الثلاثاء 30 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

حرف تنشرها لأول مرة بعد العثور عليها فى «فرشة كتب»

مذكرات نجيب شهاب الدين.. شاعر «يا مصر قومى وشدى الحيل» لـ«أحمد فؤاد نجم»: لم أحزن من نسب قصائدى إليك!

نجيب شهاب الدين
نجيب شهاب الدين

- ورثته منحوا تفويضًا قانونيًا لنشر أعماله ولم ينشر إلا القليل منها

- عاش 30 عامًا معتكفًا فى شقته بمصر القديمة ولا يغادرها إلا نادرًا

- صرخ خلال 25 يناير وقال: «الثورة حدث كبير لكنها مثل مستشفى المجانين»

- تعرض للظلم بسبب نسب أغنيتيه «يا مصر قومى» و«سايس حصانك» للفاجومى

لم يكن نجيب شهاب الدين مجرد شاعر عابر فى تاريخ الثقافة المصرية، ولا اسم ثانوى ارتبط بأغنيات تجاوزت شهرتها اسم صاحبها، بل كان صفحة كاملة من صفحات الشعر والغناء والاحتجاج والوجدان الشعبى. صفحة اختارت أن تعيش بعيدًا عن الأضواء، لكنها تركت أثرًا عميقًا فى الذاكرة دون ضجيج. ومع رحيله، غابت تجربة إنسانية وشعرية نادرة ظلّت حاضرة فى لحظات الفخر والانكسار، من هزيمة 1967 إلى ثورة يناير، دون أن تطلب اعترافًا أو مقابلًا.

ينتمى شهاب الدين إلى جيل تشكّل وعيه على وقع ثورة يوليو، ثم انكسر مبكرًا مع نكسة 1967، فبحث عن صوته الخاص خارج القوالب الجاهزة، ووجد فى الشعر العامى مساحة صادقة للاحتجاج والتأمل والبوح، بعيدًا عن المنابر الرسمية والحسابات السياسية الضيقة. وقد عثرنا مؤخرًا، وبمحض المصادفة، لدى أحد بائعى الكتب القديمة، على نسخة ضوئية من أوراقه ومذكراته الخاصة غير المنشورة، التى كتبها بخط يده، ضمن مجموعة أوراق معروضة للبيع دون أى إشارة إلى قيمتها أو إلى اسم صاحبها.

فى هذا الملف، تتبع «حرف» قصة تلك المذكرات غير المنشورة وما ورد فيها من مفاجآت، مع ربطها بما صدر من نسخ سبق نشرها، فضلًا عن استعادة مسيرة شاعر استثنائى صنع بصمة ستظل خالدة فى وجدان القصيدة والذاكرة المصرية والعربية.

من القرية إلى القصيدة

وُلد نجيب شهاب الدين فى ٤ أغسطس عام ١٩٤٤، بقرية البتانون التابعة لمدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، حمل معه منذ طفولته ملامح الريف المصرى: البساطة، والحدة الصامتة، والقدرة على التقاط التفاصيل الصغيرة التى تصنع الحياة، هذه الجذور الريفية ستظل حاضرة فى لغته، وصوره، ونبرته الشعرية، حتى فى أكثر نصوصه حداثة أو تمردًا.

لم يتعامل شهاب الدين مع الشعر باعتباره مهنة أو سلّمًا للانتشار، بل بوصفه قدرًا شخصيًا، كتب كثيرًا، لكنه نشر قليلًا، ولم يجمع شعره فى ديوان واحد طوال حياته، فى موقف نادر داخل وسط ثقافى يُكافئ الحضور أكثر مما يُكافئ القيمة.

وارتبط اسمه تاريخيًا، بصعود ما عُرف بـ«الغناء الاحتجاجى» عقب هزيمة ١٩٦٧، وهى المرحلة التى شهدت بروز الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم، وتحوّل الأغنية إلى سلاح معنوى فى مواجهة الهزيمة والقمع والإحباط العام.

كتب شهاب الدين للشيخ إمام عددًا من النصوص، كان أبرزها أغنيتين ستصبحان من أيقونات الوجدان المصرى: «يا مصر قومى وشدى الحيل»، و«سايس حصانك»، الأولى أغنية وطنية خالصة، حملت نداءً مباشرًا للأمل والصمود، والثانية نص فلكلورى شعبى استلهم أغانى الأفراح الريفية، وأكد قدرة شهاب الدين على التنقل بين المساحات الشعرية دون افتعال.

