إفلاس بسبب القمار.. ووفاة غامضة بسبب مطربة مجهولة.. المخفى فى حادث انتحار قاسم أمين

- محمد عمارة فى كتابه «قاسم أمين وتحرير المرأة» يذهب إلى أن قاسم ولد لأب تركى عثمانى وأم مصرية من صعيد مصر
- يقول قاسم عن الأوروبيين: لقد حولوا بلاد المسلمين إلى سوق لسلعهم ووضعوا العراقيل أمام محاولات إقامة صناعة وطنية
- سعد زغلول هو من كشف إدمانه للقمار فى مذكراته التى حققها بعد ذلك الدكتور عبدالعظيم رمضان وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب
- عندما صدر كتاب «تحرير المرأة» دافع عنه رشيد رضا تلميذ محمد عبده وأثنى عليه فى جريدته «المنار»
لا يرسم البشر خريطة أقدارهم.
يستسلمون لها لأنهم لا يملكون لها تغييرًا أو تبديلًا.
يضعون أنفسهم فى مهب ريح الحياة، يتلقون مجريات أيامهم دون اعتراض، فحتى لو اعترضوا فلا شىء يملكونه يستطيعون من خلاله إيقاف ما يراد لهم وبهم.
كان يمكن أن تظل حياة المفكر الكبير والرائد المجدد قاسم أمين أسطورة فى حياتنا الفكرية والثقافية، فهو محرر المرأة، وواضع دستور كسرها للقيود من حولها، حتى تنطلق وتخرج إلى المجتمع تسهم فى بنائه ونهضته بما يتناسب مع ما تستطيع أن تقدمه.
لكن هناك دائمًا ما يمكن أن يضاف إلى الصورة البراقة التى يتركها التاريخ وراءه.
لم يعِش قاسم أمين طويلًا.
قضى فى حياتنا ثلاثة وأربعين عامًا، استطاع خلالها أن يكتب اسمه فى سجل الخالدين، شاء من شاء ذلك وأبى من أبى.
كانت هناك محاولات كثيرة لوضع رتوش مسيئة على صورة قاسم أمين.
عندما نتأمل الصورة الشهيرة له- تقريبًا هى الصورة الوحيدة- سنجد أمامنا رجلًا يبدو قصيرًا نوعًا ما، كثيف الشعر، عيونه ليست حادة، بل فيها كسل من النوم، لا يعطيك إحساسًا معينًا، سوى أنه رجل على باب الله، قد يكون متعلمًا نعم، وقد يكون مثقفًا ما فى ذلك شك، لكنه فى النهاية ليس من هؤلاء الذين يزرعون المشاكل والأشواك فى طريق الحياة.
لا تركن كثيرًا إلى خيالك وأنت تتأمل صورته.
فالملامح ليست صادقة دائمًا، لا تفضح مكنون صاحبها، ولا تشى بما يخفيه.
فقد أقام قاسم أمين الدنيا ولم يقعدها حتى الآن، رغم مرور ما يقرب من 120 عامًا على رحيله، فقد توفى فى 22 أبريل 1908.
لم تبدأ رحلة قاسم أمين الفكرية بكتابيه الشهيرين «تحرير المرأة» الذى كتبه فى العام 1899، و«المرأة الجديدة» الذى كتبه فى العام التالى مباشرة 1900، سبقهما بكتابه المهم «المصريون»، وهو الكتاب الذى خالف فيه كثيرًا مما جاء فى كتابيه التاليين، لكن لا أحد يلتفت فى مسيرته إلا لهذين الكتابين، لما أحدث بهما من أثر كبير- ولا يزال- فى مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
كان يمكن أن تسير حياة قاسم أمين سير المفكرين الكبار، لا تخلو من منغصات، لكنها تنتهى نهاية عادية، يموت فى فراشه آمنًا مطمئنًا فى سلام، لكن ما جرى أن حياته انتهت نهاية درامية، فى الغالب لتتناسب مع ما أحدثه فى الحياة من دراما يمكن أن نسجلها باسمه وحده.
لكن قبل النهاية، ما رأيكم أن نرسم له صورة من قريب، نتعرف من خلالها على بعض التفاصيل التى لم يلتفت إليها الذين اهتموا فقط بأنه مَنْ حرر المرأة وأخرجها من مخدعها.

