الإثنين 02 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محاكمة آخر العُمر.. كيف خدعنا عادل إمام؟

الزعيم عادل إمام
الزعيم عادل إمام

- زعامة عادل إمام لم تكن فنية فقط بل سياسية أيضًا وهو ما جعله هدفًا للاغتيال بسبب مسرحيته الزعيم

- قبل أن يحصد عادل إمام لقب «الزعيم» لم يكن يحب الألقاب ولا يميل إليها بل كان يرفض أن يرتبط أى منها باسمه

- اندهش من قيام عدد من المحامين برفع قضية ضد فيلم «الأفوكاتو» لأن كل مهنة فيها الخير والشر

- استخدم «مرتضى» كل أسلحته ضد «عادل» واتهمه بأنه لم يكن بطلًا عندما سافر إلى أسيوط لمواجهة الإرهاب

لا أعرف على وجه التحديد متى تولدت هذه اللحظة، لكنها كانت.. واستمرت. 

كنت أجلس أمام التليفزيون الذى كان بالنسبة لى ملجأ وملاذًا، منتبهًا أمام مسرحية «السكرتير الفنى»، تذيعها «القناة الأولى» فى سهرتها يوم الخميس، يخطفنى ممثل نحيف، يكاد يسقط على وجهه من أثر الجوع والإعياء، يصرخ فيمن حوله «بلد بتاعت شهادات صحيح». 

توقفت- رغم ضحكى المتواصل على شكل الممثل وتعبيراته- عند الحزن الذى يسكن عمق عينى بطلى الذى أمسكت به، رغم أنه أشاع البهجة فى قلبى وروحى، عبرت على ذلك سريعًا، دون أن أحاول- مجرد محاولة- أن أفهم ما الذى يجمع بين الضحك الهيستيرى والحزن المتوحش فى قلب رجل واحد؟ 

وحتى لو حاولت.. فكيف لى أن أفهم أنا الذى لم أكن قد أدركت بعد للحزن معنى؟

فى إجازة تالتة إعدادى- صيف العام ١٩٨٨- دخلت السينما لأول مرة فى حياتى.

كانت السينما من دور العرض التى تنتمى للدرجة الثالثة اسمها «عدن» تطل على نيل المنصورة، وتعرض الأفلام التى سبق لدور العرض بالقاهرة عرضها، فلم تكن تنفرد بالعرض الأول معها إلا قليلًا. 

شاهدت فيلم «اللعب مع الكبار» فى سينما «اللبان» بدمياط انفعلت به ومعه

يتحرك عادل إمام بخفة على الشاشة الكبيرة مدفوعًا بطاقة هائلة لا أعرف لها مصدرًا، لكننى خرجت من دار العرض وأنا أكثر إعجابًا بهذا العبقرى الذى يؤدى دور حسن سبانخ فى «الأفوكاتو». 

لا أعرف لماذا استقر فى يقينى يومها أن عادل إمام لا يقدم دورًا لمحام فى فيلم، بقدر ما يقدم نفسه، فهو هذا الفهلوى الحلنجى الذى يلعب بالبيضة والحجر، الذى لا يتعب من اللعب مع الحياة وبها، بل يخرج من لعبة ليدخل لعبة أخرى.. المهم عنده أن يستمتع بما يفعله لا بما يحققه منه.

ولا أعرف لماذا استقر فى يقينى أيضًا أن حسن سبانخ هو النموذج الذى يمكنه أن يواجه الحياة المعقدة اللا مبالية التى تطحن الناس دون مبرر، فأسلوب حياته يتناسب معها، فهى تسخر وهو يسخر، وهى تتلاعب وهو يتلاعب.. وهى غير منطقية وهو غير منطقى كذلك. 

«الأفوكاتو» الذى كتبه وأخرجه رأفت الميهى، أحد أكابر السينما المصرية فى العام ١٩٨٤، لم يكن مجرد فيلم، بل كان نصًا مؤسسًا لقواعد كثيرة فى الحياة، أهمها وكما جاء فى الحوار الذى دار بين حسن سبانخ والشاويش عبدالجبار: 

سبانخ: الحقيقة أن الحياة مقرفة جدًا يا عبدالجبار.. ولو رفضتها عشان مقرفة هتبقى مقرفة أكتر. 

عبدالجبار: طب والحل؟ 

سبانخ: الحل بسيط.. إنك تعامل الحياة بقوانينها عشان تتمتع بجمالها يا عبدالجبار. 

عبدالجبار: مش فاهم. 

سبانخ: المجتمعات المتخلفة يا عبدالجبار متعرفش حاجة اسمها العلم، وأى محاولة لتغيير حركتها بقوانين علمية تعتبر محاولة غير علمية فى حد ذاتها. 

عبدالجبار: عليا النعمة أنا حمار ولا فاهم حاجة. 

سبانخ: عشان كدا أنا باكلمك.. عشان إنت حمار.. كلكلوا حمير هنا محدش فاهمنى. 

كان المهم بالنسبة لى لا يخص عادل إمام. 

كان يخصنى أنا. 

فقد شعرت بعد اللقاء به وهو يتحرك بخفة على خريطة « الأفوكاتو» بأنه يمثلنى أنا، فهو بطلى القادر على التعامل مع الحياة بمنطقها، فلا تهزمه ولا يهزمها، كل ما يريده أن يخرج من بين أنيابها سالمًا.. يومها قررت أن يكون هذا هو حالى. 

وبدأت أتتبع بطلى أينما حل وحينما رحل. 

توقفت عند لقاء تليفزيونى عابر لعادل إمام، وهو المقل فى ظهوره وأحاديثه الصحفية والتليفزيونية والإذاعية. 

كان عادل على سفر، أخذ فريقه ليعرض إحدى مسرحياته «شاهد ما شفش حاجة» فى الولايات المتحدة الأمريكية، قطع طريقه وهو داخل إلى المطار رسام الكاريكاتير رمسيس، الذى كان يقدم برنامجًا تليفزيونيًا شهيرًا هو «يا رمسيس يا»، وقبل أن يسأله فاجأه عادل بخفة دمه: إنت إيه اللى مصحيك بدرى كده يا رمسيس؟ 

لم يتحدث عادل كثيرًا عن حياته فى هذا اللقاء الذى كان سريعًا، لكنه لأول مرة يخرج من إطاره التمثيلى إلى حديث مباشر لجمهوره، ووجدته ظريفًا سريع البديهة مقتحمًا، خفيفًا يتحرك كريشة فى الهواء الطلق، لا يبالى بشىء ولا يلتفت إلى شىء. 

لكننى يومها وضعت يدى على سر من أسرار عادل إمام. 

كان رمسيس يسأله عن علاقته بعبدالحليم حافظ، الذى تعاون معه فنيًا فى مسلسله الإذاعى «أرجوك لا تفهمنى بسرعة»، وربطت بينهما علاقة إنسانية نادرة. 

كان عادل فى إجابته خاطفًا ومقتحمًا وفاتحًا بابًا جديدًا لفهمه وفتح مغاليق شخصيته فى آن واحد. 

قال: أنا وعبدالحليم متشابهان فى أشياء كثيرة.. هو يغنى من منطلق الحزن.. وأنا أضحك الناس من منطلق الحزن. 

كان عبدالحليم حافظ هو من سعى إلى صداقة عادل إمام، كان عادل يراه فى أماكن كثيرة فيتجاهله، أعتقد أنه بذلك يؤكد نجوميته، لكن عبدالحليم اقتحمه. 

ذهب إليه وسأله: إنت زعلان منى فى حاجة؟ 

فقال له عادل: ومين يقدر يزعل منك. 

وأخذه بالحضن. 

ظل عبدالحليم قريبًا من عادل إمام، وظل يتابعه، وكان يتسلل إلى مسرحية «شاهد ما شفش حاجة» ليشاهد مشهد المحاكمة، ثم ينصرف، وعندما قدم مسلسله الإذاعى الوحيد «أرجوك لا تفهمنى بسرعة» أصر على أن يشاركه عادل بطولته. 

صادر عادل إمام عبدالحليم حافظ لحسابه، لا يستمع لغيره ولا يعترف بسواه، وفشل أولاده أن يجعلوه يستمع لأحد من مطربى الأجيال الجديدة، فقد كانت السنوات الخمس الأخيرة فى حياة حليم التى اقترب فيها عادل منه كفيلة بأن تجعله لا يرى غيره.

الحزن إذن هو مفتاح شخصية بطلى الأساسية.

لكن أى حزن يعنيه وهو الذى أصبح يزاحم النجوم؟ 

بحثت فى حياة عادل لأعرف أنه ابن الفقر والمعاناة والقهر، لولا عناده ما أصبح شيئًا، كان يمكن أن تصهره الحياة فى أفرانها فيذوب، لكنه قاوم، وفى رحلة صعوده تركت التجربة على جسده آثار عنفها وسطوتها ورغبتها فى كسر رقبة البشر. 

ربما تفسر تجربة عادل إمام الحياتية القاسية أنانيته المفرطة. 

فهو نجم لا يعمل إلا من أجل نفسه، ذاته هى غايته العليا، أما الكلام عن القيمة أو الوطن أو الدين أو الناس، فكلها أدوات يستخدمها من أجل أن يبنى مجده وحده. 

قرأت له حوارًا صحفيًا يقول فيه بقناعة تامة: أنا صوت الناس ولست صوت الحكومة. 

رد عليه أحد ناقديه وقال له: بل أنت صوت الحكومة ولست صوت الناس. 

والحقيقة أن عادل إمام لم يكن لا صوت الناس ولا صوت الحكومة.. بل كان صوت نفسه فقط.

تحول عادل إمام لدىّ إلى حالة أتعقب فيها أفلامه التى يذيعها التليفزيون، فكانت المتابعة عشوائية، فأنا لا أشاهد إلا ما تيسر لى. 

لكنى توقفت معه عند محطات عديدة. 

المحطة الأولى كانت فى العام ١٩٩١ عندما شاهدت فيلمه «اللعب مع الكبار». 

