الثلاثاء 17 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز

مُباركة القَتَلة.. لماذا تحتفى صافى ناز كاظم بمقتل فرج فودة واغتيال السادات؟

صافى ناز كاظم
صافى ناز كاظم

- لم تبارك صافى ناز ما فعله قتلة السادات المجرمين فقط بل إنها تغضب ممن يسميهم إرهابيين

- مهما كان اختلافها مع السادات لا يمكن أن يكون ذلك مبررًا لأن تبارك قاتليه وتعتبرهم مجاهدين وكأنها تبارك القَتَلة

- اغتيال فرج فودة جعل المفكرين والكُتّاب والصحفيين والمثقفين والأدباء يُحجمون عن الكلام

- قال فرج فودة: إن الذين يتهمونه بالتعاون مع إسرائيل لم يقدموا بينة أو دليلًا على ما يقولون

- لم يكن فرج فودة ينافق أو يهادن أو يمسك العصا من المنتصف ولذلك قتلوه هو وتركوا غيره

- صافى ناز كاظم: لم يكن من المفروض أن يقتل فرج فودة لأن من قتله ضيّع منه فرصة أن يتوب

- صافى ناز رأت فرج فودة كافرًا وكونها كان ترفض قتله فذلك لأنه لم يصدر حكم بردته

لم يكن غريبًا بالنسبة لى ما نشرته الكاتبة الكبيرة صافى ناز كاظم مساء يوم الأربعاء 8 ذو الحجة 1446 الموافق 4 يونيو 2025 على حسابها الخاص بالفيس بوك. 

صافى أعادت نشر نص كانت قد كتبته كما وثقت فى نهايته فى 8 ذو الحجة 1401/ 6 أكتوبر 1973 وقد سبقت تدوين التاريخ بصرختها الله أكبر. 

نص صافى ناز بالنسبة لى وثيقة تاريخية بالغة الخطورة، ولذلك من المهم أن نقرأه معًا دون أن أقاطعكم. 

تقول صافى ناز: «عندما نقلونى إلى زنزانة الحبس الانفرادى- بعد عودتى من التحقيق- 7 ذى الحجة 1401 الموافق 5 أكتوبر 1981 قلت لمأمور السجن: هل تتصور أن هذه العقوبة سوف تنغص علىّ العيد المقبل؟ ثق أن الذين يريدون أن يحرقوا قلوبنا سوف يحرق الله قلوبهم، هذا العيد لن أبكى، سيصبر الله فراقى عن طفلتى النوارة، لكننى على يقين أن الذين يكيدون لنا سوف يحبط الله كيدهم بل سوف يبكون هم هذا العيد وسوف ترى، لن يبقى منهم أحد فى بيته يحتفل مع أطفاله». 

«لم أكن أهدده، كانت تتملكنى ثقة غريبة أن ما قلته سوف يتحقق بالحرف الواحد، ودخلت الزنزانة القبيحة التى أضافوا إلى دمامتها سلكًا ضيقًا فوق القضبان- خوفًا من تسربى منه- أما طاقة الباب فقد سدوها بقطعة خشب إمعانًا فى السماجة حتى لا أتمتع بالنظر إلى الممر، الحق الذى كانت تتمتع به «هبة سلیم» جاسوسة إسرائيل المجرمة التى تسببت فى مذبحة أطفال مدرسة بحر البقر والتى كانت تقطن نفس الزنزانة بعد الحكم عليها بالإعدام 5/73». 

«جلست متوجهة صوب القِبلة وقلت: يا ربى أنت لن ترضى أن نكون نحن الكلاب: أبدًا لن ترضى! وكانت كلمة السادات المنكرة عن الشيخ المحلاوى: (أهو مرمى زى الكلب)، تعطينى المعنى الوحيد لمدلول القرار بإلقائى فى زنزانة الحبس الانفرادى المزرية». 

«كان الوقت عصرًا وكنت صائمة ولا أتذكر أننى نمت حتى شروق صباح 8 من ذى الحجة العظيم 1401 الموافق 6 أكتوبر 1981 المجيد، كنت قد ابتهلت طويلًا إلى الله وتضرعت ودعوته برحمته التى كتبها على نفسه أن يقتص لنا ويشفى صدورنا ويذهب غيظنا، وبعدها غفوت حتى أخذنى النوم إلى الظهيرة، ولم أجد نفسى إلا مستيقظة على مفتاح السجّانة تفتح بابى وتوقظنى والفرح يغمرها: اصحى ... اصحى يا حاجة السادات انضرب: مش بقول لك ربنا كبير؟». 

«آه: أروع شىء فى سجون مصر سجانوها، يأتون من شريحة الشعب المستضعف يسكن قلوبهم - رغم كل شىء - حب الإسلام والطيبة المصرية التى لا يمكنها أن تتقن القسوة.

نهضت وأمسكت يدها: هل مات؟

قالت فى عجل وهى تضحك: إن شاء الله!

سجدت ودعوت الله أن يكون الفاعل من مجاهدى الإسلام.

الحقيقة أننى لم أتصور أى احتمال آخر.

ليس هناك أحد جدير بهذا الإقدام الإنسانى الرحيم إلا «مسلم»، ولم نكن قد عرفنا بعد أنه - كذلك - «إسلام بولى». 

