فصل من رواية غُربان ديكسون لـ جهاد الرنتيسى
تَفْقِد الكتب المنتصبة على الرف الخشبى عتمتها مع ضوء الشمس المُتسلل من نافذة الغرفة، يميز سعد الخبايا الأحرف الإنجليزية المكتوبة على أطراف الأغلفة دون نظارته الطبية، وينظر إلى امتداد زقاق النرويجية «١» قبل العودة إلى الكتابة فى دفاتره الزرق.
كان هارولد ديكسون «٢» مسكونًا بالمغامرة، تتملكه رغبة تحويل المحيطين به إلى ظلال، أتاحت له الصحراء الامتلاء بوهم التحرك فى الفراغ، ثقة خرافية بالقدرة على ترك أثر أينما حل، يقين التحول إلى واحدة من أساطير الشرق التى سيطرت على خياله، وصار بيته على شاطئ الخليج مزارًا لتلاميذ يتندرون على ظل باهت لتاريخ مُخاتِل.
حاول فى حديثه عن رضاعته من بدوية إظهار اقترابه من الكائنات الصحراوية التى عاش بينها، تكريس انطباع معرفته بالناس والدواب والمناخ فى أذهان قراء يستهويهم التلصص على حياة المخلوقات البدائية فى أطراف العالم، وربما التذكير بانحداره من سلالة خَبِرت المنطقة.

حالت إشارته العابرة إلى عناده الإنجليزى دون انزلاقى نحو بناء قصور فى السراب، توقفت مطولًا أمام ما قاله، أيقنت حرصه على التميز عن المحيطين به، الاحتفاظ بقدر من التفوق العرقى، ولم أتردد فى استبعاد بحثه عن جذر لا يحتاجه فى كثبان رَصَد اتجاهات الرياح التى تعصف برماله.
قد تميزه نشأته فى المنطقة عن مستشرقين آخرين، لكنه لا يبتعد كثيرًا عن رغبتهم فى تقمص يمنح نصوصهم شيئًا من الإثارة، ويوسع مداخل تمرير مفاهيم وتصورات موروثة للشرق.
يحاول استعادة فكرته مع تأمله انحسار الضوء عن أرض الزقاق الأسمنتية، اختفى لمعان بقعة الماء، يمسح العرَق الراشح على صدغيه بطرف منشفة رطبة على كتفه، ويعود إلى دفتره.
ظل وفيّا لأسلافه المستشرقين فى التنقيب عن دلائل على بدائية الشرق، لكنه افتقر للروح التى ميزت زملاءه جون فيلبى، وجيرترولدبيل، وبَقِيَت عقدة النقص تلازمه حتى وفاته، أظهرت بعض الأوصاف التى أطلقها على شعوب المنطقة فجاجة عسكرى اشتغل على هندسة الدول، حاول تمرير ملاحظاته بخبثِ سياسى أتقن إيصال الرسائل للملوك والسلاطين، واجتهد فى إخفاء أسرار قد تتيح تقديرات الأرشيف البريطانى الكشف عنها ذات يوم، ليعيد المخدوعون النظر فى أوهامهم، ويبنون أخرى على أنقاضها. لا أستطيع قياس النجاح الذى حققه فى تضليل قارئه الغربى حين قادته الظنون إلى وهم إقناع الباحثين عن سحر الشرق برؤية جدّى البشرية آدم وحواء فى سذاجة العلاقة بين البدوى وزوجته، وأتجنب التسرع فى تقدير رضا غرور المسكونين بهاجس وجود بشر دون البشر، مع تحويله نساء البدو إلى أداة لإزالة الفوارق بين إنسان المنطقة وحيواناتها.
لاحقتنى الأسئلة عن مواصفات الإنسان فى ذهنه قبل الانتهاء من قراءة كتبه للمرة الثانية، أضحكنى أكثر من مرة استخدامه وصف «الوحشية العاطفية» لممارسة الحب بين البدو، وجدته غريبًا ولم أزل، قادتنى حيرتى للبحث عن بدايات ظهور مفهوم السادية فى كتب علم النفس، عجزت عن تخيل بدوى الجزيرة العربية عينة لبحث العلماء الأوائل، وانتهيت إلى أهمية زيادة قراءاتى عن الجنس فى مجتمع البادية.

تراوده الرغبة فى حمام بارد مع إحساسه بالدبق تحت إبطيه، تتحول إلى قرار، يؤجله حين تلوح فى ذهنه إحدى شطحات ديكسون، ويعود إلى دفتره الأزرق قبل رحيل الفكرة.