ولد قاسم أمين فى العام ١٨٦٣، ولم يكن مصريًا خالصًا، فالثابت من الكتابات التى تناولت حياته أن جده كان كردستانيًا.
فى كتابه «عن قادة الفكر العربى» يقول زكى أحمد إن هناك جماعة أخذت أمين، والد قاسم، من جده رهينة فى الأستانة عاصمة الدولة العثمانية، والتى كانت كردستان إحدى ولاياتها الدائمة التمرد والعصيان.
جاء أمين بك إلى مصر فى زمن الخديو إسماعيل، حيث دخل فى خدمة الجيش المصرى، ووصل إلى رتبة أميرالاى وتزوج بابنة أحمد بك خطاب، لينجب منها ابنه قاسم.
محمد عمارة فى كتابه «قاسم أمين وتحرير المرأة» يذهب إلى أن قاسم ولد لأب تركى عثمانى وأم مصرية من صعيد مصر، فوالده محمد بك كان قبل مجيئه إلى مصر واستقراره بها الوالى التركى على إقليم كردستان.
عندما ثارت كردستان ضد الدولة العثمانية وأعلنت استقلالها وانفصالها عن الأستانة، كان واليها محمد بك أمين فى الأستانة، فظل بها حتى منحته الدولة عوضًا عن إمارته بعض الإقطاعيات فى مصر بإقليم البحيرة قرب مدينة دمنهور.
الاختلاف حول هوية الأب لن يهمنا، ما دام أن الجميع توافقوا على أن والدته كانت مصرية صعيدية.
قضى قاسم أمين أولى سنواته فى التعليم بمدرسة رأس التين الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقل إلى القاهرة ليلتحق بالقسم الفرنسى بالمدرسة التجهيزية، ومنها إلى مدرسة الحقوق والإدارة ليحصل على الليسانس وعمره لم يتجاوز العشرين عامًا بعد.
بدأ قاسم أمين حياته العملية بالاشتغال بالمحاماة فى مكتب مصطفى فهمى، الذى كان صديقًا لوالده، ومصطفى لم يكن مجرد محامٍ، فقد تولى رئاسة الوزراء فى ظل الاحتلال الإنجليزى، وهو والد السيدة صفية زغلول أم المصريين التى تزوجت من سعد زغلول.
بعد عام واحد من دخول قاسم أمين مكتب مصطفى فهمى، وتحديدًا فى ١٨٨٢، ترك العمل بالمحاماة وراءه، وسافر إلى فرنسا ليستكمل دراسته، وظل بها أربع سنوات قامت خلالها الثورة العرابية وانتهت باحتلال مصر.
لم يكن فى احتلال مصر أى فائدة بالنسبة لقاسم أمين، اللهم إلا أن الإمام محمد عبده، الذى كان واحدًا ممن ثاروا إلى جوار عرابى، تم نفيه إلى باريس، لتبدأ بينه وبين قاسم مرحلة جديدة من مراحل صداقتهما التى بدأت من القاهرة.

لم يكن قاسم ومحمد عبده صديقين فقط، ولكنهما كانا أبناء تيار فكرى مهم.
فى تقديمه لكتاب «تراث قاسم أمين»، الذى صدر عن دار الوثائق، يقول الدكتور محمد صابر عرب: جنى المصريون مع نهايات القرن التاسع عشر حصادًا فكريًا وثقافيًا واجتماعيًا، فلقد كان مشروع بناء الدولة الحديثة فى عصر محمد على وما نجم عنه من تعليم المصريين تعليمًا حديثًا، سواء فى مصر أو خارجها، وصولًا إلى عصر إسماعيل ومحاولته نقل التجربة الفرنسية، خصوصًا فى شقيها الاجتماعى والثقافى.
أفرز ذلك نخبة ثقافية، لم تتجاوز مدينة القاهرة، لكن آثارها امتدت فى طول البلاد وعرضها مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين من خلال وسائل النشر التى كانت متاحة وقتئذ.
اللافت للنظر- كما يواصل عرب- أن الجماعة السياسية وهى تطرح رؤاها فى قضية الاستقلال قد اختلفت حول الوسائل.
فبينما كان مصطفى كامل وجماعته من دعاة الاستقلال فى إطار السيادة العثمانية، كانت هناك جماعة سياسية أخرى أقل جماهيرية من جماعة مصطفى، لكن مشروعها كان أكثر استنارة وأعظم تأثيرًا على المدى الطويل، وقد تميز بالعناية بالثقافة والتعليم واكتساب خبرات المحتل بطريقة لا تتعجل التصادم معه، ومعظم هذه الجماعة قد تأثرت كثيرًا بالثقافة الغربية، لكنها لم تتخلَ أبدًا عن المحافظة على ثقافتها العربية والإسلامية، وكان فى طليعة هؤلاء أحمد لطفى السيد وقاسم أمين والدكتور هيكل وطه حسين.

كان الشيخ محمد عبده يمثل المرجعية الفقهية والشرعية لمجموعة قاسم أمين، وهو ما جعله أنيسًا لأيامه، عندما وجدا نفسيهما سويًا فى باريس، قاسم يدرس ومحمد عبده يعيش أيام نفيه وطرده وتشريده.
عاد قاسم أمين إلى مصر فى العام ١٨٨٥ لتبدأ مرحلة جديدة من حياته، صحيح أنها لم تستمر طويلًا، فقد استغرقت هذه المرحلة حتى وفاته ثلاثة وعشرين عامًا فقط.
كان هناك ملمحًا مهمًا عاد به قاسم أمين من باريس، ملمحًا كان يخص علاقته بالمرأة وتصوره عنها.
عاد قاسم وعلى كتفيه عطر باريس، التفت هناك إلى المرأة وإلى ما يمكنها أن تقوم به فى المجتمع، رأى المجتمع الأوروبى يضم الرجال والنساء معًا، فيسهل الاتصال بينهما، وتنشأ بينهما علاقات ألفة وصداقة وحب.
أشار قاسم إلى أن هذا الاختلاط بين الجنسين فى الاجتماعات يسبغ عليه عذوبة ورقة، فالسحر الذى تشيعه المرأة فى كل مكان توجد فيه شىء ممتع ونفاذ كعطر الزهور، وفى مثل هذه الاجتماعات ينعم المرء دائمًا بالمرح، وغالبًا يتودد للغير، ويخرج فى النهاية مفعم القلب بالرضا.
لم يسمع قاسم عن عطر نساء باريس فقط، بل عاشه أيضًا.
يقول: كان شأنى شأن الآخرين فى الإحساس بقدر السحر الذى تشيعه المرأة فى كل مكان توجد فيه، خاصة فى وجود امرأة تجمع حصافة الفكر إلى جمال الجسد، وقد رمت بى طبيعتى الخجولة بين الاضطراب والحيرة أكثر من مرة، غير أن هذا لم يقلل من حبى لهذه اللقاءات الشيقة التى يهتم فيها الجميع بخلق جو البهجة والاستمتاع به.