«استمر جو السجن فى هزة من الفرح المتوتر - ثم جاءت الأوامر بإغلاق جميع الأبواب مبكرًا، وقد سادت حالة طوارئ مكثفة، وكانت المسجونات الجنائيات فى جرائم القتل والمخدرات والسرقة والدعارة... إلخ يتمتعن كلهن بميزات حرية اقتناء الراديو والتليفزيون وجميع الأشياء المحرمة على السياسيات المحجوزات تحت لافتة جرائم الرأى (باعتبار أن الرأى جريمة أكثر خطرًا من القتل والسموم البيضاء والنهب والبغاء!) - وكان تعاون الجنائيات معنا أكثر رحمة وتعاطفًا من تعليمات الأجهزة المتسلطة، وراحت كل واحدة تتابع لنا من قناة مختلفة آخر أخبار التطورات وينقلنها لنا نداءات عبر نوافذ العنابر والزنازين حتى جلجلت فى الفضاء - مع أذان المغرب - صيحة: مات». 

«تشبثت بالأسلاك المنسوجة بين القضبان واعتليت النافذة ولم أجد هتافًا أروع من: الله أكبر، الله أكبر، ولم أجد أغنية سياسية - فى كل الأغنيات التى أعرفها - تعبر عن حالنا جميعًا إزاء غيث الرحمن الهاطل مغدقنا برحمة من حيث لم نحتسب سوى: الله أكبر كبيرًا.. والحمدالله كثيرًا.. وسبحان الله بكرة وأصيلًا.. لا إله إلا الله وحده.. نصر عبده.. وأعز جنده». 

«سكتت كل الهتافات، وصمتت كل الأغنيات، وانفرد صوتى - وقد قواه الله - عريضًا جياشًا بـ(الله أكبر كبيرًا) يغطى سماء السجن، يلف أرجاءه، يلقف الصمت والخوف والتوتر ويعود إلىّ حاملًا بكاء الراحة، حتى القاتلات بكين وحتى البغايا خشعن». 

«هرعت إلى سجّانة الليل بأمر من (النوبتشية) بالسكوت عن الهتاف فورًا، لكنها بدلًا من تبليغى الأمر تسلقت نافذتى من الخارج وراحت تدس لى - عبر الأسلاك - قطعة من الحلوى، أمسكت بالملعقة وحفرت على جدار الزنزانة بخط كبير: القوة لله جميعًا». 

انتهى نص صافى ناز كاظم الذى أرادت به فيما يبدو أن تتذكر هذه اللحظات من حياتها، لحظات معرفتها باغتيال الرئيس السادات وحالة الفرح والنشوة التى عاشتها، ليس لأنه قتل فقط، ولكن لأن من قتلوه - كما تدعى - من مجاهدى الإسلام. 

لم تبارك صافى ناز ما فعله قتلة السادات المجرمين فقط، بل إنها تغضب ممن يسميهم إرهابيين. 

يمكنك أن تتأكد بنفسك عندما تزور صفحتها وتقرأ تعليقًا كتبه أحد متابعيها وهو طارق فهمى حسين، قال: ذكرى يوم عظيم من أيام الله وآياته، وكم يؤلمنى وصف البعض لمن أعدموا السادات بـ«الإرهابيين». 

فترد عليه صافى وتقول: ويوجعنى جدًا. 

خطورة ما كتبته السيدة صافى ناز وأعادت نشره فى أنها ودون أن تدرى تحبذ أعمال العنف والإرهاب والقتل والاغتيالات السياسية. 

قد يكون لديها من المبررات التى تجعلها تختلف مع الرئيس السادات وتكرهه. 

لكن هل يمكن أن يكون ذلك مبررًا لأن تبارك قاتليه وتعتبرهم مجاهدين، وكأنها تبارك القَتَلة، وتمنح من يريدون أن يسيروا على طريقهم مبررًا لأن يسلكوا مسلكهم؟ 

الإجابة بالطبع عند السيدة صافى ناز، وعند كل من يؤيدها أو يعتقد أنها على صواب. 

لكن لماذا قلت إن ما كتبته ونشرته الكاتبة الكبيرة صافى ناز كاظم لم يكن غريبًا علىّ؟ 

القصة عمرها يقترب من ٢٣ عامًا. 

وقتها كانت صافى ناز تكتب مقالًا أسبوعيًا فى جريدة «صوت الأمة» وكنت أنا سكرتير عام التحرير، وبحكم منصبى كنت أتعامل معها، وعلى هذه الأرضية تبادلنا مكالمات تليفونية عديدة. 

فى يونيو من العام ٢٠٠٢ كان قد مرت عشر سنوات على استشهاد الكاتب والمفكر الكبير فرج فوده، الذى كنت وما زلت أعتبره شهيد الإسلام الحقيقى. 

مرت الذكرى دون أن ينتبه أحد. 

ندوة وحيدة بلا جمهور أُقيمت فى حزب التجمع. 

قررت أن أكتب عن الشهيد الحى. 

ونشرت بالفعل مقالًا فى «صوت الأمة» فى ١٥ يوليو ٢٠٢٢، أى بعد ما يقرب من شهر على الذكرى، لكن كما يقولون أن تأتى متأخرًا خير من ألا تأتى. 