شاهدته فى سينما «اللبان» بدمياط، انفعلت به ومعه، تعقبت مغامرته فى كشف فساد الكبار، ابتسمت لمداعباته وبكيت لمعاناته، وتمنيت أن ينتصر، وخاب أملى عندما مات صديقه، وتجدد لدىّ الأمل وهو يصرخ فى نهاية الفيلم: هحلم.. هحلم. 

كان حسن بهنسى بهلول بطل «اللعب مع الكبار» يجسد حالة إنسانية وجدتها فى كثيرين ممن يتحركون على خريطتى، هؤلاء العاجزون الذين لا يملكون إلا الحلم دون أدنى أمل فى تحقيقه، وها هو بطلهم يقول لهم إن الحلم يمكن أن يتحقق.. لكنه لا يمنحهم فرصة امتلاك الأمل الكامل، فالحلم لن يكتمل أبدًا. 

وقفت مع عادل إمام وهو يقابل صديقه «على» أمام الأهرامات فى مشهد يجسد آمال وإحباطات مواطنين يجمعهم الحلم ولا يفرقهم البؤس. 

حسن: أنا الحارس الأمين بين يدى مولاه.. ساهرًا عليه.. قريبًا منه.. فانيًا فى ذاته.. حتى لقد أضفى على وجهى سماته وقسماته.. أنا صاحب فرعون.. بل إنى أنا فرعون.. عبدنى الناس منذ فجر الدهور.. واختلفت أسمائى باختلاف العصور. 

على: مالك يا حسن؟ 

حسن: أنا حسن بهنسى بهلول.. أنا المسكين فى هذا الزمان.. أنا المحاط بالأوهام.. أنا الذى إذا جاع نام.. أنا المخدوع بالكلام.. أنا اتسرقت يا على.. اتسرقت يا على. 

على: اتسرقنا بكل الأشكال يا حسن.

حسن: كويس إن أبوالهول والأهرامات لسه متسرقوش. 

على: عشان هم حجارة يا حسن. 

حسن: هو يعنى لازم كل حاجة فى بلدنا تبقى حجارة عشان ما تتسرقش يا على.. ده حتى الحب والروح الحلوة اتسرقوا يا على.. وأخرتها يا على؟.. أخرتها إيه يا على؟ 

وفى صيف العام ١٩٩٣ شاهدت فيلمه «المنسى»، وتماهيت مع هذا المواطن المطحون المحروم من أبسط حقوقه، لكنه لا يرضى بالظلم، حتى لو دخل معركة ليس مستعدًا لها. 

كان الفيلم كله فى كوم.. والحوار الذى وضعه وحيد حامد على لسان بطلى فيلمه عادل إمام ويسرا فى كوم آخر. 

يوسف: إنما هو الحفلة شطبت بدرى ولا إيه؟ 

غادة: لأ الحفلة شغالة بس أنا اللى زهقت ومشيت. 

يوسف: زهقتى؟ حلو قوى ده.. حلو قوى الواحد لما يزهق يقدر يمشى على طول.. أنا برضه زى حضرتك كده، ساعات كتير أزهق.. بس مقدرش أمشى.. لو مشيت القطورات تخش فى بعض.. أنا لو زهقت أتسجن.. عارفة.. فيه ناس كتير تزهق بس متقدرش تمشى.. تموت وهى زهقانة.. أنا واحد منهم.

كان يمكننى أن أفرح ببطلى، فهو قاهر الكبار، لا يملك شيئًا، لكنه يستطيع أن يهزهم، يمرغ أنوفهم فى التراب، يكشف فسادهم وزيفهم، يجعلنا نضحك عليهم ونسخر منهم، ونضعهم فى أحجامهم، فهم ليسوا كبارًا، كل ما فى الموضوع أننا نحن من نعتقد أنهم كذلك. 

لكن بعد سنين طويلة اكتشفت أن عادل كان يخدعنى ويخدع الناس. 

عندما كان حسن بهنسى بهلول لم ينتصر على الكبار الذين كشفهم، استطاعوا أن يصلوا إلى صديقه على، قتلوه بدم بارد، ولم يمنح نفسه أو يمنحنا فرصة الانتقام منهم، جعلنا نصرخ معه: هنحلم، دون أن يدلنا على أى طريق يمكننا من تحقيق هذا الحلم. 

وعندما كان يوسف المنسى لم يستطع أن ينتصر على خصمه اللدود رجل الأعمال الذى كان يتاجر بأى وكل شىء، كل ما استطاعه هو الهروب منه عندما احتمى بالناس، نظر إليه ساخرًا، لكن فى النهاية أخذ رجل الأعمال أنصاره البلطجية ومضى ليستأنف حياته، فلم يغير يوسف المنسى شيئًا، ولم يحرز هدفًا. 

صفقنا له، فها هو يعلن عن أن الناس هم الحماية، ينجو من يعتصم بهم، لكنه لم يدل هؤلاء الناس البسطاء على طريق يستطيعون من خلاله أن يحصلوا على حقوقهم، أو يخلصوا ما لهم عند من يسرقونهم ويستنزفون حياتهم وصحتهم وأموالهم. 

نزل الستار على الجميع دون أن يتحقق لأحد شىء.. أى شىء.

وفى نفس العام ١٩٩٣ كنت واحدًا من ثلاثة أصدقاء، يقفون بين الشارع الذى يفصل بين دارى عرض «النصر» و«أوبرا» فى المنصورة. 

سينما «أوبرا» تعرض فيلم «مستر كاراتيه» بطولة النجم أحمد زكى، الذى تم إنتاجه فى نفس العام، وسينما «النصر» تعرض فيلم «سلام يا صاحبى» بطولة عادل إمام وسعيد صالح، الذى تم إنتاجه فى العام ١٩٨٦. 

كان من الطبيعى أن يكون الإقبال على فيلم أحمد زكى أكبر وأضخم، على الأقل لأنه فيلم جديد، ولأن بطله هو أحمد زكى الذى كان قد أصبح واحدًا من نجوم الشباك الكبار. 

لكن المفاجأة أن الإقبال على فيلم عادل إمام كان الأكبر والأضخم، ويومها تأكدت أن عادل هو الأكثر شعبية وتأثيرًا فى الناس اللى تحت، فقد كان معظم جمهور سينمات المنصورة من الصنايعية والشغيلة وطلاب المدارس الثانوية الفنية، والقليل ممن نما وعيهم ونضج تفكيرهم. 

لم يستغرق الخلاف بين الأصدقاء الثلاثة سوى دقائق قليلة، تم حسم الاختيار لصالح عادل إمام، ووجدت نفسى أمام فيلم يقدم فيه بطله المفضل حقيقته من جديد، لم يكن هذه المرة الفهلوى الحلنجى فقط، لكنه كان قد أمسك بتيمته المفضلة، المواطن الفقير المطحون الذى جارت عليه الدنيا، لكنه يقهر ظروفه ويصل إلى قمة الثراء والنفوذ، لا يقف فى طريقه أحد أو شىء. 

غزا عادل إمام بصيغته الفنية التى تجسدت بقوة فى «سلام يا صاحبى» الأجيال المتعاقبة، ليس مهمًا أن تكون رحلة الصعود قانونية أو أخلاقية، لكنها فى النهاية رحلة صعود، وزاد من تأثيرها أن البطل لا يعاقب، بل يخرج منتصرًا، ولم يكن هذا لأن البطل يستحق، ولكن لأن من كان يؤدى الدور هو عادل إمام الذى قرر ألا يعاقب أو يموت فى أفلامه. 

تأكد لى أن عادل إمام سعى طوال حياته إلى تجسيد دور البطل الذى لا يقهر. 

فى العام ١٩٨٩ عرضت دور السينما فيلم «المولد» الذى كتبه محمد جلال عبدالقوى وأخرجه سمير سيف. 

شاهدت الفيلم بعد سنوات، ولأننى كنت أعرف منهج محمد جلال عبدالقوى فى منظومته الدرامية، ففى كل أعماله لم يكن هو الكاتب الذى يتواطأ مع أبطاله، يمكنه أن يحرك بطله على خريطة الانحراف المجتمعى وتجاوز القانون، لكنه لا يفلته من بين يديه، فلا بد أن يجعله فى النهاية يتلقى العقاب المناسب لما اقترفه من آثام. 

عندما قرر جلال عبدالقوى الكتابة للسينما اختار أن يكون بطله هو النجم الأول فى مصر. 

كتب قصة «المولد». 

الشاب إبراهيم «هيما العظيمة» الفقير المعدم الذى تطارده الحياة كما يطاردها، يبحث عن فرصة حتى يكون ثريًا، وبالفعل تأتيه الفرصة من باب الجريمة الكاملة، لم يترك شيئًا إلا واقترفه، بدأ بالتهريب، ثم قتل أعضاء العصابة الذين يعمل معهم بعد أن سرق أموالهم، قتل وسرق وبنى عمارات سقطت قبل أن يدخلها أصحابها. 

فى حوارى التليفزيونى معه، قال لى محمد جلال عبدالقوى: أنا تبت عن السينما على إيدين عادل إمام. 

رفض عادل النهاية التى كتبها عبدالقوى. 

قرر جلال عبدالقوى أن يعاقب بطله الذى تسبب فى قتل والده، وقتل خصومه، وسرق أموالهم، وطرق باب كل الجرائم بلا ضمير، لكن النجم الذى لا يقهر اعترض وتمرد، ولأسباب إنتاجية خضع جلال عبدالقوى، وغير النهاية التى لا تتوافق مطلقًا مع قناعاته. 

كان لعادل إمام منطقه الخاص. 

قال لعبدالقوى: الناس لازم تصفق لى فى نهاية الفيلم، الولاد لازم يدخلوا السينما ٣ مرات على الأقل حتى يربح المنتج. 

