444 يومًا فى وكر الجواسيس.. كتاب جديد عن احتلال السفارة الأمريكية فى إيران
- هذا الكتاب تحديدًا يُعد هو الأول من نوعه فى إيران، الذى اعتمد على العديد من الوثائق التى تم الاستيلاء عليها من السفارة وقت احتلالها
- ما زالت السردية الإيرانية لاحتلال السفارة تشغل العقل السياسى إلى اللحظة الراهنة رغم مرور ما يزيد على 47 عامًا
- قرر الخمينى أن يستفيد من المشهد للم الشمل السياسى فى الداخل، وخلق قضية وطنية يستطيع من خلالها تمرير الدستور المختلف عليه.
- فشل عملية «مخلب النسر» خدم تصورات التيار الدينى فى إيران عن الدعم الإلهى
- استغل «رونالد ريجان» حادثة السفارة وفشل كارتر ليقدم نفسه بوصفه المخلص السياسى
- الخمينى استطاع أن يثبت بشكل ما قدرته على إدارة المشهد العالمى وتحديد من يجلس فى البيت الأبيض
- هيكل كان من ضمن الوسطاء بين الخمينى والإدارة الأمريكية، بل إنه أول صحفى يصل إلى السفارة بعد احتلالها
نهايات عام 1979، فى ظل أجواء مشتعلة تسيطر على العاصمة الإيرانية، اجتمعت مجموعة من الطلاب الثوريين الذين أطلقوا على أنفسهم بعد ذلك «أتباع خط الإمام»، على رأسهم «إبراهيم أصغر زاده» طالب الهندسة الصناعية فى جامعة طهران، و«محسن مير دمادى» الذى كان يدرس بناء الطرق والكبارى فى نفس الجامعة، و«عباس عبدى» الطالب فى إحدى الكليات النظرية فى جامعة أمير كبير، ليقرروا جميعًا القيام بحركة ثورية غير مسبوقة ستهز الحياة السياسية إيرانيًا ودوليًا، الحدث الذى دخل التاريخ باسم «احتلال السفارة الأمريكية فى طهران واحتجاز الرهائن»، أو احتلال وكر الجواسيس كما اصطلح على تسميته إعلاميًا فى إيران.والذى استمر لـ444 يومًا.

فى صبيحة يوم ٤ نوفمبر ١٩٧٩ الساعة العاشرة، توجه تقريبًا ١٠٠ طالب إلى شارع روزفلت فى طهران، حيث تقبع السفارة الأمريكية، وبعد فترة حصار قصيرة زاد العدد إلى ٢٠٠، وتمكنوا من القفز على أسوار السفارة محملين ببعض الأسلحة الخفيفة من رشاشات وقنابل يدوية، وبعد اشتباكات غير مميتة مع حرس السفارة تمكنوا من الدخول إلى المبنى بطوابقه الستة واحتجاز ٦٦ رهينة أمريكية. كان المخطط أن تنتهى العملية فى عدة أيام، ولكن نتيجة لتعقيدات الموقف السياسى داخليًا، استمر الاحتجاز إلى ٢٠ يناير ١٩٨١. وتدريجيًا وصل عدد الطلاب الثوريين أو «أتباع خط الإمام» إلى ٤٠٠ داخل السفارة، واشتعل الموقف على جميع الجبهات، وبمباركة مباشرة من مرشد الثورة «آية الله الخُمينى»، رغم زعمه أن ما تم كان خارج حدود علمه، أو بتنسيق سابق.
الحقيقة أن حادثة احتلال السفارة تُعتبر حدثًا مفصليًا فى تاريخ إيران الحديث، ليس فقط فى العلاقات مع الولايات المتحدة، أو المجتمع الدولى بشكل عام، ولكن لأن هذا الحدث قد منح الثورة الإيرانية شرعية شعبية وتشريعية جديدة، بعد مرحلة من الصراع الداخلى. وما زالت السردية الإيرانية لاحتلال السفارة تشغل العقل السياسى إلى اللحظة الراهنة، رغم مرور ما يزيد على ٤٧ عامًا. فقد صدر حديثًا فى معرض الكتاب الأخير فى طهران، كتاب تحت عنوان «ايستگاه خیابان روزفلت» أو «محطة شارع روزفلت.. رواية موثقة عن احتلال السفارة الأمريكية فى طهران»، للباحث «محمد محبوبى» ونشرته «مؤسسه مطالعات وپژوهش های سیاسی» «أو «مؤسسة الدراسات والبحوث السياسية» وهى هيئة شبه مستقلة تتبع الدولة، مسئولة عن نشر الأبحاث السياسية والتاريخية الحديثة، وهى مؤسسة لها وزنها فى عالم النشر السياسى والفكرى فى إيران.