كان هذا المقال سببًا فى أن أكشف وقتها عن جانب لم أكن أعرفه عن السيدة صافى ناز كاظم. 

لكن قبل أن أخبركم بما لقيت، ما رأيكم أن نتشارك معًا فى قراءة ما كتبته منذ ما يقرب من ربع قرن، خاصة أننا نعيش أجواء ذكرى فرج فودة الذى اُغتيل فى ٨ يونيو ١٩٩٢. 

تحت عنوان «عشر سنوات مضت على اغتياله دون أدنى تكريم.. فرج فودة.. الشهيد الذى لم يحزن عليه أحد»، كتبت وقلت: 

عندما قُتل فرج فودة لم يحزن عليه أحد. 

بل كان يوم الإثنين ٨ يونيو ١٩٩٢، وهو اليوم الذى تلقى فيه رصاصات غادرة من شاب جاهل يركب دراجة بخارية يوم عيد عند كثيرين، فقد تخلص منه جميع الذى أقلق منامهم وأرق صحوهم، وأحرجهم فى مواقعهم بآرائه وأفكاره التى كان يطلقها دون حساب للمكسب والخسارة، أو طلبًا لرضا جهة تمنحه جائزة أو مكافأة. 

ارتاحت الجماعات الإسلامية التى تصدى لأفكارها التى حاولت بها الاستيلاء على عقل الوطن والسيطرة على قلبه. 

هدأت ثائرة شيوخ الأزهر الذين كشف زيف دعوتهم وهوان فتاواهم. 

اطمأن الكُتاب الكبار الذين يدعون وصلًا بالإسلام، فقد كان يفند ما يكتبون ويقدمه للرأى العام، وقد ظهر هزالهم وضحالة ثقافتهم وسخافة منطقهم. 

قالت الحكومة: يا ألف بركة. 

فقد تخلصت من الرجل الذى ينال منها، ويطالبها بالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، والوقوف فى وجه جماعات الإرهاب الدينى والسياسى. 

بل لن أكون مغاليًا إذا قلت إن رفاق فرج فودة قد ارتاحوا بموته. 

فقد مضى الرجل الذى كان يحرجهم بشجاعته، بينما هم قابعون فى جلساتهم الخاصة، يجترون الأفكار والعبارات الضخمة، لكنهم لا يجاهرون بها خوفًا من رصاصة جماعة عابثة أو أمر اعتقال من حكومة لاهية. 

لم يساند أحد فرج فودة فى معاركه، تركه الجميع يواجه الإعصار، وعندما قُتل لم يتحسر عليه أحد، وبعد عشر سنوات من اغتياله لم نقدم له شيئًا إلا ندوة بلا جمهور عقدت فى حزب التجمع، وكحال الندوات فى مصر فقد عقدت وانتهت دون أثر، حتى إننى عندما أستعرض المشهد كاملًا أشعر أن فرج فودة دفع حياته بلا ثمن. 

فقد ضحى من أجلنا جميعًا. 

لكننا وقبل أن يسدل الستار على حياته أعطيناه ظهورنا ونمنا قريرى العين. 

فى مطلع العام ١٩٩٢ أخبرت وزارة الداخلية فرج فودة أنه موضوع على قائمة الاغتيالات التى وضعتها الجماعات الإسلامية، أسابيع قليلة وضعت فيها حراسة مشددة على بيته وأمام مقر عمله، بالإضافة إلى حارس شخصى، لكنه طلب رفع هذه الحراسة، لأنه لا يستطيع أن يعيش بحارس يقيده، ويعرقل حريته، ويمنعه أن يتنفس كما يريد، ويعيش كما يريد. 

بعد أيام قليلة من رفع الحراسة وقعت الواقعة. 

شاب عابر يركب دراجة بخارية، وأمام مكتب د. فرج أطلق عليه الرصاص، وحاول أن يفر هاربًا، لكنه فشل، بعد أن ساعد المارة سائق الدكتور فى القبض عليه. 

كان اسمه عبدالشافى أحمد رمضان. 

حياته لم يكن لها معنى، ووجوده لم تكن له أهمية، كان طالبًا فاشلًا مفصولًا من المعهد الفنى الصناعى بالمطرية، عمل ميكانيكى كهرباء، وانضم فى مرحلة لاحقة إلى تنظيم الجهاد، أُلقى القبض عليه ضمن مجموعات الجهاد، لكنه أفرج عنه، حاول أن يستقر فى حياته، فتزوج وأقام بالزاوية الحمراء. 

أيام الاستقرار لم تدم طويلًا، فقد قرر عبدالشافى أن يخلص العالم من فرج فودة. 

قرر ذلك دون أن يعرف الرجل، أو يعرف عن أفكاره شيئًا، كل ما كان يعرفه وذكره فى تحقيقات النيابة، أنه قرأ بيانًا أصدره علماء الأزهر، قالوا فيه إن فودة يلعب بورقة الأقباط فى مصر، ويجعل من نفسه حاميًا لهم، كما أنه من أتباع اتجاه لا دينى. 

التحريض كان سافرًا. 

حمل عبدالشافى بيان علماء الأزهر، وعقد محاكمة قال عنها شرعية، كان حكمها هو إهدار دم فرج فودة، والسبب أنه ينفذ سياسة أمريكا فى مصر. 