نفذ جلال عبدالقوى لعادل ما أراد، وقرر ألا يطرق باب السينما من جديد، فلم يكن هو الكاتب الذى يسهم فى ترسيخ قيمة شيطانية تقوم على أكتاف بطل مجرم يتحول صعوده المتجاوز للقانون إلى أيقونة يسعى خلفها الشباب.

هل أقول إن بطلى خدعنى للمرة الثانية؟ 

لقد فعل ذلك بالفعل؟ 

ضرب عادل المجتمع البائس الذى نعيش فيه فى مقتل، عندما أصر على تقديم البطل المجرد من أى وكل شىء، هلفوت غير متعلم، بلطجى، لكنه يصعد على أكتاف كل القيم التى يجب أن يتعلمها مجتمع يسعى إلى النهوض، أصبح بذلك مثلًا، فأنت تريد أن تصعد، فليس مهمًا أن تتعلم، وليس مهمًا أن تعمل، ليس مهمًا أن تتقن شيئًا، وليس مهمًا أن تكون لديك أخلاق، يكفى فقط أن تكون لديك قوة بدنية وأفكار شيطانية ليتحقق لك كل شىء، ألا يفعل عادل إمام ذلك على الشاشة؟ فما الذى يمنعنا أن نفعل نحن ذلك فى الواقع؟ 

يمكن أن تتهمنى بالمبالغة، فعادل ليس المسئول وحده عن أفلامه، هناك كاتب ومخرج ومنتج، وهناك جمهور يصفق، وكل هؤلاء يجب أن يحملوا معه وزر أعماله، لكن الحقيقة ومع عادل إمام تحديدًا، فإننا أمام حالة متفردة لبطل يستطيع أن يفعل ما يريده، وكان كل ما قدمه تعبيرًا عن قناعاته، ولذلك لا بد أن يحاكم عليها وحده. 

 زواج ابنة عادل إمام من ابن قيادى إخوانى لحظة فارقة فى تفاعل المعجب به معه اتهمته بأنه سلم ابنته لطيور الظلام

بعد سنوات دخلت فى معارك صحفية وضعت خلالها عادل إمام وما يقدمه على مائدة النقد العنيف، وهو النقد الذى طال ما يقدمه من محتوى فنى، وما يأتيه فى حياته من سلوك سياسى وفنى وشخصى. 

كان زواج ابنة عادل إمام من ابن قيادى إخوانى لحظة فارقة فى تفاعل المعجب به معه، اتهمته بأنه سلم ابنته لطيور الظلام، وهو الذى ظل طوال عمره يواجههم ويقف فى طريقهم، غضب واعتبر ما كتبت تجاوزًا، وعندما أصبحت أبًا قدرت ما فعله، فما كان له أن يقف فى وجه سعادة ابنته، حتى لو كانت هذه السعادة لا تريحه ولا ترضيه. 

لقد حاولت أن ألتمس العذر لبطلى فيما فعله، لكننى بينى وبين نفسى تداركت الأمر، فهو ليس صادقًا فيما يقول، بل تبين لى أنك يمكن أن تستمع لعادل على الشاشة، تنصت لما يردده من أفكار، تنشغل بتحولاته وتتماهى مع شطحاته، لكن لا يمكنك أن تفعل ذلك فى الواقع، فهو عندما يتحدث يبدو بسيطًا إلى حد السذاجة، يحكى عن حياته كشخص عادى لا أثر لتجربة، ولا وعى بما يحيط بنا من أزمات ومخاطر. 

لقد كان بطلنا الأسطورى مستخدمًا طول الوقت من السلطة

أدخل نفسه مرات عديدة فى جدل هائل، مرة بسبب إسرائيل ومرة بسبب تأييده الفج لنظام مبارك، وفى كل مرة كنا نغفر له ما يذهب إليه، ولم نكن نفعل ذلك إلا لأنه بطلنا، الذى قررنا أن نسامحه مهما فعل، رغم أنه كان بما يقوله يخدعنا ويخذلنا، لكننا تنازلنا عن حقنا فيه، لمجرد أننا قررنا أن يكون هو تحديدًا بطلنا الأسطورى. 

فى العام ٢٠٠٢ رشحت نقابة المهن التمثيلية عادل إمام لنيل جائزة مبارك للفنون، وهى أعلى جائزة وقتها، وكان مرشحًا أمامه الدكتور ثروت عكاشة صاحب الأيادى البيضاء على الثقافة المصرية. 

خرجت علينا «أخبار اليوم» بحملة صحفية طحنت فيها عظام عادل إمام مدعية أن ترشيح عادل أمام ثروت عكاشة فيه تجاوز وإهانة كبيرة للمثقف الكبير. 

حملة «أخبار اليوم» امتدت إلى الصحف الأخرى، فكتب المحرر الثقافى المرموق فتحى عامر فى جريدة «العربى» ما أعتقد أنه سبب لترشيح عادل إمام أمام ثروت عكاشة. 

قال: لا أحد يعرف من الذى دفع نقابة المهن التمثيلية لترشيح الفنان عادل إمام فى مواجهة الدكتور ثروت عكاشة الذى رشحته جامعة حلوان، لكن الخبثاء- وأنا منهم- يشعرون بأن هناك نية لإحراج الدكتور ثروت عكاشة، والمعروف أن فاروق حسنى هاجمه قبل ٤ سنوات وقلل من دوره المرموق فى تأسيس وزارة الثقافة وفى ازدهار العمل الثقافى فى الستينيات، ما دفع الدكتور عكاشة لتقديم استقالته من عضوية المجلس الأعلى للثقافة. 

كتبت وقتها مدافعًا عن عادل إمام. 

قلت: «إنهم يحتقرون عادل إمام». 

وذهبت إلى أن المعركة كلها تتم لحسابات شخصية، وكان فى خلفية الصورة خلافه مع إبراهيم سعدة، رئيس مجلس إدارة مؤسسة «أخبار اليوم»، الذى رفض عادل أن يقدم قصته «القنبلة» فى فيلم سينمائى، فتحولت صحف الدار كلها للهجوم على عادل بسبب، وغالبًا بدون سبب. 

ومرة أخرى أعود لرؤية عادل إمام من زاوية مختلفة. 

لقد خدعنا عادل إمام طول الوقت.. لكننا بقينا على حبه.. لأننا فى الحقيقة لا نملك إلا أن نفعل ذلك

لقد كان بطلنا الأسطورى مستخدمًا طول الوقت من السلطة، وليس بعيدًا أن يكون فاروق حسنى استخدمه فى معركته ضد ثروت عكاشة بالفعل، كما استخدمته مؤسسات دولة مبارك أكثر من مرة فى تحسين صورتها، ولم يكن يمانع فى ذلك، بل كان يستمتع به، لأنه كان يحصل من ورائه على كل ما يريد. 

لقد خدعنا عادل إمام طول الوقت.. لكننا بقينا على حبه.. لأننا فى الحقيقة لا نملك إلا أن نفعل ذلك. 

وهو ما يجعلنا نحتفى به رغم شعورنا بالهزيمة أمامه. 

ولا نجد أمامنا إلا أن نحتفل بمولده المتجدد رغم كل هذا الخذلان. 

ضد الإرهاب.. زعيم الكوميديا يواجه طيور الظلام على مسرح «كودية الإسلام»

القاهرة صيف العام ١٩٨٨. 

يشارك عادل إمام فى حملة معارضة ضخمة للقانون «١٠٣»، الذى كان يستهدف ديمقراطية العمل النقابى، بعد أن استطاع الكاتب الكبير سعد الدين وهبة تمرير مشروع قانون يضمن له الترشح لدورة ثالثة كنقيب، وكان وقتها رئيسًا للنقابات الفنية الثلاث. 

 عادل قرر أن يذهب بفرقته إلى محافظة أسيوط لعرض مسرحيته مجانًا لمدة يومين للجماهير هناك

بعد يوم من أيام النضال النقابى، وبينما عادل إمام يجلس فى غرفته بمسرحه الذى يعرض عليه مسرحيته «الواد سيد الشغال»، أتته التغطيات السريعة التى أعدتها الصحف لحادث قرية «كودية الاسلام» بأسيوط. 

توقف عادل قليلًا عند مقال كتبه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين فى زاويته «يوميات» بالصفحة الأخيرة من جريدة الأهرام، ليعرف منه أن مجموعة من الهواة كونوا فرقة مسرحية أطلقوا عليها اسم «شباب»، وبدأوا فى الدعوة لعرض مسرحى لأهالى القرية، لكن ما فعلوه لم يعجب أعضاء الجماعات الإسلامية الذين قاموا بتهديدهم، وهدم المسرح عليهم إذا ما ساروا فى طريقهم إلى عرض ما اعتبروه حرامًا. 

كان أحمد بهاء الدين غاضبًا فى مقاله رغم الهدوء الشديد الذى عرف به. 

طالب صراحة بحماية هؤلاء الفنانين الشباب حتى لو اقتضى الأمر نزول الدبابات لتمنع المتطرفين من الوصول إليهم فى مسرحهم. 

وجد عادل إمام نفسه فى لحظة فارقة. 

يقول: «شعرت بحالة من الخوف على مصر والغضب من أجل صورتها ومستقبلها، وظلت الغصة بداخلى عدة أيام، وأنا لا أعرف ماذا يمكن أن أفعل، لكننى تذكرت بداياتى الأولى فى المسرح، وقلت لنفسى هؤلاء الشباب على مسافة بعيدة جدًا عن العاصمة وأضوائها، ونحن هنا نتعارك على القانون (١٠٣)، بينما هم يتحملون القتل والضرب بالجنازير دفاعًا عن الفن، وكان لا بد أن أفعل شيئًا، فقررت أن أذهب إلى أسيوط، وأواجه هذا الموقف مباشرة». 

سأل عادل نفسه السؤال الذى أرقه وأقلقه: هل يكتفى بأن يواصل عرض مسرحيته «الواد سيد الشغال» التى كانت عروضها كاملة العدد كل ليلة، وكان يأتيها جمهوره من كل الدول العربية؟ 

وهو تأكيد أن الفن ليس حرامًا. 