تنبع أهمية الكتاب ليس من قيمة مؤلفه، فهو حديث العهد فى عالم الكتابة والنشر، رغم أنه من الباحثين المعتمدين فى المؤسسة، ولكن لأن هذا الكتاب تحديدًا يُعد هو الأول من نوعه فى إيران، الذى اعتمد على العديد من الوثائق التى تم الاستيلاء عليها من السفارة وقت احتلالها، وكذلك الجمع والتنسيق بين الروايات المختلفة للشباب الثوريين الذين شاركوا فى الحدث الأصلى، خاصة من تبقى منهم على قيد الحياة، أو من شغل منهم مناصب مهمة فى دوائر الدولة بعد ذلك «ولنا فى هذا الأمر وقفة أثناء المقال». فرغم أن أغلب الوثائق المنشورة فى الكتاب قد تم نشرها سابقًا على فترات متباعدة، فنحن نتحدث عن نحو ٧٠ وثيقة ضخمة تمت ترجمتها إلى الفارسية تحتوى على أسماء الشخصيات المتعاونة مع أمريكا فى ذلك التوقيت سواء من رجال النظام السابق أو حتى بعد الثورة، خاصة أن تلك الوثائق كانت ممزقة قبيل استيلاء الثوار على مبنى السفارة، ولكن تم جمعها وترجمتها، ونشرها. ولكن هذا الكتاب استطاع أن يُعيد قراءتها ونقدها بشكل جيد، أو محايد نسبيًا.

الأهمية الحقيقية للكتاب ليس فقط فى مضمونه ولكن فى توقيت نشره، ومحاولة الاحتفاء به إعلاميًا وسياسيًا بشكل كبير، خاصة فى ظل الصراع الإيرانى الأمريكى، ومساحات المفاوضات والعقوبات التى لا تنتهى بين الدولتين، خاصة منذ السابع من أكتوبر وإلى الآن. فإيران تحاول أن تُقدم سردية مغلقة جديدة ومختلفة عن حادثة السفارة لتتقاطع مع السردية الأمريكية التى ما زالت مسيطرة على المجال الإعلامى لدى تناول حادثة السفارة بتفاصيلها. فالكتاب تم استغلاله سياسيًا بشكل موسع على أكثر من مستوى، لدرجة أن مرشد الثورة الإيرانية الحالى «على خامنئى» نشر تقريزًا مكتوبًا للكتاب يُشيد فيه بقيمة ما ورد فيه من معلومات، قائلًا: «إن هذا الكتاب يسد ثغراتنا الإعلامية والدعائية فنحن لم نُولِ اهتمامًا بحرب السرديات فى الصراعات العالمية».
سأحاول من خلال هذا المقال ألا أكتفى فقط بعرض الكتاب وأهميته فى الساحة الإعلامية والسياسية فى إيران، وما أثاره من إشكاليات بين مختلف التيارات، ولكن سأعمد إلى نقاش حادثة احتلال السفارة بشكل عام، بكل ما تحمله من تداخلات وتقاطعات تلقى بظلالها على اللحظة الراهنة بكل تعقيدها.