قبض على عبدالشافى، لكن جماعته كانت حرة طليقة، أصدرت بيانًا مستفزًا، قالت فيه: لقد قتلنا فرج فودة الكافر المحارب للإسلام، ليس قمعًا لحرية الفكر ولكن وقفًا لحرية الكفر. 

ولأن الحكومة ظلت صامتة، كان لا بد أن تسخر جماعة عبدالشافى منها، ولذلك أضاف البيان: لقد قتلنا فرج فودة، وقتلنا المحجوب، ونجا من بين أيدينا زكى بدر وعبدالحليم موسى، فاليوم فرج وأمس المحجوب، وغدًا آخر لا يعلمه إلا الله. 

اغتيال فرج فودة جعل المفكرين والكُتّاب والصحفيين والمثقفين والأدباء يحجمون عن الكلام، آثروا السلامة، وفضلوا أن يسيروا ليس جانب الحائط ولكن فى داخله، حتى يحافظوا على أكل عيشهم ويربوا أولادهم، لكن الحكومة انتبهت أخيرًا، فخرجت لتجفيف المنابع وتضرب الجماعات المتطرفة فى سويداء القلب. 

كانت تهديدات الحكومة صريحة للدرجة التى تجبر الحكومة على الحركة وسرعة التصرف. 

جولات متعددة خاضتها الحكومة مع الجماعات المتطرفة، انكسرت فى بعضها، لكنها انتصرت فى النهاية. 

ولعل مشهد قيادات الجماعة الإسلامية، وهم يعلنون عن توبتهم وإقلاعهم عما فعلوا، وليعتذروا عما فعلوه من أخطاء فى المجتمع، دليل على أن الحكومة سحقت الجماعات المتطرفة وجعلت منها كيانًا هشًا، يسعى فقط وراء الحياة. 

هذه النتيجة التى وصلنا إليها كان مقتل فرج فودة عاملًا مساعدًا فيها ودافعًا مهمًا للوصول إليها، فلولا اغتياله بهذه الطريقة البشعة ما تنبهت الحكومة للخطر الذى يستهدفها، ورغم أهمية هذا الرجل وأهمية أفكاره، لكنه لم يُكرم لا فى حياته ولا بعد موته. 

فى حياته تركه رفاقه وليمة لشيوخ الأزهر ولقادة التيار الإسلامى المتطرف، فشوهوا سمعته ونالوا من علمه وأفكاره. 

جريدة «الوفد» ومن بعدها جريدة «الأحرار» شككتا فى درجته العلمية، وقالتا إنه غير حاصل على شهادة الدكتوراه، ولا حتى من جامعة «بخ بخ»، وتجرأت جريدة الشعب لتتهمه بأنه نصاب، ادّعى لقبًا علميًا لم يحصل على شهادته. 

كان الموقف غريبًا، ففرج فودة لم يدع أنه حاصل على دكتوراه فى الأديان، كان قد حصل على دكتوراه فى فلسفة الاقتصاد الزراعى، فهو خريج زراعة من جامعة عين شمس، وعليه فلا علاقة لهذه الشهادة بموقفه من الإرهاب الدينى والسياسى، ولذلك كان غريبًا جدًا أن يطالب خصومه بأن يثبت أنه حاصل على الدكتوراه. 

كان الاتهام قاسيًا. 

لكن كان لا بد لفرج فودة أن يرد. 

فى حوار له مع مجلة «آخر ساعة» اضطر لنشر صورة من شهادة الدكتوراه. 

وفى نفس الحوار حمد فرج فودة الله أنه حاصل عليها من جامعة عين شمس المصرية حتى لا يتهمه أحد بشرائها من الخارج. 

وعندما فشل التشكيك فى شهادة الدكتوراه، والتى لم تكن لها صلة بحواره ومعاركه الفكرية، تحولت دفة الاتهامات إلى الادعاء بعلاقة فرج فودة مع إسرائيل، وتعاون مجموعته الاستثمارية مع رجال أعمال إسرائيليين. 

فى حياته قال فرج فودة: إن الذين يتهمونه بالتعاون مع إسرائيل لم يقدموا بينة أو دليلًا على ما يقولون، لكن اتهامى بذلك يتسق مع التخلف والتطرف، وهما مترادفان، وفيه محاولة استدراج البسطاء بعيدًا عن المعركة الأساسية. 

وبعد موته تؤكد السيدة راوية فودة شقيقته أن أخاها لم يسافر إلى إسرائيل، فجواز سفره لا يحمل تأشيرتها، فكيف سافر إذن؟

وتضيف راوية: لقد رفض فرج استقبال وفد إسرائيلى ذهب له فى مكتبه حتى يقنعه بإنشاء مشروع مشترك بين شركته - التى كانت متخصصة فى المشروعات الزراعية - وبعض الجهات الإسرائيلية. 

لم تسلم عائلة فرج فودة من التشهير.. نالتها مثله سهام الافتراء. 

فى حياته قالوا إنه زوّج ابنته للسفير الإسرائيلى، مع أن ابنته وقتها كانت طالبة فى المدرسة الثانوية. 

