صَدِيقى الله.. ديوان زياد رحبانى الأول.. كتبه فى عمره الـ13

لم يكن غريبًا أو مستهجنًا أن يكتب طفل متمرد يحارب طواحين الهواء داخل عقله، قصيدة عنوانها «صديقى الله» وهو فى سن 13 عامًا، يلقى على الورق من خلالها أفكاره المتفجرة وتصوراته عن الكون والإله وسر الحياة.
هذا الطفل الصغير حينها هو زياد رحبانى، الذى سيصبح فيما بعد واحدًا من أساطير الموسيقى فى ساحتنا العربية، وهذه القصيدة التى ستصبح أيضًا فيما بعد ديوانًا متكاملًا يحمل نفس الاسم «صديقى الله».
ما الذى يمكننا فهمه من الاسم اللافت للقصيدة وعنوان الديوان؟ يمكن أن نحيله إلى الجرأة فى الخطاب أو إلى محاولات الاستكشاف الأولى، لكن الأهم من ذلك هو الحساسية الفنية الواضحة التى شكلت سمات الكتابة، حيث اختار «زياد» أن يكتب قصائده متحررًا من النمط التقليدى لكتابة الشعر مثل الوزن التفعيلى والقافية.
اختار أن يكتب قصائد نثرية لا تتقيد بأى قواعد خاصة بـ«البحور الخليلية»، مُطلقًا لقلمه العنان فى صياغة التساؤلات المهمة عن ماهية الوجود والإنسانية المفقودة، فامتازت لغته وتراكيبه الشعرية بالبساطة والعفوية التى ستغلب فى ما بعد على أغلب ألحانه.
فى الديوان يبحث «زياد» عن الله فى كل مكان، فى البساتين وفى الأحراش، ويراه فى العصافير يتنقل من شجرة إلى شجرة، ويبصره فى الأشياء الجميلة اللطيفة من حولنا، لكنه ورغم كل هذه البصيرة، دائمًا ما يناجيه ويقول له «هل يصل صوتى إليك؟!».
لا يخلو الديوان من صورة أو ظلال الأم «فيروز»، فهى حاضرة كمصدر للحنان والاحتضان، فنرى «زياد» يناجيها ويسألها فى إحدى القصائد: «إلى أين يأخذكِ هذا الشال الأبيض؟»، مكملًا: «تقول أمى: إلى الكروم، وأعود وأسألها: أمى هل أذهب معكِ؟ وتقول أمى: «سنذهب معًا».
هذه المناجاة تتكرر فى أغلب الديوان ليس إلى الأم فقط، بل إلى صور مختلفة من الأشياء التى تعلق بها وجدان الطفل «زياد»، وهو ما نطالعه خلال القصائد التى تنشر «حرف» بعضها خلال الملف التالى:

31 أغسطس 1971
1
أنا صغير
ولسادس مرة أطفئ الشموع
ما أحلى الحياة عند إطفاءة شموع سادسة
ما أعرف؟
لا أعرف شيئًا
لا أعرف إلا أنّ لى بيتًا بجدران
سريرًا وصورتين
خبزًا وماء لا غير
وأصبحت دنياى بيتًا بجدران
سريرًا وصورتين
خبزًا وماء لا غير.
2
وقالوا يومًا: إن الله صديقى
ورحت أفتش عن صديقى
فى الأحراج، بين الزهور
فى الأشجار المورقة، وراء الصخور
وخافت منى العصافير وهربت
ترى صديقى كالعصافير خاف منى وهرب؟
وسألتهم: صديقى هل يخاف؟
قالوا: يخاف ألا تحبه.
وقلت: أين هو؟
وقالوا: فى كل مكان.
3
إذا جئت يا صديقى
فنذهب إلى الأحراج
نذهب إليها نسرقها
نقول إنها لنا
لى ولك، لا أحد يسمعنا
إذا أردت أن تأتى فتعال قبل الشتاء
فى الشتاء طُرق المجىء مسکرة
وطرق السفر يقف علیها آناس کثیرون،
لا يبکون، لا یضحکون
إنهم مسافرون
وعصافیر تنتظر موکب الریح
هل یصل صوتى إليك عبر كل هذه الأوراق المتساقطة؟

4
وكان المساء فسألتهم:
كيف تُظلم الدنیا
وصديقى ما زال يلعب فى الأحراج
ولم يرجع إلى بيته؟
فقالوا: ليس له بيت
كل البيوت بيوته ولا يسكنها
كل الأعشاش أعشاشه ولا يسكنها
وسألت: أين يسكن؟
فقالوا: يسكن النفس
وعرفت أن صديقى-
وردة لا تطال
أعلى الورود وأجملها.