عقدة الانقلاب على مصدق 1953
رغم ما كان يموج فى إيران بعد نجاح الثورة من صراع التيارات المتعارضة خاصة بين الشباب الثوريين بكل تعارضهم الفكرى، أو الحكومة المؤقتة ذات التوجه المعتدل نسبيًا بقيادة «مهدى بازرجان» القائد الثورى المقرب من المرشد رغم ميوله الإصلاحية المعتدلة، أو رغبة آيات الله فى السيطرة على مفاصل الدولة، فى مقابل النفوذ التنظيرى والسياسى لأحزاب اليسار، أو التيار الليبرالى. خاصة ونحن أمام مشهد معقد بالفشل فى وضع دستور يجمع كل تلك التقاطعات السياسية، مع رغبة التيار الدينى فى أن يتصدر المشهد دستوريًا، ويسحب الثورة من القاعدة الشعبية ويجعلها حبيسة العمائم.
ولكن فى عمق المشهد الإيرانى، كمنت عقدة تاريخية غاية فى الأهمية تخص الولايات المتحدة، وقد تكون هى السبب الحقيقى وراء احتلال السفارة الأمريكية. ففى عام ١٩٥٣، تآمرت أمريكا ضد رئيس الوزراء الإيرانى «محمد مصدق» الذى قاد حركة إصلاحات قوية بدأت بتأميم النفط من السيطرة الإنجليزية، مدعومًا بتوافق القوى الشعبية والسياسية آنذاك. ما أدى إلى هروب الشاه محمد رضا بهلوى، ولكن مع التدخل الأمريكى، فى محاولة للسيطرة على آبار النفط فى إيران، وبالاتفاق مع المملكة المتحدة، استطاعت أن تقود انقلابًا عسكريًا عن طريق قيادات الجيش الإيرانى الموالين للشاه، أو ما عُرف إعلاميًا بانقلاب «A jax» وتم القبض على «مصدق» وعودة الشاه، وكانت بداية مرحلة جديدة فى الحياة السياسية الإيرانية، خاصة مع زيادة استبداد الشاه بدعم أمريكى، وإعادة بناء الجيش الإيرانى بتسليح أمريكى كامل، وكانت المعونات العسكرية تصل إلى ١٢٧ مليون دولار فى عام ١٩٥٥، والأهم ساهمت الاستخبارات الأمريكية فى إنشاء أعتى الأجهزة الأمنية فى إيران، والأسوأ على الإطلاق وهو جهاز «السافاك»، وحصلت الولايات المتحدة على نسبة ٤٠٪ من امتيازات البترول الإيرانى بالشراكة مع إنجلترا، وتحولت إيران تدريجيًا إلى شرطى المنطقة، فى مقابل نفوذ الاتحاد السوفيتى آنذاك، فإيران فى تلك المرحلة أصبحت ساحة الحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، والراعية للمصالح الأمريكية فى غرب آسيا والشرق الأوسط.

وحينما نجحت الثورة الإسلامية، ١٩٧٩، خرج الشاه من إيران، وقرر قبل أن يستقر فى مثواه الأخير فى مصر، أن يذهب للعلاج من مرض السرطان فى أمريكا، ما أثار عقدة مصدق فى العقل الثورى الإيرانى، وشعر الإيرانيون بأن أمريكا تدبر انقلابًا عسكريًا جديدًا ضد الخمينى وثورته، خاصة أن الثورة قد أطاحت بالعديد من قيادات الجيش القديم بشكل دموى، رغم حياد المؤسسة العسكرية من الثورة وعدم تشابكها مع الأحداث بشكل فعال، لكن المخاوف الإيرانية تعاظمت حينما تمت إشاعة أن قيادات «السافاك» السابقين كانوا على تواصل مع السفارة الأمريكية، ومنهم من تم استخدامه بالفعل فى صناعة انقلاب عسكرى أو استخباراتى ضد الثورة. وقد أورد كتاب شارع روزفلت العديد من الوثائق المنشورة لأول مرة عن اتفاقات تمت بين المخابرات المركزية ورجالات السافاك وقيادات الجيش الموالين للشاه.
فكان اقتحام السفارة رغم ما يشوبه من علامات استفهام كثيرة، لكن كانت فكرة الحفاظ على الثورة ضد أى ثورة مضادة من الأهداف الرئيسية للعملية بأكملها. خاصة مع ظهور الوثائق التى خرجت من السفارة وتمت ترجمتها فى حينها، بواسطة فتاة من شباب الثورة، انضمت فى الأسبوع الأول من حادثة الاحتجاز، وهى «معصومة ابتكار» الطالبة فى قسم الهندسة الميكانيكية فى جامعة طهران، وذلك لإجادتها اللغة الإنجليزية بطلاقة بوصفها أمضت جزءًا من حياتها فى الولايات المتحدة مع والديها، وقد كانت «معصومة» من أهم رموز الحركة الطلابية فى أحداث السفارة، فهى المسئولة الإعلامية ومسئولة الترجمة، واشتهرت فى الصحف الغربية باسم «الأخت مارى»، كما أطلقت هى على نفسها.