فأى حرام هذا الذى يقبل عليه كل هذا الجمهور؟

أم أن عليه أن يقوم بشىء غير تقليدى يؤكد من خلاله أنه لا يعمل لنفسه بقدر ما يعمل من أجل الفن وتأكيد رسالته فى المجتمع؟ 

حاول أن يجيب عن أسئلته ببساطة ودون فلسفة. 

قال: «اعتبرت ما سأفعله دفاعًا عن نفسى وأسرتى ووطنى قبل الدفاع عن الفنانين الهواة، لقد ذهبت لأدافع عن نفسى، وعن الفن الذى أحبه، وتذكرت تاريخى وتاريخنا كله، وذهبت لأدافع عن صورتى أمام أولادى؛ لكى يعرفوا جيدًا أن مهنتى ليست حرامًا فى حرام، ولكى يدركوا أننى أكسب أموالى من عمل شريف ومحترم وليس من حرام». 

قرر عادل أن يذهب بفرقته إلى أسيوط لعرض مسرحيته مجانًا لمدة يومين للجماهير، أن يقف على نفس المسرح الذى كان يعرض عليه هواة أسيوط مسرحيتهم، أن يقول لأعضاء الجماعات المتطرفة إن الفن يستطيع أن يواجه ويقاوم ويقف فى وجه خصومه على أرضهم. 

لكن كيف تحولت الفكرة النظرية إلى واقع وإجراءات؟ 

تحدث عادل إلى الكاتبة الصحفية عائشة صالح، عبر حوار أجرته معه لمجلة المصور، وفيه أفصح عن رغبته فى السفر إلى أسيوط وعرض مسرحيته هناك، ليدعم هواة المسرح الذين حاصرهم الإرهابيون. 

التقط كلام عادل الكاتب الكبير مكرم محمد أحمد، الذى كان وقتها رئيس مجلس إدارة دار الهلال، ورئيس تحرير مجلة المصور ونقيب الصحفيين. 

تواصل مع عادل تليفونيًا. 

سأله: هل تفضل أن تدعوك جهة معينة؟ 

وأجاب عادل: جامعة أسيوط حتى تكون للزيارة واجهة ثقافية. 

تواصل مكرم مع رئيس الجامعة، فتردد وتهرب، فتحدث مع المحافظ الذى وافق على الفور. 

عاد مكرم لعادل مرة ثانية ليخبره بدعوة المحافظة. 

فرد عليه: ليس مهما مَن صاحب الدعوة.. أنا قررت أن أذهب وسأوافق على السفر حتى لو كانت الدعوة من بائع خضار. 

لقى قرار عادل إمام ترحيبًا هائلًا من الكتاب والمثقفين والجمهور الذى ينحاز إلى الفن فى مواجهة الأفكار التكفيرية والجماعات التخريبية، لكنه كان بالنسبة لأسرته وأعضاء فرقته وأصدقائه انتحاريًا، فهو فى لحظة يمكن أن يفقد حياته برصاصة يجهزها له أحد الذين قرر أن يتحداهم ويعريهم ويكشف زيفهم، لكنه قال لكل الخائفين عليه: «لا أحد يستطيع اغتيالى وأنا بين جمهورى.. جمهورى هو الذى سيحمينى». 

كان تقدير عادل إمام لمن ذهبوا معه من أعضاء فرقته كبيرًا، وكان تقديره لخوفهم أيضًا كبيرًا. 

سأل الفنان الكبير عمر الحريرى الذى كان يشاركه بطولة المسرحية: إنت خايف يا أستاذ عمر؟ 

فرد عليه بقوله: أنا مرعوب يا عادل.. ولكن سأسافر معك. 

فى القطار المتجه من أسيوط إلى القاهرة اصطحب عادل فرقته، بعد أن قامت وزارة الداخلية بتأمين الزيارة بشكل كبير، وخرج الأسايطة جميعًا لاستقبال النجم الذى ينتصر للفن، وقد وجد نفسه بمجرد نزوله من القطار أمام الآلاف الذين ظلوا يهتفون باسمه لما يقرب من الساعة، دون أن يستطيع أن يتحرك. 

قبل سفره إلى أسيوط كان عادل إمام قد تحول إلى أسطورة حية لكن بسفره المغامر إلى أسيوط اكتملت أسطورته

لم يقدم عادل فى رحلته إلى أسيوط عرضه المسرحى فقط، بل تحدث مع شعبها، وبشجاعة كبيرة أطلق صيحته: المسرح هو ضمير الأمة.. وبلد بلا مسرح هو بلد بلا ضمير.

قبل سفره إلى أسيوط كان عادل إمام قد تحول إلى أسطورة حية، لكن بسفره المغامر إلى أسيوط اكتملت أسطورته، وتحول إلى زعيم حقيقى، ليس بحكم إيرادات الأفلام، ولا بحكم شعبيته الطاغية، ولكن لأنه قرر أن يكون مدافعًا عن الفن فى مواجهة أكثر الأخطار التى تواجهه شراسة. 

قبل أن يشد عادل الرحال إلى أسيوط كان يتحدث إلى عمرو عبدالسميع فى حوار مطول. 

قال له: أنت لا تتخيل مدى الألم والمعاناة التى شعرت بها عندما علمت عن هجوم المتطرفين الدينيين على ممثلين فوق خشبة المسرح، أو موسيقيين فى ساحات الجامعة، لا تتخيل مدى الصدمة التى دهمتنى حين تخيلت إنسانًا يمثل على المسرح وجنزيرًا يهشم رأسه أو خنجرًا يطعنه فى ظهره.. هذا شىء ولا فى العصور الوسطى.

سأله عمرو: هذا الجمهور الذى تسعى لأن تعرض له فى «كودية الإسلام» سيكون بينه دون شك بعض المتطرفين، هل تعتقد أن واحدًا من هؤلاء المتطرفين يمكن أن يكون من جمهورك؟ 

رد عادل: أشك أن واحدًا يمسك بجنزير ليضرب الممثلين يمكن أن يكون من جمهورى، أشك أن الذى يقول إن الموسيقى كفر يمكن أن يكون من جمهورى، لو كان هذا هو جمهورى أكون رجلًا فاشلًا جدًا فى بلدى وفى فنى. 

فى كتابها «محطات» تنشر فريدة الشوباشى نص حوار أجرته مع عادل إمام، وفيه تحدث عن تجربة سفره إلى أسيوط. 

سألته فريدة: كانت قمة التحامك مع الجماهير وتفاعلك مع قضايا وطنك حينما قبلت تحدى التطرف وأنصاره وسافرت إلى أسيوط تعرض مسرحيتك هناك وسط تحذيرات الكثيرين بخطورة ما أقدمت عليه، فكيف تنظر الآن إلى هذه الخطوة الشجاعة؟ 

قال عادل: الحقيقة أننى أنا الذى تحديتهم، وكان طبيعيًا أن أفعل ذلك بعد أن قرأت فى صحيفة يومية أن هؤلاء المتطرفين منعوا فرقة للهواة تابعة لأحد قصور الثقافة فى أسيوط من تمثيل مسرحية تحرض المواطن على التمسك بأرضه وعدم الهجرة إلى الخارج، وأن أى جهد يبذل يجب أن يكون فى مصر ولصالح مصر، أعتقد أن هذه المعانى النبيلة التى حملتها المسرحية لا تستحق أن تمنع أو أن يشهر السلاح فى وجوه ممثليها. 

ويضيف عادل: الحقيقة أن هذا التصرف قد استفزنى كثيرًا فقررت أن أفعل شيئًا، أن أقف فى وجه هؤلاء الذين يحرمون الفن، كيف يحرمون الفن والإبداع صفة من صفات الله، وأن كل شىء فى الكون يؤكد فن الخالق العظيم؟. إننى على يقين بأن الدعوة إلى تحريم الفن هى فى الحقيقة دعوة إلى الكفر، ثم من قال إن هؤلاء يعبرون عن فكر أصولى؟، إن الأصولية هى اشتقاق من كلمة «أصل»، ولا خلاف على أن الإسلام الأصيل يحرض على كل ما هو جميل وحق، بعكس ما يفعله هؤلاء الذين يرفعون شعار الدين. 

ويوضح عادل ملامح الصورة أكثر: المهم أننى فى هذه الأثناء قرأت مقالًا للكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، يقول فيه إنه إذا كان من الضرورى أن تذهب الدبابات إلى أسيوط حتى يقدم هؤلاء الشباب الهواة مسرحيتهم فلتذهب إلى هناك، فقررت أن أسافر إلى أسيوط وأعرض مسرحيتى هناك، بل حرصت على أن يصعد هؤلاء الممثلون الهواة إلى خشبة المسرح لأحييهم ويحييهم الجمهور معى، ونجحت الرحلة ووصلت الرسالة كاملة إلى هؤلاء المتطرفين. 

عادت فريدة لتسأل: الذين كانوا معك فى أسيوط ما زالوا يذكرون الحشود الجماهيرية التى كانت فى استقبالك ووقوفك وسط كل هذه الحشود فى سيارة مكشوفة تحيى هذه الجماهير الغفيرة، فهل كنت تتوقع مثل هذا الاستقبال؟، وهل كان للتحذيرات والمخاوف من حدوث شىء ما أى أثر فى ترددك ولو للحظة فى الذهاب إلى أسيوط؟ 

وعاد عادل ليقول: لقد كنت على ثقة تامة فى الجماهير التى أحبتنى وأحببتها، لذا لم أتردد لحظة فى السفر إلى أسيوط والالتحام بالجماهير هناك، والخروج لتحيتهم وأنا متأكد أن لا أحد فى الدنيا يستطيع أن يطلق علىّ رصاصة واحدة وأنا فى حماية الجماهير. 