5
أفقت هذا الصباح على صوت آخر البلابل
فالشتاء أتى اليوم
يوم علمت أنه لا يطال
لماذا أخبرتمونى أنه بعيد!
ليتكم كذبتم علىّ
أنظر من شباكى فأرى الأرض تدفن الألقاب الحلوة-
فما بعد موعدنا وما بعد حبيبى
أنظر من شباكى
فالأشجار تود كل واحدة لو تنام على الأخرى
وتناديها يا أمى
أتى فصل التشرد والبعد.
6
أخرج من غرفتى وأختى ما تزال نائمة
هى مرتاحة البال
أصدقاؤها كلهم هنا فى الحى
يلعبون كل يوم، كل ساعة
يعمرون الوقت كالبيوت الرملية
ومتى هدموه، غابت الشمس فوق البحر
سأعود إليهم
نلعب فى الزواريب
بين البيوت.
7
أسأل أمى:
إلى أين يأخذك هذا الشال الأبيض؟
وتقول أمى: إلى الکروم
وأعود أسألها:
أمى هل أذهب معك؟
وتقول لى:
سنذهب معًا، خذ السلة
وأنا لا فرحة لى أكبر من أن أحمل السلة
وأخذت السلة ومشينا
السماء سکرتْ من لونها الأزرق،
ولبست لونًا رمادیًا
وسألت أمى: أين الكروم؟
قالت: هناك
وكل ما ليس هنا، يكون هناك
ونقط المطر تغنى فوق الحجارة
وحملتنى أمى وأنا أحمل السلة
صرنا كسفينة ذاهبة إلى الكروم
ووصلنا وكنا آخر الآخرين
ونزلنا إلى الجلالى علّنا نجد عنبًا
ووجدنا عنقودًا واحدًا والریح تسقط حبوبه،
واحدة بعد واحدة
فقلت لأمى: نأخذه قبل أن ينتهى
وقالت: لم يعد هناك غيره
نتركه فلا تستوحش الكروم بدون عناقيد
وظللنا نمشى
لا أعرف لماذا
لكننا لم نضجر.
8
متى عدت إلى بيتى
فأمطرى يا سماء
لن يتبلل ثوبى الأحمر
متى عدت إلى بيتى
متى سكرت الباب
وقفلته مرتين
فصرّخى یا ريح أمام الأبواب
لن تفتح
متى أوقدت النار فى الموقد
فسل يا ثلج عن ولد
كان هنا مكانك يلعب
متى غفوت فى السرير
لا عندما أکذب علی أمی
بل عندما أغفو حقًا
فانزلی حقًا يا صواعق
أنا فى الداخل
والباب موصد
والنار مشتعلة
فيا شتاء أقبل.
9
قلت لهم:
ألا تسكرون الأبواب
العاصفة هنا عند المفرق؟
وقالوا:
على مر الأيام تعودت الأبواب
وسوف تتسكر وحدها عندما ترى العاصفة
قلت: ألا تسكرونها أنتم بأيديكم القوية؟
قالوا: مللنا الحياة
امتلأت الأرض بالشتائم والحقد
زرعوا خناجر فى قلب الكلام
صاروا يعدون ذكيًا من يكفر أحسنهم بالله
ذكيًا الذى كلامه أكثر الكلام سفالة
آه لو كان الكلام كالخبز يشرى
فلا يستطيع أحد أن يتكلم
إلا إذا اشتری کلاما
وقلت لهم:
ألا تسكرون الأبواب؟
فقالوا:
ليت كل همومنا أبواب للتسكير.
10
جلست أمى أمام الموقد تخبرنى قصة
قالت: كان رجل يعمر بيتًا
كان فقيرًا وجمّع الأحجار حجرًا حجرًا
أتى بها من الأحراج والغابات
وأتعبه العمل لكنه أكمل قائلًا فى نفسه:
أعمر بيتًا أسكنه لباقى العمر.
