جواهرجى الموهوبين.. ما تيسر من سيرة حسن فؤاد
- أول من حمل لقب «المشرف الفنى» فى تاريخ الصحافة المصرية، وأول شيوعى يبنى ويزين مسجدًا فى السجن.
- ترك الرجل بصمة أو لمسة فى وجدان كل من مر بهم
- أو مروا به فنيًا وإنسانيًا بل إن تأثيره الإنسانى كان أحيانًا لا يقل روعة وسحرًا
- من اللحظة الأولى آمن حسن فؤاد بالثورة ومبادئها واعتبر نفسه من جنودها المكلفين بتحقيق أحلامها، وعاد من روما ليشارك فى إصدار «التحرير» وكلفه رئيس تحريرها أحمد حمروش بالمسئولية الكاملة عن إخراجها.
- بعد أشهر قليلة من «اغتيال» نجاحه فى مجلة «التحرير» قرر أن يُصدر مجلة على نفقته
- رسالة الفن كما رأى هى تحرير الإنسان من الاستعباد والاستغلال والجهل والرجعية والتخلف
- عندما انتصرت ثورة يوليو كان حسن فؤاد من أكثر الناس ابتهاجًا فقد تحققت بعض أحلامه
- حتى وهو فى السجن مقيد الحرية ويعانى من الإنهاك الروحى والجسدى ومن آلام الربو وحصوات الكلى لم ينس دوره كفنان وكأستاذ وكأب روحى لمن هم خارج - السجن، فكان يتابع أعمالهم من خلال ما يصل إلى السجن من صحف ومجلات.
- كان من بين الذين اعتقلهم عبدالناصر فى حملته الأشد على الشيوعيين بسبب تأييدهم عبدالكريم قاسم
- لم يغير السجن قناعاته الراسخة بالاشتراكية وبالفن فى سبيل الحياة
قصدت تأخير الحديث عن هذا الفنان مع سبق الإصرار والترصد، ليس تقليلًا منه، بل تأكيد لعبقريته، وإذا كان كل «تأخيرة وفيها خيرة» أحيانًا، فإن «التأخيرة» هنا كان هدفها خيرًا بالفعل، وهو أن ترى بنفسك مقدار ما تركه من أثر عميق فى ريشة ووجدان كل رسام فى جيله والأجيال التالية، ومن أثر محفور فى قلم وعقل كتّاب جيله وأجيال لاحقة، فقد كان هو «الأسطى» الكبير الذى احتضن ورعى وفتح الباب وأضاء الطريق ومهده للقادمين خلفه من أصحاب المواهب..حتى إنه- للإنصاف - كان يستحق أن نبدأ به ويكون فاتحة وطليعة ملوك الريشة.
إنه أثر وتأثير كان رفيق عمره مايسترو الصحافة صلاح حافظ هو الأكثر بلاغة وصدقًا وسحرًا ووعيًا وعذوبة وهو يكتب عنه ويصفه بكلماته:
«لا يكاد يوجد ركن فى الضمير المصرى المعاصر لم يشارك فى صياغته هذا الرجل.. فكل أداة تُشكل الرأى العام والذوق العام كان له دور فى تطويرها وتوجيهها وتربية الذين يستخدمونها..وهو قد بدأ حياته فنانًا تشكيليًا يخاطب الناس بالريشة والألوان، لكنه لم يلبث أن اقتحم عالم الصحافة والقلم والسينما والإذاعة، وأنجب فى كل من هذه العوالم زحامًا من التلاميذ، ومعظم هؤلاء التلاميذ هم الذين يقودون الآن عقل الأمة المصرية، أو على الأقل يشاركون فى قيادتها..وإذا كانت أسماء بعضهم الآن ألمع كثيرًا من اسمه، فلأنه كان مشغولًا بهم عن نفسه، وكانت قضيته ومتعته الكبرى أن يؤهلهم للنجومية والقيادة».

1
إنه المعنى الذى ستجده حاضرًا دائمًا وبقوة لدى كل من كتب عن حسن فؤاد، نهر الفن والعطاء كما أسماه صلاح حافظ، وربما لا تجد لقبًا له بهذا السحر الرومانسى، لكنك حتمًا ستجد معناه وشرحه وتأكيده وتفسيره..
قصده الكاتب العملاق أحمد بهاء الدين عندما قال عنه:
«أعظم تركة خلّفها حسن فؤاد لا يعرفها إلا الذين اقتربوا منه وعايشوه فى السراء والضراء..فأعظم تركته إنما تركها فى عقول وقلوب وأذواق المئات من الذين مروا به أو مر بهم».
