا بما لديه من مستندات خلال شهر من تاريخ هذا الإعلان، وقد نظرنا فى أسماء المؤسسين لهذا الحزب، فوجدنا بها عددًا كبيرًا من العلمانيين ومن غيرهم من أصحاب الأفكار الشاذة، وقد جعل الدكتور فرج فودة وكيل المؤسسين لهذا الحزب، ما يترك انطباعًا للوهلة الأولى أن اتجاهه سيكون علمانيًا صرفًا. 

والعلمانية كما هو معروف مصطلح يعنى الفصل بين الدين والحياة، فهى تساوى كلمة اللا دينية، وقد جاء فى دائرة المعارف البريطانية عن العلمانية أنها حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها، فهى- أى العلمانية- اتجاه يقوم على تنظيم كل شئون الحياة وفق معايير بشرية بحتة دون النظر أو الرجوع إلى الدين فى شىء، وقد قرر مجمع اللغة العربية أن العلمانية كمصطلح يضبط بفتح العين إلى العالم أو الأرض، والمعنى المراد منه فى معظم بلاد أوروبا الغربية، خاصة فرنسا هو فصل الدين عن الدولة. 

ومما يؤسف له أن وكيل المؤسسين لهذا الحزب والكثيرين معه فى هذا الحزب المقترح، يتبنون هذا الاتجاه الذى يقوم على الدعوة إلى التخلص من هذا الدين وعزله مطلقًا عن حركة المجتمع. 

فالدكتور فرج فودة علمانى حتى النخاع، وقد خلع عليه بعض الصحفيين لقب «العلمانى المقاتل»، حيث أوقف جهاده وفكره وحياته كلها على منع تطبيق الشريعة الإسلامية، أو إقامة الدولة الإسلامية فى أى صورة من الصور، وبأى وسيلة من الوسائل، وهو يعلن ذلك فى كتبه وفى لقاءاته الفكرية بلا مواربة أو خداع. 

وها هى الدلائل الواضحة على اتجاه وكل المؤسسين لهذا الحزب: 

أولًا: الرفض المطلق لتطبيق الشريعة الإسلامية.. فقد سئل فى حوار أجرى معه حول موقفه من قضية تطبيق الشريعة، فأجاب: ببساطة أنا ضد تطبيق الشريعة فورًا أو حتى خطوة خطوة، لأننى أرى أن تطبيق الشريعة لا يحمل فى مضمونه إلا مدخلًا لدولة دينية «كتاب حوارات حول العلمانية ص١١». 

ويقول أيضًا: إن الدعوة لإقامة دولة دينية فى مصر تمثل ردة حضارية شاملة بكل المقاييس «كتاب الطائفية إلى أين؟ ص٢٠». 

ثانيًا: يقول بتفوق القانون الوضعى على الشريعة الإسلامية.. فهو يرفض من حيث المبدأ التحاكم للشريعة الإسلامية ويتجاوز الحد فيقول: إن القوانين الوضعية تحقق المصلحة للمجتمع أكثر من الشريعة الإسلامية، ويقول: ورأيى أن القانون الوضعى يحقق صالح المجتمع فى قضايا الزنا مثلًا أكثر مما ستحققه الشريعة لو طبقت، ويقول على القانون الحالى: إنه يعكس احتياج المجتمع المعاصر بأقدر مما تفعل الشريعة «كتاب الحقيقة الغائبة ص١٢». 

وقد كتب مقالًا فى مجلة أكتوبر عدد الأحد ١٠/٥/١٩٩٢ تحت عنوان «ماذا حدث للعقل المصرى؟» يتهكم فيه ويسخر من عقول السادة أعضاء اللجنة التشريعية فى مجلس الشعب؛ لأنهم طالبوا بتجريم سفور المرأة والشذوذ الجنسى والزنا بتراضى الطرفين، ويقول: العنوان أصابنى باكتئاب شديد، ويهزأ بعقول المشرعين فى مصر لحماية الفضيلة والأخلاق، فيطالب وزير الصحة متهكمًا بدعم أسعار المهدئات والمسكنات لكى تكون فى متناول السادة المشرعين فى البرلمان، الذين يحرصون على حماية الأخلاق والعفاف، فهو يريدها تبرجًا وسفورًا وإباحية، ويهزأ من الذين يريدون حماية الأخلاق فى المجتمع، ويدعى أن جرائم الاغتصاب لم تظهر إلا فى عصر الحجاب، أما عصر الميكروجيب فلم يكن هناك شىء من ذلك، وكأنه يغمز إلى أن الحجاب وراء هذا السقوط الأخلاقى. 

ثالثًا: إنه شديد العداوة لكل ما هو إسلامى ويفرط فى عداوته لتواجد الشعائر الإسلامية وظهورها فى ساحة الإعلام والسياسة، فقد ذكر فى كتاب «الطائفية إلى أين؟ ص٣١- ٣٢» أن البرامج الدينية تمثل اختراقًا للإعلام وخطرًا على مدنية الدولة، ويعتبر الأذان فى التليفزيون تراجعًا إعلاميًا أمام المد الدينى، ويرى أنه من الأخطاء الفادحة التى وقع فيها المشرفون على التليفزيون أنهم أعطوا مساحات كبيرة من ساعات الإرسال للبرامج الدينية، خاصة الشيخ الشعراوى فى تفسيره وأحاديثه، وقد سماها متهكمًا ظاهرة الشيخ الشعراوى. 

ويعتبر الدكتور فرج فودة أن الدعوة إلى الحجاب، والدعوة إلى منع الاختلاط فى المؤسسات التعليمية بين الذكور والإناث، والدعوة إلى إطلاق اللحية وإلى استعمال السواك وإحياء السنن يعتبر سيادته تلك الأشياء أمراضًا يجب استئصالها من المجتمع المصرى. 

رابعًا: هجوم الدكتور فرج فودة على التاريخ الإسلامى وتطاوله على بعض أصحاب النبى الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى الرموز الإسلامية وعلماء الأمة، فتجده فى كتاب «الطائفية إلى أين؟» يتطاول على الصحابى الجليل عبدالله بن عباس ويتهمه بسرقة بيت المال، ويقول: هل الاستيلاء على أموال المسلمين بالباطل حلال على مسلم لكونه عاصر الرسول أو الخلفاء أو الصحابة، حرام علينا لأننا جئنا فى عصر من العصور وزمان غير الزمان. 

ثم يقول: أتذكر أن أحد أعضاء تنظيم الجهاد كان يكحل عينيه، وعندما سئل قال تأسيًا بابن عباس، ولعله لو قرأ ما قرأناه عنه ما تأسى به وما اكتحل مثله، يا سبحان الله، ما أفسد جرأتك أيها الدكتور على بن عباس حبر الأمة وفقيهها، وهل الروايات الساقطة التى التقطتها من هنا أو هناك تجعلك تحكم هذا الحكم، ما هكذا يا سعد تورد الإبل. 