وظل يعمر طول عمره
وعندما انتهى البيت، انتهى صاحب البيت
وقلت لأمى:
هل انتهت القصة؟
فقالت أمى: نعم.
11
يأتى يوم العيد
والأجراس تصلى
تصرخ إلى الله من كل مكان
والناس يلبسون ثياب الأحلام
ويدخلون الكنائس
والعصافير على سطح الكنيسة تصلى إلى الله
فالله الناس والعصافیر واحد
والراهب الأسود يرتل ما حفظه من سنین
منذ كان طير أبیض يمر بالکنائس
ويضع فى كل واحدة منها ريشة من جناحه.
12
عندما أرسلونى يومًا إلى المدرسة
وكنت أنتظر ساعة الرجوع
علمونى هناك أن أحكى مع الله، صديقى،
علمونى أن أُصلى.
ما كانت تقوله لى أمى
قبل أن أغفو فى السرير
والريح فى الخارج تخرب العالم
ما كانت تقوله كان أحلى.
13
أحببتك أكثر مما علمونى فى الصلاة
أنا ألف مرة يخطر ببالى
أن أناديك بصوت بسيط:
أين أنت يا ربى؟
أنا لم أعرفك تحمل صلبانًا، وتموت من أجلى
أنا عرفتك ولدًا لا يقدر أن يحمل الصليب
أنا عرفتك ولدًا يطير كالفراش فوق الزهر فى الصباح
فسکنته العصافير
أنا لم أعرفك تتعذب
أنا عرفتك ولدًا، لو تركوه يلعب
ونسوا أن يقولوا له:
«مضت أيام وأنت تلعب»
لظل يلعب طول حياته ولا يضجر.
14
لا أريد أن أصلى إلا ما أفهمه
لا أريد أن أصلى
دعونى أصرخ
فوق الجبال الصخرية
فى الوديان الساكتة
فتصرخ معى
أين أنت؟
دعونى أخبر الشجر
قصة صديقى
هذه هى صلاتى.
15
یومٌ أذهبه إلى المدرسة
أحسه سفرًا يا أمى
أحسه بعدًا عنك وعن أبى
وعن شباكنا المكسور
أذهب إلى المدرسة وأغمض عينى
أقول أتى المساء
ثم افتحهما
وأرى أن الوقت لم يرحل بعد
ألف مرة أغمض عينى
وأقول أتى المساء
إلى أن يأتى
ويقرع الجرس، فأهرب من المدرسة
وأركض على الدرب والشمس تغيب
أسبق نسيم المساء إلى بيتنا
ويلوح لى بيتنا من بعيد
وأرى أهلى يقفون أمام الباب
على السطوح
يلوحون بالمناديل كى لا أضيع عن البيت
وأنظر خلفى أرى هل المدرسة لحقتنى؟
وأصل إلى أهلى
أرتمى بين أيديهم
أغرق فى أيديهم وعلى صدورهم كأنها بحار
وندخل بيتنا
نسمعه يغنى فرحًا لعودتى من سفرى
وأسأل أمى:
أمى لماذا أرحل إلى المدرسة؟
أتحبين هذا؟
وتقول:
أشتاق إليك فى نهارى.
وأقول لأمى:
ما دمت أنا لا أحب أن أرحل
وأنت لا تحبین
فلماذا أرحل؟
وتقول:
لست أدرى!
16
أرسم صورًا على ورق
وعندما أريد أن أمزقها
تركض أمى تأخذها
وتحفظها فى خزانة قديمة
على الورق الكثير
رسمت بیوتًا ووردًا
ولا أحد غيرى یعرف أن الصور
بیوتٌ وورودٌ وأبى.
17
أنا الآن فى السرير
وسوف أغفو فيغفو السرير
وعندما نغفو تنزل النجوم
وتنام عندنا
القمر يترك العالم فى الظلام
يحب أن ينام عند الأولاد الصغار
تمر بسريرنا السواقى الحالمة
تأخذنا معها
فيسرى السرير فى السواقى،
كالزورق السكران
يوقف سيرَنا حجرٌ صغير
لكننا نمشى
نقطع الوديان ونصل إلى البحر
فترمينا السواقى
ويرسو سريرى فننزل إلى الشاطئ
نرى فتاة
تخبرنا قصة
نركب فى القصة
أنا والسرير والنجوم والقمر
ونطير
وتوصلنا القصة إلى باب بيتنا.