الضربة التى كانت أقوى لأسرة فودة عندما كتب الشيخ صلاح أبو إسماعيل فى جريدة «الأحرار»، أن فودة يدعو فى كتابه «قبل السقوط» إلى إباحة الزنى، ولذلك فهو يطلب منه أن يأتيه بزوجته وأهله، فإذا فعل ذلك، فلا كرامة له، وإذا لم يفعل فإنه - أى فرج - أنانى. 

من الصعب أن أصف قسوة هذا التشهير، لكنى أتعجب أنه خرج ممن ادعوا أنهم دعاة إسلام وأتباع الرسول. 

د. فرج فسر فى مقدمة كتابه «حوار حول العلمانية» دوافع هذا الهجوم المتدنى، فخصومه شعروا بالعجز عن المواجهة والفشل فى الرد والقصور فى التصدى، فحاولوا تشويه صورته، وخداع الناس باستدراجهم إلى غثاء لا نفع فيه، وتطاول لا رد عليه. 

بعد مقتله كانت الضربات أوجع. 

تبرأ منه الجميع، حتى كتبه التى كان من بينها «قبل السقوط» و«الحقيقة الغائبة» و«حوار حول العلمانية» و«الملعوب» و«الإرهاب والطائفية.. إلى أين؟»، كلها توارت ودخلت فى المساحة الباهتة من اهتمامات الناس، وأصبح اقتناؤك كتابًا لفرج فودة أو تصفحك له جريمة يحاكمك عليها من حولك، حتى لو لم يكونوا على دراية بأفكار الرجل وتوجهاته. 

ذهبت السيدة راوية شقيقة د. فرج فودة إلى نقابة الأطباء بعد وفاة أخيها لاستخراج أوراق خاصة بزوجها الطبيب، وإذا بها أمام شخص طويل اللحية، أخذ يتابعها بنظراته وهو يتصفح أوراقها، وفجأة سألها: أنت تقربى للرجل اللى اسمه فرج فودة. 

تسمّرت راوية فى مكانها، وأجابته دون تردد: لا.. لا أعرفه. 

هذا الموقف يصور باختصار محزن حالة عائلة فرج فودة بعد مقتله، فقد ترك خلفه زوجته وابنتين وولدين توفى أحدهما، وبعد أن كان الرجل كل حياتهم، يوفر لهم مستوى مرتفعًا من المعيشة وجدوا أنفسهم أيتامًا فى الحياة، أصبحوا يكرهون الكتب والفكر والنظريات حتى التى كان يقولها أبوهم، فقد كانت السبب من وجهة نظرهم فى حرمانهم منه وإلى الأبد، ويا ليتهم استفادوا شيئًا، فكل ما فعلته الحكومة أنها خصصت لهم معاشًا شهريًا قدره خمسمائة جنيه تصرفها لهم وزارة الشئون الاجتماعية، وهو مبلغ ضيئل لا يسمن ولا يغنى من جوع. 

لم يكن غريبًا أن نفعل مع أبناء فرج فودة ذلك، فقد فعلنا فى أفكاره ما هو أشد وأوقح. 

تم تصوير الرجل فى الشارع المصرى على أنه ملحد لا يؤمن بالله، جعل كل همه هدم الإسلام والقضاء عليه وبتر جذوره. 

تركنا عملاء الإسلام يصورونه للناس على أنه الكافر الذى يساند إسرائيل، ويريد أن تصبح مصر دولة لا دينية، مع أن أفكاره الحقيقية لا تقول ذلك. 

فقد كان فرج فودة يريد الإصلاح لأمته ولشعبه وأهله الذين تركوه يُقتل على قارعة الطريق، دون أن يشعروا بوخزة واحدة فى ضمائرهم، وهم يسمعون خصومه الذين ما زالوا يتنفسون الحرية بيننا يرددون أنه وقف حياته على الحرب على الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وإقامة الدولة الإسلامية فى أى صورة من الصور وبأى وسيلة من الوسائل، وقد أعلن ذلك فى مختلف كتبه ولقاءاته الفكرية. 

هذا رأى الخصوم. 

لكن ما حقيقة أفكار فرج فودة؟ 

لم يكن فرج يختلف على الإسلام، لأنه لا يجوز الاختلاف عليه. 

لكنه كان يفرق بين الإسلام الدين والإسلام الدولة. 

كان الإسلام الدين عنده فى أعلى عليين، أما الإسلام الدولة فهو كيان سياسى وكيان اقتصادى وكيان اجتماعى يلزمه برنامج تفصيلى يحدد أسلوب الحكم. 

لم يكن فرج فودة يلقى رأيه على عواهنه ويمضى، ولكنه كان يستند لما يقوله أنصار الدولة الإسلامية، بل وقدم عدة حجج لرفضه لها. 

الحجة الأولى جاءت فى مجلة لواء الإسلام. 

ففى العدد الصادر فى ٧ فبراير ١٩٨٧، سُئل مأمون الهضيبى: أنتم متهمون بأنكم لا تقدمون برنامجًا تفصيليًا لحل المشكلات التى تواجهها البلاد، وتكتفون بالشعارات الفضفاضة والمبادئ العامة. 