وعناه أمير المبدعين يوسف إدريس عندما كتب فيه:
«حسن فؤاد موجود فينا كلنا، فى جيلنا كله، وحتى فى الأجيال التى تلته- ربما - دون أن يعرفوا..هو موجود فيهم وسحره باق، لأن الفنانين الذين خلقهم ووجههم باقون يتوارثون رؤاه..يستوحون فنه وشخصه وخصاله وأفكاره، خاصة وقد تحول من بشر على الأرض إلى نجم فى السماء، هوى إلى أعلى، وأصبح ضوءه أشد وأخلد وأقوى»..
وأكده رسام الكاريكاتير البارز «عبدالسميع» عندما حكى:
«أذكر أننى أعجبت بشخصية «وصيفة» «بطلة رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوى التى رسم حسن فؤاد شخصياتها ببراعة» وقررت أن أرسم لها صورة زيتية، وحين فرغت من الصورة اكتشفت أنى تأثرت إلى حد بعيد برسم حسن فؤاد لها، وقد أعدت رسم الصورة عدة مرات، وكنت أكتشف فى كل مرة تأثرى بحسن فؤاد، حتى استطعت بمشقة الخروج من فنه ورسمت الشخصية بوجهة نظر مختلفة».
وصاغه الولد الشقى محمود السعدنى بطريقته الساخرة الفذة :
«كان يقدر كل المواهب حتى الهشة والضعيفة، ويرى أن المواهب كالأقمشة، وأن الحرير له مكان وله مناسبة، وللكستور مكان ومناسبة، وكلاهما ضرورى جدًا لاستمرار الحياة..ولم يكتب لحسن فؤاد أن يستمر أو يستقر فى عمل، وعندما انشغل أبناء جيله كل منهم بعمله أو فنه، انشغل حسن فؤاد بالحياة، ومن أجل الحياة تفرغ للبراعم الجديدة والمواهب الواعدة.. كانت له عين نفاذة ترى الجواهر المدفونة، وأنف حساس يشم رائحة الموهبة على بعد مائة ميل».
ترك الرجل بصمة أو لمسة فى وجدان كل من مر بهم أو مروا به، فنيًا وإنسانيًا، بل إن تأثيره الإنسانى كان أحيانًا لا يقل روعة وسحرًا، مثل ذلك الموقف الذى حكاه صديقه وزميله الرسام الكبير زهدى العدوى، والذى زامله يومها أيضًا فى سجن الواحات بين معتقلى اليسار الذين شاء حظهم العاثر أن يتجمعوا فى هذا السجن الرهيب الذى كان يضرب به المثل فى القسوة والعذاب «بين ١٩٥٩ و١٩٦٣».. فما الذى فعله حسن فؤاد ليحول سجن الواحات إلى واحة ؟
لنسمع الإجابة من عم زهدى :
«كان الإنسان فى حسن فؤاد هو كل شىء: رسومه وحكاياته وفكره وأستاذيته وعطاؤه الواسع العريض، كان حسن فؤاد أبًا لكل هذه الدوائر، وما أظننى قادرًا على الإحاطة بحياة إنسان كبير فى سطور، وحسبى أن أذكر مثالًا واحدًا بسيطًا إلا أن له دلالة كبيرة.. كنا نتشارك فى مبنى واحد من سجن الواحات الخارجة، عشرون عنبرًا، حيث يتسع كل واحد منها لأكثر من خمسة عشر فردًا، وكنا نغلق أبوابها فى الساعة السادسة مساء كل يوم حتى الصباح.. وجاء يوم رجع فيه المعتقلون من مزرعة السجن، ودار الحرس على العنابر لإحصاء الأفراد تمهيدًا لإغلاق الأبواب..
«وعندما أغلق باب عنبرنا ونظرنا إليه استولى علينا الانبهار جميعًا، كانت المساحة الخشبية للباب من الداخل قد اختفى منها ما يدل على أنه مغلق، كانت عليه رسوم لمنظر ريفى جميل يمثل شاطئًا فيه أشجار وبيوت فلاحين، يمشى فوقه طابور من صبايا الفلاحات حاملات الجرار بتنسيق واقعى جميل، وتنعكس ظلال الشاطئ- بيوته وأشجاره وطابور حاملات الجرار - على صفحة الترعة التى تنبسط كالمرآة الصافية لا تتعرج فيها إلا تموجات خفيفة وراء سرب من الأوز الأبيض، وفوق كل هذا تعلو سماء صافية تضفى لرقتها على المشهد هدوءًا وسكينة واطمئنانًا لا مفر منه، ولقد بلغ هذا العمل غايته وحقق الغرض منه على الفور، وفى الصباح أصبحت هذه اللوحة مزار الجميع من زملاء إلى حراس.. إن إنسان حسن فؤاد أدرك أن النفوس التى تقيم هناك تعانى الكثير، وأدرك مدى الإصابة التى يتعرض لها الإنسان هناك، وكانوا خليطًا من الفنانين والأدباء والأطباء والمهندسين والعلماء والعمال والطلبة.. وكان جميع هؤلاء معرضين لإصابة واحدة هى الشعور بالظلم لأنهم أصحاب رأى، ولأن حسن فؤاد- قبل أن يكون فنانًا وأديبًا ومفكرًا- كان يحمل فى ذاته إنسانًا خالصًا، أدرك هذا الخطر على النفوس الشريفة، وكان كل ما قدمه أن فتح فى جدار السجن طاقة واسعة يشاهد منها المرء صورة من خارج السجن، هى صورة مصرية صميمة.. تفيض رقة فى كل شىء.. ولعل أبلغ تعبير سمعته من بعض الزملاء أنه عندما ينظر إلى هذه اللوحة يحس كأن موجات خفيفة من النسيم تهب عليه وتمسح على جبينه بمسحة رطبة فى أشد فترات الصيف الصحراوى قيظًا».