18
أفقت الیوم وأهلى نائمون
واتكأت على الشباك المبلل بالمطر
العمر يفر من ساعة على طاولة فى بيتنا
الأولاد يلعبون فى الزواريب
بين البيوت
تحت المطر
ورحت أتخيل
إذا یومًا خطر ببال الطريق أن يسافر
أن يحمل الأشجار ويسافر
كيف بعد يسافر المسافر

وتخيلت شيئًا آخر:
أليس فى كل ثانية من الحياة،
إنسان يضحك؟
إذن فى الأرض ضحك متواصل
أنا أجمع عن الوجوه الضحكات
عن وجوه الفلاحين
عن وجوه الرهبان الطاعنين فى السن
عن أفواه الأولاد
عن وجوه المنتصرین
ومهما اشتدت الحروب
ألا تبدر ضحكة عن وجه
من حشودٍ تجمعت رسميًا؟
أليس فى كل ثانية من الحياة
إنسان يضحك؟
إذن فى الأرض ضحك متواصل!
وفجأةً
انفجر البعيد
ارتجّ بیتنا
خاف المطر وسقط عن الشبابيك
استيقظ أبى
قال: ماذا؟
قلت: ماذا؟
نظرت إلى الزواريب
الأولاد كالعصافير رفرفوا وطاروا
وارتج بيتنا
سقطت صورة عن الحائط
أفاقت أمى خائفة
وقالت: ماذا؟
ركض أبى إلى الشباك ينظر
ركضت إلى الصورة المكسورة
وعيناى تقولان: ماذا؟
وسمعت كلمة: الحرب!
وسألت ما الحرب؟
وعلا صراخ فى الخارج
لمحتُ دمعتين
ركض أبى إلى الخزانة
وأخذ منها بندقيته،
التى كان يصطاد بها العصافير
وعلا بكاء أخوتى
وقيل لا تخافوا
والقائل يرتجف
وكيف لا نخاف؟
والزوايا اختبأتْ فى الزوايا
ونار الموقد اختبأت تحت الحطبات
والشبابيك التى كانت تنتظر الصباح لتفتح قلبها
تسكرت وتجمعت أمامها وجوه كثيرة،
تحكى وتصرخ وتبكى بصمت
وهربت الشمس فوق الجبال بين الأغصان الفارغة
كالفتاة المذنبة الهاربة
وشعرها يتطاير وراءها
ركضتْ أمى وضمتنى إليها
ورأينا المهاجمين
كالصخور تسرى فى الليالى الهوج
يجرحون الأرض بالسلاح
ورأينا البيوت فى البعيد
تبکى وهى تتهدم
وصراخ أصحابها أعلى من صراخها
والرمل ينتحر فى الفضاء
وأحسست كأننى كنتُ أعرفُ ما الحرب
وأننى تذکرت فجأةً أننى أعرف
وغَمَر دخان الأغصان المشتعلة الساحات
ونمتُ فى السرير
وغرقت تحت اللحاف
كى لا أسمع ولا أرى

وعندما هدأ کلُّ شىء
ما هدأ؟
لم تهدأ سوی الأشیاء
أما الأرواح
فالآن ثارتْ وغضبتْ
وأحست بحب الانتقام
ورأيت الباب مفتوحًا
نهضتُ ووقفتُ أمامه
الصقيعُ هنا
لا شىء تغيَّر
رأيت أبى وأمى
وكلَّ أهل ضيعتنا
يقفون فى الضباب
وينظرون إلى ما تهدَّم، هناك
وصارت الأحاديث بين العيون.