فرد الهضيبى بقوله: إننى أقول للذين يطالبون الإخوان ببرامج تفصيلية، الأولى بكم أن تطالبوا السلطات بكف يدها العنيفة عن الدعاة إلى الإسلام، حتى يتاح المناخ الصالح للدراسات والأبحاث والابتكارات. 

يعلق فرج فودة: إن باقى من أجابوا عن مثل هذا السؤال لم يخرجوا عن هذا الإطار فى الإجابة. 

الحجة الثانية أخذها فودة مما كتبه الشيخ محمد الغزالى فى جريدة «الوفد» فى ٢ فبراير ١٩٨٩. 

قال الغزالى: إن دولة الخلافة الراشدة قامت على شورى صحيحة، أما دول الخلافة الأخرى بقية الألف وثلاثمائة سنة عدا ثلاثين سنة، فقد فقدت الرشد، وأصبحت خلافة فقط لأن الشورى فيها غائبة أو مشوهة، وصاحب السلطة فيها يستطيع أن يفتئت على الشعب ويلغى إرادته، بعد الخلافة الراشدة كان حكم الخلافة الأموية أكثر من تسعين سنة. 

ويسأل فودة: أين الفترة التى حُكم فيها بالدين الصحيح؟ سنتان ونصف السنة فقط هى عمر خلافة عمر بن عبدالعزيز. 

الحجة الثالثة استند فيها فرج فودة إلى الواقع الذى يعيشه الناس. 

قال بصراحة للإسلاميين: الدولة الدينية ليست وهمًا ولا حلمًا، فهناك دول بجانبنا تحاول أن تجرب هذا النموذج، أعطونا المثال هل هى الدولة التى تطبق ذلك فى الجزيرة العربية، هل هى الدولة التى تطبق ذلك فى إيران؟ هل هو حكم النميرى فى السودان؟ 

ويأخذ فودة الإسلاميين من أيديهم ويضعهم فى مواجهة مع الشيخ الغزالى. 

يقول: إن الشيخ الغزالى قال فى مجلة صباح الخير يوم ١٢ أبريل ١٩٨٩ إن الإسلاميين منشغلون بتغيير الحكم أو الوصول إلى الحكم دون أن يعدوا أنفسهم لذلك. 

حجة الرفض الرابعة للدولة الإسلامية صاغها فرج فودة بما يشاهده من الإسلاميين، وقبل أن يدخلوا إلى الدولة الدينية، فهو لم يرَ إلا إسالة الدماء وتمزيق الأشلاء والسطو على المحلات العامة، وتهديد القانون وتمزيق الوطن بالفتن، فإذا كان هذا ما يحدث وهم على البر، فماذا يمكن أن يحدث لهذا الوطن إذا حكمت الجماعات الإسلامية، وإذا كانت هذه هى البدايات فبئس الخواتيم. 

أراد فرج فودة بدعوته إلى رفض الدولة الدينية أن ينزه الإسلام عن ممارسات السياسة. 

ويضرب لذلك مثلًا. 

ففى مؤتمر عُقد فى جدة جعلوا صدام حسين فى أسفل سافلين بالإسلام، وكان هناك فى الوقت نفسه مؤتمر فى بغداد جعلوا صدام فى أعلى عليين بالإسلام أيضًا، فمن الذى نزل بالإسلام إلى هذا المنزلق غير المزايدات السياسية. 

 

وهنا فى مصر، كان لدينا من الإسلاميين من ارتفعوا بالسلام وبمن صنعه إلى أعلى عليين بالفتوى، ومنهم من طالب بقتله بالفتوى أيضًا، فالإسلام أنزه من ذلك. 

من هذا المنطلق كان فرج فودة يتحدث دائمًا. 

يملك المعلومات والأفكار والمنهج الصحيح، وعندما كان يعجز خصومه عن الرد عليه، كانوا يهربون من المناقشات إلى السباب والشتائم والافتراء، ويبدو أن الشيخ الغزالى كان ناقمًا على فرج فودة، لأنه كان يحاربه بكلامه وتصريحاته المعلنة، ولهذا كان طبيعيًا أن يفتى الشيخ الغزالى بحل دم فرج فودة فى المحكمة، وهو ما كان غريبًا على الشيخ الغزالى، لأن ذلك يناقض ما كان يعلنه عن نفيه من آيات السماحة وملامح الاعتدال. 

كان د. فرج فودة هدفًا للانتقام لأنه كان يواجه دون مواربة، كان يصب هجومه على الأشخاص وليس الأفكار المطلقة، تعرض لأحاديث الشيخ الشعراوى فى التليفزيون، واعتبر أنها واحدة من أخطاء التوجه الإعلامى المصرى، وأصبح الشعراوى قوة لدرجة أنه عندما مست أحاديثه عقيدة الأقباط ومشاعرهم أكثر من مرة لم يستطع التليفزيون أن يفعل شيئًا، وترتب على محاولة حصر برنامجه فى وقت أكثر محدودية أن ثار المشاهدون وعبروا عن ثورتهم بسيل من الخطابات، فوجد المشرفون على التليفزيون أنفسهم فى مأزق بسببها، فأبقوا على البرنامج فى موعده. 

لم يكن فرج فودة ينافق أو يهادن، أو يمسك العصا من المنتصف، ولذلك قتلوه هو وتركوا غيره. 