إن مروره يترك أثرًا بديعًا فى النفوس، حتى ولو كان مرورًا عابرًا كحالة الناقد السينمائى البارز سامى السلامونى، فرغم أنه لم يكن محسوبًا على الحركة التشكيلية أو الأدبية ليتقاطع مع حسن فؤاد، ولكن واقعة واحدة فى مقتبل حياته جمعتهما بالصدفة جعلته يذكره بالخير والتقدير طوال عمره.. كتب عنها وعنه:
«زمان عندما كتبت أول ما تصورت أنه قصة قصيرة أرسلتها إلى مجلة (الغد) التى كان يصدرها.. وعندما نشر ردًا فى سطرين على قصتى التى لم ينشرها أحسست بسعادة طاغية لمجرد ذكر اسمى.. وعندما أصدر مجلة (صباح الخير) هو وأحمد بهاء الدين كنت أتردد على مكاتبها- رغم أنى لم أعمل بها- لمجرد أن بها أمثال حسن فؤاد.. وتعوّد جيلى أن يناديه (الأستاذ حسن)، ثم وجدناه أبًا وفنانًا وبسيطًا بحيث فضلنا أن نناديه (عم حسن) ففضلها هو أيضا».
الغريب والمدهش أن عم حسن كان تقريبًا فى نفس جيل تلاميذه بل ربما أصغرهم سنًا، لكنه- كما يقول لويس جريس أحد هؤلاء التلاميذ- استطاع بتصرفاته وسلوكه أن يصبح أبًا روحيًا للموهوبين- رسامين وكتابًا- سواء من أبناء جيله أو الأجيال التالية.
فمن يكون هذا الرجل الذين تدين له أجيال من المبدعين بالمحبة والتقدير، جزاء وفاقًا لأياديه البيضاء عليهم وتأثيره الطيب وبصمته الحميدة قى وجدانهم؟
وأتصور أن ملايين المصريين من قراء الصحف والمجلات الآن مدينون له كذلك عن تلك السلاسة واليسر ومسحة الجمال التى حولت قراءة الصحف والمجلات إلى متعة، حُرمت منها أجيال سبقت، وكان هو سر تلك المتعة وسببها.. ومن صنع يديه وريشته وموهبته وعبقريته..
من يكون «عم حسن» بوصف سامى السلامونى الحميمى البسيط.. أو نهر الفن والحياة بوصف صلاح حافظ الشاعرى البليغ؟

2
شحيحة هى المعلومات والحكايات التى تتناول مرحلة نشأته وطفولته وتكوينه، لعل أبرز ما فيها هو الرقم المميز لتاريخ ميلاده والذى يحتل فيه رقم ٢٦ دور البطولة، فى اليوم والسنة معًا، حيث ولد فى ٢٦ من شهر يناير، فى العام ٢٦ من القرن العشرين، كان والده «إبراهيم أفندى الدسوقى» مدرسًا بوزارة المعارف وترقى فى درجاتها حتى وصل إلى درجة المفتش.
ذاق حسن الصغير مرارة اليتم مبكرًا، حيث رحلت والدته وهو طفل لم يزل، وتزوج أبوه بزوجة جديدة، كان من حسن حظه أنها عاملته بحنو ورفق، وبحكم عمل الأب فى وزارة المعارف «التعليم» كان يضطر مع الترقى إلى الانتقال إلى مدارس جديدة فى محافظات مختلفة، وهكذا أتيح للطفل الصغير أن يطوف ويسكن ويعرف مدنًا مختلفة باتساع خريطة مصر.
فى سنوات دراسته الابتدائية والثانوية كان تلميذًا نجيبًا بمصطلحات تلك الأيام، ينجح بتفوق ويحصل على أعلى الدرجات، ويجد دائمًا بجوار ساعات المذاكرة الطويلة وقتًا لهواياته المحببة: الرسم والقراءة.