الرهائن أنقذوا الخمينى
رغم إصرار القيادات الإيرانية، آنذاك، وعلى رأسهم آية الله الخمينى، أن ما تم فى السفارة تصرف عاطفى وعفوى من الشباب المتحمسين، وهذا ما ورد وأكد عليه كتاب «شارع روزفلت»، ولكن العديد من المشاهدات والمذكرات، على رأسها مذكرات إبراهيم يزدى «وزير الخارجية آنذاك»، أكد أن الخمينى كان على علم بما سيحدث قبل الاحتلال بنحو ثلاثة أسابيع، وإن لم يكن هو بشكل مباشر، فعلى الأقل هناك بعض القيادات داخل مجلس الثورة كانوا من ضمن منسقى تلك العملية على رأسهم «أحمد الخمينى» نجل المرشد، أو «حجة الإسلام موسوى الخوئى» المقرب من الخمينى، وعضو فى مجلس الثورة، والمصاحب للشباب منذ اليوم الأول فى السفارة.بل إن الخمينى نفسه لم يصدر دعمه الكامل إلا بعد مرور ثلاثة أيام كاملة من عملية الاقتحام، حتى يطمئن للدعم الشعبى الذى ظهر على شكل مظاهرات تضامنية مع طلاب السفارة.

ولكن فى كل الأحوال، قرر الخمينى أن يستفيد من المشهد للم الشمل السياسى فى الداخل، وخلق قضية وطنية يستطيع من خلالها تمرير الدستور المختلف عليه، وكذلك تمكن من إتمام انتخابات مجلس الشورى، وكذلك الانتخابات الرئاسية بشكل جيد، والتى أتت بأول رئيس جمهورية وهو «أبوالحسن بنى صدر»، الذى هرب فى بدايات الحرب العراقية لاتهامه بالتخابر والفشل فى قيادة الحرب. فأزمة الرهائن ضمنت للخمينى فى ذلك التوقيت ألا تدخل أمريكا فى أى عملية سياسية داخلية، وكذلك توحد التيارات السياسية المتعارضة أمام حالة زخم ثورى قوى، يستعيد من خلاله السيطرة على الوضع الذى تأزم بشدة فى ذلك التوقيت.
كما استطاع التيار المتشدد أن يتخلص من المنافسين من الليبراليين أو المعتدلين بشكل عام، أمثال مهدى بازرجان «رئيس الوزراء المؤقت» الذى قدم استقالته بعد تسريب بعض الوثائق التى تثبت تورطه فى محادثات سرية مع الجانب الأمريكى، وكذلك استقال «إبراهيم يزدى» صاحب التوجه الليبرالى من منصب وزير الخارجية لتورطه هو أيضًا فى محاولة التواصل مع وزير الخارجية الأمريكى بشكل مباشر. وهكذا ضمن الخمينى تصفية الساحة السياسية بشكل كامل، وتوحيد الصف السياسى خلف آيات الله، الذين قرروا أن شرعية الثورة لا تأتى شعبيًا ولكن منحة مقدسة تتم من خلالهم.

عملية مخلب النسر والدعم الإلهى
يورد الكتاب جانبًا غاية فى الأهمية، يحتاج إلى نقاش، وهى الوثائق الخاصة بفشل عملية تحرير الرهائن «مخلب النسر»، التى قامت بها أمريكا فى عهد جيمى كارتر، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، الذى اتسمت قيادته للمشهد بالضعف والفشل. فبعد نحو ثمانية أشهر من عملية الاحتجاز يقرر أن ينصاع لرأى مستشاره السياسى، ويسمح بعملية إنقاذ عسكرية، باستخدام طائرات مروحية، والتى تفشل نتيجة لسوء التخطيط ولعاصفة رملية كبيرة، أدت إلى سقوط طائرتين وموت سبعة جنود، والأدهى أن يخرج الخمينى فى اليوم التالى وبجواره المدعى العام صادق خلخالى، يستعرض رفات الجنود والطائرات باستهتار شديد، ما كان له رد فعل سلبى على صورة كارتر أمام المجتمع الأمريكى، وزيادة شعبية «رونالد ريجان» المنافس الجمهورى الانتخابى فى ذلك التوقيت.
والحقيقة أن الأمر يعكس عدم فهم الأمريكان للطبيعة الإيرانية بشكل جيد، فبعد قيام الثورة، وبداية أزمة الشاه لم يفهم كارتر بشكل جيد ما يحدث فى إيران، وصمم أن الأزمة سوف تنتهى سريعًا بواسطة القمع العسكرى للجيش الإيرانى، بل إنه لم يحاول حتى التواصل مع الخمينى مباشرة بعد نجاح الثورة، واكتفى بالتواصل فقط مع الحكومة المؤقتة عن طريق وزير خارجيته، ما أشعر الإيرانيين بأن أمريكا إما تستهزئ بالثورة أن تُعد العدة إلى انقلاب جديد. كما لم يتمكن كارتر أن يدير الأزمة بشكل جيد، خاصة بعد وفاة الشاه ودفنه فى مصر، وفشلت كل محاولاته للتواصل مع الجانب الإيرانى. تلك الفكرة فى التعامل الأمريكى الإيرانى هى المسيطرة على الذهنية الأمريكية إلى الآن، فأمريكا لا تستطيع أن تنتج تفاوضًا جيدًا مع الجانب الإيرانى منذ عقود طويلة، خاصة إيران الثورة .