لم يفعل ذلك لأنه كان رجلًا خارقًا للعادة، أو عبقريًا أكثر من الآخرين، ولكن فعله لأنه أدرك منذ البداية أنه صاحب رسالة.

ولد فى مدينة الزرقا بمحافظة دمياط فى ٢٠ أغسطس عام ١٩٤٥، حصل على بكالوريوس الزراعة فى يونيو ١٩٦٧، بعدها حصل على ماجستير العلوم الزراعية فى أبريل ١٩٧٥ من جامعة عين شمس، ثم حصل على الدكتوراه فى الاقتصاد الزراعى عام ١٩٨١ من نفس الجامعة، عمل معيدًا بكلية الزراعة جامعة عين شمس ثم مدرسًا بزراعة بغداد، ثم خبيرًا اقتصاديًا فى بعض بيوت الخبرة العالمية، وبعد أن استقر فى القاهرة أسس مجموعة فودة الاستثمارية المتخصصة فى دراسات تقييم المشروعات. 

ظل عضوًا بحزب الوفد، وألف كتابًا عن المستقبل فى ظل الحزب منحه اسم « الوفد والمستقبل» عام ١٩٨٢، لكنه أعلن عن استقالته من الحزب بعد تحالف الوفد مع جماعة الإخوان عام ١٩٨٤، حيث اعتبر ذلك من قبيل الردة السياسية والتخلى عن المبادئ الأساسية التى قام عليها الحزب، وبعدها سعى إلى تأسيس حزب «المستقبل»، لكنه لم يتمكن من ذلك حتى تم اغتياله. 

حياة الرجل كانت عادية إذن، لكن الذى لم يكن عاديًا هو إصراره على موقفه وتقديم حياته ثمنًا لأفكاره وآرائه. 

كان فودة مفكرًا جديرًا بالاحترام على الأقل ظل صلبًا حتى لحظة مقتله، لم يتراجع رغم الضغوط الشخصية ومحاولات النيل منه وتشويه صورته. 

لقد رأيته مرة واحدة فى المناظرة التى عُقدت بينه وبين الغزالى ومحمد عمارة ومأمون الهضيبى فى معرض الكتاب وأدارها د. سمير سرحان. 

كان د. محمد أحمد خلف الله يجلس إلى جوار د. فرج فى خندق واحد، لكنى شعرت أن د. فودة كان الأشد صلابة وضراوة وهجومًا وانقضاضًا، حضر أكثر من ثلاثين ألف شاب المناظرة، وعلت أصوات أغلبهم بالتكبير والتهليل أكثر من مرة، لكن هذا لم يرهبه. 

إننى أعتبر فرج فودة شهيدًا من شهداء الإسلام، أراد أن يحافظ على الثوب النقى من الشوائب التى تعلقت به من أيدى من يدعون أنهم يدافعون عنه. 

ضاقت الحياة بأسرة فرج فودة بعد ما حدث لكبيرهم، وبعدما رأوا الجميع يتخلون عنه، خافوا من أفكاره بعض الوقت، لكنهم عادوا إليها مرة أخرى، وعندما صدرت طبعات جديدة من بعض كتبه، أعلن ورثته عن أنهم على استعداد لتلقى رسائل القراء المعارضة أو المؤيدة لأفكاره، ووضعوا جوار الإعلان رقم الصندوق البريدى والعنوان حيث يقيمون، فهم فى شوق إلى عطر عائلهم حتى لو كان هذا العطر مجرد مناقشة لأفكاره.

ما الذى دفع بصافى ناز كاظم فى طريق حديث لى عن فرج فودة؟

وما علاقة ذلك بموقفها الذى أعلنته وباركت من خلاله قَتَلة الرئيس السادات؟ 

ما جرى أنه بعد نشر المقال بأسبوع أرسلت لى السيدة صافى ناز رسالة قصيرة جدًا، أخبرتنى فيها أنها فى ١٧ أغسطس ٢٠٠٢ ستبلغ ٦٥ عامًا، وأنها تعتقد أنها فى مناسبة كهذه تستحق الاحتفال من الجريدة التى تكتب فيها. 

قررت على الفور أن أجرى معها حوارًا مطولًا. 

تواصلت معها مقترحًا الحوار. 

وافقت دون تردد. 

ذهبت إليها فى بيتها بمساكن أعضاء هيئة التدريس بجامعة عين شمس، وأجريت الحوار الذى نشرته وقتها، وأعدت نشره ضمن كتابى «أفكار ومشانق». 

يمكننا أن نستعيد معًا ما قالته صافى عن فرج فودة وما كتبته أنا عنه فى مقالى. 

قبل أن أبدأ الكلام بدأته هى. 

قالت: أنا مش محتجة إنك زعلان إن فرج فودة قُتل، لأنى أرى أنه ليس كل واحد كافر نقتله، لأن الله كان يقدر ينسف الشيطان تمامًا، وهذا ما أقوله للمتحمسين ضد ما تكتبه أحيانًا، فالقرآن قال للنبى محمد: «ولا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر»، وهناك فرصة باستمرار للإنسان الضال المعادى للإسلام إنه فى يوم من الأيام يؤمن، وأنا كنت أرى أن فرج فودة - خصوصًا أنه كان برج الأسد - كان يمكن أن يرجع عن غيه، لأنه كان فى غى شديد للأسف، وإنه يتوب، يعنى اللى خلى الأخت سحر حمدى تتوب عن طريق الضلال تمامًا، وتبقى معتزة بالطرحة اللى كانت على وسطها تبقى على رأسها، لماذا لا يجعل أى أحد يرجع إلى الإسلام؟ 

كان لا بد أن أتدخل لأقول لها: إن فرج فودة لم يكن كافرًا. 