الغريب أن هاتين الأغنيتين، رغم شهرتهما الواسعة، ظلتا لسنوات طويلات تُنسبان خطأً إلى أحمد فؤاد نجم، حتى أعادت فى أحداث يناير اسمه إلى الواجهة، وبدأ كثيرون يتساءلون: من هو صاحب هذه الكلمات التى هتف بها الميدان؟

ولم يسعَ نجيب شهاب الدين يومًا إلى النجومية، بل على العكس، نظر إلى نفسه بوصفه امتدادًا لتجربة بيرم التونسى، ومن قبله عبدالله النديم، شاعر الثورة العرابية، كان يرى أن الشعر الشعبى الحقيقى لا يحتاج إلى منصة، بل إلى صدق، وأن الكلمة التى تُكتب من القلب تجد طريقها وحدها، ورفض عروضًا جادة لجمع أعماله، واختار أن يبقى بعيدًا، مكتفيًا بدائرة ضيقة من الأصدقاء، وبحياة بسيطة تخلو من الصخب.

ووصفه صديقه المترجم بدر الرفاعى بلقب دقيق: «ملك الاستغناء»، فكان نموذجًا نادرًا لإنسان أدرك مبكرًا أن الاستغناء قوة، وأن التخفف من الرغبة فى الظهور يمنح صاحبه حرية داخلية لا تُقدّر بثمن.

وعاش سنوات طويلة فى شقته بمنطقة الملك الصالح، وكانت مفتوحة دائمًا للأصدقاء، وجلسات لعب الطاولة، الموسيقى العربية القديمة، التواشيح، أصوات قرّاء القرآن التى كان ينتقيها بميزان الذهب، وقليل من الكتب، ولم يكن محبًا للكلام الكبير، ولا للنميمة، ولا لتصفية الحسابات، حتى مع من اختلف معهم.

وخلال أحداث يناير، استعاد المصريون إرثًا غنائيًا نضاليًا كان فى قلبه صوت نجيب شهاب الدين، هتف الآلاف بكلماته فى ميدان التحرير دون أن يعرف كثيرون صاحبها، وحين ألحّ عليه أصدقاؤه أن ينزل إلى الميدان، فعل، ثم عاد ليقول جملته اللافتة: الثورة حدث كبير، لكنها مثل مستشفى للمجانين.. هناك من أنهى فترة العلاج، وهناك من يبدأ منها رحلة المرض.

وعاد نجيب شهاب الدين فى سنواته الأخيرة إلى قريته التى غادرها قبل نصف قرن، واختار أن يموت هناك بهدوء، كما عاش، ومع خبر رحيله فى يونيو ٢٠٢١، امتلأت مواقع التواصل الاجتماعى بعبارات الحزن والدهشة، وكأن كثيرين اكتشفوه للمرة الأولى.

شاعر لم يحب الظهور، فظهر فى اللحظات الفاصلة من تاريخ الوطن، شاعر لم يجمع شعره فى ديوان، لكنه جمع قلوب أجيال كاملة حول أغنية، أو بيت، أو نداء صادق.

نجيب شهاب الدين لم يكن شاعر أغنيتين، بل تجربة كاملة اختارت أن تعيش فى الظل، تاركة الضوء لكلماتها. وربما كان هذا، فى حد ذاته، أصدق تعريف له.

عرضحال سيرة وقصائد

لم يكن نجيب شهاب الدين شاعرًا عابرًا فى الذاكرة المصرية، بل كان واحدًا من أولئك الذين كتبوا من قلب التجربة الإنسانية العارية، دون ادعاء بطولة أو سعى للشهرة، كلماته خرجت من أفواه الآخرين، وتحوّلت إلى أناشيد وهتافات، بينما ظل اسمه غائبًا أو ملتبسًا، وحياته منسية، وأوراقه مبعثرة، ومنذ يونيو عام ١٩٦٧ وحتى يناير ٢٠١١، ظل صوته حاضرًا فى الوجدان العام، بينما ظل صاحبه بعيدًا عن الضوء، كأن الكتابة عنده كانت فعل نجاة لا وسيلة حضور.