وفى حوار آخر أجراه معه عمرو عبدالسميع فى أكتوبر من العام ١٩٩٣، على هامش عرض مسرحيته الزعيم، سأل عمرو عادل: عندما تحديت الإرهاب وذهبت قبل سنوات إلى أسيوط لتقدم عرضك المسرحى، هل أتيح لك أن ترى بعضهم؟ 

قال: لم أجلس إليهم، ولكننى شعرت بوجودهم، وهم موجودون فى أماكن كثيرة غير أسيوط. 

سأله: ما انطباعك عنهم؟ 

قال: مخدرون كهؤلاء الذين يشمون الكوكايين. 

أنا الزعيـم.. كيف تربع عادل إمام على العرش؟ 

لم يكن لقب «الزعيم» الذى أطلق على عادل إمام ترجمة لفكرة كاتب أو ناقد من هؤلاء الذين يروق لهم أن يطلقوا الألقاب على الفنانين، وهى ألقاب فيها من المجاملة والنفاق ما فيها، ولكنه حصل عليه بذراعه، ككل شىء حصل عليه عادل فى حياته، ولذلك لم يستطع أحد أن ينزعه منه أو حتى ينافسه فيه. 

لم يكتسب عادل هذا اللقب لما يقدمه من فن، ولكن بسبب أنه جعل الفن وجماهيريته فى خدمة المجتمع والناس. 

كنت أجلس إلى مائدة عدد من الوزراء فى إفطار الأسرة المصرية فى رمضان العام ٢٠١٧، وبعد الإفطار توجه عادل إلى الرئيس السيسى، بدأ معه حديثًا خافتًا بعد أن تنحى به جانبًا، كان يجلس معنا عمرو الجارحى، وزير المالية وقتها. 

نظر الوزير إلى المشهد الذى جذب نظر كل من فى القاعة، وقال مبتسمًا: الله... الزعيم يتحدث مع الرئيس. 

كان المعنى الذى تجسد أمامى من تعليق الوزير أن مرور السنين كان يؤكد زعامة عادل إمام الفنية، وأعتقد أن اللقب أصبح ملتصقًا به أكثر عندما قدم مسرحيته الشهيرة «الزعيم»، التى عرضت على المسرح لأول مرة فى العام ١٩٩٣. 

لم يتأكد اللقب لعادل من مسرحيته بسبب موضوعها الذى كان يدور حول أحد الحكام الديكتاتوريين فى إحدى الدول العربية، وعن أحد أفراد الشعب الذى يشبهه تمامًا ويُدعى زينهم، يأمر الديكتاتور باعتقاله، وقبل التنفيذ يموت الحاكم، فتقوم الحاشية التى تستفيد من وجود الحاكم بتقديم زينهم، الرجل البسيط الذى لا يستطيع أن يصمد فى أى عمل نتيجة للتشابه الذى بينه وبين زعيم دولته الديكتاتور غير المحبوب، على أنه الزعيم ليحكموا الشعب من خلاله. 

ولم يتأكد بسبب الأغنية التى صاحبته فى المسرحية والتى يقول فيها: «أنا الزعيم المستديم/ أنا اللى هزيت التاريخ جامد جامد/ وطلقت بركانه اللى كان خامد خامد/ مفجر الثورة البيضا والحمرا/ والصفرا والخضرا/ أنا الزعيم المستديم/ أنا مش بشر/ أنا القدر/ الأرض ملكى والبشر/ والشمس تحتى والقمر/ المحال سيفه انكسر/ ومفيش محال غير إنى مكونش الزعيم». 

تأكد اللقب لأن عادل إمام قرر أن ينتقد الديكتاتوريين العرب وهو فى قمة نجوميته، فى إشارة واضحة إلى أنه أصبح يحمل حصانة من فنه، فلا يستطيع أحد أن يقترب منه. 

الماكيير الشهير محمد عشوب كشف ما يؤكد أن زعامة عادل إمام لم تكن فنية فقط، بل سياسية أيضًا، ما جعله هدفًا للاغتيال بسبب مسرحيته الزعيم. 

فى أحد لقاءاته التليفزيونية قال عشوب إن العقيد معمر القذافى، حاكم ليبيا الراحل، كان قد خطط بالفعل لاغتيال عادل إمام بعد أن وصلته معلومات- قال إنها من أجهزة مخابراته- عن سخرية عادل منه وتعريضه به فى مسرحيته المعروضة فى القاهرة. 

كانت الخطة تقوم على أن تدعو وزارة الإعلام الليبية عادل إمام لتقديم مسرحيته على أحد المسارح فى ليبيا، وفى نهاية العرض يقوم عدد من البلطجية الذين يتم استئجارهم بافتعال أزمة فى المسرحية والاعتداء على عادل حتى الموت، وبذلك لا تكون هناك شبهة لتورط النظام الليبى فى قتل عادل، بل يبدو الأمر وكأنه مجرد مشاجرة فى المسرح. 

علم عشوب بالأمر من بعض أصدقائه الذين كانت لهم علاقات مع مسئولين فى المخابرات الليبية، فتواصل مع وزير الإعلام الليبى عبدالله منصور، وحذره من أزمة دبلوماسية كبيرة يمكن أن تقع بين مصر وليبيا إذا حدث مكروه لعادل إمام، فأصدر منصور قرارًا بإلغاء عرض المسرحية فى ليبيا، لينجو عادل من محاولة اغتيال محققة. 

كان رد فعل القذافى هستيريًا، فلم يقتنع بالمبررات التى وضعها أمامه وزير إعلامه لإلغاء عرض المسرحية، فأصدر أمرًا باعتقاله، لكن بعد تدخل بعض المسئولين الليبيين تم الإفراج عنه. 

لا أستطيع أن أخفى حالة اللبس الشديدة التى تحيط بعلاقة القذافى بعادل إمام على هامش مسرحية «الزعيم»، فالروايات كثيرة وأصحابها غائبون. 

الرواية الأولى تشير إلى أن زوجة القذافى كانت فى زيارة إلى القاهرة، وطلبت أن تشاهد مسرحية لعادل إمام، وذهبت بالفعل بصحبة السيدة سوزان مبارك، لكنها انفعلت عندما شاهدت المسرحية، وخرجت قبل نهايتها، وهى تقول فى غضب: كيف تسمحون بعرض مثل هذه المسرحيات عندكم؟ 

لو صحت هذه الرواية فمعنى ذلك أن القذافى عرف بأمر المسرحية من زوجته، أو على الأقل من التقرير الذى عرض عليه عن زيارة زوجته إلى القاهرة. 

الرواية الثانية كشف عنها تقرير صحفى نشر فى القاهرة فى ٦ يونيو ٢٠١١، عن تفاصيل لقاء جرى بين القذافى وعادل إمام فى القاهرة. 

طبقًا للتقرير الصحفى، فإن القذافى طلب ترتيب زيارة إلى القاهرة لمشاهدة مسرحية «الزعيم»، وبالفعل جرى تنظيم عرض خاص للمسرحية فى أحد قصور الرئاسة، وقد ظل صامتًا طوال العرض، وبعد أن انتهت المسرحية أبدى القذافى استياءه الشديد مما رأى، واعتبرها مسيئة للغاية. 

وجد الرئيس مبارك نفسه فى حرج بالغ، إذ وصل إليه أن القذافى فهم أن عادل إمام يقصده هو تحديدًا، لكن عادل إمام خفف الحرج عندما قال للقذافى: أحداث المسرحية تدور فى أمريكا اللاتينية، نحن لدينا أبطال وليس ديكتاتوريين. 

طلب الرئيس مبارك من عادل إمام وفريق مسرحيته أن يظل ما حدث مع القذافى سرًا، وقد التزم عادل إمام بذلك، إلى أن تم نشر ما جرى أثناء الثورة على العقيد، والغريب أن عادل إمام لم يعلّق على ما نُشر بالنفى أو التأكيد.

الرواية الثالثة التى يمكننا اعتمادها باعتبارها الرواية الصحيحة تأتينا على لسان عادل إمام نفسه. 

ففى فبراير ٢٠١١، وقبل نشر هذه الواقعة، كان عادل إمام يتحدث إلى جريدة «الأخبار» عن معمر القذافى، ويومها قال إنه كان من أمنيات حياته أن يشاركه الرئيس الليبى معمر القذافى فى إحدى مسرحياته أو أعماله الكوميدية، وتوقع أن القذافى لو كان فعلها لحصد شعبية جارفة تفوق شعبيته شخصيًا. 

عادل قال: بسقوط القذافى سنخسر كوميديانًا رائعًا، وكشف عن أنه كانت هناك مشاكل بينه وبين القذافى بسبب مسرحية «الزعيم» لأنها لمست جوانب من حياته، وكان من المفترض عرضها فى ليبيا، وعندما علم القذافى بهذا رفض عرضها، والأغرب- كما قال عادل: أنه أقال المسئول الليبى الذى شاهد المسرحية واتفق معى على تقديمها فى ليبيا. 

وعن القذافى قال عادل إمام: اعتدت يوميًا مشاهدة القنوات الليبية قبل النوم، لأنها تعرض خطبًا للقذافى، حتى أضحك كثيرًا وأستطيع النوم بعمق، وقد اندهشت، إذ كيف يتهم القذافى الشباب القائمين بالثورة بتعاطى حبوب هلوسة مع أنه يظهر جليًا أنه هو الذى يتعاطى هذه الحبوب. 

ما يؤكد تهافت رواية لقاء القذافى بعادل إمام وتأكيده له أن أحداث المسرحية تدور فى أمريكا اللاتينية، ما نقرأه على لسان عادل فى حواره مع فريدة الشوباشى. 

يقول عادل: واقعنا العربى مرير وأليم، وليس هناك من شك فى أننى أنتمى إلى جيل كانت لديه أحلامه العريضة التى زرعها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وعلى رأسها حلم الوحدة العربية، وفى أيام عبدالناصر كانت لدينا القدرة على الحلم، أما اليوم فحتى مجرد الحلم أصبح مستحيلًا، هذا الواقع المرير والأليم الذى نعيشه فى عالمنا العربى الآن كان دافعًا قويًا لظهور مسرحية الزعيم، لأنها -كما أراها- تنبيه وإنذار أو هى بيان ثورى حر وديمقراطى للشعوب والحكام على السواء. 