استفزنى النَفَس الاستعلائى الواضح فى إشارته لاختلاف الحب بين الشرق والغرب، توقفت عند حديثه عن أسئلة يطرحها عليه الأوروبيون حول قدرة البدوى على ممارسة الجنس، كما يفعلون، ورجحت ذهابه بعيدًا فى إظهار فوارق الممارسة بين الحالتين. أجبرنى إفراطه فى إطلاق أوصاف التوحش على التوقف مطولًا عند إحدى عباراته، بحثًا عن مبرر لحديثه عن تحول الشرقى إلى مخلوق كاسر إذا تعرضت نساؤه للإساءة، واحترت فى نخوة الغربى حين يتعرض لمثل هذه المواقف.
لدىّ من الأسباب ما يكفى لاستبعاد عفوية مقارنة ديكسون لأعراف البدو وتقاليدهم بحياة الغرب، لم أجد ما يبرر المقارنة حين يتعلق الأمر برؤية أطفال الجزيرة العربية لوجه الميّت، واستغربت إقحام تلك التقاليد قسرًا فى شروحاته لتكريم قتلى الحروب بزواج قادة المنتصرين من زوجاتهم.
يغمض عينيه على هدوء الزقاق بعد انتهائه من تدوين ملاحظته، يفتحهما على تسلق الظلال إلى منتصف الجدار المقابل، ويعود إلى دفتره بحجة أخرى بعد أن يذرع الغرفة جيئة وذهابًا.

تقتضى اللباقة وصفًا محايدًا لطعام بدو الشرق، يتعرف الغرب من خلاله إلى ذائقة عرب الصحراء «٣»، ثقافتهم الغذائية، حضور كائنات بيئتهم على موائدهم الفقيرة، لكنه فضل حرمان قراءه الغربيين من متعة المعرفة ليرضى الغرور الذى زرعه أسلافه المستشرقون. فاجأتنى إشارته إلى طبخ البدو غذاءهم دون إتقان، بدت لى للوهلة الأولى تهمة تبحث عن دليل، وجد الدليل فى كثرة الدهن على لحم الحمل والأرز الذى قُدِم له فى بيوت شَعر حلّ ضيفًا عليها. حدد الصواب والخطأ فى كثرة الدهن وذائقة الأوروبيين، غابت حاجة أجساد أبناء الصحراء لمثل هذه الأطعمة عن خياله، لم يضع مطابخ الشرق العامرة التى عرفها فى بلاد الشام فى اعتباراته، وأبقانى حائرا أمام سؤال عن صاحب فتوى تحويل موائد الغرب إلى معيار للذة.
يعيد قراءة ما كتب للتأكد من اكتمال الفكرة، لا يجد ما يضيفه، يلتفت إلى عناوين الكتب المنتصبة على الرف خلال محاولته غربلة الذاكرة، تداهمه فكرة توقف عندها خلال قراءته الكتاب الأول، يطوى صفحة من الدفتر، ويبدأ من أول أسطر الصفحة التالية.
امتدت خطايا ديكسون إلى تعريف الغزو فى الجزيرة العربية، لم أستبعد جهله بأسبابه، ولا أستطيع تبرئته من محاولة تزييف وعى قارئه الغربى، قد تكون محاولة لإرواء أوهام تطفو على السطح بمجرد ذكر الشرق، وربما رغبة دفينة فى تبرير استعمار شعوب المنطقة، بحثًا عن راحة لضمير منهك.
تطلبت محاولة تفسير تشبيهه لغزو البدوى برياضة الغربى مقاربة متأنية بين الاثنتين، بحث عميق فى جوانب الاختلاف، أوجه الحاجة لهما، والآثار التى يتركانها فى الروح والجسد.
أخفقت فى إيجاد ما يربط دوافع الثأر والانتقام وجمع الغنائم بمهارات الوثب واليوجا والرغبة فى جمال الجسد وتناسقه لأنتهى إلى هوس ديكسون بإثبات أصالة العنف فى سلوك الشعوب التى عاش ومات بينها، وأتاحت تحويل سيرته إلى مَعْلم لتاريخ استعمارى يُحتفى به.

حتى أحلامه مثيرة للريبة، يتمتم بعد الانتهاء مما دوّنه عن تشبيه غزو البدوى برياضة الغربى، يكتب بعض النقاط على ورقة استقرت عند زاوية الطاولة القريبة من زجاجة الماء، ويعود إلى دفتره الأزرق.
أحلام ديكسون الوجه الآخر لتفكيره، ابنة منام المستشرقين، يرشح منها تعالى المستعمِرين، يصعب عزل أحداثها عن أفعاله، لفت نظرى تحولها إلى نبوءات تتحقق على أرض الواقع، قد يكون الهدف من كتابتها بهذه الطريقة إبهار قارئه الغربى بقدراته الخارقة على كشف المجهول والإتيان بالمعرفة، وربما إظهار أهمية اكتشافاته فى مجاهل الخليج، والجزيرة العربية.