اليوم، وبعد سنوات من رحيل الشاعر، يفرض سؤال نفسه بقوة: «أين ذهبت مذكرات نجيب شهاب الدين؟ وهل ما نُشر عنه حتى الآن يعبّر فعلًا عن تجربته الإنسانية والفكرية، أم أننا أمام جزء محدود من سيرة أوسع وأعمق لا تزال غائبة عن القارئ المصرى؟»، خاصة أنه طوال حياته لم يصدر كتابًا ولا ديوانًا مطبوعًا من أشعاره، رغم كثرتها.

فى يونيو ٢٠٢٣، أى بعد عامين من رحيله، حيث توفى فى ١ يونيو ٢٠٢١، صدر عن سلسلة «كتاب اليوم» التى تصدرها مؤسسة أخبار اليوم كتاب بعنوان «نجيب شهاب الدين.. عرضحال سيرة وقصائد»، من تحرير تامر عرفات وعمرو أبو السعود، وكتب مقدمته الدكتور أنور نصير، واستُقبل الكتاب باعتباره محاولة مهمة لإعادة الاعتبار لشاعر ظل طويلًا خارج التوثيق المؤسسى.

غير أن القراءة المتأنية للكتاب، ومقارنته بما هو معروف عن أوراق نجيب شهاب الدين، تكشف أن ما نُشر لا يتجاوز جزءًا ضئيلًا من مادته الأصلية، سواء من حيث المذكرات أو القصائد أو الخواطر والتأملات التى كتبها بخط يده عبر عقود من العزلة والتأمل.

وبحسب ما جاء فى مقدمة الكتاب، فقد ترك الشاعر عددًا كبيرًا من الكراسات والأوراق المكتوبة بخط يده، تضم شعرًا غير منشور، وسردًا ذاتيًا، وتأملات فلسفية، وحكايات عن الطفولة والدراسة والمرض والعزلة. وقد عاش نجيب شهاب الدين أكثر من ثلاثين عامًا شبه معتكف فى شقته بمصر القديمة، لا يغادرها إلا نادرًا، وكانت هذه الأوراق رفيقته الأساسية.

بعد رحيله، جرى جمع هذه الكراسات كاملة من أماكن كان يخبئها فيها بعناية: تحت الأسرة، داخل المكتبات، وفى زوايا غرفه، وتم تصويرها فى أكثر من نسخة، حفاظًا على الأصول، كإجراء أولى لتأمين هذا التراث.

وتتجلى أهمية هذه المذكرات بوضوح فى تمهيد الكتاب غير المنشور، والذى عُثر على أجزاء منه ضمن أوراق الشاعر، فى هذا التمهيد، يصرّ نجيب شهاب الدين على نفى أى قيمة استثنائية لسيرته، معتبرًا أنها لا تنطوى إلا على «القيمة الإنسانية المجردة» التى وهبها الله للجميع، لكنه، دون أن يدرى، يمنح القارئ مفتاحًا أساسيًا لفهم هذه الأوراق بوصفها شهادة على زمن قاسٍ، لا سيرة شاعر يبحث عن مجد.

يتنقل التمهيد بين مشاهد كونية وإنسانية: من الحرب العالمية الثانية، حيث وُلد فى الرابع من أغسطس ١٩٤٤، قبل إلقاء قنبلة هيروشيما بيومين، إلى مشاهد الحروب الحديثة التى تنقلها التكنولوجيا لحظة بلحظة، ومنها مشهد السيدة السورية الحامل التى أصيبت بشظايا الحرب، ليخرج طفلها إلى الحياة مصابًا وهو لا يزال فى رحمها.

هنا لا يكتب نجيب شهاب الدين كشاعر فقط، بل كإنسان يرى الألم الإنسانى ممتدًا عبر الزمن، ويشعر بأن البؤس يتضاعف، وأن الأحزان تتكاثر، وأن الضمير الإنسانى لم يعد كما كان.

فى هذه الأوراق، يعترف الشاعر بأن حياته كانت «أحزانًا كثيرة وقليلًا من الانبساط»، وأن استجابته للحزن كانت دائمًا أسرع من استجابته للفرح، ربما- كما يقول- لأنه وُلد مكتئبًا، لا يحاول تزيين هذه الاعترافات، ولا يسعى لتحويلها إلى بطولة، بل يقدّمها باعتبارها حقائق عارية شكّلت وعيه وكتابته.