قبل أن يحصد عادل إمام لقب «الزعيم» لم يكن يحب الألقاب ولا يميل إليها، بل كان يرفض أن يرتبط أى منها باسمه، كان اسمه بالنسبة له يكفى. 

فى تتر فيلم «كراكون فى الشارع»، الذى عرض للمرة الأولى فى دور العرض فى العام ١٩٨٦، كتب صناع الفيلم قبل اسم عادل إمام «نجم مصر الأول»، وبعد العرض الخاص الذى شاهد الفيلم فيه مجموعة من الصحفيين والنقاد، استمعوا لعادل وهو يطلب من مخرج الفيلم أحمد يحيى أن يرفع هذا اللقب من التتر، لأنه لا يحتاج إلى هذا اللقب أو إلى غيره. 

وعندما حقق محمود عبدالعزيز شعبية جارفة وجماهيرية أسطورية بعد مسلسله «رأفت الهجان» قرر المنتجون أن يسبقوا اسمه على أفيشات أفلامه بـ«نجم النجوم». 

وقتها كنت أستمع إلى حوار إذاعى مع النجمة معالى زايد، وسألها المذيع عن رأيها فى الألقاب التى أصبح النجوم يلقبون بها أنفسهم، وسألها تحديدًا عن لقب «نجم النجوم» الذى أصبح يسبق اسم محمود عبدالعزيز. 

صمتت معالى زايد، قبل أن تقول إنها تحب محمود عبدالعزيز، وعملت معه أفلامًا عظيمة، وهو بالفعل فنان عظيم، لكن الحق والواقع والتاريخ والأرقام كلها تقول إن نجم النجوم الوحيد هو عادل إمام وليس أحدًا غيره.. فهو يتربع على العرش.. هو الملك والآخرون جميعًا رعايا. 

معركة الأفوكاتو.. عادل إمام ومرتضى منصور وجهًا لوجه فى المحكمة 

عادل إمام مقدمًا شخصية «حسن سبانخ»

لم يسلم عادل إمام من الأذى. 

فى حياته كثير من المعارك والقضايا التى دخل بسببها المحاكم، ووقف بسبب بعضها على باب السجن. 

القضية الأكبر فى حياة عادل، كانت قضية فيلم «الأفوكاتو». 

فبعد عرض الفيلم غضب عدد من المحامين من تناول عادل لشخصية المحامى، وتقدموا ضده بدعوى قضائية يتهمونه فيها بالإساءة إلى مهنة عظيمة هى مهنة المحاماة.

علق عادل وقتها على القضية بقوله: أنا مندهش من قيام بعض المحامين بإقامة دعوى ضد الفيلم، لأن المحامين هم أملنا فى مناخ الحرية، ولا أفهم سر الغضب من ذلك، فالسجون فيها دكاترة وفنانون وصحفيون ومحامون، وكل مهنة فى المجتمع فيها الخير والشر، وليس من المعقول أن يظهر كل الناس طيبين.

لم يشفع تبرير عادل إمام له، أصر المحامون على موقفهم، ما دفعه إلى أن يدعو نقيب المحامين وقتها أحمد الخواجة ليشاهد الفيلم بنفسه، ليحكم له أو عليه، لكن حدث ما جعل القضية تأخذ بُعدًا آخر تمامًا. 

كانت محكمة جنح بولاق قد عاقبت عادل إمام ومخرج الفيلم رأفت الميهى بالحبس لمدة عام لكل منهما وكفالة عشرة آلاف جنيه لوقف تنفيذ العقوبة، ثم برأتهما محكمة استئناف بولاق وألغت الحكم فى مرحلة قضائية لاحقة. 

كان الموقف عصيبًا، لم يمر بسهولة على عادل إمام. 

فى كتابه «حكايات ناقصة حتة» يروى الكاتب الصحفى أحمد عفيفى ما جرى على الأرض، فقد تابع جلسات المحاكمة كاملة. 

يقدم عفيفى لحكايته: من رأى غير من سمع، ولقد رأيت وعشت تفاصيل هذه القضية من أولها إلى آخرها، لم أترك جلسة إلا وحضرتها، فالمتهم فيها النجم عادل إمام، والقاضى فيها هو المستشار مرتضى منصور. 

يقول عفيفى: بعد أن رفع المحامون -قرابة المائة- قضية يطالبون فيها بمعاقبة عادل إمام وحبسه، حضرت إحدى الجلسات ووجدت محاميًا تقدم نحو المنصة، وقدم نفسه لهيئة المستشارين قائلًا: أنا المحامى سيد ملوخية، ضجت القاعة كلها بالضحك حتى هيئة المحكمة نفسها لم تتمالك نفسها وغرقت مثلنا جميعًا فى الضحك، وهذا ما أراده السيد ملوخية، الذى بالطبع لم يكن هذا اسمه، لكنه أراد أن يدلل على ما أحدثه اسم سبانخ - اسم المحامى فى الفيلم - من سخرية بالمحامين، وعلى الضرر البالغ الذى وقع عليه وعلى زملائه من مجرد أن اسم المحامى فى الفيلم «سبانخ»، ومضى المحامى فى مرافعته أمام المستشار مرتضى منصور بعد أن ذكر اسمه الحقيقى، وقال: نحن وأنتم قوام العدالة فى مصر، إذا اهتز هذا الصرح اهتز المجتمع بأكمله، فقد جعلنا المدعو عادل إمام مسخرة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. 

تقدم محامٍ آخر ومعه حقيبة ملابس، فتحها وأخرج منها ملابس حريمى داخلية بألوان مختلفة وقال: هل يعقل يا حضرات القضاة أن يخرج محامٍ محترم ملابس زوجته الداخلية بطريق الخطأ ويعتذر لكم قائلًا: لا مؤاخذة أصل مراتى مستنيانى فى العين السخنة عشان نحتفل بعيد جوازنا، ثم يدس الملابس مرة أخرى فى حقيبته ويخرج أوراق القضية؟، هل يعقل أن نهوى وننزلق بمستوى المهنة الوقورة إلى هذا الحد من الإسفاف والتردى فقط لإضحاك الجماهير؟ 

حضر عفيفى ٦ جلسات، حضرها عادل إمام جميعها، حتى جاءت جلسة النطق بالحكم، وكانت القاعة مزدحمة عن آخرها بمحررى الصحف الذين استشعروا من الجلسات السابقة أن الجلسة الختامية ستأتى بمفاجأة بل قنبلة، وقد كان. 

يصف عفيفى الجلسة الأخيرة: الساعة الحادية عشرة صباحًا وفى القاعة ٤ بمحكمة بولاق الدكرور، يجلس عادل إمام فى أول الصف مرتديًا نظارة سوداء متجهمًا جدًا على غير عادته. 

لحظات ودخل الحاجب: محكمة. 

وقفنا جميعًا ومعنا عادل إمام، ودخلت هيئة المحكمة يرأسها المستشار مرتضى منصور، جلست هيئة المحكمة وجلسنا، ونادى الحاجب: عادل محمد إمام، فرد إمام واقفًا: أفندم. 

نظر إليه المستشار مرتضى منصور وأمره بأن يدخل قفص الاتهام مشيرًا بيده إلى جهته.

لم يصدق عادل نفسه وسأل باستنكار شديد: أنا أدخل القفص؟ 

فرد مرتضى منصور: أيوه حضرتك هتدخل القفص عشان أنطق بالحكم. 

فأعاد عادل السؤال بدهشة أكبر: أنا أدخل القفص؟ 

علا صوت مرتضى منصور وتجهّم وجهه وأمره بالدخول إلى القفص طواعية، بدلًا من جرّه وإلقائه داخله، فوقف عادل إمام بثبات وقال: لا يا سيادة القاضى مش عادل إمام اللى يدخل القفص. 

أحس مرتضى منصور بالحرج الشديد من تحدى عادل إمام له، ولم يستطع إرغامه على التنفيذ، فاعتدل فى جلسته وأصدر الحكم: حكمت المحكمة حضوريًا على المتهم عادل إمام بالسجن لمدة عام مع الشغل والنفاذ. 

فى هذه اللحظة حدث هرج ومرج شديدان داخل القاعة، وطار الخبر أسرع من البرق إلى جهات عليا، وبعد ١٥ دقيقة من رفع الجلسة عاد مرتضى منصور مرة أخرى إلى القاعة وكانت المفاجأة أكثر سخونة من الحكم بحبس عادل إمام. 

جلس مرتضى منصور على كرسيه قائلًا: هدوء من فضلكم، ثم أمسك بالقلم وكتب وهو يردد ما يكتبه بصوت عالٍ: أدركت أن القانون فى مصر لا يطبق إلا على الغلابة، لذا أتقدم باستقالتى من فوق منصة العدالة. 

كان خبر الحكم كما نشرته الصحف فى ٢١ مارس ١٩٨٤ على النحو التالى: 

قضت محكمة جنح بولاق الدكرور بحبس المتهمين رأفت الميهى وعادل إمام وحمدى ويوسف شاهين ومدير شركة الدقى فيديو فيلم وعادل الميهى سنة مع الشغل وكفالة ١٠ آلاف جنيه لكل منهم لإيقاف التنفيذ، وذلك بعد مشاهدة فيلم «الأفوكاتو» فى عرض خاص، وكانت المحكمة قد عقدت جلساتها برئاسة مرتضى منصور وبحضور محمد خير وكيل النيابة وسكرتارية محمد إسماعيل، وأصدرت حكمها، كما ألزمت المتهمين والمسئولين عن الحق المدنى أن يؤدوا للمدعى بالحق المدنى ١٠١ جنيه على سبيل التعويض المؤقت، و٥ جنيهات مقابل أتعاب المحاماة ومصاريف الدعوى المدنية، ورفض المحكمة الدعوى المدنية المقامة من محامى المتهم رأفت الميهى ضد المحامين المدعين بالحق المدنى، وإلزامه بأتعاب المحاماة، كما أصدرت المحكمة حكمها بمصادرة جميع أشرطة الفيلم من دور السينما وأشرطة الفيديو، وعدم قبول الدعوى بالنسبة للمتهم الخامس صلاح الصالح لرفعها عن غير الطريق القانونى. 