عندما عاد قاسم إلى مصر كانت أوضاعها مضطربة، الاحتلال يسيطر على كل شىء، أصدقاؤه السابقون منفيون ومطاردون، لم تكن لديه فرصة لنشر ما وجده فى باريس، ضم إحساسه بالسحر الذى تخلقه المرأة فى المجتمع إلى صدره، لم يفصح عنه، فقد كان عليه أن يبدأ حياته العملية، وهى حياة لم تكن سهلة أبدًا.
عمل قاسم فى النيابة المختلطة، وانتقل منها إلى قسم قضايا الدولة، ثم تولى رئاسة نيابة بنى سويف، وفى العام ١٨٩١ انتقل رئيسًا لنيابة طنطا.
فى هذه الفترة وقع الحدث الكبير الذى كان له تأثير كبير على حياة قاسم أمين.
كان عبدالله النديم، شاعر الثورة العرابية والصحفى الأول فى صحفها، قد وقع فى قبضة الشرطة بعد أن ظل هاربًا بين مدن مصر وقراها تسع سنوات كاملة.
وقع النديم فى منطقة السنطة القريبة من طنطا، والتى تقع فى دائرة مسئولية قاسم أمين، الذى وجد نفسه وجهًا لوجه أمام واحد من أبطال الثورة العرابية.
وجد قاسم نفسه ممزقًا بين واجب الوظيفة الميرى الذى يقضى بالتحقيق مع النديم- رئيس نيابة ومتهم- وواجب الوطنية، فهو مثقف مصرى أمام مناضل.
انحاز قاسم إلى واجبه الوطنى، كل ما استطاع أن يفعله هو إكرام ضيفه، منحه مالًا من عنده، ووفر له فى سجنه أقصى ما يستطيع من ظروف الراحة والرعاية، ثم قرر أن يتوسط لدى الحكومة للإفراج عنه، وقد نجح مع آخرين، ومن خلال حملة صحفية ضخمة، أن يتم العفو عن النديم، وهو ما حدث، فقد اكتفت الحكومة بنفيه إلى الشام بعد منحه مائة وخمسين جنيهًا.

كان لا بد للشاب الذى يشغل وظيفة مرموقة أن يتزوج.
فى العام ١٨٩٤ دخل قاسم أمين قفص الزوجية، تزوج من زينب هانم، ابنة أمير البحر التركى أمين توفيق، كان صديقًا لوالده، وقد قامت بتربيتها فى طفولتها وصباها مربية إنجليزية.
لم يكن قاسم زوجًا تقليديًا، كان مشغولًا عن زوجته بأعماله وصداقاته الكثيرة، لكنه ورغم ذلك حافظ على طقس اجتماعى قد تراه غريبًا الآن.
كان يخصص لزوجته من وقته ساعتين يوميًا بشكل منتظم، من الساعة الخامسة إلى السابعة مساء، كان هذا الوقت ملكها وحدها، تفعل فيه ما تشاء وتطلب خلاله ما تريد، كانت ساعتا زينب مقدمة لثلاث ساعات أخرى يقضيها يوميًا فى مكتبته التى كانت تشغل من منزله ثلاث غرف، لكن ومن حسن حظ زينب أن الساعتين كانتا تمتدان طويلًا فى شهور الإجازة الصيفية، التى كان قاسم يقضيها مع زوجته وبنتيه فى منزله الصيفى بتركيا.
فى هذا العام، ١٨٩٤، دخل قاسم أمين إلى المنطقة الساخنة فى حياتنا الفكرية، وذلك من خلال كتابه الأول «المصريون» وكان ردًا على كتاب أصدره الدوق «داركور» اسمه «مصر والمصريون».
لم يكن كتاب «داركور» فريدًا فى نوعه.
كان قد سبقه إلى ذلك «رينان»، الذى ألقى محاضرة فى جامعة «السوربون» عن الإسلام والعلم، سلب فيها من الإسلام كل ميزة علمية، وزعم أن العلماء الذين ظهروا كانوا من الفرس أو من النصارى أو من غير العرب.

رد عليه وقتها جمال الدين الأفغانى ردًا شاملًا تساءل خلاله: هل مصدر الشر من الديانة الإسلامية أم مصدره من أخلاق الشعوب التى اعتنقت الإسلام؟
وأجاب الأفغانى: إن ما حدث فى الإسلام حدث مثله فى الأديان الأخرى، ولا يزال بعض رؤساء الكنيسة الكاثوليكية يحاربون العلم والفلسفة حتى الآن.
وبعد «رينان» نشر «هانوتو» هجومه على الإسلام وقارن بينه وبين المسيحية، ودافع عن نظرية التثليث فى النصرانية، وقال إنها ترفع مرتبة الإنسان وتقربه من الذات الإلهية، وهاجم نظرية التوحيد فى الإسلام وادّعى أنها تؤدى إلى ضعف الإنسان، وقال إن المسيحية تدعو إلى حرية إرادة الإنسان فتدفعه إلى العمل، فى حين أن عقيدة المسلمين فى القضاء والقدر تحملهم على الاستكانة والجمود.