مشينا فى الوحل والضباب
نحو ساحات المعارك
وعاد المطر يهطل
ووصلنا
الأشجارُ العاریةٌ السوداء
تقف كالراهبات السُّود
دَيْرُها الضبابُ والشبابيكُ المکسورة
ورأيت أُناسًا يأتون من بیوتِهم المتهدّمة
یأتون من وراء الضباب وقد التفوا بالأغطية
على صدورِهم صلبانٌ من خشب
یتحرکون کالصخور التى لا تتحرك
وبينهم أولادٌ مثلهم
سُرق من عمرهم ألفُ ربيع
والغيومُ فى هدير سَفَرها الغامر
توقفتْ هنا
وراحت ترتلُ فوق البیوت المتهدمة
وركض أهلنا إلى الناس والأولاد
وساعَدوهم
وعُدنا بازدحام
وأحسستُ بينهم بالقوّة
بوَحْدةِ التجمُّع
عدنا إلى ضيعتنا الصغيرة
دخلنا بيوتنا الصغيرة
وجلسنا فى الزوايا نصلّى
نحن والمشرّدین

أتيتُ الأولادَ المشردين بالأوراق
وسألتُهم أن يرسموا أشجارًا
فرسموا أغصانًا طويلة فارغة
نائمة على الأرض
وعليها مدفعٌ وعسكر
فقلتُ: لا، إلا هذا
ارسموا زهرًا وبیتًا
فرسموا زهورًا ملقاةً فى مياه المطر
والعسکرُ يدوسُها
وقلت : لا، إلا هذا
ارسموا عصفورًا يغنى
كما كنتم ترسمون من قبل
فرسموا عصفورًا يبكى
والمطر يهطل
فسكتُّ وأخذتُ الأوراق
وذهبتُ.
19
كانت أحاديث السهرة تدور
فقلت:
حدِّثونا عن غير الموت
قالوا: نحكى عن الحرب
قلت: عن غير الحرب
قالوا: نحكى عن دموع المشرّدين
قلت: عن غير دموعهم
قالوا: عن المنتظرين
قلت: عن غير المنتظرين
قالوا: لا نعرف غير هذا فعَمَّ نحكى؟
قلت: اسهروا كما تسهر الحيطان
لا تتكلموا عن شىء
وانظروا بعضكم إلى بعض
علَّ وجوهكم تتحادث.
20
فى ليلة.
والقمر ساهرٌ على الساقية السكرى
والأحجار تحكى الحكايات الصغيرة
والأصوات نائمة بين الزهور
وغطيط عصفور يلوّن الليل.
فى ليلية.
والصمتُ يسهر فوق
على الجبل الأسود
والدروب ضجرانة
والكروم تركض نحو القمر
فى ليلة.
ألا جئت نسهر يا الله؟
ألا جئت فتلعب مع أبى بالورق؟
ومع السُّكارى الآتين من بيوتهم السكرانة من فقر
يحكون لك حقائقهم وحالتهم
وترى كم هم طیّبون
وأمى تعمل لكم القهوة،
نُخبرك النكات
ومعًا نضحك
نَعُدُّ لك من تَزَوَّج فى ضيعتنا
ومَن سافر
ألا جئت نخبرك كيف تصير الأعياد
ألا جئت نريك فى سطح بيتنا
من أينَ ينزل المطر
وأينَ يعتق الخبز
نُعرّفك بخباز خبزنا اليومى
ألا جئت یا الله؟
تأتى فى الليل
وتذهب قبل الصباح
ألا جئت نسهر؟
21
لو عددت درجات بيتى
وکم من مرة صعدْتُها
لكَانَ هذا درجًا طویلًا
یخترق السحب
ولو عددتُ ضحکات أمى لى
لرافقتنی طوال صعودى
ووقعتْ من بَعدى الضحکاتُ على الدر ج
وأزهرتْ زهرًا.
22
تعبتُ فجلستُ
ومرّت بى فتاة وقالت:
ما بك تجلس على الوقت!
23
لا نريد أحدًا بعد اليوم
اطردوا الحرَّاس والنواطير
نحن أصحاب الكروم
ونحن السارقون
نَملأ السِلال
نضعها على الطريق
ثم نتسلل من بين الکروم
ونصلُ إلى الطريق
ونسرق السلال.
أصحابُ الكروم
يسرقون كرومهم.
24
اخترت اسمى مغيَّرًا عن كل الأسماء
حتی إذا ندهتَنى
صرخت وحدى: نعم
وما ظننتُ النداءً لغيرى
لأقول نعم
من بين صراخ الأولاد
وأرجُل المحاربین،
اخترته اسمى مغیَّرا
حتی اذا كنتُ نائمًا
أفقتُ وقلت: مَن ينادينى؟
إن كنت أختبئ عن عيون الأولاد
ونحن نلعب
تنادينى
أقول: نعم!