 لم ينسَ عادل الإساءة البالغة التى لحقت به فى المحكمة وقرر أن ينتقم على طريقته

وقد أصدر رئيس المحكمة بيانًا أعلن فيه عن أن بعض الأقلام تتناول بالنشر فى الصحف القضايا المنظورة أمام القضاء وتصدر فيها أحكامًا قبل أن يقول القضاء كلمته، وهذا يضع القضاة فى موقف حرج أمام الرأى العام الذى يوجهه هؤلاء الصحفيون بأقلامهم، وناشد البيان الصحفيين أن يتركوا القضاة يؤدون رسالة الله فى أرضه، وهى إرساء العدل دونما تأثير فى عقيدة المحكمة. 

لم ينسَ عادل الإساءة البالغة التى لحقت به فى المحكمة، وقرر أن ينتقم على طريقته. 

ففى ٥ أبريل ١٩٨٤ نشرت الصحف خبرًا مقتضبًا، يقول: قدم المحامى لبيب معوض باسمه وباسم عادل إمام بلاغًا إلى نيابة الجيزة يتهم فيه مرتضى منصور قاضى محكمة بولاق الدكرور بالقذف فى حقه وحق موكله، قال فيه إن خطاب الاستقالة الذى أعلنه القاضى فى المحكمة تضمن وقائع غير صحيحة ما يستوجب التحقيق. 

أثناء نظر القضية فى جلسات متتالية، تحدث عادل إمام إلى مجلة المصور، جلست أمامه الصحفية الكبيرة عائشة صالح ليحكى لها ما يجرى، فتورط عادل فى تصريح غريب، اتهم مرتضى منصور الذى كان لا يزال وقتها فى القضاء وينظر قضية «الأفوكاتو» بأنه طلب منه رشوة عبر وسيط لتبرئته وزملائه من القضية. 

ظلت القضية متداولة من العام 1984 حتى العام 1990 عندما نجح عدد من رجال الفن والسياسة والصحافة فى التدخل لحل الأزمة بين عادل ومرتضى

بعد النشر مباشرة تقدم مرتضى منصور بدعوى أمام محكمة جنح الساحل يتهم فيها عادل إمام بسبه وقذفه، ليحصل بعد شهور على حكم بحبس عادل إمام ستة أشهر مع الشغل وكفالة ١٠٠ جنيه. 

استخدم مرتضى منصور كل أسلحته ضد عادل إمام، بدأ فى نشر دعاية سلبية ضده، اتهمه بأنه لم يكن بطلًا عندما سافر إلى أسيوط لمواجهة الإرهاب، وأنه لم يفعل ذلك إلا بالتنسيق مع زكى بدر وزير الداخلية لضرب الجماعات المتطرفة التى كانت تواجه الداخلية بعنف. 

ظلت القضية متداولة من العام ١٩٨٤ حتى العام ١٩٩٠، عندما نجح عدد من رجال الفن والسياسة والصحافة فى التدخل لحل الأزمة بين عادل ومرتضى، ولعب الفنان صلاح السعدنى دورًا كبيرًا فى تقريب وجهات النظر بينهما. 

تم الاتفاق على أن يتنازل مرتضى عن القضية، مقابل أن يقوم عادل بنشر إعلانات فى الصفحة الأولى بالصحف المصرية والعربية على مساحة عمودين بطول ٢٠ سم، فيها اعتذار شخصى عن كل ما بدر منه من تصريحات للإعلاميين فى حق مرتضى، وأنه يكن له كل الاحترام والتقدير. 

نشر عادل الإعلانات بالفعل، وتنازل مرتضى عن التعويض المالى الذى قرره القضاء، وقد شهد جلسة الصلح الذى تم توقيعه فى ٢٣ أكتوبر ١٩٩٠ عدد كبير من أصدقاء الطرفين. 

فى أوراق هذه القضية وثيقة مهمة أعتقد أننا يجب أن نعيد نشرها. 

هذه الوثيقة هى الاستقالة التى تقدم بها مرتضى منصور من القضاء، والتى كان لها دوى هائل، فقد تم تصديرها على أنها كانت احتجاجًا على الانحياز لعادل إمام فى القضية. 

قال مرتضى منصور فى استقالته التى وجهها إلى وزير العدل: 

«حرصت أن أسجل هذه الاستقالة المسببة بمحضر الجلسة ومن على منصة القضاء الشامخ بقاعة المحكمة، أسجل هذه الاستقالة وأنا يملأ قلبى الحزن والهم على تركى هذه المنصة العزيزة على نفسى، وإليك أسباب استقالتى».

«تقدم بعض المحامين بعريضة قيدوها بقلم كُتاب بولاق الدكرور، اتهموا فيها بعض الممثلين بارتكاب جرائم قذف وإهانة، وعرضت علىّ هذه الجنحة المباشرة كغيرها من مئات القضايا التى تعرض أسبوعيًا». 

«ونظرت القضية بجلسة ١٣/٣/ ١٩٨٤، ثم أجلت لجلسة ٢٠/ ٣ /١٩٨٤ بعد أن طلب المتهمون بالجلسة الأولى سماع شهودهم، وفى مساء يوم الإثنين الموافق ١٩ / ٣ / ١٩٨٤ وقبل الجلسة الثانية بيوم واحد، فوجئت أثناء وجودى بمنزلى بالمتهم الثالث عادل إمام ومحاميه لبيب معوض المحامى بأنهما يريدان التفاهم معى، وأنه جمع مبلغًا بسيطًا من المتهمين هو ثلاثون ألف جنيه مقابل أن أحكم فى القضية غدًا ببراءتهم أو على الأقل بعدم القبول لرفعها من غير ذى صفة، فقمت بإغلاق الباب فى وجهيهما، وترفعت عن هذه الصغائر، ولم أبلغ عنهما رحمة بهما». 

«وحتى لا أعطى للقضية أبعادًا أخرى، خاصة أن هذه هى المرة الثانية التى يقدم فيها المتهم عادل إمام والمحامى لبيب معوض على مثل هذا التصرف، عندما حاولا منذ عام واحد فقط ارتكاب مثل هذه الجريمة، عندما ذهبا إلى الأستاذ محمد بدر رئيس محكمة جنح آداب الإسكندرية فى منزله لمساومته على أن يفرج عن صديقهما المحبوس سعيد صالح». 

«فى اليوم التالى ٢٠ / ٣ / ١٩٨٤ وفى اليوم المحدد لنظر الجلسة الثانية، فوجئت بأن لبيب معوض يدخل قاعة المحكمة محاولًا استفزازى بجميع الوسائل ومنها أنه يمنعنى بالقوة من نظر الدعوى، وارتفعت مرة ثانية فوق هذه الصغائر، ونظرت دعوته بحياد القاضى، وأصدرت فيها حكمى وأنا على قناعة تامة بأن هذا هو عدل الله مسجلًا موقفى من خلال هذا الحكم، وما تلاه من أسباب، وهو أن مصر فوق الجميع، مصر المهن، مصر القيم، مصر الوطن، مصر التى صورها المتهمون فى فيلمهم بأنها مصر الخراب والنصب والتزوير والدعارة والمخدرات والفساد والرشوة، مصر التى صوروها فى فيلمهم بأن كل رجالها ونسائها وقيمها ساقطة، مصر التى حطموا قيمها وأديانها السماوية بعمل مبتذل يفتقر إلى الصدق والأمانة والوطنية، مصر التى كان لها نصيب من الذكر الحكيم جليل، والتى أثنى عليها رب العرش فى الذكر المبين، صوروا جميع رجالها ونسائها فى حضيض من السفالة ما له قرار، مصر التى أوحوا للمشاهدين فى فيلمهم بأنه لا أمل فى شفائها من خرابها وفسادها، وأن الحل الوحيد هو الرحيل إلى ليبيا القذافى حيث الخير والمال والأمل، وهو ما جاء على لسان أحد ممثلى هذا الفيلم الساقط الخائن بالحرف الواحد». 

«أصدرت حكمى من أجل مصر التى عرضوها بل فضحوها أمام أنظار العالم فى مهرجاناتهم وصوروها وكأنها بيئة قدزة لا أمل فيها ولا رجاء بعد أن اتفقوا جميعًا على البصق فى وجهها بدعوى الفن وحرية الإبداع الفنى وحرية النقد والتعبير، والحرية والفن بل ومصر منهم براء بعد أن أفسدوا كل شىء». 

«عقب صدور الحكم أصدرت بيانًا ناشدت فيه الإخوة الصحفيين من منطلق حرصى على حرية الصحافة وتأكيدًا لها وخوفى على سير العدالة عندما تصدر بعض الأقلام أحكامًا مسبقة فى قضايا منظورة أمام القضاء، وتضعه فى موقف حرج بعد أن أصدر بعض الصحفيين حكمًا مسبقًا يؤثر فى الرأى العام الذى يفاجأ بحكم القاضى الذى أصدره من خلال الأوراق المقدمة له، وقد يكون هذا الحكم مخالفًا لما كتبته الصحافة فيشكك الرأى العام فى نزاهة القضاء واستقلاله، ومن هذا المنطلق كان البيان الذى فسره بعض المغرضين بأنه تهديد للصحافة والصحفيين بسجنهم إذا تحدثوا وبأنه تكميم للأفواه، وهم يعلمون جيدًا موقفى من كثيرين من الصحفيين الشرفاء الذين وقفوا يدافعون عن القضاء وحصانته فى أحلك الظروف وأصعبها». 