ولم يكتف الدكتور بمهاجمة الصحابة الأجلاء، بل تجده يكيل السباب والطعن والسب لشيخ الأزهر فى كلمات يعف اللسان عن ذكرها لا لشىء غير أن فضيلة الإمام تصدى لزمرة المارقين دعاة الفصل بين الدين والدولة، ينظر هذا الهجوم فى جريدة الأهالى عدد ٢٣ مارس ١٩٨٨. 

خامسًا: الهجوم على التيار الإسلامى واستعداء النظام وتحريضه على ضرب هذا التيار، فهو حذر القيادة السياسية من تزايد الدعوة للدولة الدينية، ويطالبهم بأن يقفوا بحسم ضد هذا التيار، ويحذر أعضاء البرلمان ويستنفرهم للتصدى للإسلاميين داخل البرلمان. 

والدكتور فرج فى أسلوبه التحريضى على الإسلاميين يلعب دائمًا بورقة الأقباط فى مصر، وينصب نفسه حاميًا لحماهم، ويقول: يجب أن نضحى بقضية تطبيق الشريعة بالكلية حتى لا نخدش مشاعر النصارى فى مصر، يا سبحان الله وهل يجهل أحد فى مصر من المسلمين ومن النصارى مدى العناية التى كفلها الاسلام لأهل الكتاب، وقد أصبح المبدأ الشرعى «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» يحفظه كل إنسان على أرض مصر، وهل يجد الأقباط تحقيقًا للسلام والأمان فى بقعة من بقاع الأرض أكثر من أرض مصر وبين إخوانهم المسلمين هنا؟ 

ثم أين موقف سيادة الدكتور من الصهيونية فى فلسطين التى سلبت الحقوق واغتصبت الأرض، لم لا نرى له كلمة واحدة يطالب فيها بحق مغتصب، أو يهاجم فيها معتديًا مثل هجومه على تطبيق الشريعة أو العودة بالمجتمع إلى الإطار الإسلامى الصحيح؟، ما يجعلنا نتشكك كثيرًا فى انتمائه السياسى والوطنى، ويجعلنا نضع علامات استفهام كثيرة حول اتجاهه الفكرى وانتمائه الحقيقى. 

سادسًا: إذا كان ما قدمناه عن وكيل المؤسسين لحزب المستقبل يثير العجب والدهشة لدى كل قارئ، فإن هناك ما هو أشد عجبًا وهو اشتراك الدكتور أحمد صبحى منصور رقم ٦ فى قائمة المؤسسين لهذا الحزب، وقد يعلم البعض من هو المدعو أحمد صبحى منصور، فهو الذى يحمل فكرًا شاذًا عن بيئتنا وثقافتنا الإسلامية الصحيحة، إنه صاحب الاعتقاد بعدم ختم النبوة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. 

وقد ذهب إلى أمريكا واعتنق أفكار المدعو رشاد خليفة الذى ادعى النبوة بولاية أريزونا فى أمريكا فى مسجد توسان، وهو صاحب الاعتقاد بإنكار السنة النبوية، وغير ذلك من الأفكار الشاذة، ما جعل مجلس جامعة الأزهر يتخذ قرارًا بفصله من الجامعة، مما هو معلوم أن قرارات محكمة النقض المصرية اعتبرت أن ادعاء النبوة بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أو التصديق بها قولًا أو عملًا إحدى الجرائم الأساسية التى تهدر أمن المجتمع وسلامته. 

فإننا نرى أن الاتجاه الفكرى العام لهذا الحزب ولجل الممثلين له لهو أشد خطرًا على أمن الأمة وسلامتها، لأنه يعادى الأمة فى حسها الدينى، ويتعارض مع ميول الأمة وتطلعها إلى العودة إلى الاسلام دستورًا وشريعة، والموافقة على إنشاء حزب يحمل هذا الاتجاه يؤدى إلى رد فعل غاضب لدى كثير من جماهير المسلمين، الذين يتطلعون إلى إشهار حزب إسلامى فلم يسمح لهم بحجة أن الدولة كلها وبكل مؤسساتها تعمل فى ظل الإسلام. 

هذا باختصار بيان لبعض الاتجاهات الفكرية التى يحملها دعاة ومؤسسو حزب المستقبل، ومن أراد المزيد فعليه بقراءة كتب الدكتور فرج فودة، التى منها «قبل السقوط، الحقيقة الغائبة، حوار حول العلمانية، الملعوب، الإرهاب، النذير، الطائفية إلى أين؟»، وغير ذلك، هذا عدا مقالاته وندواته التى يذيع فيها أفكاره واتجاهاته، وإذا كان الاعتراض على أشخاص المؤسسين لهذا الحزب قد يقصد به ما ثبث ضدهم من أحكام جنائية أو انتماءات مخالفة للشريعة والدستور من عمالة لتنظيم هدام، أو الانضمام إلى هيئة خارجية تحرض على تخريب المجتمع وتهديد أمنه وسلامته أو غير ذلك. 

وإنه باسم «ندوة علماء الأزهر» نناشد السيد رئيس الجمهورية ونناشد السيد رئيس لجنة شئون الأحزاب السياسية، وكذلك المدعى العام الاشتراكى وكل مسئول فى هذا المجتمع الذى نحرص جميعًا على أمنه وسلامته، نناشدكم جميعًا عدم السماح لقيام هذا الحزب حتى لا نزيد النار اشتعالًا، وإننا نعترض على اسمين من هذه الأسماء، وهما الدكتور فرج فودة والدكتور أحمد صبحى منصور لما قدمناه عنهما من انتماءاتهما الفكرية واتجاههما غير السوى، ونعترض على اتجاه الحزب عمومًا لأنه سيؤدى إلى بلبلة الأمة وتقويض دعائم الأمن والاستقرار فيها، وصدق الله العظيم فى قوله الكريم «فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم» ألا هل بلغنا اللهم فاشهد. 

لو أخضعنا هذا البيان للعقل، سنجد أنه كان جنونًا كاملًا، فهو ليس بيانًا بل دعوة للقتل، تداخل فيها الكذب بالتدليس، والإفك باختلاق الوقائع وبتر الأقوال من سياقها، فقد كان الهدف واضحًا وهو إزاحة فرج فودة من طريق التيارات الإسلامية التى أصبح خطرًا عليها. 

بعد مناظرة فرج فودة والهضيبى والغزالى ومحمد عمارة قال محمود مرسى «الراجل ده هيتقتل»

لم يكن أمر حزب «المستقبل» الذى قرر فرج فودة تأسيسه بعد أن رأى حزبه القديم- الوفد- يتحالف مع الإخوان، يهم هذه التيارات، ولكن كان فرج نفسه هو المهم، وكانت المهمة هى إسكاته إلى الأبد، وأعتقد أن المناظرة الشهيرة التى كان طرفها فى مواجهة مأمون الهضيبى ومحمد الغزالى ومحمد عمارة فى معرض الكتاب فى بدايات العام ١٩٩٢ كانت الإشارة التى فرضت ضرورة التخلص منه. 

فى هذه المناظرة كان الفنان الكبير محمود مرسى حاضرًا ليناصر صديقه، وبعد أن استطاع فرج أن يرد بثبات ويفحم معارضيه- لو قلنا أعداءه فلن نكون مبالغين- نظر مرسى إلى وجوه الحاضرين، رصد ما فيها من غضب وحقد وكراهية وعصبية، فنظر إلى من حوله من أنصار فرج، وقال لهم: الراجل ده هيتقتل. 