فشل عملية «مخلب النسر»، خدم تصورات التيار الدينى فى إيران عن الدعم الإلهى، وخرج الخمينى نفسه ليؤكد هذا المعنى، أن الثورة مباركة من السماء، وأن ما يحدث فى السفارة الآن مَرضى عنه من الله. ذلك الخطاب الدينى سيطر على الوضع السياسى بشكل قوى خلال الفترة التالية، فقد تمت الانتخابات البرلمانية يومى ٢ و٣ ديسمبر بعد احتفالات عاشوراء بيوم واحد، وفى تلك الاحتفالية بالذات استخدم آية الله الخمينى عبارات وشعارات شباب الثورة المحتلين للسفارة، مؤكدًا أنهم جميعًا من جيش الحسين أمام يزيد الأمريكى الذى يحاول أن يُعيد إنتاج مأساة كربلاء.
وعلى الجانب الأمريكى، استغل «رونالد ريجان» حادثة السفارة وفشل كارتر ليقدم نفسه بوصفه المخلص السياسى أمام ضياع الهيبة الأمريكية فى العالم، والتى تسبب فيها كارتر وضعفه أمام الخمينى، بل إن هناك بعض التقارير التى أشار لها الجانب الأمريكى فى العديد من المراكز البحثية التى تقول إن هناك صفقة ما تمت بين الخمينى وريجان فى سرية تامة، يضمن إطالة فترة عودة الرهائن بقدر الإمكان حتى نجاح ريجان فى الانتخابات، وهذا ما تم بالفعل، فلم يتم الإفراج عن الرهائن إلا فى اليوم الأخير لرئاسة كارتر فى البيت الأبيض، ورغم عدم ثبوت أى صفقة تمت بين ريجان والخمينى، فإن الخمينى استطاع أن يثبت بشكل ما قدرته على إدارة المشهد العالمى وتحديد من يجلس فى البيت الأبيض، كما أنه كان شديد الكراهية لكارتر بسبب دعمه غير المشروط للشاه على مدار سنوات.

حسنين هيكل وسيط بين الخمينى وأمريكا
ذكر كتاب شارع روزفلت العديد من الوثائق التى تثبت أن هيكل كان من ضمن الوسطاء بين الخمينى والإدارة الأمريكية، بل إنه أول صحفى يصل إلى السفارة بعد احتلالها، من ضمن تلك الوثائق أن هناك العديد من المخاطبات التى أرسلها «أبوالحسن بنى صدر» رئيس الجمهورية المنتخب إلى الجانب الأمريكى، بواسطة هيكل، الذى كان يتمتع بثقة كل الأطراف فى تلك المرحلة، منها خطاب طلب فيه بنى صدر من الإدارة الأمريكية أن تكف عن وصفه بالرئيس المعتدل أو الليبرالى، لأن تلك الصفات قد تتسبب فى غضب شعبى ضده فى الداخل الإيرانى. كما أورد الكتاب أن هيكل ظل على حالة تواصل جيدة مع الجانب الإيرانى والأمريكى، حتى منعه الرئيس السادات من تلك الوساطة، بسبب خلاف السادات فى ذلك التوقيت مع الخمينى والثورة الإيرانية ككل. بل إن هناك العديد من التقارير التى تشير إلى أن عملية «مخلب النسر» التى فشلت فى تحرير الرهائن كانت تدار من مطار المنيا فى مصر. ورغم عدم ثبوت تلك المعلومة ولكنها من ضمن المعلومات التى وردت سردًا دون وثيقة فى الكتاب.