«بعد أن أصدرت الحكم، ومنذ ذلك اليوم وحتى الآن وعشرات المكالمات التليفونية من المتهمين تهددنى بالقتل والخطف، بل إن المتهم عادل إمام اصطحب معه أحد الكومبارسات وذهب إلى جريدة الأهرام وهدد بقتلى، ثم سيل من الشتائم يوجه إلىّ يوميًا على صفحات الجرائد والمجلات من بعض المرتزقة المأجورين». 

«بل تجاوز هذا السباب شخصى إلى الطعن فى القضاء وأحكامه محاولين التشكيك فى نزاهته لأن قاضيًا راعى ضميره وقيم بلده وشرائعها السماوية، وأصدر حكمًا بحبس ممثل يتقاضى فى الفيلم الواحد سبعين ألف جنيه، ويكتب فى عقده خمسة آلاف جنيه متهربًا من أداء واجبه لخدمة وطنه من دفع الضرائب المستحقة عليه، ثم يأتى بعد ذلك ليسب بلده ويهدم قيمها، ثم يحاول رشوة القاضى فى منزله، ثم عندما يفشل يشن ومعه بعض المأجورين حملة قذرة حقيرة ضد القضاء الذى لم يخضع لسطوته ونجوميته حيث تصور أنه فوق القانون». 

«وأقسم لك يا سيادة الوزير أننى عندما استعرضت قانون العقوبات ووقعت عيناى على النص الذى يجرم الإهانة وقذف الآخرين وسبهم، أقسم لك بشرفى بأننى لم أجد به استثناء يقول بحبس كل من قذف غيره أو أهانه فيما عدا عادل إمام ورأفت الميهى وبقية المتهمين الذين هم من طبقة عليا تتميز عن أبناء هذا الوطن». 

«وأؤكد لكم بأننى لو كنت عثرت على هذا الاستثناء فى قانون العقوبات لم أكن أتوانى لحظة فى إصدار حكم ببراءة المتهمين جميعًا، لأنك تعلم أننى أقسمت يمين الله أن أحترم القوانين بما فيها من استثناءات، لكنى لم أجد هذا الاستثناء إلا فى عقول بعض الغوغاء الذين تصوروا أنهم ملكوا الدنيا بما فيها وأنهم فوق القانون، ولا تصح معاقبتهم».

«ولتقرأ معى يا سيادة الوزير بعض عبارات التجريح وإهانة القضاء وأحكامه التى كتبها هؤلاء المتهمون وبعض المنتفعين منهم على صفحات الجرائد والمجلات: هذا الحكم جريمة فى حق مصر ووسام على صدر المتهمين يفخرون به، وقد أضاع هذا الحكم الأمن والأمان، وليس من حق القضاء أن يصدر هذا الحكم الظالم، ولا بد من الحصانة للممثلين، ولن ننفذ حكم القضاء ويفعل القضاء ما يشاء، وغيرها من المقالات والأخبار الصحفية بل الصور والكاريكاتير التى تهزأ من القضاء وتسخر من أحكامه، لم نسمع عن مسيرة تخرج احتجاجًا على أحكام القضاء، ثم بيانات مطبوعة تصلنى تسب القضاء وتلعنه لأنه لم يحكم ببراءة المتهمين». 

«ألم أقل لكم يا سيادة الوزير إنها مهزلة، ولقد كنت أتصور أن عدم احترام القضاء وتصويره بصورة هزلية مهينة هى فانتازيا أى فى الخيال، لكنى تأكدت بعد ذلك أن مسلكهم هذا لم يقتصر على الفيلم بل هو حقيقة واقعة ملموسة بعد أن أهانوا القضاء وأحكامه يوميًا على صفحات الجرائد والمجلات». 

«أما الطامة الكبرى يا سيادة الوزير هو ما نشر فى جميع الصحف الصباحية الصادرة يوم ٢٨/ ٣/ ١٩٨٤، أى بعد أسبوع واحد فقط بعد صدور الحكم بإدانة المتهمين، حيث نشر بأن السيد على عبدالشكور محامى عام نيابات الجيزة أصدر قرارًا بوقف حكم القضاء الصادر بحبس المتهمين بعد اجتماع دام ساعتين مع سعد الدين وهبة نقيب السينمائيين، حضره المستشار القانونى للنقابة، وقد استقبل فعلًا السيد على عبدالشكور ليس سعد الدين وهبة فقط، ولكن جميع المتهمين فى مكتبه بمحكمة الجيزة أمام الجميع وأغلق بابه عليهم لمدة ساعتين، ثم أصدر هذا القرار الذى نشرته جميع الصحف، بل إن إحدى الصحف الكبرى عندما وصلها هذا الخبر من نقابة السينمائيين لم يصدق رئيس تحريرها أن يوقف محامٍ عام حكمًا قضائيًا، فاتصل بنائب رئيس تحرير جريدته فى المساء وطلب منه الاتصال بالسيد على عبدالشكور للتأكد من الخبر لخطورته». 

«فما كان من السيد المحامى العام إلا أن أكد الخبر، بل تصور أنه على مسئوليته بأن قاضى محكمة جنح بولاق قد أخطأ وتسرع فى حكمه دون دراسة وطلب نشر هذا التصريح، إلا أن نائب رئيس التحرير وهو الذى لا ينتمى إلى الأسرة القضائية رفض نشر هذا التعليق الذى لم يعتبره إهانة موجهة للقاضى الذى أصدر الحكم فقط، بل للقضاء المصرى كله، وشهود هذه الواقعة ما زالوا يعيشون بيننا وتستطيع سماعهم، وكأثر فورى ومباشر لتصرف السيد المحامى العام هللت بعض الأقلام المأجورة لهذا القرار حتى إن أحد الصحفيين كتب يوم الجمعة ٣٠ / ٣ / ١٩٨٤ بأن السيد على عبدالشكور صحح خطأ القضاء وأعاد الحق إلى أصحابه وحياه على هذا المسلك». 

«وأخيرًا وبعد التجريح والتشهير وعشرات من الإشاعات الحقيرة التى أطلقوها علىّ، دخلنا قصة الكذب والتلفيق، فقد امتلأت الصحف والمجلات بالعديد من الأحاديث الصحفية المنسوبة لى فردت بدورها صورًا لى، ولو تأملت قليلًا فى أسباب الحكم لوجدت أن كل هذه الأحاديث منقولة من الأسباب مستغلين عشرات الصور التى التقطت لى منذ أكثر من عام عندما أثيرت قضيتى مع السيد وزير العدل السابق وتناولتها كل الصحف والمجلات على صفحاتها، بل إن إحدى المجلات أفردت لها سبعة أعداد متتالية، ولكنهم فى محاولة قذرة للنيل منى وتصويرى أمام الرأى العام وأمام زملائى القضاة بأننى أسعى إلى الشهرة والإدلاء بالأحاديث الصحفية لسعادتى بنفسى، وقد نسوا أن معظم المجلات والصحف العربية وليست المصرية كتبت عن قضيتى مع وزير العدل وعن دوافعى تجاه الحرية والديمقراطية واستغلال القضاة الذين يتاجرون هم بهم اليوم، فليرجعوا إلى صحيفة الشرق الأوسط السعودية والوطن العربى الكويتية وغيرها من الصحف والمجلات العربية لعلهم يعودون إلى رشدهم ويتقون الله فى افتراءاتهم، فهم يعلمون جيدًا بأننى لم أدل بأى حديث صحفى لأى مجلة أو صحيفة». 

«وإن كان ما قلته لمن قابلنى من الصحفيين إن القاضى فى غير حاجة إلى تبرير حكمه أو تفسيره، إذ إن مجال هذا هو أسباب الحكم وليس صفحات الجرائد والمجلات، وإننى أرفض التعليق على أى حكم بعد صدوره لأنه ليس من حقى أو من حق أى فرد لأن مجال التعليق يكون بالطعن فى الأحكام بالاستئناف أو النقض إن كان لهما موجب». 

«إلا أن الأمر المحزن والمؤسف أن هذا من أجل مهنة المحاماة وهى مهنة الحق والعدل التى مسخوها، لقد أصبح مطلوبًا منى كل يوم بعد أن أنتهى من نظر القضايا بالمحكمة أن أمر على جميع الصحف والمجلات لمقابلة السادة رؤساء تحريرها لأبلغهم كتابة بأننى لم أدل بحديث صحفى لأحد، ولكن المؤسف أنهم يتجاهلون ردى ويصرون على أننى أدليت بأحاديث محاولين أن يشككونى فى نفسى وهم يعلمون الحقيقة، وأن وراء كل ذلك مؤامرة قذرة الهدف منها هو تصويرى فى صورة مزرية أمام زملائى وأمام أبناء وطنى خدمة لأصدقائهم المتهمين لعل هذا التشهير يسعفهم أمام محكمة الاستئناف عند نظر الدعوى ويكون مبررًا لبراءتهم من الجرائم». 

«من أجل مصر يا سيادة الوزير التى بصق المتهمون وأذنابهم فى وجهها، من أجل القيم النبيلة التى هتكوا عرضها، من أجل الأديان السماوية التى سخروا منها، من أجل القضاء الذى أهانوه، من أجل المرأة المصرية الزوجة والأم التى مسخوها، من أجل مصر التى صوروها خرابًا وجدبًا، من أجل الفقراء الذين ينطبق القانون عليهم وحدهم».

«من أجل كل ذلك أتخلى عن أداء رسالتى التى أقسمت عندما توليت أمانة القضاء بين الناس أن أحترم القوانين وأن أحكم بين الناس بالعدل، ولأننى شعرت بأننى لن أستطيع بعد اليوم أن أؤدى واجبى على النحو الذى يرضى الله وضميرى بعد أن أهينت القوانين وسخر البعض من هذا العدل، أتخلى عن موقعى وأتقدم باستقالتى وأنا لا أعلم من أين سأحضر قوت أسرتى غدًا، حيث إنك تعلم بأننى لا أملك إلا مرتبى وسمعتى ونظافة يدى». 

التوقيع: مرتضى منصور... القاضى بمحكمة الجيزة الابتدائية.