تصدى لما قاله «هانوتو» الإمام محمد عبده من خلال سلسلة مقالات نشرها فى جريدة «المؤيد»، أظهر فيها أخطاءه فى فهمه للإسلام، وفى أنه لم يدعُ إلى الجبرية، وذكر ما جاء فى القرآن مما يثبت حرية إرادة الإنسان فى أربع وستين آية، ثم ألف كتابه المشهور عن «الإسلام بين العلم والمدنية».
كان قاسم أمين هو الثالث فى سلسلة الحوار بين الشرق والغرب.

فى كتابه «مصر والمصريون» ذهب «داركور» إلى أن تخلف مصر الاجتماعى يعود فى المقام الأول إلى الإسلام والثقافة الإسلامية، ورأى أن مصر لا تتمتع بروح قومية مصرية صميمة نتيجة ذوبانها فى كيان إسلامى غير محدد المعالم.
استفز هذا الكتاب قاسم أمين، وفى رده عليه بكتابه «المصريون»- الذى صدر باللغة الفرنسية أولًا ثم تُرجم بعدها بسنوات على يد حفيده قاسم أمين الصغير- لم يكن ضعيفًا ولا خانعًا ولا لينًا، فقد اعترف بتخلف بلاده، لكن ليس لأنهم مسلمون، ولكن لأن من يتهمون المصريين بالضعف والفقر والجهل هم الذين يضعون العقبات فى طريق نهضتهم باستغلالهم فى سبيل المنفعة الخاصة.
فى مقدمة كتابه يقول أمين: فى هذه السطور القليلة رد مختصر على الأفكار التى سجلها الدوق «داركور» عن المصريين، ولم أستطع نقل كل التفصيلات المضللة التى وردت فى كتابه لأن هذا للأسف يتطلب وقتًا، وحتى إذا وجدته فإنى لن أستطيع إلا أن أضع تفسيرات على هامش كتابه، وإنى حريص أن أفند القواعد العامة التى أراد بها تفسير ما أورده من وقائع، ولا يهمنى أن تكون بلادى الآن فى حالة تأخر، فكما مرت أوروبا بهذا التأخر فمصر أيضًا سوف تمر، ولكن الذى لا أقره عليه هو قوله «بأنه مقضى علينا بأن نستمر ولن نخرج من هذه الحالة المنحطة أبدًا، وإننى وأنا أعترف بالعيوب سأحاول أن أجد لها تفسيرًا ومبررًا.
يقول قاسم عن الأوروبيين: لقد حولوا بلاد المسلمين إلى سوق لسلعهم، ووضعوا العراقيل أمام محاولات إقامة صناعة وطنية، وعاث رعاياهم فى الأرض فسادًا محتمين بالامتيازات الأجنبية، أضف إلى ذلك السيطرة العسكرية، ومحاولة تقويض الثقافة الوطنية عن طريق الطعن فى الإسلام والثقافة الإسلامية ونشر العادات الاجتماعية المنافية للإسلام والمعبرة عن زيف الحضارة الغربية.

ظهر قاسم أمين فى كتابه «المصريون» مدافعًا عن الإسلام.
أكد أن الإسلام سبق كل الشرائع الأخرى فى تقرير حقوق المرأة كاملة قبل أن تعرفها أوروبا باثنى عشر قرنًا، ودافع عن موقف الإسلام من تعدد الزوجات، وبيّن حكمته وأحكامه مقارنة بما يجرى فى أوروبا من اتخاذ الخليلات، ونفى كذلك أن يكون الحجاب سجنًا للمرأة، لأن النساء يخرجن للأسواق والزيارة.
بعد خمس سنوات فقط، وفى العام ١٨٩٩ وبعد أن كتب قاسم أمين كتابه «تحرير المرأة» تغيرت الدنيا من حوله، فبعد أن كان مدافعًا عن الإسلام فى نظر من حوله أصبح عدوًا لدودًا له يريد أن يهدمه ويقوض أعمدته.
منعه الخديو من دخول القصر.
حاصرته الاتهامات من كبار المثقفين والسياسيين.
وحدث ما هو أكثر عندما دق باب بيته أحد العامة، وهو فى النهاية أبله ومتعصب، وعندما فتح قاسم الباب لمن قصده، دار بينهما حوار من أغرب ما يكون.
قال له قاسم أمين: ماذا تريد؟
فرد عليه الطارق فى صفاقة قال: أريد زوجتك.
تغير وجه قاسم أمين، وقبل أن يرد قال له الرجل: أليست هذه دعوتك فى كتابك «تحرير المرأة» أن يخالط الرجال النساء وأن يجلسوا معهن، هيا ادع زوجتك لأخالطها وأجلس معها.
أغلق قاسم أمين الباب فى وجه الرجل، وهو حائر لا يعرف ماذا يفعل مع هذا المجتمع الذى يتعامل بغوغائية وجهالة وقلة ذوق.
فى الحقيقة لم يدع قاسم أمين فى كتابه «تحرير المرأة» إلى أن تخالط النساء الرجال، ولكنه كان ابن بيئته وواقعه، فقد كان يعتقد أن المرأة المصرية فى وقته لا تزال غير مهيأة لأى شىء على الإطلاق، ويحتاج الأمر إلى سنوات لتربية ذهنها، كى تتمكن من الاستعداد لمناقشة الرجل فى الميدان الاجتماعى.
ما فعله قاسم يتضح لنا من الحوار الذى أجرته زوجته زينب مع جريدة «الاثنين والدنيا» فى العام ١٩٤١، أى بعد ما يقرب من ٣٣ عامًا على وفاته.
تقول الزوجة: كل ما كان يريده قاسم من دعوته أن ينهض جيل جديد فى مصر يقاوم الحياة بأخلاق وتقاليد مبنية على الكرامة والاعتداد بالنفس، ولم يكن يقصد أن تنزع سيدات عصره حجابهن، خاصة أن أولئك السيدات كُن على قسط ضئيل من التعليم.
وتؤكد زوجة قاسم أن زوجها دعا إلى تعليم المرأة وتهذيبها حتى تسهم مع الرجل فى تكوين الأسرة الصالحة وتهيئ للأجيال القادمة ذرية نافعة ونسلًا كريمًا.