ويعرف مكانى الأولاد
اخترت يا ربى اسمًا مغیّرا
حتى إذا ندهتَنى
صرختُ وحدى: نعم
وما ظننتُ النداء لغيرى.
25
فى الأرض ليس من كُتّاب
كُلَّنا كُتَّاب
نکتب حَیاتَنا على الأيام
وکلٌّ يخاف على حبره
ولا يعطى منه الآخرَ
ومتى انتهى دمعُ الكتابة
انتهى کاتبٌ من الكتّاب
نبكى عليه وننساه
ونتشجع لإكمال الكتابة
وينتهى آخر
ونتجمع فى الزوايا
نشدّ بعضنا لبعض علّنا نبقى
والريحُ من وراء الأبواب
تنفخُ على الحبر لينشف
متی ضاع کاتبٌ من الکتّاب
نروح نخاف من فراغ الشوارع
ومقاعدِ الكنيسة
مِن هدير البحر نخاف
من الرعد
من النار الخافتة نخاف
نخاف من عيون الخائفين
من الفرح
من تجمُّع العصافير
من دقة الباب نخاف
ونهوى السكوت والظلام لكى نسمع الآتى
ولو أنه لا يُسمع!
26
زوايا بيتنا مليئة بالأشياء
خزانات بيتنا مليئة بالأشياء
وتحتَ كلّ سرير أشياء عتيقة
نحن نحب الأشياء وإنْ قلّ استعمالها
أو صارت لا فائدة منها
لا نعطیها أحدًا ولا نرمیها
نَحس أن للأشیاء أرواحًا
تحزن إذا أبعدوها عن أصحابها
وغداً يمتلئ نيتنا
ولا يعود لنا مكان
27
صرت أخاف
أن أطيل النوم
كى لا يذهب الجميع
وأبقى وحدى
28
هل ربّنا فى الكنيسة؟
ألم يهرب منذ أيام الحروب؟
وإلى مَن نذهب وتذهبون؟
إنما نحن نذهب إلی الصلاة معًا
لا لأن الربّ هناك
لأنه ليس هناك
هذا المذبح لا یتسع لله
مذابحُنا صغيرة
يجب أن نستقبله فى ملاعبنا الوسيعة.
29
تلبس أمى فستانًا جديدًا
وتسألنى: هل جمیل فستانى؟
وأقولُ لها: إنه جمیل جدًا.
وکثیرًا ما
تسألنى عن غيره وأُجیبها
إنه جمیل جدًا.
تجيبنى دائمًا
حلوةٌ الفساتین فهل خجلًا؟
قلتُ: فى دنيانا يا أمى
لا يوجد فستانٌ بشع
مادام لکلّ فستان
واحدة تُحب أن ترتديه.
30
لأنك ضحکت
نحن فى الوجود
ضحکت یومًا
فتفجرتْ من ضحكتك
الناسُ والأطفال.
31
اليس مركبُهُ وسیعًا ليحملنا؟
وکلَّنا؟
ألیست أمواجه قوية؟
لتدفع مراکبه إلینا؟
فما الرحيلُ همّنا
بل الوداع.
اکتبوا على الأوراق
على أوراق الدفاتر
على أوراق الأشجار الصفر
اكتبوا على شبابيك الزواريب الطويلة
على أصغر الأحجار
احفروا فى جذوع الأشجار
على أبواب البيوت المتهدمة
اكتبوا کل ما يخطر ببالكم
فإننا راحلون!
اکتبوا أنّ فى يوم من سنة كذا
فى جيل كذا
ضحكَ ولدٌ قبلَ أن ينام
اكتبوا
ما دام الرحيل يكتبه هو
فالوداع لنا
نجعله أحلى وداع.
32
إن لم أكن فرحًا
لا أستطيع أن أصلى
ما مِن مرة صليتُ
إلا وفى قلبى
عصفورٌ يلعب
وغصن يلوّح.