ويشير فى مواضع عدة إلى أن الكتابة كانت فعل شفاء، ومحاولة دائمة لاستعادة القدرة على الحياة، ووسيلة لتدليك الروح والذاكرة فى مواجهة اليأس.

كنز على الرصيف

غير أن الغموض يتضاعف حين تعلم أننا عثرنا مؤخرًا وبمحض المصادفة، لدى أحد بائعى الكتب القديمة، على نسخة ضوئية من الأوراق والمذكرات الخاصة بـ«نجيب شهاب الدين» غير المنشورة التى كتبها بخط يده، ضمن مجموعة أوراق قديمة معروضة للبيع، دون أى إشارة إلى قيمتها أو إلى اسم صاحبها.

اللافت أن هذه النسخة تتطابق فى أجزاء كبيرة منها مع ما نُشر فى كتاب «عرضحال سيرة وقصائد»، لكنها تحتوى كذلك على مواد إضافية لم ترَ النور، من بينها مقاطع من التمهيد الكامل، وشذرات سردية، وتأملات شخصية لم تُنشر.

هذا الاكتشاف يطرح تساؤلات خطيرة: كيف خرجت نسخ من مذكرات شاعر بحجم نجيب شهاب الدين إلى سوق الكتب القديمة؟ وهل ما تم العثور عليه نسخة يتيمة، أم أن هناك نسخًا أخرى تسرّبت إلى مسارات غير معروفة؟

المفارقة أن ورثة نجيب شهاب الدين- زوجته وأبناءه- كانوا قد منحوا تفويضًا قانونيًا مكتوبًا وموقعًا يجيز نشر أعماله حسب ما جاء فى المقدمة الخاصة بالكتاب المذكور، فى خطوة هدفت إلى إزالة أى عوائق قانونية أمام إخراج تراثه كاملًا، ومع ذلك، لم يُنشر سوى جزء محدود من هذه المذكرات، دون إعلان واضح عن حجم المادة غير المنشورة أو مصيرها.

لا يمكن فصل قضية المذكرات عن الظلم التاريخى الذى لحق بالشاعر، فقصيدته الشهيرة «يا مصر قومى وشدى الحيل»، التى كتبها عقب يونيو ١٩٦٧، لا تزال تُنسب خطأً إلى غيره، رغم أنها واحدة من أهم قصائد التحريض والأمل فى تاريخ مصر الحديث، هذا الالتباس فى النسبة يجعل من المذكرات وثيقة ضرورية لتصحيح التاريخ، لا مجرد مادة أدبية.

وتكشف أوراق نجيب شهاب الدين عن إنسان رأى الزمن كتلة متحركة، وأسهم فيها منذ اللحظة الأولى لوجوده، قبل الوعى والإدراك، هى أوراق لا تدّعى الحكمة، لكنها تنطق بصدق التجربة، وتضع القارئ أمام سؤال جوهرى عن معنى الكتابة، ومعنى الإنسان، ومعنى الوطن.

وحتى اللحظة، لا توجد إجابة حاسمة: أين ذهبت مذكرات نجيب شهاب الدين كاملة؟ ومن يحتفظ بها؟ ولماذا لم تُنشر كما أرادها صاحبها، شهادة إنسانية خالصة على زمن قاسٍ؟

ما نُشر خطوة مهمة، لكنها تظل خطوة ناقصة، فهذه المذكرات ليست ملكًا لشخص أو جهة، بل هى جزء من الذاكرة الثقافية المصرية، وربما آن الأوان لفتح هذا الملف كاملًا، لا إنصافًا لشاعر فقط، بل دفاع عن حق الذاكرة فى أن تُروى كاملة، بلا حذف أو تشذيب أو ضياع.

هكذا تكلم «سيد الاستغناء»!

لا تأتى الصفحات التالية بوصفها نصوصًا أدبية مكتملة، ولا باعتبارها إصدارًا جديدًا لأعمال الشاعر نجيب شهاب الدين، وإنما تُنشر هنا بوصفها وثائق إنسانية وأدبية، جرى العثور عليها ضمن أوراق أصلية مكتوبة بخط يد الشاعر، عُثر عليها لدى أحد بائعى الكتب القديمة، فى سياق بحث صحفى عن مصير مذكراته غير المنشورة.

