السبت 27 ديسمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

العلمانية الزائفــة.. فى نقد «صنم صوفى» اسمه أدونيس

حرف

سُئل السيد أدونيس فى إحدى المقابلات سؤالًا لافتًا: فى أى خانة يضع نفسه، أهو شاعر أم فيلسوف؟ وهو سؤال متوقع، نظرًا لتعقيد كتاباته وتشابكها مع الطرح الفلسفى، رغم أنه يعرّف نفسه بوصفه شاعرًا. هذا السؤال ينسجم مع طريقة التفكير السائدة لدى العرب عمومًا، حيث يُناقَش الأشخاص أكثر مما تُناقَش الأفكار، وهو أسلوب لا أميل إليه عادةً، غير أننى وجدت فى هذه الحالة أن السؤال يشكّل مدخلًا مناسبًا لتساؤل أعمق، وهو: هل أدونيس علمانى حقيقى أم لا؟

قد يبدو هذا الربط غريبًا للوهلة الأولى، لكنه يفتح لنا بابًا واسعًا لفهم الخلفية الفكرية والعقائدية التى تقف وراء هذه الكتابات.

تُعد كتابات أدونيس من أصعب النصوص قراءةً، ولا أدّعى فهمها فهمًا كاملًا، بل أتمنى لو يتصدى أحدهم لمحاولة شرح هذا الفكر وتفكيكه، لعلّ ذلك يكشف خطأ ما سأطرحه هنا. كما أننى لا أدّعى امتلاك قدرة على النقد الفنى المتخصص، غير أننى أفهم الشعر— بالمعنى الحرفى للكلمة— بوصفه تعبيرًا عن الإحساس بالعالم والناس، وصياغةً جمالية للمشاعر باستخدام اللغة والموسيقى والإيقاع.

من هذا المنطلق، أجد أن كتابات أدونيس تفتقر إلى معظم العناصر الشعرية المعهودة؛ فلا قافية ولا موسيقى تنتظم الكلمات فى سياقها، والأهم من ذلك افتقارها — برأيى — إلى الشعور بالناس. فثمة اغتراب أدبى وفنى حاد بين الكاتب ومحيطه، ما يجعل القارئ عاجزًا عن التماهى مع التجربة الشعورية التى يُفترض أنها ولّدت النص.

هذا ما يفسّر، فى تقديرى، سبب السؤال عن كونه شاعرًا أم مفكرًا. وحين ننتقل إلى مناقشة أفكاره، نكتشف سريعًا أن هذا الفكر يكاد يكون عصيًّا على الفهم لدى الغالبية. وعندما نحاول البحث عن سبب هذا الاغتراب، نجد دلالة لافتة فى الاسم الذى اختاره لنفسه، وهو اسم لإله قديم، ما يوحى بنوع من الاستعلاء. لكن من أين ينبع هذا الاستعلاء؟

النظرية التى أطرحها للنقاش هى أن أدونيس ينتمى فكريًا إلى أحد التيارات الدينية ذات النزعة الصوفية. ومن المعروف أن أحد المبادئ الأساسية فى التصوف هو التمييز بين «الخاصة» و«العامة»؛ حيث يُنظر إلى الخاصة بوصفهم بلغوا مراتب روحية عليا تقرّبهم من الإله وتمنحهم نوعًا من الامتياز المعرفى. فى هذا السياق، لا يبدو غريبًا أن يتخذ الكاتب موقفًا استعلائيًا اسمًا وفعلًا.

وفى هذا الإطار، أستحضر حادثة معبّرة، حين سُئل أدونيس فى إحدى الجلسات العلنية المسجلة عن رأيه فى أفكار والدى، الدكتور محمد شحرور، رحمه الله، فكان جوابه أنه يعيب عليه الكتابة للعامة. وهذا فى نظره، كان العيب الوحيد، وهو ما يدل بوضوح على نزعة استعلائية فى التفكير. لا أعيب على أدونيس ذلك من حيث قدرته الأدبية، فهو شاعر متمكن فى شعره الكلاسيكى، غير أن الفكر الصوفى- فى رأيى- فكر منحرف بدرجة لا تقل عن انحراف الفكر التراثى السائد، وهى إحدى أبرز العلل الفكرية التى كبّلت العقل العربى.

لقد أخذ والدى الدكتور محمد شحرور على عاتقه مهمة تحطيم أصنام التراث، وأنا أرى من واجبى أن أواصل هذا المسار، لا بهدم الأصنام التراثية وحدها، بل أيضًا الأصنام الصوفية التى لا تقل خطرًا عنها.

أعتقد أن سبب غموض كتابات أدونيس يعود إلى إيمانه بمبدأ الخاصة والاستعلاء على العامة، وإلى تصوره أن إطلاق الأفكار بلا قيود يفضى إلى الحقيقة، فى حين أن هذا النهج لا ينتمى لا إلى الفلسفة ولا إلى المعرفة، لأن الابتعاد عن الناس هو جوهر الفكر الصوفى الاستعلائى الذى يصنّف البشر طبقاتٍ كلما ارتفعت ابتعدت عن الواقع، وانغمست فى عالم متخيَّل ومغترب.

لهذا، يصعب تصنيف أعمال أدونيس شعرًا، وفى الوقت نفسه يتعذّر ربطها بمنظومة فكرية واضحة، لأنها فى جوهرها كتابات صوفية مغلقة على ذاتها.