تعلق الهاربون من النار بسيارته أملًا فى النجاة، رجوه أخذهم معه إلى بر الأمان، رأى بعد فراره من الحرائق بحرًا هائجًا صارت النار معه بردًا وسلامًا، وتحقق حلم سنة الهدامة «٤» بعد ستة أيام من حدوثه، تخيلته للوهلة الأولى ربانًا فى سفينة نوح، لم أقتنع بأن ما رواه حلم، وتملكتنى الشكوك فى اختراعه لإظهار الغرب منقذًا لشعوب الشرق.
أعادتنى شهوة النفط فى أحد أحلامه إلى التفسير الذى يرى فى أحلام الليل تظهيرًا لاهتمامات النهار، افترضت حدوث ذلك الحلم، واستوقفنى ظهوره بطلًا هوليوديًا يحسم الموقف بقتل الشيخ الفارسى الذى يقود الجموع المهاجمة.
استحوذت أم مبارك العرافة على بعض تفكيرى خلال التدقيق فى روايات مناماته، تراءت لى وهى تفسر أحلامه قارئة مستقبل فى بعض الأحيان، مرشدة للسياسة الاستعمارية فى أحيان أخرى، ولم أستطع أخذ حديثه عنها على محمل الجد.
حيّرتنى شهادة زوجته فيوليت، كتبت فى مذكراتها إنه كان يمشى نائمًا، فاجأتها العادة التى لم يخبرها عنها قبل الزواج، أظنه أخفى الكثير لتشاركه دهشة الاكتشافات، تساءلت للوهلة الأولى عن أوضاع نومه أثناء الحلم، الفارق بين حلم يمشى، وآخر يتمدد على السرير، وأضحكتنى فرضية مشى النائم بحثًا عن نبوءات الأحلام.
يلوح فى ذهنه ما قرأه عن تباهى ديكسون باستغلال ضيافته للبدو فى جمع المعلومات عما يدور فى الصحراء، ويلقى نظرة خاطفة على شريط الفيديو الذى جاء به بدر من الكويت خلال الصيف الفائت، «تمن علينا فيوليت «٥» بسرقتهم نفطنا ونحتفل بصورتنا فى عينيها»، داهمته العبارة التى قالها صاحبه خلال متابعتهما حديثها بالأبيض والأسود عن بشارة اكتشاف النفط كما حملها زوجها للحاكم، ويستعيد بعض ما قاله ناجى علوش قبل أن يطوى صفحة من دفتره الأزرق، ويعود للكتابة.
حدثت أبو إبراهيم «٦» مطولًا عما قرأته من مغامرات الصحراء، أصغى لى حتى انتهيت، فاجأنى بالعودة إلى تنظيرات فرانز فانون، حرِص على التأكيد بأنه أفضل من تناول هذه المناخات، مر سريعًا على حيونة الفرنسيين للجزائريين، وتوقف عند محاولة إقناع الضحية بأنها مجرمة.
استغرب الناشر الذى شاركنا نهايات الحديث فى أحد مقاهى شارع الحمراء ارتفاع أثمان كتب ديكسون المكتوبة بالإنجليزية، اتفقنا على إرضائها الذات الغربية المريضة بالتفوق الزائف على شعوب الشرق، واستبعاد رغبة المستعمِرين فى تحويلنا إلى نسخ عنهم.
١ـ زقاق النرويجية: أحد أزقة مخيم مار إلياس للاجئين الفلسطينيين فى بيروت.
٢ـ هارولد ديكسون : ضابط ومستشرق بريطانى عمل وكيلًا سياسيًا فى الناصرية والبحرين ثم معتمدًا سياسيًا فى الكويت عام ١٩٢٩ حتى تقاعده عام ١٩٣٦ ليصبح ممثلًا محليًا أعلى لشركة نفط الكويت حتى وفاته.
٣ـ «عرب الصحراء» كتاب أصدره ديكسون يتحدث فيه عن حياة وعادات البدو فى المنطقة.
٤ـ تعرضت الكويت عام «١٩٣٤» لأمطار غزيرة، أدت إلى هدم الكثير من البيوت الطينية، وعرف ذلك العام بسنة الهدامة.
٥ ـ فيوليت ديكسون هى زوجة هارولد ديكسون، وعرفت فى الخليج والجزيرة العربية باسم أم سعود.
٦ـ أبو إبراهيم كنية المفكر ناجى علوش.
فصل من رواية «غُربان ديكسون»