هذه المواد لا تُقدَّم بوصفها بديلًا عن كتاب رسمى أو طبعة معتمدة، ولا تزعم الإحاطة الكاملة بما تركه نجيب شهاب الدين من أوراق، وإنما تأتى استكمالًا لملف صحفى مفتوح يسعى إلى تتبع مسار هذه المذكرات، وإلقاء الضوء على ما لم يُتح للقارئ الاطلاع عليه من قبل.

وتكمن أهمية هذه الصفحات فى كونها تكشف، بصورة مباشرة وغير وسيطة، عن صوت نجيب شهاب الدين كما كتبه لنفسه، لا كما أعيد تحريره أو اختياره لاحقًا، فهى نصوص أولية، غير منقحة فى معظمها، تحمل سمات المسودة، وتحتفظ بلغتها وترددها وشطبها أحيانًا، بما يعكس طبيعة الكتابة عند شاعر كان يرى فى الكتابة فعل نجاة قبل أن تكون فعل نشر.

وجرى اختيار المقتطفات المنشورة هنا على أساس دلالتها الإنسانية والفكرية، لا على أساس اكتمالها الفنى أو الزمنى، مع الحرص على عدم المساس بسياقها أو تغيير مضمونها، والاكتفاء بتصويب لغوى محدود عند الضرورة، دون تدخل فى النص الأصلى.

ويأتى نشر هذه المواد فى إطار حق المعرفة، وحق الذاكرة الثقافية فى الاطلاع على وثائقها، لا بدافع الإثارة أو الاستحواذ، ولا انتقاصًا من أى جهد سابق لنشر أعمال الشاعر، بل بوصفه مساهمة صحفية توثيقية تفتح الباب أمام نقاش أوسع حول مصير تراث نجيب شهاب الدين، وضرورة جمعه ونشره كاملًا فى طبعة علمية تليق بقيمته.

إن ما يُنشر هنا هو جزء صغير من مادة أكبر، لا تزال أسئلة كثيرة تحيط بها: أين بقية الأوراق؟ وكيف خرجت هذه النسخ إلى التداول؟ ومن الجهة الأجدر بحفظ هذا التراث وإتاحته للباحثين؟

أسئلة لا تدّعى هذه الصفحات الإجابة عنها، لكنها تأمل أن تسهم فى إبقائها حيّة، إلى أن يُستكمل هذا الملف بما يستحقه من شفافية وتوثيقه.

أبو النجوم أفندى باشا

النص التالى جزء من رسالة طويلة كتبها الشاعر نجيب شهاب الدين بخط يده، ضمن أوراقه ومذكراته غير المنشورة، ويبدو أنها موجَّهة إلى أحد أقرب أصدقائه ورفاق تجربته الثقافية والسياسية.

لا يُقرأ هذا النص بوصفه مقالًا أو شهادة تاريخية محايدة، بل بوصفه رسالة مواجهة شخصية، يكتب فيها صاحبها من موقع الألم والمرارة والخذلان، مستعيدًا لحظات مفصلية من حياته، ومن علاقته بالوسط الثقافى والغنائى فى القاهرة خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضى.

تكمن أهمية هذه الرسالة فى أنها تكشف، دون تزيين أو مواربة، عن رؤية نجيب شهاب الدين الذاتية لما جرى، وعن إحساسه المبكر بالاغتراب، وبالتناقض بين الصداقة والاختلاف، وبين الحب والخذلان.

كما تضىء جانبًا مهمًا من كواليس أغنية «يا مصر قومى وشدى الحيل»، ومن علاقته بتجربة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وهى رؤية شخصية خالصة لا تدّعى امتلاك الحقيقة الكاملة، لكنها تُعد وثيقة إنسانية نادرة، تعكس صوت الشاعر كما كتبه لنفسه، لا كما قُدِّم لاحقًا إلى الجمهور.

ويُنشر النص هنا كما هو، دون تدخل أو إعادة صياغة، حفاظًا على نبرته الأصلية، وعلى صدقه الخام، وبوصفه جزءًا من ملف توثيقى أوسع يسعى إلى تتبع مصير أوراق ومذكرات نجيب شهاب الدين، وإتاحة ما أمكن منها للقارئ، فى انتظار جمع هذا التراث ونشره كاملًا فى سياقه العلمى والإنسانى اللائق.