ولم تنتهِ أزمة الرهائن إلا عام ١٩٨١، بوساطة جزائرية، بحيث قرر الجانب الأمريكى أن يمنح إيران ما يقارب الخمسة مليارات دولار، من أموال الشاه المجمدة، مع الوعد بعدم التدخل فيما يخص إيران داخليًا، خاصة أن تلك المرحلة كانت تمثل فصلًا جديدًا فى الحياة السياسية الإيرانية وبداية الحرب العراقية، فلم ترَ إيران أن استبقاء الرهائن سوف يفيد على أى مستوى سياسى، بل إنهم شكلوا عبئًا حقيقيًا أثناء الحرب، فعاد الرهائن عن طريق الجزائر إلى الولايات المتحدة، ولكن ظلت غصة السفارة وأزمتها حاضرة إلى الآن فى الخطاب السياسى الإيرانى والأمريكى.

شباب خط الإمام والتيار الإصلاحى
مع نهاية أزمة الرهائن بعد ما يقارب العامين، بدأ شباب الثورة الذين قادوا عملية السفارة، فصلًا جديدًا من حياتهم، فتحول أغلبهم إلى التيار المعاكس تمامًا، لقد أيقنوا أنه تم استغلالهم بشكل ما، وأن الثورة فقدت الكثير من وجهها المثالى، وسيطرت القيادات العسكرية التابعة للحرس الثورى على المشهد خاصة مع بدايات الحرب العراقية ونهايتها، فقرر أغلب قيادات متبعى خط الإمام، أن يتجهوا إلى الجانب الإصلاحى المعارض لتوجهات الدولة الإيرانية الجديدة.
«إبراهيم أصغر زاده» انتمى للتيار الإصلاحى وأصبح نائبًا فى البرلمان، وداعمًا كل التوجهات المعارضة لسيطرة رجال التيار المتشدد وقيادات الحرس على المشهد السياسى، وظهر له العديد من الحوارات الصحفية والمتلفزة التى يعلن فيها عن ندمه على قيادة أزمة السفارة بهذه الكيفية. وكذلك هو حال «محسن ميردمادى» الذى أصبح مفكرًا إصلاحيًا له العديد من الكتابات وعضوًا مؤسسًا فى «حزب المشاركة» صاحب الوجود الإصلاحى القوى خلال فترة «خاتمى» ومن تلاه، وكذلك عباس عبدى الذى تحول إلى ناشط وصحفى ومؤسس صحف إصلاحية معارضة لتوجهات الدولة. حتى إن معصومة ابتكار، نشرت كتابًا تحت عنوان «تسخير الاحتلال»، بمشاركة صحفية أمريكية، تحدثت فيه عن موقفها من اقتحام السفارة، وشغلت مناصب بعد ذلك فى حكومة محمد خاتمى وحسن روحانى الرئيسين الإيرانيين الإصلاحيين. وشكل كل هؤلاء دعمًا قويًا للرئيس المعتدل «مسعود بزشكيان».

بل إن الكتاب ذاته واجه تباينات وانتقادات شديدة بين مختلف التيارات فى إيران، فقد احتفى به المرشد على خامنئى، ومن خلفه تيارات عسكرية أو رجال دين متشددين، معتبرينه سردية مهمة للغاية أمام التوجهات الأمريكية المتعنتة ضد إيران، فى حين أن الصحف الإصلاحية، تعاملت مع الكتاب بوصفه مجرد تجميع لوثائق مشكوك فى أمرها، ولا يخدم توجه الدولة التفاوضى فى المرحلة الراهنة، وأن محاولة تصديره الآن لا تخدم مصالح الدولة أو المجتمع.
الحقيقة أن حادثة السفارة كانت مفترق طرق فى إيران، سواء على المستوى السياسى أو العسكرى أو التشريعى، وكانت نقطة تحول مركزى بين إيران الثورة والمجتمع الدولى، وحددت العديد من المتغيرات السياسية الداخلية، ومنحت الثورة مذاقها الخاص الذى ما زالت تصدره إلى اللحظة الراهنة.