حادث اغتيال فرج فودة

هل نقول إن هذه كانت نبوءة؟ 

كانت كذلك بالفعل.. ولم يكن بيان ندوة علماء الأزهر إلا التوجيه الأخير لتصفية فرج فودة. 

فى ٨ يونيو ١٩٩٢ بفتوى من عمر عبدالرحمن وتحريض من ندوة علماء الأزهر وتخطيط من صفوت عبدالغنى، أطلق اثنان من أعضاء الجماعة الإسلامية هما أشرف سعيد إبراهيم وعبدالشافى أحمد رمضان النار على فرج فودة أمام الجمعية المصرية للتنوير بشارع أسماء فهمى بمصر الجديدة. 

لم تجد النيابة عناء فى الحصول على اعتراف المتهمين، فقد كانا يفخران بتنفيذ عملية القتل البشعة، بدأت المحكمة فى نظر القضية، واستمرت خلال ٣٤ جلسة تستمع من النيابة والشهود والدفاع، ومن بين هذه الجلسات أتوقف بكم عند الجلسة التى حضرها الشيخ محمد الغزالى ليدلى بشهادته. 

 ندوة لعدد من علماء الأزهر حكمت بكفر فرج فودة وعدائه لكل ما هو إسلامى قبل تعرضه للاغتيال بـ٥ أيام فقط

وقبل أن تسألنى لماذا الشيخ محمد الغزالى بالتحديد وهناك ٣٠ شاهدًا غيره وقفوا أمام المحكمة، وأدانوا الضحية وتعاموا عن القتلة، سأقول لك إن لدىّ فى ذلك سببين. 

الأول: إن الشيخ محمد الغزالى تطوع لتقديم شهادته، ولم يكن صحيحًا- كما قال- أن هيئة الدفاع عن المتهمين هى من طلبته، فقد ذهب إلى المحكمة عامدًا متعمدًا؛ ليدين فرج فودة وينقذ من قتلوه. 

الثانى: إن هناك من يرى فى الشيخ محمد الغزالى رجلًا يناصر حرية الرأى والاعتقاد، وإنه ليس من بين من يحكمون على الناس بالكفر، وإن شهادته أمام المحكمة فى قضية فرج فودة فهمت على الوجه الخطأ، وإنها أبدًا لا تعبّر عن الشيخ ولا عن توجهاته. 

فرج فودة

كل ما سأفعله أننى سأنقل لك نص أقوال الشيخ الغزالى فى المحكمة، وأقف من بين ردود الأفعال الكثيرة عليها عند حوار صحفى ممتد، بدأه الكاتب الكبير صلاح منتصر فى زاويته «مجرد رأى» على صفحات الأهرام، حيث رد الشيخ الغزالى وتداخل فيه وقتها مفتى الديار المصرية الدكتور محمد سيد طنطاوى، وبعدها يمكن أن تحكم أنت على الشيخ الغزالى، أو على الأقل تعرف أين يقف الشيخ. 

د. محمد سيد طنطاوى: المرتد الذى يحارب الإسلام كذبًا وزورًا أشد سوءًا من الكافر الذى لا يتعرض لعقيدتى ولا أتعرض لعقيدته

لاحظ فقط وأنت تقرأ أن هذه الشهادة كانت قبل أربع سنوات فقط من رحيل الشيخ الغزالى- توفى فى ٩ مارس ١٩٩٦- فقد ودع حياته بظلم برىء، أعتقد أنه سيحاججه بما فعله أمام الله. 

بعد اغتيال فرج فودة بـ١٤ يومًا فقط، وفى ٢٢ يونيو ١٩٩٣، وفى تمام العاشرة صباحًا تم إحضار المتهمين وأدخلوا قفص الاتهام وسط هتافات مدوية مرددين: إسلامية... إسلامية... شرع الله عز وجل... الإسلام هو الحل. 

كما أنشدوا بعض الأناشيد الإسلامية.

وجلس المتهمون؛ لتبدأ إجراءات الجلسة فى العاشرة والنصف، حيث أشار رئيس محكمة أمن الدولة العليا طوارئ إلى الحاجب لكى ينادى على الشاهد. 

ووسط صمت وترقب دخل الشيخ محمد الغزالى. 

- رئيس المحكمة: اسمك وسنك ووظيفتك؟ 

- محمد الغزالى أحمد السقا- ٧٦ عامًا- وعضو مجمع البحوث الإسلامية. 

- ما معلوماتك عن الحادث؟ 

- لا توجد لدى أية معلومات، وقد حضرت بناء على طلب الدفاع. 

أشار رئيس المحكمة إلى هيئة الدفاع؛ لكى توجه أسئلتها إلى الشاهد، وبدأ عبدالحليم مندور، المحامى ورئيس الهيئة فى توجيه أسئلته للشيخ الغزالى. 

-هل الإسلام دين ودولة وما معنى هذه المقولة؟ 

محمد الغزالى

- الإسلام عقيدة وشريعة وعبادات ومعاملات وإيمان ونظام ودين ودولة، ومعنى هذه المقولة ذكرته الآية الكريمة فى قول الله عز وجل «ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شىء»، والآية «أفغير الله أبتغى حكمًا وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلًا»، والإسلام دين شامل، ومنذ أن بدأت دعوته من ١٥ قرنًا وهو دين ودولة، لم تنفصل فيه السلطة الزمنية عن المعانى الروحية، وقد جاءت النصوص متشابهة فى أركان شتى، مثل قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام» وقوله «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص»، وقوله «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كره لكم»، وفى الإسلام عبادة شخصية كالصيام، وعبادة جنائية كالقصاص، وعبادة دولية كالجهاد، فالعبادة واحدة وإن اختلفت اتجاهاتها، كما أن أطول آية فى القرآن هى آية الدين وهو دين اقتصادى، وبالإحصاء والاستقراء نجد أن الإسلام دين للفرد وللمجتمع والدولة، وأنه ما ترك شيئًا إلا وتحدث فيه ما دام هذا الشىء يتصل بنظام الحياة وشئون الناس. 

- هل تطبيق الشريعة الإسلامية واجب؟ 

- الإجابة من القرآن فى قوله تعالى «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا»، وقوله «أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون». 