قالت: أنا معك.. كان يجب ألا يقتل، لأن مفيش حكم صدر، لا من جماعة مسلمين ولا من جماعة رأى عام ولا من سلطة شرعية بحكم قتل فودة، لكنى ضد اعتزازك بأنه كان أول من نادى بتجفيف الينابيع، لأنه فى إطار هذه الكلمة حدث ظلم كبير، فقد تم اعتقال آلاف الشباب لم يفعلوا شيئًا، وتم إلقاؤهم فى السجون مدة طويلة بلا ذنب.

حملت صافى ناز فرج فودة مسئولية ما حدث. 

سألتها: وهل معنى أن يطلق مفكر دعوة فتستخدمها السلطة استخدامًا مغلوطًا أن يقتل هذا المفكر؟ 

قالت: إلى حد ما يتحمل المفكر جزءًا من المسئولية، فعلى المفكر قبل أن يطلق فكرة أن يتأمل المكان الذى يطلقها فيه، فالذين فكروا فى القنبلة النووية ندموا لأنهم أوصلوا البشرية إلى هذا الدمار، فهم أطلقوا الفكرة بحسن نية، لكنهم كان يجب أن يعرفوا أن الشر أقوى من الخير، ففرج فودة عندما كان يقول تجفيف الينابيع كان يعلم أنه يتحدث فى دولة يد بوليسها طارشة، فأيام عبدالناصر كل شىء كان كويس لمصلحة الثورة، وأيام أنور السادات تحفظ على عدد كبير من المثقفين عشان ميدوشوش دماغه. 

كان لا بد أن أصل إلى نقطة اتفاق معها. 

فقلت لها مرة ثانية: عندما يطرح كاتب فكرة ويثبت بعد ذلك أنها كانت مدمرة، يهدر دمه؟ 

فقالت للمرة الثانية: لم يكن من المفروض أن يقتل فرج فودة، لأن من قتله ضيع منه فرصة أن يتوب، هو كان مخطئًا وكتاباته كانت غلط فى غلط، ورغم أنه كان مشاغبًا وكانت له علاقات واضحة جدًا مع إسرائيل، وكان له دخل مبالغ فيه، ولما مات اكتشفنا أنه كان يحصل على هذا الدخل بدراعه، لكن ذلك كله لم يكن مبررًا لقتله، بل كان من المفروض أن يُترك حتى يتوب. 

وقتها نشرت كلام صافى دون أن أنتبه لخطورته، تعاملت معها ومعه على أنه ضمن حوار نحتفى فيه بوصولها إلى الخامسة والستين - هى الآن أطال الله فى عمرها فى الـ٨٨ - ثم إنها قالت أكثر من مرة إنها لم تكن مع قتل فرج فودة. 

بعد كل هذه السنوات على اللقاء والحوار، وبعد ما قرأته عما قالته فى مدح ومباركة قَتَلة السادات، عدت إلى الحوار مرة أخرى، فوجدت أنها قالت فيه ما هو أخطر. 

دع عنك تبنيها لما كانت تقوله الجماعات المتطرفة عن فرج، وعن علاقاته بالإسرائيليين وعن مستوى دخله الذى كان يحققه بالدراع، فكل هذا من قبيل الشائعات، وكلنا فى النهاية يمكن أن نقع فريسة تحت أنياب الشائعات. 

لكن الأخطر أن صافى ناز رأت فرج فودة كافرًا، وكونها كانت ترفض قتله، فذلك لأنه لم يصدر حكم بردته. 

المفزع أن صافى وهى تتحدث عن الحكم الذى تقصده، قالت إنه لم يصدر لا من جماعة مسلمين، ولا من جماعة رأى عام، ولا من سلطة شرعية. 

والمعنى أنها باركت اغتيال السادات لأنه صدرت فتوى بقتله، وكان يمكنها أن تبارك اغتيال فرج فودة لو كانت هناك فتوى من جماعة مسلمين أو حتى من رأى عام. 

فما الذى نفهمه من ذلك؟ 

وما الذى يمكن أن نصف به السيدة صافى ناز كاظم بعدما قالته عن قتلة السادات، وما وصفت به فرج فودة من أنه كان فى غى شديد، وأنه كان يمكن أن يتوب، وأنها رفضت قتله فقط لأنه لم يصدر به حكم من جماعة مسلمين؟ 

أعتقد أن الأمر متروك لكم. 

ومتروك كذلك لكل من يرى أن هناك حالة من التضليل فيما يخص القَتَلة والإرهابيين والمتطرفين. 

وهى الحالة التى جعلتنا حتى الآن لا نتخلص لا من الإرهاب ولا من تبعاته، ولا من الذين يباركونه ويفرحون بسفك الدماء وإزهاق الأرواح على أيدى من يتعاملون معهم على أنهم مجاهدو الإسلام.