وفى هذه الأوراق يكتب نجيب شهاب الدين: «أخى العزيز أبوالنجوم أفندى باشا، حاولت الاتصال بك عشرات المرات وفشلت، فكان لا بد من هذه الرسالة.. لماذا؟ أولًا لأنك لم تفهم لماذا هاجمتك؟، وأنك لم تفهم أيضًا لماذا مدحتك؟، وألتمس لك العذر فى عدم الفهم، لأن هجومى عليك كان يعنى جزءًا من الحقيقة، وامتداحى لك كان يعنى جزءًا آخر من الحقيقة... الحكمة والضمير الخالص.

وأظن أنك أهل لذلك وإذا شئت لأنك فى أحيان كثيرة لا تشأ ربما عن ضيق صدر أو عن قلة حيلة أو عن استهتار أو استهانة، ولكن فيما يختص بما سوف أقوله فأتمنى لك أن تكون كما أرجو.... الأخ الأكبر، لأنك أخ أكبر فعلًا وليس قولًا فارغًا، بلا مبالغة أو نفاق أو زعم أو ادعاء، لقد كانت علاقتى بك دائمًا علاقة الأخ الأصغر بالأخ الكبير، وأتمنى ألا تتعامل مع كلامى على طريقة اطلع من دماغ دين أهلى يا .. أمك، فهى لن تجدى فى هذا المقام قبل أن تدور بيننا تلك الملاسنة بأيام قليلة، لا تتعدى الأسبوع كان عندك صديقك المراد منير.

وكان الأخ مراد يتقرب فى ذلك الحين من سعد الدين وهبة، واستطاع أن يقنع سعد الدين وهبة بعرض مسرحى عن مصر والوطن والشدية، وظل يزن على دماغه حتى كلفه بإعداد النص، وقد اختار أغنية «يا مصر قومى وشدى الحيل» ليفتح بها العرض، وجابك وهو فرح ليزف إليك بشرى أنه سيفتح العرض بهذه الأغنية ظنًا منه أنها كلامك، ولكنك نبهته أنها أغنيتى، فاندهش ووقع فى حيرة سرعان ما أنقذته منها قائلًا: معلش أنا ح عملك افتتاح، وصدقنى إذا قلت لك إننى لم أزعل مما حدث، لأننى منذ اللحظة الأولى التى بدأ فيها أن شيئًا ما سوف يعكر صفو ما بيننا بسبب الأغانى، وإن كنت قد تأثرت على نحو ما لم أزعل فعلًا، لأننى منذ اللحظة الأولى التى شعرت فيها أن الكتابة قد تكون سببًا فى تعكير صفو ما بيننا أخذت قرارًا بعدم الكتابة..

لم أتردد لحظة فى هذا القرار لأننى كنت أفضل أن تكون علاقتى بك على أفضل ما يكون، إذا كانت الكتابة سوف تعكر صفو ما بيننا، ولأن كتابة الأغانى كانت تجربة جديدة بالنسبة لى، فحين كنت قريبًا من الأبنودى، كان يروج لفكرة أن كتابة الأغانى نوع من النجاسة، ولم أكن أهتم أصلًا بكتابة الأغانى ولا حتى كتابة الشعر، فقد كان حبى لما عرفتهم حينذاك طاغيًا.

وكانت معرفتى بسيد حجاب والأبنودى صدمة تركت فى نفسى شيئًا من الإحباط، فقد اعتبرتهما حين كنت قادمًا من قريتى- جاهلًا ومُحبًا- وهذه هى المصيبة الجهل والمحبة معًا، اعتبرتهما حينذاك مثلًا وقدوة وشيئًا ثمينًا فى حياتى، وليس فى ذلك مبالغة.

وفجأة وأنا مفعم بتلك المشاعر التى تتراوح بين الحب الشديد والاحترام والإعجاب وجدتهما يستديران ١٨٠ درجة، ووجدت نفسى عاريًا دونهما، كنت طفلًا حينذاك، صحيح كان عندى ٢٠ أو ٢١ سنة ولكننى كنت طفلًا فعلًا.