- ما حكم من يجاهر برفض تطبيق الشريعة استهزاء؟ 

- لقد كانت الشريعة الإسلامية تحكم العالم العربى والإسلامى كله حتى دخل الاستعمار العالمى الصليبى- وكرهه للإسلام واضح- فألغى أنواع القصاص وأحكام الشريعة الإسلامية وأنواع التعازير والحدود، وحكم الناس بالهوى فيما يشاءون، وقد صحب الاستعمار العسكرى استعمار ثقافى، ومهمة الاستعمار الثقافى هى جعل الناس يطمئنون إلى ضياع تشريعاتهم وتعطيل أحكام الله دون أن يتبرموا، فالله تعالى يقول «الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة»، وأشعر بغصة؛ لأن الآية مشطوبة فى المجتمع، فالقانون يقول إذا اتفق شخصان بإرادة حرة على مواقعة هذه الجريمة، فإنه فى هذه الحالة لا تعتبر جريمة وتسمى عشقًا أو حبًا، وبذلك فإن نص الشريعة قد عطل وأزهقت روحها، وكيف يقبل المسلم هذا الكلام أو يستريح لهذا الوضع؟ 

وبالتالى كيف يستهزأ بى إذا قلت يجب تطبيق الشريعة، وهناك أناس كثيرون يريدون تطبيق الشريعة ويجادلون فى صلاحيتها، ويثبتون حكم الإعدام الذى أصدرته الحكومات الأجنبية والاستعمار العالمى على هذه الشريعة التى شرفنا الله بها، ويستهزئون بنا عندما نقول: لابد أن يحكم شرع الله، والاعتراض على تطبيق الشريعة والاستهزاء به كفر. 

الغزالى

- ما حكم من يجاهر برفض تطبيق الشريعة كفرًا أو استهزاء؟ 

- إنه ليس بمؤمن مصداقًا لقوله تعالى «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»، وفى آية ثانية «الظالمون» وفى ثالثة «الفاسقون». 

- ما حكم من يدعو إلى استبدال حكم الله بشريعة وضعية تحل الحرام وتحرم الحلال؟ 

- يقول الله تعالى «أتستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير»، إنه ليس بمؤمن يقينًا، ويقول الله تعالى فى أمثال هؤلاء «ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم منوا بما أنزل الله وما أنزل من قبلك ويريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به». 

- هل يعتبر هذا العمل كفرًا يخرج صاحبه من الملة؟ 

- لقد رفض الحكم بما أنزل الله جهرًا واستهزاءً، وهو بلا شك يخرج عن الملة. 

- ما حكم المسلم أو مدعى الإسلام إذا أتى جهرًا واستهزاء، إذا أتى هذا الفعل الكفرى وقد علم بما فيه ومراميه؟ 

- أنا أدحض الشبهات وأقدم الأدلة التى تؤيدنى فى قولى وأبين الحق، هذه هى مهمتى كداعية، وليس تلمس العيوب؛ لأننى لا أفرح بإيداع أقدام الناس فى الشباك، وإنما أنا طبيب أعالج المرضى وأريد إنقاذهم من الجراثيم التى تكاد تفتك بهم، فإذا كان الإنسان عنيدًا ويرفض كل ما أقوله ويأبى إلا بتكذيب الله ورسوله فلا أستطيع أن أقول إنه مؤمن. 

- هل يجوز أن ينطق الإنسان بالشهادتين وفى نفس الوقت يجهر برفض تطبيق الشريعة ويدعو إلى استبدال شرع الله بشرائع الطواغيت من البشر؟ 

- إن الله عز وجل يقول فى هذا الصنف من الناس «ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين»، بل إن بعض الناس كان يحلف أنه مؤمن، ولكن جبنه وتقاعسه عن الدفاع عن الإسلام نفى الدين عنه، إن الإيمان باتفاق العلماء قول وعقيدة وعمل، إن ديننا اسمه الإسلام أى الخضوع لله. 

- هل من يأتى هذه الأعمال يعتبر مفارقًا الجماعة ومرتدًا عن الإسلام؟

- نعم يعتبر مرتدًا عن الإسلام. 

- ما حكم هذا المرتد شر عًا؟ 

- أن يستتاب، وإن لم يرجع يقتل، وهذا هو الحكم العام بإجماع كثير من الفقهاء، وأما أنا فأرى أنه يجوز للحاكم إيداعه فى سجن مؤبد، كما لو أن مرتدًا هرب فلا يجرى البحث عنه ويبرأ المجتمع منه؛ لأن فى بقائه خطرًا على الأمة. 

- من الذى يملك إقامة الحد على المرتد الذى يجب قتله؟ 

- المفروض أن جهاز القضاء هو الذى يقوم بهذه المهمة، وتطبيق الحدود والتعازير والأخذ بالقصاص هى أمور من اختصاصه وليس لآحاد الناس، حتى لا تتحول الأمور إلى فوضى. 

- ماذا لو كان القانون لا يعاقب على الردة والقضاء لا ينفذ حكمها؟ 

- يكون القانون معيبًا وتكون هناك فوضى فى المجتمع. 

- هل يبقى الحد على أصله من وجوب إقامته؟ 

- حكم الله لا يلغيه أحد، والحد واجب الإيقاع. 

- ماذا لو فعله فرد من آحاد الناس؟ 

- يعتبر مفتئتًا على السلطة، وأدى ما لا ينبغى أن تقوم به السلطة. 

- هل يعتبر مفتئتًا على السلطة إذا كانت لا تطبق هذا الحكم؟ 

- نعم يعتبر مفتئتًا. 

- هل هناك عقوبة للافتئات على السلطة؟ 

- لا أذكر أية عقوبة فى الإسلام. 

جنازة فرج فودة

وعقب إدلاء الشيخ الغزالى بشهادته، سأل رئيس المحكمة أعضاء نيابة أمن الدولة إذا كانوا يريدون توجيه أسئلة للشاهد فأجابوا بالنفى. 

بعد ما يقرب من أسبوعين وفى ١٨ يوليو ١٩٩٣ بدأ الكاتب الكبير صلاح منتصر حوارًا مفتوحًا حول هذه الشهادة، وكانت الخطوة الأولى فى هذا الحوار مقالًا كتبه بعنوان «أسئلة إلى الغزالى»، جاء فيه: 

فضيلة الشيخ محمد الغزالى له منا كل احترام وتقدير، بالإضافة إلى ما نعرفه عن علمه وجهده الكبير للقيام بدور الداعية الذى يتمنى قوة المسلمين وخروجهم من مرحلة الضعف والهوان التى يمرون بها اليوم. 

ولقد كان لفضيلة الشيخ الغزالى شهادة أمام المحكمة التى يمثل أمامها المتهمون باغتيال الدكتور فرج فودة، وحسنًا تم نشر هذه الشهادة بالنص حتى نعرف على وجه الدقة ما قاله فضيلة الشيخ، وإن كان أحد الزملاء «الأستاذ فهمى هويدى أهرام ٦ يوليو قد وجد أن حديث الشيخ أمام المحكمة يحتاج إلى إيضاح للعامة، فكتب يحاول هذا الشرح تحت عنوان «حاشية على شهادة الغزالى»، لكن يبدو أن الحاشية فى حاجة إلى حاشية، وليس فى الدين من حرج كما تعلمنا، كما أن الدين كدستور للحياة لابد أن يصل إلى الناس ببساطة، حتى وإن كان معقدًا فى بعض التفاصيل، لكن مهمة الداعية أن يسهل لا يصعب، وهو ما يجعلنى أرجو فضيلة الشيخ الغزالى بعد أن قرأت شهادته، وبعد أن قرأت الحاشية التابعة لشهادته أن يجيب عن هذه الأسئلة التى أتصور أن ملايين مثلى قد سألوها وينتظرون من فضيلة الشيخ إجابة عنها. 