وجد قاسم أمين نفسه أمام أكبر حالة من عدم الفهم وسوء الظن، فبادر إلى التأكيد على رسالته من خلال كتابه «المرأة الجديدة» الذى صدر فى العام ١٩٠٠.
بعد أن يشرح قاسم أمين وجهة نظره فى رغبته بالنهوض بالمرأة، يقول فى مقدمة «المرأة الجديدة»: إذا كان هذا هو اعتقادنا فهل يصح أن يصدنا عن المثابرة فى السعى إلى تحقيق آمالنا أن الجمهور من العامة لم يلتفت إليه أو أن بعض الكتاب أظهروا السخط عليه ما بين منتقد لم يتفق رأيه مع رأينا، وساخر يقضى عمره فى السفاسف، ومُغتر ينكر علينا حسن نيتنا؟
ويضيف قاسم: نحن لا نكتب طمعًا فى أن ننال تصفيق الجهال وعامة الناس الذين إذا سمعوا كلام الله وهو الفصيح لفظه الجلى معناه لا يفهمونه إلا إذا جاء محرفًا عن وضعه منصرفًا عن قصده برأى شيخ هو أجهل الناس بدينه، ولا يحبون الوطن إلا إذا تمثل لأعينهم فى صور قبيحة وأخلاق رثة وعادات سخيفة، وإنما نكتب لأهل العلم وعلى الخصوص للناشئة الحديثة التى هى مستودع أمانينا فى المستقبل، فهى التى بما اكتسبته من التربية العلمية الصحيحة يمكنها أن تحل مسألة المرأة والمكان الذى تستحقه من العناية والبحث.
ويتلمس قاسم أمين فى مقدمته قضية خطيرة، عندما يقول: ومن العجيب أن الجرائد وأصحاب الأفكار يرمون كل يوم علماء الدين الإسلامى بأنهم السبب فى انحطاط وتأخر الأمم الإسلامية عن سواها، ويصفونهم بالتساهل فى فهم الدين وعدم مراعاة أحكامه، ثم إذا ما تحركت غيرة لعَرض رأى يُظن أن فيه خيرًا للأمة، تحولت أنظارهم إلى هؤلاء العلماء واستفتوهم عن رأيهم فيه، وغاب عنهم أن الذين يحاربون الإصلاح ولا يفرضون لتعلمهم العلوم العصرية فائدة تعود عليهم فى تهذيب عقل واستكمال آداب أو تقويم عمل، ولم يقبلوا تدريس علم الجغرافيا والتاريخ إلا رغم أنفهم- ليس لهم مقام إلا من العلم ولا من الدين يسمح لهم بإبداء رأى فى شأن من شئون الأمة، فضلًا عن مسألة من أهم مسائل الاجتماع البشرى.
كان هذا ما أراده قاسم أمين وما فعله أيضًا، ويمكننا أن نصل هنا إلى مساحات الغموض فى حياته الفكرية والشخصية، فالكاتب والمفكر الكبير الذى كانت حياته على المشاع رحل وهناك ما خفى فيها ومنها.
الغموض الأول يتعلق بإنتاج قاسم أمين الفكرى، وهل كان هو من كتب كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة»، أم أن هناك من كتب ثم وضع اسم قاسم أمين على ما كتب حتى يبتعد عن دائرة الحرج؟
فى الحملة التى شنها خصوم قاسم أمين عليه بعد نشره كتابه قالوا: إن الإمام محمد عبده هو الذى وضع هذا الكتاب، فقد كانت له آراء فى الحجاب.. لكنه كان يخشى أن يعلنها.. فدفع الكتاب إلى قاسم أمين لينشره باسمه.
ظل هذا الكلام يتداوله الناس ويتناقلونه حتى جاء محمد عمارة الذى نشر الأعمال الكاملة لقاسم أمين وقدم لها بمقدمة طويلة.

فى كتابه «الأعمال الكاملة لقاسم أمين» الذى حرره محمد عمارة اجتهد اجتهادًا كبيرًا فى إثبات الأدلة التى تؤكد أن كتاب «تحرير المرأة» من أعمال محمد عبده، أو على الأقل شارك فى تحريره.
أولًا: استند لما قالته درية شفيق من أنه تم تقسيم العمل فى كتاب «تحرير المرأة» بين محمد عبده وقاسم أمين، فتناول الأول القضية من الناحية الدينية وتناولها الثانى من الناحية الاجتماعية.
ثانيًا: أفكار محمد عبده فى مقالاته بجريدة الوقائع المصرية وحديثه مع تلميذه محمد رشيد رضا تتطابق مع ما فى كتاب قاسم أمين.
ثالثًا: عندما صدر كتاب «تحرير المرأة» دافع عنه رشيد رضا تلميذ محمد عبده وأثنى عليه فى جريدته «المنار»، بينما صمت الإمام فلم يعلق على الكتاب لا من قريب ولا من بعيد.
رابعًا: فى الفصول التى تتناول قضايا المرأة من الناحية الدينية آراء ومناقشات فقهية ليست فى طاقة قاسم أمين، فليس من الطبيعى أنه يعرف كل هذه المصادر والمراجع الفقهية القديمة.
خامسًا: سبق لقاسم أمين أن قال فى كتابه «المصريون» ما يتناقض مع آرائه فى كتاب «تحرير المرأة»، ففى كتابه الأول دافع عن حجاب المرأة ورفض اشتراط وقوع الطلاق أمام القاضى على أساس أن هذا من أمور الخصوصية بين الزوجين، بينما تراجع عن هذه الآراء فى كتابه الثانى.
لم يكن محمد عمارة دقيقًا فيما كتبه وذهب إليه، فكل ما ساقه من حجج تم الرد عليها.