ولا أريد أن أستطرد فى أمرهما إلا بالقدر الذى يجعل الصورة واضحة، كانت هذه علاقتى الأولى بالشعر والشعراء والقاهرة والندوات التى كنت أحظى فيها بالترحيب والإعجاب الذى يبعت فى نفسى شيئًا من الطمأنينة بعد تلك الدهشة التى أصابتنى بخيبة الأمل فيمن كانوا قدوة.

تعرفت عليك يوم خروجك من السجن، فى اليوم نفسه الذى خرجتم فيه من سجن عبدالناصر، احتفلنا بكما فى بيت أحمد نور الدين، وكنت أقيم حينذاك فى حجرة جميلة على سطح العجوزة، بينما كان محمد جاد يعيش فى بدروم العجوزة، وكنا معًا فى السطح أو فى البدروم، وكان معنا أيضًا حجازى واللباد وعدلى و... 

فى تلك الليلة اجتمعنا فى سهرة لا أنسى جمالها ونورها، حيث كان إمام فى حالة تجلًّ استمالت معها الليلة إلى انبساط متصل، واختتمها مظفر النواب أجمل ختام، وحين انتهت الليلة لم أعد إلى السطح ولا إلى البدروم ولكن ذهبت معك.

لقد شعرت تجاهك بأخوة حميمة، وأظن أنك بادلتنى الشعور نفسه، وشعرت بالطمأنينة لك وللمكان رغم غشم إمام وسوقية محمد على، احتميت بك يا عفاشة، وكنت محبًا وجميلًا.

ووجدت فى ظاهرة إمام ونجم بديلًا مناسبًا لأجواء سياسية وثقافية ورأيت فيها الكثير مما يؤذى، ولاقيت فيها أيضًا مثقفين برتبة قديسين.

كان الغناء والبساطة شيئًا واحدًا، خاصة مع انعدام مادة الثقافة والسياسة من حواراتنا، إلا فيما يخص الأغانى، وعبر معايشة ومشاركة أصبحت جزءًا منكم، أنت نجم الموضوع والحركة وإمام بغبائه هو وجه الموضوع، وإذا كنت بلوم إمام على غبائه أو تصورى غبائه فإن هذا الغباء كان هو القوة الدافعة لإمام.

مما أهله لأن يأخذ المواقف موقف الجمس أو الحمار الحرفان ولا ألف خرزانة حتى تزحزحه عن اللى فى دماغه.

المهم فى الموضوع أو مربط الفرس سوف أقوله ولكننا كنا دائمًا بلا فرس، كنت أنت قادرًا على الطيران، حيث يجب أن تحط وكنت أنا قادرًا على الغرز دون قدرة على الحل يا عفاشة.

ولأنك تكاد تكون طائرًا فعلًا، فإن الواقع الذى تزعم أنك فيه كان أبعد ما يكون عن حواسك الخمسة فيما عدا حماقتك المتخلفة، كان الواقع بالنسبة لك دائمًا «مزحة».

صدقنى يا عفاشة حين أقول لك إن هذا جزء من مرارتى، وجهلك أحيانًا، كان سببًا من أسباب خيبة الأمل التى أراها ولا أرى فيها إلا الأمل، ليس على طريقة المتصوفة، فأنا صعلوك ولست متصوفًا، ولكن على طريقة أن الأمل هو دائمًا صنع يد مادته بؤس الواقع».

الإخوان رأس الحماقة

النص التالى جزء من مذكرات الشاعر نجيب شهاب الدين، ويعكس وجهة نظره الشخصية والحادة تجاه الإخوان المسلمين والواقع السياسى الذى عاشه، وننشر النص كما هو، دون تعديل أو إعادة صياغة، حفاظًا على صدقه ونبرته الأصلية، وبوصفه وثيقة تعكس رؤية نجيب شهاب الدين الذاتية والمباشرة تجاه جماعة الإخوان الإرهابية.

يقول: «الإخوان المسلمون يخفون الله خلف الإعلان عنه، ويحجبون جلال الله خلف لافتة (الله جل جلاله).

إنه ضيق أفق يصل إلى حد الحماقة التى لا شفاء منها ولا علاج لها سوى الصدام، وهو قدر الإنسان منذ تواجد على الأرض، أحيانًا يبدو الصدام منطقيًا من أجل البقاء، وأحيانًا من أجل الفناء، والأخيرة هى ما يفعله الإخوان المسلمون، ولا أثق بالإخوان المسلمين».