إن أسئلتى يا فضيلة الشيخ هى: 

أولًا: أى الدرجات أعلى فى المعصية: الكافر أم المرتد؟ 

ثانيًا: متى يكون الفرد كافرًا ومتى يكون مرتدًا؟ 

ثالثًا: من الذى يملك تكفير فرد، ومن الذى يملك الحكم عليه بالردة؟ 

رابعًا: هل يحتاج الأمر السابق إلى فقهاء ودعاة دارسين وبطريقة علنية وواضحة، أم يستطيعه أى فرد أو جماعة وبطريقة سرية ومغلقة؟ 

خامسًا: هناك من الدارسين من يشكك فى حد الردة ويقول إن حد الردة ليس موجودًا صراحة فى القرآن الكريم، فهل هذا صحيح؟ 

سادسًا: هل يتعارض ما ورد فى القرآن الكريم عن حرية العقيدة واعتبار الحكم على إسلام الفرد من اختصاص الحق سبحانه وتعالى، مع القول بحق أى فرد أو جماعة فى تكفير فرد أو الحكم بأنه مرتد؟ 

حادث اغتيال فرج فودة

وفى ٢٠ يوليو أرسل الشيخ الغزالى إجاباته عن أسئلة منتصر، ونشرها تحت عنوان «رد من الغزالى»، جاء فيه: 

أبدأ أولًا وأشكر فضيلة الشيخ محمد الغزالى على سرعة استجابته بالرد على ما وجهته إلى فضيلته من أسئلة، وقد أرسلها لى مكتوبة بخط اليد مع مقدمة يأمل نشرها كاملة دون تلخيص، فإنى قمت عنكم بمهمة الإيجاز وأحسب أن أى نقص فى العبارة يفسد الرد وهذا ما لا يرضيكم، وهأنذا أنشر نص الرد كاملًا: 

أولًا: أى الدرجتين أعلى فى المعصية: الكافر أو المرتد؟ 

الجواب: الكافر أقل سوءًا من المرتد، فإننى قد أشترك فى عمل تجارى مثلًا مع كافر بالإسلام يهوديًا كان أو نصرانيًا، وقد أتزوج يهودية أو نصرانية وفى كلتا الحالتين يجب على البر بهما وبذل الود لهما، أما المرتد فهو كخائن الوطن منبوذ ومكروه، وقد استعمر الأوروبيون أرضنا ومحوا شرائعنا وشعائرنا، فمن انضم إليهم فى حربنا وسخر من ديننا وتراثنا فقد انضم إليهم فى عداوتهم... فكيف نصادقه؟ 

ثانيًا: متى يكون الفرد كافرًا ومتى يكون مرتدًا؟ 

الجواب: الكافر امرؤ خالى البال من تعاليم الإسلام، لعلها لم تبلغه أو بلغته ولم يقتنع بها، ولا سبيل لنا عليه إلا إذا اعتدى علينا، أما المرتد فهو رجل كان منا وعرف ما نحن عليه، ثم رأى لمأرب خاص أن ينضم إلى خصومنا، وأن يؤيدهم بما يستطيع، أى أنه خائن غادر، أما إذا كانت لديه شبهة عقلية فلابد من إزالة شبهته ومحو ما يتعلق به من أوهام، ولو ظل سنين على قيد الحياة. 

ثالثًا: من الذى يملك تكفير فرد أو الحكم عليه؟ 

الجواب: أهل الذكر وحدهم- أعنى الراسخين فى العلم- فإن اتهام فرد بالكفر جريمة والإسلام دين مضبوط التعاليم، فمن استباح الخمر مثلًا وسخر من حرمتها، أو من ترك الصلاة جاحدًا واستهزأ بشريعتها فليس بمسلم، بل هو ناقض للمجتمع، ومنكر للوحى، وخارج على الأمة، وسلطة الاتهام بالكفر محددة وليس كلًأ مباحًا لأى إنسان. 

رابعًا: هل يحتاج الأمر السابق إلى فقهاء ودعاة دارسين وبطريقة علنية واضحة أم يستطيعه أى فرد أو جماعة وبطريقة سرية مغلقة؟ 

الجواب: قلنا إن الفقهاء الثقات وحدهم مصدر الفتوى، ورأيهم يكون واضحًا ومعلنًا، إلا إذا كان الإسلام مضطهدًا وحرية العمل به مصادرة، إن جو الحرية الرحب هو الذى يستطاع الأخذ والرد فيه، ولن تكون الحرية لطرف واحد بداهة، بل تضمن الحرية لجميع الأطراف يقولون ما لديهم فى أمان. 

فى ختام مقاله قال منتصر: بقيت أربعة أسئلة أخرى سبق أن وجهتها إلى فضيلة الشيخ، أكمل بإذن الله غدًا رده عليها، وفى اليوم التالى مباشرة ٢١ يوليو نشر منتصر «بقية رد الغزالى»، وجاء فيه: 

فى عمود، أمس، نشرت النص الكامل لما تضمنته رسالة فضيلة الشيخ محمد الغزالى ردًا على أربعة أسئلة سبق أن وجهتها إليه، وفيما يلى إجاباته على الأسئلة الأخرى أنشرها بالنص دون انتقاص حرف واحد حتى علامات التعجب، فهى كما وردت فى رسالة فضيلته: 

خامسًا: هناك بعض الدارسين الذين يشككون فى حد الردة ويقولون إنه ليس موجودًا صراحة فى القرآن الكريم، فهل هذا صحيح؟ 

الجواب: نعم لم يرد فى القرآن الكريم قتل المرتد، وإنما وردت بذلك السنن الصحاح، وعندى أن جريمة الردة متفاوتة السوء والخطر، وقد تستحق القتل، إذا ساوت ما نسميه الآن الخيانة العظمى، أو ما نسميه الخروج المسلح على الدولة، وقد تكون شبهة عارضة يكتفى فيها بالتوبة النصوح، وأمام القضاء تعرف الحقيقة ويتحدد العقاب العدل ويوزن خطأ كل فرد. 

سادسًا: هل يتعارض ما ورد فى القرآن الكريم واعتبار الحكم على إسلام الفرد من اختصاص الحق سبحانه وتعالى، مع القول بحق أى فرد أو جماعة فى تكفير فرد أو الحكم بأنه مرتد؟ 

الجواب: إن قلوب الناس توكل إلى الله بيقين، ولكن لمسالكهم حدودًا وضوابط من وضع الله ذاته وإلا سرت الفوضى بين الناس، فمن يدعو إلى ترك العلاقات الجنسية حرة، ويمارى فى جريمة الزنا وعقوبتها لا يمكن اعتباره مسلمًا لأنه مخاصم لحكم الله وخارج عليه، ولذلك قال فى ضرورة الطاعة التامة «فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم فى الدين»، فما العمل إذا لم يتب ويقم الصلاة ويؤت الزكاة؟ حكم الله واضح.