لكننى توقفت أمام رأيين أعتقد أنهما فى غاية الأهمية.
الأول صاحبه الكاتب الصحفى أحمد عباس صالح الذى يقول إن محمد عمارة تبنى هذا الاتهام لقاسم أمين لأنه يظن أن المثقفين الذين لم يتعلموا فى الأزهر لا يعرفون إلا القليل عن الشريعة الإسلامية وعن الفقه الإسلامى.
وصف عباس صالح ما ذهب إليه عمارة بأنه تعصب لا معنى له، ولم يبتعد بذلك عن سمة أساسية كانت فى محمد عمارة، فقد كان متعصبًا بل وكارهًا لمن كان يتعامل معهم على أنهم مفكرون علمانيون، وقد قاده تعصبه هذا إلى التقليل من شأنهم والإساءة إليهم.
لم يلتفت عمارة وهو يتهم قاسم أمين بقلة العلم أنه عندما أصدر «تحرير المرأة» كان مستشارًا فى المحاكم، ويعتبر فى زمانه من كبار المثقفين الأكثر اطلاعًا وعلمًا، ومن الطبيعى أن يكون إلمامه بمذاهب الفقهاء الإسلاميين أوسع كثيرًا من الدارسين فى الأزهر.
الرأى الثانى صاحبه هو الدكتور محمد صابر عرب، وورد فى تقديمه لكتاب «تراث قاسم أمين».
يقول عرب: أعتقد أن كثيرًا من آراء قاسم أمين كان موضع حوار متصل مع الإمام محمد عبده، لكن ليس صحيحًا ما قال به البعض من أن الإمام نفسه هو صاحب الفكرة كلها، فمن الثابت أن قاسم وغيره من تلاميذ الإمام كانوا يجتمعون به ويتحاورون معه فى القضايا الكبيرة من قبيل محاولة معرفة الأسباب الحقيقية لضعف المسلمين وسر تخلفهم، وانتشار البدع والخرافات بينهم، كما أن شخصية قاسم أمين واعتداده بنفسه وإيمانه بالتعبير عما يقول به، كل ذلك يؤكد استحالة أن تكون آراؤه تعبيرًا عن آراء الآخرين، حتى ولو كانت آراء أستاذه محمد عبده.
الغموض الأكبر فى حياة قاسم أمين كان فى نهايته المأساوية.
لا يمكننا أن نعتمد رأيًا واحدًا فى وفاة قاسم أمين.
فهناك من يرى أنه مات بشكل طبيعى، لكن الآراء الغالبة أنه مات منتحرًا، وهو الانتحار الذى لا يستطيع أحد أن يحسم سببه، فهل كان بسبب إفلاسه، فبلغت ديونه قبل وفاته ما يقارب الـ٤٠ ألف جنيه، أم بسبب قصة غرامه بالمطربة «وسيلة»؟

الإفلاس جرى بالفعل.
حاول أحمد عباس صالح فى عرض وتعقيب مفصل كتبه عن كتاب «المصريون» أن يجد تفسيرًا منطقيًا للديون الكثيرة التى أثقلت كاهل قاسم، فقال إنه فى عام ١٩٠٧ أى قبل وفاة أمين بعام حدثت أزمة اقتصادية كبرى متعلقة بالمضاربة على أسعار الأراضى أدت إلى إفلاس الكثيرين، ويمكن أن يكون قاسم واحدًا من ضحاياها.
كان عباس يخمن، كما خمن آخرون أن ديون قاسم أمين كانت بسبب لعب القمار، وهى العادة التى اكتسبها من صداقته لسعد زغلول.
كان قاسم أمين صديقًا مقربًا من سعد زغلول، ولم يكن غريبًا أن يهديه كتابه «المرأة الجديدة» فقد كتب إليه يقول: إلى صديقى سعد زغلول.. فيك وجدت قلبًا يحب وعقلًا يفكر وإرادة تعمل، أنت الذى مثلت إلىّ المودة فى أكمل أشكالها، فأدركت أن الحياة ليست كلها شقاء وإن فيها ساعات حلوة لمن يعرف قيمتها، من هنا أمكننى أن أحكم أن هذه المودة تمنح ساعات أحلى إذا كانت بين رجل وزوجته، ذلك هو سر السعادة الذى رفعت صوتى لأعلنه لأبناء وطنى رجالًا ونساءً.