33
يا مشغولًا بمأساة
ألا عَرجتَ فى الطريق
على طفلٍ
تُخبره قصتَك فيبكى لك
أمّا نحن فلا تُنادينا
کلُنا صرنا صخور مصائبنا
لا أحدٌ يبكى
كلّنا صخور
لكننا اخترنا الأطفالَ والفصول
للاستماع إلى قصصنا
وللبكاء.
34
هل تعرفین؟
الصغیرُ أمام الکبیر،
أمام سيّدهِ
كلامُّه أحلى من کلام سیِّده!
35
الطفلُ متى عرف أنه من أسراب الطفولة البريئة
لم يعدْ منها.
الطفل متى صار يعرف
كيف يرسم المهندسُ البيت
هربتْ من صُوَره
خطوط الحب
والجمال الصغير.
البسيط متی عرف أنه بسيط
لم يعدْ بسيطًا
الإنسانُ متى عرف الحقائق
سقط عن سرير الأحلام.
36
أشكُركً
جعلتً فى الناس
ما يجعلهم لا يضجرون من اعتذارى
كلُّ مُعرّفى العالم يعرفوننى
صاحبتنا الخطايا.
آتيك کلَّ مساءٍ أعتذر
إن ضجرتَ منى،
سآتى كلَّ يوم بآلة
وأغنّيك خطاياى.
37
أتحدّاك بالخطيئة
تتحدّانى بالحب
وأسكت
لأننا
أنت الحب
وأنا لست الخطيئة.
38
كيف أُفهمك
يا عصفورَ قَفَصِنا
إننى أنا غيرُ أهلى
لا أحبُ أن أقتنى
لا أقفاصًا ولا عصافير.
39
أشرعة كلامنا
إليكَ سائرة
وأنتَ حيث اللقاء
فلا تحزنْ
كلما ساقت الرياح
أشرعتًنا إلى غيرك.
40
آملُ أن يكون الوداعُ ساعة لا أكون
آملُ أن تُقتل العصافير، یومَ أكونُ بعيدًا
آملُ أن يموت الأحبّاء، يوم أكون فى سَفَر
آملُ كثيرًا
لأنّ العين الدامعة تُبکینی
وكم من شىء
أريدُ منه أن أتدارى
لكنْ
لا مفرَّ منَ الدموع.

41
كلُّهم يعرفون أنّ دقيقة العُمر
مرة تأتى
ويعرفون أن الفرح فيها
أحلى من الحزن
لكنهم لا يصدقون أنفسهم.
42
أحبُّكَ قدر ما تُحبّنى
بل خف أنْ يصير حبّى لك
أكبر مِن حبّك لى.
43
لیتَهما يعرفان أن العِتابَ كالدخان يفنى
ليتهما يعرفان أن الفرح أقوى من الحزن
ليتَهما يعرفان أن الفرح أقوى من الحزن
ليتهما يعرفان أنَّ لحظة العمر الأخيرة
قد تنزل علينا تأخذنا
ونحن نتخاصم
ليتنى لا أعرف ما أعرف!

44
أشياء ما حُلتْ
ولن تُحلّ
هىَ أنّ الطفل
يَوَدُ لو يأكل مرّتین من الحلوی
ویمنعونَه
هى أن الطفل
يودُّ لو يلعب على مدى الأيام
ويمنعونَه.
45
حائرٌ أنا
بین أن يبدأ الفرح
وألا يبدأ
مخافة ينتهى.

46
لا أحسدُكَ
على معرفتِك
مصير كلٍّ منّا
لأنك قد تبكى على مصير حزين
بينما صاحبُهُ سهران يضحك
وتعرفُ الفرحَ قبلَ وقوعِه
فلا ترى مثلنا
لذّة المفاجأة.
47
لا يعود شىءٌ يخيف
إنْ صرناه.
48
طوالَ عیدِ العمر
واحتفالات الضجر
وفى أزمنة الحروب
أخافُ أن تهربَ ثانية يا الله
لأنك إذا غبتَ
وعُدْتَ
ترى الأسلحة مُعدّة
وموجّهة إليك.

49
الأيام أبواب
على كلِّ منها حارس
وقد كتُب علينا
أن تخلق كلَّ يوم
وعلى كلِّ باب
قصة جديدة
نُلهى بها الحارس
ليفتح لنا الباب
إلى بابِ آخر.