 أصدر نفر من علماء الأزهر كتابًا تضمن ما نسب إلى فرج فودة من خروج على الإسلام واستهزاء بتعاليمه

وقد اشتركت فى مناظرة مع فرج فودة لأنى كنت طامعًا- إذا شرحت له الحق وبسطت أدلته- أن أعود بالرجل إلى الإيمان، ولكنى وجدته يكره الإسلام ونظامه، وينكر صلاحية أحكامه للبقاء، أى أنه يؤيد حكم الإعدام الذى أصدره الاستعمار على شريعتنا وينحاز إلى أعدائنا بصراحة. 

هذا وقد أصدر نفر من علماء الأزهر كتابًا تضمن ما نسب إلى فرج فودة من خروج على الإسلام واستهزاء بتعاليمه، ويستطيع الأستاذ صلاح منتصر أن يقرأ هذا الكتاب، ذلك وأقول أخيرًا إننى رجل من الدعاة إلى الله، لا أتمنى إلا الحرية لى ولخصومى على السواء، وأكره العدوان والمشاكسة، ولكنى أشكو من أن دينى يجار عليه وينتقص منه ويحرم أهله ما يسمى فى عصرنا بحقوق الإنسان، وأن المنتمين إلى هذا الدين فى طور سيئ من تاريخه، وتكاد تذهب كراماتهم الخاصة والعامة فى مهب الرياح. 

لم يعلق صلاح منتصر على رد الشيخ الغزالى، اكتفى بأن يقول فى ختام مقاله: ثم يبقى سؤال أظن من حقنا على فضيلة الشيخ أن يجيب عنه وهو: ماذا إذا قتل إنسان إنسانًا آخر بحجة أنه كفر أو ارتد، ما عقوبته؟ هل يقتل قصاصًا أم تعزيرًا أم نقول كما فهم البعض من شهادتكم أمام المحكمة بأنه لا عقوبة عليه؟ 

فى ٢٦ يوليو ١٩٩٢ عاد صلاح منتصر مرة أخرى إلى القضية، ونشر مقالًا عنوانه «الافتئات على السلطة»، قال فيه: 

عبارة الافتئات على السلطة من العبارات التى ذكرها فضيلة الشيخ محمد الغزالى فى شهادته أمام المحكمة التى تحاكم المتهمين باغتيال فرج فودة، وقد أثارت تعليقات كثيرة لأنه ذكر أن حكم الله بالنسبة للمرتد لا يلغيه أحد، وأن الحد واجب إقامته فإذا أوقعه فرد من آحاد الناس يعتبر مفتئتًا على السلطة، وأدى ما ينبغى أن تقوم به السلطة، وليس هناك عقوبة يذكرها فى الإسلام للافتئات على السلطة. 

 ليس للجمهور إقامة الحدود أو إيقاع العقوبات من قصاص وتعزير فذلك للقضاء ومن فعل شيئًا من ذلك افتأت على السلطة

وفى رده على سؤال ماذا إذا قتل إنسان آخر بحجة أنه كفر أو ارتد قال: ليس للجمهور إقامة الحدود، أو إيقاع العقوبات من قصاص وتعزير فذلك للقضاء، ومن فعل شيئًا من ذلك افتأت على السلطة، وهنا يقوم القضاء بتعزيره، وإذا كان الجديد ينسخ القديم، فالواضح أن فضيلة الشيخ الغزالى لم يشر فى رده المكتوب إلى أن الافتئات على السلطة ليس عليه عقوبة فى الإسلام. 

وحتى يكون الحوار موضوعيًا وقانونيًا فلا بد أن نسأل أولًا: ما المقصود بالسلطة، ومن السلطة التى فتأت عليها فرد أو مجموعة من الناس إذا قتل أو قتلت شخصًا بحجة أنه ارتد؟ 

إن السلطة فى معناها القانونى هى الجهة صاحبة الحق، وفى قضية التكفير أو الردة، فإن هناك ثلاث سلطات خاصة بها، سلطة اتهام وأصحابها كما ذكر فضيلة الشيخ الغزالى أهل الذكر والفقهاء الثقات وحدهم، وسلطة المحاكمة وجهتها كما قال الشيخ الغزالى القضاء، ثم سلطة تنفيذ العقوبة التى يصدرها القضاء والمختص بتنفيذها الدولة. 

فإذا قيل إن فردًا أو مجموعة قامت بقتل إنسان بحجة تكفيره أو اعتباره مرتدًا، وقيل بعد ذلك إن هذا الفرد أو هذه الجماعة افتأتت على السلطة، فأى سلطة افتأتت عليها؟ هل افتأتت على سلطة الاتهام أم على سلطة القضاء أم على سلطة الدولة فى تنفيذ العقوبة؟ 

المفهوم الضيق هو تصور أنه افتئات على سلطة الدولة، وهذا مفهوم يمثل قمة الخطأ، لأنه لم يكن هناك أصلًا اتهام وجهته سلطة مختصة، وقضاء انعقدت أمامه المحاكمة، وعقوبة صدرت بعد ذلك حتى يقال إن الدولة أهملت أو تراخت فى تنفيذها لأن حد الله لا يلغيه أحد. 

نعم حد الله لا يلغيه أحد، لكن كل حد له شروط على سلطته، وقبل تنفيذ عقوبة الحد يجب التأكد أولًا من وجود هذه الشروط، ولهذا إذا كان صحيحًا القول بأن الإسلام لم يتضمن عقوبة على الافتئات على سلطة الدولة، فالصحيح عقلًا ومنطقًا أن هذا الافتئات الذى لا عقوبة عليه إنما هو سلطة الدولة إذا أهملت فى تنفيذ عقوبة حكم بها على شخص لخروجه على حد الله. 

هنا يمكن القول إن الاسلام لم يتضمن عقوبة، لكن أمام واقعة لم ينعقد فيها اتهام أو محاكمة أو صدور عقوبة فلا أظن أن أحدًا يستطيع القول إننا ما زلنا فى إطار الافتئات على السلطة التى لا عقوبة عليها فى الاسلام. 

وجد مفتى الجمهورية وقتها الدكتور محمد سيد طنطاوى نفسه أمام حوار هادئ وراقٍ، فقرر أن يشارك فيه، فأرسل بتعليق إلى صلاح منتصر، نشره فى ٢٧ يوليو بعنوان «رسالة من المفتى»، وجاء فيه: 

الدكتور محمد سيد طنطاوى 

من فضيلة المفتى الدكتور محمد سيد طنطاوى، تلقيت الرسالة التالية: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قرأت بعناية الأسئلة التى وجهتموها إلى فضيلة أستاذنا الشيخ محمد الغزالى بمناسبة شهادته أمام المحكمة التى يمثل أمامها المتهمون باغتيال الدكتور فرج فودة، كما قرأت بعناية إجابة فضيلته عن أسئلتكم، وإن تعليقى على ذلك يتلخص فى الآتى: 

أولًا: أؤيد فضيلته فى أن المرتد الذى يحارب الإسلام كذبًا وزورًا أشد سوءًا من الكافر الذى لا يتعرض لعقيدتى ولا أتعرض لعقيدته، ولا أجادله ولا يجادلنى إلا بالتى هى أحسن، لأن العقائد لا تباع ولا تشترى، والمرتد بإصراره ومجاهرته بالسخرية بأحكام الإسلام دون دليل أو برهان هو أشد الناس عداوة للإسلام والمسلمين.