كان سعد زغلول هو من كشف إدمانه للقمار فى مذكراته التى حققها بعد ذلك الدكتور عبدالعظيم رمضان وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى عدة أجزاء.
المفارقة أنه رغم هذه العلاقة الخاصة التى ربطت بين زغلول وأمين، فإنها انتهت تقريبًا نهاية مؤسفة، فقبل وفاة قاسم بشهور رفض سعد أن يضمنه فى قرض بنكى قيمته ٤ آلاف جنيه.
كانت حجة سعد التى ساقها فى مذكراته والتى أخبر بها قاسم أمين أنه لا يستطيع تدبير هذا المبلغ إذا ما تعثر قاسم فى السداد، لكن فيما يبدو أنه كان هناك شىء آخر.
هذا الشىء الآخر هو المطربة «وسيلة» وهى المرأة الغامضة فى حياة قاسم أمين، كما أنها على الأرجح كانت سببًا من أسباب إقدامه على الانتحار.

لكن من هى وسيلة؟
لقد بحثت عن أصل وفصل «وسيلة» لكنى لم أجد عند من كتبوا عن أهل المغنى المحدثين شيئًا يذكر عنها.
لكن بمزيد من البحث توصلت إلى بعض الحقائق.
كان قاسم أمين مِن بين مَن يترددون على صالون الأميرة «نازلى» ابنة الأمير مصطفى فاضل باشا، وهو الصالون الذى اصطحبه إليه صديقه سعد زغلول، وكانت وسيلة من ضيوف هذا الصالون أيضًا.
كانت وسيلة تجيد الغناء والعزف على العود وغناء الموشحات والأدوار، لم تحترف الغناء واكتفت بأن تغنى فى صالون نازلى، ومن استمعوا إليها شهدوا لها بالجمال الصارخ ورخامة الصوت، جذبت وسيلة قاسم أمين فوقع فى غرامها، والمفاجأة أنها بادلته الحب.
زاد الاقتراب بين قاسم ووسيلة من الحب بينهما، وكان أن طلبت وسيلة الزواج من قاسم، لكنه تردد فى ذلك، فقد كان من بين الداعين إلى عدم الزواج الثانى، كما أن عددًا من أصدقائه وعلى رأسهم سعد زغلول وقفوا حائلًا بينه وبين هذا الزواج، وبدأوا فى الهجوم على وسيلة باعتبارها تسعى بما تفعله إلى هدم رجل من أعظم رجال مصر.
لم يستطع قاسم أن يتخلى عن زوجته كما لم يستطع فى نفس الوقت أن يتخلى عن وسيلة، فدخل فى حالة اكتئاب، زاد منها إفلاسه، فقد كان ينفق على مطربته الفاتنة ببذخ شديد، وكان طبيعيًا أن يقوده الإفلاس والحرمان من حبيبته إلى الانتحار.
هناك إشارة إلى أن وسيلة لم تكن واقعًا بقدر ما كانت أسطورة، وهو ما يتضح من كواليس مسلسل «قاسم أمين» الذى كتبه محمد السيد عيد وأخرجته إنعام محمد على، وعرض على التليفزيون المصرى فى العام ٢٠٠٢.
قبل المسلسل يمكننا أن نقرأ فى كتاب محمد عمارة «الأعمال الكاملة لقاسم أمين» ما قاله عما جرى فى باريس.
يقول عمارة: كانت هناك صداقة بل حب نما بينه وبين «سلافا» تلك الفتاة الفرنسية التى زاملته فى الدراسة بجامعة «مونبيليه»، ولكن هذه الصداقة وذلك الحب قد ظل رومانسيًا، وكانت أهم آثاره تلك المشاعر النبيلة التى بدأت تتولد فى نفس قاسم نحو المرأة منذ ذلك الحين، وتلك الأحلام الوردية التى بدأت وظلت تراوده عن قيام المرأة بدور الوحى والحافز والمساعد فى حياة الرجل ومن ثم المجتمع، بدلًا من بقائها قيدًا يشد خطو الرجل والأمة إلى الوراء.

فى المسلسل كان هناك دمجٌ ما بين شخصية «سلافا» وشخصية «وسيلة».
تقول إنعام محمد على: كان لدينا دور فى المسلسل تركيبته الفنية تحتاج إلى مواصفات خاصة فى الممثلة التى تؤديه، وهو دور مركب لفتاة فرنسية اسمها «سلافا» يتأثر بها قاسم أمين، ويعود إلى مصر دون أن يرتبط بها، وفى مصر يراها تتجسد أمامه فى شكل غازية اسمها «وسيلة» وكأنهما توأم، ويعيش فى حيرة شديدة تقلب حياته رأسًا على عقب، وهذا المشهد كان من أصعب المشاهد التى يتناولها المسلسل، لأنه كان يمزج بين الواقع والخيال والحلم والأمل.
فهل كانت «وسيلة» شخصية من لحم ودم، أم أنها كانت طيفًا من خيال، تم اختراعه فى حياة قاسم أمين لتكون هناك حبكة درامية فى مسألة وفاته، خاصة أن هناك من يشير إلى أن زوجته زينب ضاقت بهذه العلاقة، وكانت سببًا فى اضطراب حياته بصورة لم يتحملها، وهو ما دفعه إلى أن يتخلص من عذابه بالانتحار.
لكن من قال إن قاسم أمين انتحر؟
فى مذكرات سعد زغلول نقرأ فى فصل «موت صديقى قاسم»: مساء يوم وفاة قاسم أمين، التليفون يدق، فدق قلبى لدقه، سمعت أحمد فى التليفون يرد بصوت المنزعج: قاسم أمين، ففهمت أنه نزل به مصاب، فانخلع قلبى وقمت منزعجًا نحو التليفون، وسألت، فقيل: قاسم بك مات، فاعترانى هلع شديد، وقلت انتحر الرجل، ثم طلبت عربة وركبت مع عبدالخالق وصدقى إلى بيته، فوجدنا العويل والصراخ والبكاء والنواح، وهناك رأيت طلعت ويحيى والدكتور عباس، وفهمنا من مجموع أقوالهم أنه عاد إلى منزله فى نحو الساعة الثامنة، وأبى أن يأكل مع الآكلين، وتألم من شىء فى أعلى صدره، فدعكته زوجته بماء الكولونيا، وطلب نارًا لإشعال سيجارة ثم فارق الحياة.
تحدث من كانوا مع سعد زغلول عن انتحار قاسم، وسأل سعد نفسه الدكتور عباس عن حقيقة الأمر، فقال له إنه موت طبيعى، ولكن كان فى جوابه شىء من التردد.