كما يعكس النص التالى، رؤية نجيب شهاب الدين الشخصية حول تأثير الكهرباء والحداثة على الحياة اليومية فى القرى المصرية، وكيف غيّرت التكنولوجيا الحديثة روابط المجتمع وعادات الناس.

يُنظر إلى النص بوصفه تجربة سردية شخصية تعكس إدراك نجيب شهاب الدين لتغير الزمن والواقع الاجتماعى، ويقدم لمحة فريدة عن أثر الحداثة على الحياة الشعبية والطقوس التقليدية.

وإلى النص: 

«فى العام ١٩٦٤ كان مشروع السد العالى قد اكتمل، وأدخلت الكهرباء القرى الكبيرة فى سائر أنحاء مصر، ومنها قريتى، وكنت قد ابتعدت عن القرية أكثر من عام، وحين عدت لزيارتها فوجئت بالنور فى الشوارع والأزقة والبيوت والمقابر، ولم تكن مفاجأة سارة، فقد شعرت بما يشعر به المتفرج حين ينتهى الفيلم وتضاء أنوار الصالة.

كانت هذه هى أضواء الصالة بعد نهاية عرض استمر بنجاح كل ليلة على مدى آلاف السنين. فى خبطة كهرباء واحدة تم اغتيال نور الكلام، ولم تمض سنوات قليلة حتى تزاحمت بيوت الطبقة المتوسطة بالأجهزة الكهربائية التليفزيون وجهاز التسجيل والفيديو، والغسالة والمكواة، وكان ذلك أكثر من كاف لكى تهرب العفاريت والأشباح والحواديت والمواويل والأغانى وأناشيد الموتى، لكى تأخذ مكانها مسلسلات وأغان تحاول تقليد الفلكلور، ولكى ندرك عبث الأمر سوف أروى لكم حادثًا صغيرًا، مات أحد كبراء قرية من القرى، وكان لا بد من الإسراع بدفنه (فإكرام الميت دفنه)، وكان الوقت قبل الغروب، وقد وقع أصحاب الميت فى ورطة، لأن القرية كلها كانت فى انتظار آخر حلقة من أحد المسلسلات، وقد يستطيع المشاهد ألا يرى حلقة أو حلقتين، ويتابع ولكن آخر حلقة لن تفوت أحد.

وعندما نادوا على الميت بالميكروفون وهو نداء معتاد يعلنون فيه اسم المتوفى وأقاربه ثم ميعاد الدفن، وحرصًا من المنادى على حضور الأهالى فى المشهد، قال فى نهاية النداء وسوف تشيع الجنازة بعد المسلسل».

المعابد

بقى هيه دى المعابد؟!

وهوه دا الإيمان؟!

ما كانتش دى مدرسة

ولا كانش دا دکان

ولا كانت الساقية دايره

ولا كانش غيط شعبان

ولا كانت أمك بتشقى

ولا كان شقاها حنان

ولا كانش غيطك عنب

ولا كان شجر جميز

جدوره فى الأزمان

ولا كان شباب فى الغيط

ولا كان شباب فى ميدان

ولا كانوا قاصدين السما

ولا كانوا فاتحين بيبان

ولا كانش قلبك دهب

ولا كان قلبك ميزان

يوزن مقام الهوى

لو حط فى الوجدان

ولا كانت السهرة حلوة

ولا كانت ديارنا أمان

ولا كان نعم الحان

ولا كانت الحلوة قايمة

تعجن فى وش أدان

كده الكوانين تنطفى؟

كده المواعيد تنكفى؟

كده الضنا الغالى يهون

ويهون عليكو الهوان

ما كانتش دى مدرسة

ولا كانش ده دکان

كان دير وسط الجناين

رهبانه فلاحين

فى عيونهم حب باين

وفى القلوب حنين 

عايشين ليلهم نهارهم 

ما بين عنب وتين 

وربنا أمرهم 

تكون الدنيا دين 

نزلوا الأغراب عليهم 

يقلعوا الجناين 

ويزرعوا الأنين 

والدين صبح متاهة 

أصحابه مطرودين