ثانيًا: أؤيد فضيلته فى أن الكافر إنسان لم يسبق له الدخول فى الإسلام، ولا سبيل لنا عليه إلا إذا اعتدى علينا، ولا نستطيع إكراهه على الدخول فى الإسلام لأنه لا إكراه فى الدين، أما المرتد فهو إنسان كان مسلمًا، ثم خرج عن الإسلام وأساء إليه وإلى أهله عن سوء نية، وسخر من أحكامه وآدابه وتشريعاته دون دليل أو برهان، والذى يملك الحكم على إنسان ما بأنه مرتد، هم الفقهاء المشهود لهم بالرسوخ فى العلم، بعد مناقشته وسماع شهادته، وبعد التأكد من إصراره على نبذ ما ثبت من الدين بالضرورة كإنكاره للفرائض واستباحته لما حرمه الله تعالى كالزنا وشرب الخمر واستخفافه بالآداب الإسلامية. 

ثالثًا: أؤيد فضيلته فى أن جريمة الردة متفاوتة السوء والخطر، وأسوأ وأخطر أصناف المرتدين هم أولئك الذين يجاهرون بذلك، ويلصقون التهم الباطلة عن عمد وإصرار بأحكام الإسلام، والقضاء العادل هو الذى ينزل العقوبة الرادعة بكل إنسان على حسب حجم جريمته، وقد تصل هذه العقوبة إلى القتل. 

رابعًا: أؤيد فضيلته فى أن القضاء وحده هو الذى يبت فى مصير المرتد وفق شريعة الله تعالى، وأنه ليس للجمهور إقامة الحدود أو إيقاع العقوبات من قصاص أو تعزير، فذلك للقضاء وحده، لأننا لو فتحنا هذا الباب لعامة الناس لعمت الفوضى ولقتل فلان فلانًا بتهمة أنه مرتد، وإذا حدث أن اعتدى شخص على آخر بحجة أن هذا الآخر مرتد، وجبت محاكمة هذا المعتدى أمام القضاء لينزل به العقوبة التى يراها مناسبة. 

وعد مفتى الديار فى نهاية تعليقه بجهد بحثى أكبر فى هذه المسألة، قال: وعما قريب بإذن الله سأكتب بحثًا مفصلًا حول هذا الموضوع، ومن الله تعالى وحده نستمد العون والتوفيق. 

صلاح منتصر 

بعد نشر عدد من الردود نشر صلاح منتصر يوم ٣ أغسطس ١٩٩٢ تعليقًا، قدمه له صلاح منتصر بقوله: 

الأحاديث النبوية أنواع أشهرها الأحاديث المتواترة والآحادية والحسنة والضعيفة. 

والأحاديث المتواترة هى التى سمعها عن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام جمعٌ من الناس ونقلوها إلى جمع أكبر، وهؤلاء قاموا بنقلها إلى جمع أكبر وهكذا، وهذه الأحاديث المتواترة محدودة ومعدودة، وصحتها جميعًا مؤكدة، أما أحاديث الآحاد فهى التى نقلها عن الرسول واحد أو اثنان، ثم رواها واحد إلى آخر وهكذا، فإذا كان هؤلاء الرواة من الثقاة المشهود لهم بالأمانة والصدق اعتبرت الأحاديث صحيحة، وتتغير درجة الأحاديث من الحسنة إلى الضعيفة حسب الرواة. 

وتعقيبًا على ما قيل حول حد الردة، تلقيت الرد التالى من فضيلة الشيخ محمد الغزالى أنشره بعلامات التعجب التى وردت فيه. 

إن القول بأن حد الردة لم يجئ إلا عن طريق أحاديث الآحاد قول فيه مجازفة وبُعد عن الصواب، كيف وقد تواتر تاريخيا أن المسلمين جميعًا قاتلوا وراء أبى بكر، رضى الله عنه، المرتدين ومانعى الزكاة؟ وقد ظلت الحرب قرابة سنتين، أين مكان حديث الآحاد فى هذا الإجماع؟ والذى نراه أن جريمة الردة لها مراتب، أو تطلق على أنواع متفاوتة من النكوص على الأعقاب: 

أولًا: فهناك من يكفر فى نفسه أو فى بيته، وهذا لن نشق عن صدره ولا نقتحم له بيتًا، وليبق على حاله حتى يموت، فإذا ترك دار الإسلام إلى أرض أخرى فلن نسعى إلى استعادته ولا رده الله. 

ثانيًا: وهناك من يفارق الجماعة بإعلان حرب على النص، فيعالن «يجاهر» بترك الصلاة ومنع الزكاة وإباحة الخمر والزنا وتعطيل الشرائع. 

ولما كان الإسلام عقيدة وشريعة، فإن نقض المعاملات والعبادات سواء فى الخروج منه ومخاصمته، وهذا هو الذى يقدم للمحاكمة ويستتاب، فإن بقى على مروقه قتل والا ترك. 

ثالثًا: وقد استطاع الاستعمار تجنيد أفراد يعملون معه على ضرب الإسلام وهدم أوامره ونواهيه، وبلغ هؤلاء حدًا هائلًا فى النكاية بالدين والنيل من تعاليمه المقررة، إنها ردة جديدة تشبه ما وقع أيام أبى بكر، والسكوت عليها إيذان بالإتيان على الإسلام من القواعد، ولذلك قررنا التصدى لها حتى تنتهى. 

فى ٤ أغسطس ١٩٩٢ ختم صلاح منتصر هذا الحوار الذى طال بمقاله «أختلف مع الشيخ»، وجاء فيه: 

ليسمح لى فضيلة الشيخ محمد الغزالى وقد أمضينا نحو أسبوعين فى مناقشة هادئة وموضوعية لقضية أثارتها أقواله– ولا أقول شهادته- أمام المحكمة أن أختلف معه فى بعض الآراء والأحكام دون أن يفسد هذا الخلاف ما بيننا من ود وتقدير. 

محمد الغزالى

أما الرأى فهو الخاص بإشارته إلى المرتد وقول فضيلته أما المرتد فهو رجل كان منا وعرف ما نحن عليه ثم رأى لمأرب خاص أن ينضم إلى خصومنا وأن يؤيدهم بما يستطيع، وعبارة «كان منا وعرف ما نحن عليه» توحى بأن المسلمين مجموعة خاصة لهم طقوس سرية لا يعرفها غيرهم، أو أن هناك أحوالًا أو نقاطًا معينة نخفيها عن خصومنا ولا نكشفها لهم، وقد خاننا أحد المسلمين، وعرف بها وانضم إلى هؤلاء الخصوم وحاربنا بما عرف عنا من نقاط ضعف كانوا يجهلونها. 

وقد لا يكون هذا هو المعنى الذى قصده فضيلة الشيخ الغزالى، والأغلب أنه أراد أن يبسط فهم جريمة المرتد ويقربها من خيانة الوطن، إلا أن الكلمات التى استخدمها فضيلته أوصلتنا إلى معنى آخر لا يتفق أبدًا مع الواقع. 