كرر سعد سؤاله عليه مرة ثانية، فأجاب الدكتور عباس بعد سكوت بأن الموت طبيعى وعلق بقوله: إنما كان عاشقًا.
فأكد سعد كلامه قائلًا: أعرف شيئًا عن ذلك.
كان الكاتب الصحفى مصطفى أمين الذى عاش سنوات فى بيت سعد زعلول قد انفرد بالنشر الأول لمذكرات سعد زغلول، وسنجد عنده بعض التفاصيل.
يقول مصطفى أمين: كان المرحوم أحمد طلعت باشا وزير الحقانية ورئيس محكمة الاستئناف يروى لى ولأصدقائه أنه كان أول من ذهب إلى بيت قاسم أمين عقب وفاته ومعه يحيى إبراهيم باشا رئيس مجلس الشيوخ ورئيس مجلس الوزراء الذى كان مستشارًا مع قاسم أمين فى محكمة الاستئناف، وأنهما وجدا فى جيبه حافظة نقوده، ووجدا فيها صورة لسيدة ليست زوجته.
وقال طلعت باشا: كنا نعرف أن قاسم أمين يحب هذه السيدة، وخشينا أن تقع هذه الصورة فى يد زوجته زينب هانم، فيزداد مصابها هولًا، واتفقنا على أن نمزق الصورة رغم علمنا أنه كان حبًا عذريًا طاهرًا.
ويذهب مصطفى أمين إلى أن المؤرخين لم يهتموا بهذه القصة ولم يقفوا عندها ربما لعدم وجود أدلة تاريخية عليها، واكتفوا جميعًا بالقول إن وفاة قاسم أمين تعود إلى إرهاق شديد أصيب بسببه بنوبة قلبية، توفى على إثرها بعد يوم حافل ألقى فيه خطابًا فى نادى المعلمين.
ويكشف مصطفى أمين أنه حتى قبيل العام ١٩٥٦ كانت كل الأحداث تشير إلى أن محرر المرأة مات بنوبة قلبية، حتى ظهر مستند خطير بخط يد أصدق صديق لقاسم أمين وهو سعد زغلول، ويتكون من خمس صفحات كاملة يتحدث فيها عن سر وفاة صديقه فجأة.
كان مصطفى يتحدث عن مذكرات سعد زغلول التى انفرد بنشرها فى الخمسينيات بجريدته «أخبار اليوم» قبل أن يقوم عبدالعظيم رمضان بتحقيقها بعد ذلك.

أشار مصطفى إلى ما كتبه سعد زغلول فى مذكراته، عن اعتقاده بأن قاسم انتحر، وهو ما ختمه بقوله: لم أفهم كون الحب يفضى إلى هذه الحالة.
يستكمل مصطفى أمين ما جاء فى الوثيقة بخط سعد زغلول.
يقول سعد: قال بعض الحاضرين إنه قام بالتأمين على حياته نظير مبلغ، فأردت التحقق من الخبر، فقام طلعت وأحضر جعبة أوراق قاسم، ووجدت فيه ورقة من شركة تفيد بأنه قام بالتأمين على نفسه نظير مبلغ ٥٠٠ جنيه يدفعها سنويًا، وفى حالة الوفاة تلتزم الشركة بأن تدفع لورثته ١٠ آلاف جنيه.

ويضيف سعد: قلت الأحسن أن تخفوا ذلك، لأنه إذا ظهر فقد تحدث صعوبات من طرف الدائنين أو بعضهم، ومكثت إلى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وكان موجودًا حسين رشدى باشا وفتحى زغلول باشا، ومحمد راسم باشا، ومحمد سعد باشا، وكنت أشعر بألم شديد فى نفسى بسبب ما طرأ على الصحبة بيننا من ضعف، ومع ذلك كنت أول من توجه فى الصباح إلى منزله باكرًا، ولم أذق فى ليلتى طعم النوم، ومكثت هناك أباشر ما يلزم من مسائل تشييع الجنازة، ودفعت شيكًا بمبلغ سبعين جنيهًا للصدقات.
ويستكمل سعد ما حدث: ذهبت إلى بيتى لأتناول العشاء وعدت إلى المأتم، وكان يوجد صالح باشا المستشار بمحكمة الاستئناف الذى تحدث عن مسألة العشق بحرص شديد، وفهمت من صالح باشا أن زينب هانم زوجة قاسم أمين كانت تغِير جدًا من المطربة وسيلة.
انتهى ما كتبه سعد زغلول عما يعتقده انتحار صديقه، وهو ما يمكننا اعتباره الدليل الوحيد على النهاية المأساوية التى انتهى إليها قاسم أمين.