فلسنا نحن- المسلمين- جمعية خاصة لها طقوس سرية ولا فينا من نقاط الضعف ما نحاول أن نخفيه، ولا بيننا من يدبر المؤامرات التى فى حاجة إلى أن يفشى بها من كان منا وعرف ما نحن عليه، فأركان العبادة فى الإسلام لا تجرى سرًا بل لعل أبرز ما فيها العلانية، الصلاة فى المساجد وفى الميادين، والحج شعائره ينقلها التليفزيون على الهواء، والصيام أمره معروف للكل، وخطباء المساجد تنقل الميكروفونات خطبهم أيام الجُمع والمناسبات، فلا سر نخفيه ولا نقاط ضعف نخشاها من الإسلام، ولو كانت هناك هذه النقاط لكانت فى المسلمين وليس فى الإسلام. 

أما الحكم الذى أختلف فيه مع فضيلة الشيخ فهو حكمه على فرج فودة، وقد ذكر فيما كتبه لى ونشرته هنا «لقد اشتركت مع فرج فودة فى مناظرة لأنى كنت طامعًا إذا شرحت له الحق وبسطت أدلته أن أعود بالرجل إلى الإيمان ولكنى وجدته يكره الإسلام ونظامه وينكر صلاحية أحكامه للبقاء، أى أنه يؤيد حكم الإعدام الذى أصدره الاستعمار على شريعتنا وينحاز إلى أعدائنا بصراحة»، والكلمات كما هو واضح بالغة القسوة من رجل فاضل نُكن له كل التقدير والاحترام، وقد يكون هذا هو رأى الشيخ فى رجل أصبح فى رحاب ربه الذى ليس بعد عدله عدل، ولكن هل هذا هو رأى الشرع؟ 

إن حكم الشيخ جاء محددًا عندما ذكر أنه ذهب لمناظرة معه لأنه كان طامعًا أن يعود بالرجل إلى الإيمان، ولكنى وجدته يكره الإسلام ونظامه وينكر صلاحية أحكامه للبقاء، وهذا يعنى أن فرج فودة فى هذه المناظرة قال ما يعكس كراهيته للإسلام وأنكر صلاحية أحكامه للبقاء، فماذا قال؟ 

عاد منتصر مرة أخرى إلى خلافه مع الشيخ الغزالى فى اليوم التالى مباشرة ٥ أغسطس ١٩٩٢، ليجيب على سؤاله: ماذا قال؟ بمقال كان عنوانه «هذه هى أقواله»، جاء فيه: 

لفضيلة الشيخ الغزالى عبارات رائعة جميلة منها قوله «إذا كان الحوار الهادئ الواعى واجبًا مع غير المسلمين فهو مع المسلمين أوجب»، وأيضًا قوله «اذكر رأيك وأيده بالدليل الذى تملكه وانتظر بعدئذ أن أتجاوب معك، فإذا لم يكن لديك دليل مقنع فلا سبيل لك على». 

ودليلى يا فضيلة الشيخ فى خلافى معكم بالنسبة لحكمكم على فرج فودة هو ما قاله فى المناظرة التى اشتركت فيها والتى ذكرت بعدها أنه تأكد لك فيها أنه يكره الإسلام ونظامه وينكر صلاحية أحكامه للبقاء. 

محاكمة قاتلة فرج فودة

وما جرى فى هذه المناظرة يا فضيلة الشيخ مسجل وموثق بالصوت والصورة، وأنا هنا أنقل على لسانه ما قاله قرب ختام المناظرة وكان نصه ما يلى: هناك شىء سمعته وأرجو أن تكون أذنى أخطأته، ففى بداية حديث الأستاذ الجليل الدكتور محمد عمارة قال إن بديل الدولة الدينية دولة لا دينية وهو ما يعنى رفضه الدولة المدنية، سيادة المستشار الجليل الأستاذ مأمون الهضيبى قال بعد ذلك إنه يقبل الدولة المدنية على أن يحكم فيها بشرع الله، والله كدت أن أقوم لأقبله فهذا ما نريد، ثم يبقى شىء وهو مسائل الحدود ومسائل الشريعة وهذه لنا فيها رأى ومن خلال جوهر الإسلام، ولذا أنا قلت إن الحوار هو الحل، فأرجو أن تتاح فرص للحوار لأن الكلمة أقوى من السيف دائمًا. 

ويضيف فودة: القرآن بدأ باقرأ وسنظل نتحاور حتى نوقف نزيف الدم ونصل إلى كلمة سواء، وأنا أؤكد لكم أن ما يقال ليس خلافًا بين أنصار الإسلام وأعداء الإسلام، وإنما هو خلاف رؤى، رؤى لا تتناقض مع الإسلام، لكن الفريق الذى أنتمى إليه لم يردد أبدًا أن الإسلام هو دين العنف، أبدًا الإسلام دين القول بالتى هى أحسن، ولذلك نحن ندين الإرهاب لأنه قول وفعل بالتى هى أسوأ، الإسلام عندما يفهم ويجتهد فيه تختلف الصورة، إن التاريخ نقل إلينا فى عصر العباسيين حوار أبى حنيفة مع ملحد، ونقل إلينا كتابات الملحدين داخل الدولة الإسلامية عنما كانت فى قمة حضارتها، لم يرتفع الإسلام بالسيف، كان الحديث بالحروف وليس بالكلاشينكوف، أدعو الله للجميع أن يهتدوا بهدى الإسلام، وهو دين الرحمة وأن يهديهم الله لأن يضعوا الإسلام فى مكانه العزيز بعيدًا عن الاختلاف وعن الفرقة وعن الإرهاب وعن الدم وعن المطامح وعن المطامع. 

هذا بعض ما قاله فرج فودة فى المناظرة، فهل يفهم أحد من كلامه أنه يكره الإسلام، وينكر صلاحية أحكامه للبقاء؟ وربما كان لفضيلة الشيخ الغزالى أو غيره رأيهم الشخصى فى نوايا الرجل، ولكن هل نحن نحاكم نواياه أم أقواله وأفعاله؟ إن دليلنا عليه أقواله، أما نواياه فحسابه عنها أمام خالقه وحده، وليس فينا على وجه الأرض من يستطيع أن يقول إنه شق صدره. 

ظل الشيخ الغزالى متمسكًا برأيه فى فرج فودة حتى وفاته، لم يتراجع ولم يصحح موقفه، وأجدنى مشفقًا عليه، فقد أوقعه الله فى فخ محامى قتلة المفكر الكبير، جرجروه فى المحكمة ليقول ما يشاءون، ولما فتح الله بابًا للتوبة بأسئلة صلاح منتصر، التى كان يمكنه استغلالها ليتوب إلى الله اعتصم بذاته وتمحور حول نفسه، ورفض أن يتنازل.. وهو ما يجعلنى أتمسك برأيى فى الشيخ الغزالى، فلم يكن الرجل وجهًا واحدًا، ولكن كانت له وجوه كثيرة، وللأسف الشديد كان يرتدى لكل مجتمع الوجه المناسب له، وتلك كانت مصيبته.. أو فلنقل إنها كانت مصيبتنا معه.