تميزه فى الرسم شجعه على الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة عام ١٩٤٤، وفيها وجد نفسه وتفتحت موهبته، وفى قسم «التصوير» الذى اختاره راح يشرب من خبرات ومحاضرات أساتذته الكبار: بيكار، أحمد صبرى ويوسف كامل.. المدهش أن التأثير الأهم جاء من مدرس شاب بقسم الزخرفة، هو عبدالسلام الشريف الذى قُدر له أن يلعب دورًا فارقًا فى مسيرة ومصير حسن فؤاد العملية.
ففى العام ١٩٤٧ قررت مدرسة «كلية» الفنون الجميلة أن تصدر مجلة مدرسية للفنون الجميلة يحررها طلابها، وأسندت مهمة الإشراف عليها إلى عبدالسلام الشريف، والذى اختار بدوره مجموعة من الطلبة توسم فيهم النبوغ والموهبة والقدرة على الرسم والكتابة معًا، وضمت هيئة تحرير المجلة الطلاب: حسن فؤاد، مختار العطار، سمير رافع، لويس جورجى، كمال أمين ومراد القليوبى.
فى هذه المجلة تفتحت موهبة حسن فؤاد وأشرقت وتركت تأثيرًا بالغًا فى شخصيته الفنية، بفضل تلك الفرصة التى منحها وأتاحها له أستاذه الأول عبدالسلام الشريف، فقد دلته وأثبتت له منذ وقت مبكر أن الصحافة هى مستقبله وميدان إبداعه بالريشة والقلم، ولأهمية تلك التجربة المبكرة على حسن فؤاد نتوقف عندها، ونترك صاحب الفضل فيها ليحدثنا عنها، فماذا كتب عبدالسلام الشريف فى أوراقه ؟
«كانت هذه هى الإشراقة الأولى والبداية الحقيقية لبزوغ نجم حسن فؤاد فى عالم الصحافة بفروعه المختلفة، من الكتابة إلى الرسم إلى الإخراج الفنى، فقد كان هو محور الارتكاز بين زملائه فى هيئة التحرير و(الدينامو) الفعال فى التخطيط لإصدار هذه المجلة والإشراف على مراحل طباعتها وتنسيق أبوابها.. فى هذه المجلة كانت بدايته الفنية، وكانت بمثابة الأرض الطيبة التى أينعت فيها هذه الموهبة الفذة.. وفى هذه البداية التاريخية كتب حسن فؤاد فى مجلة الفنون الجميلة ورسم وبرزت مواهبه منذ الخطوة الأولى.. وكان له أسلوبه الخاص فى الكتابة والرسم، وكانت أعماله تبشر بمولد فنان شامخ شامل، يرسم بكلمات رشيقة لها جرس الشعر والموسيقى، ويكتب بريشة رسام تنبض خطوطه بالعذوبة والرقة وبكل وجدان الإنسان الفنان المصرى الأصيل».
منحت هذه التجربة حسن فؤاد ثقة خاصة وجعلته يتجه بقلب جسور إلى عالم الصحافة وهو لم يتخرج بعد فى كلية الفنون الجميلة، ولا بد أن نقف عند تجربته المدهشة فى ديسمبر من العام ١٩٤٧، حيث أسندت له جريدة «الزمان» مهمة تغطية محاكمة المتهمين باغتيال وزير المالية أمين عثمان، ونقل جلساتها بريشته، وكان رئيس تحريرها جلال الدين الحمامصى يسعى لتميز خاص بين التغطيات الصحفية للمحاكمة التى تحظى باهتمام واسع فى الشارع المصرى، وكتب الحمامصى يشيد ببراعة الرسام الصاعد حسن فؤاد الطالب بكلية الفنون الجميلة..
ومن جديد يمد عبدالسلام الشريف يده لتلميذه البارع، فيستعين به مساعدًا له فى عدد من المجلات التى تولى مهمة إخراجها.. وأبرزها مجلة «الشهر».. لكن حسن فؤاد فى الوقت نفسه سعى لأن تكون له بصمته الخاصة والمستقلة، مثل رسوماته لشخصيات رواية عبدالرحمن الشرقاوى الشهيرة «الأرض» والتى صاحبت نشرها فى حلقات مسلسلة على الصفحة الأخيرة لجريدة «المصرى» أبرز صحف ذلك الزمان.
عاش مع الرواية وتفاعل مع أحداثها وتخيل شخصياتها: وصيفة، محمد أبوسويلم، عبدالهادى، الشيخ حسونة، الشيخ يوسف، خضرة.. أعطى لكل شخصية ملامحها وروحها فكأنها كانت تتحرك على الورق وتنطق.. وكانت تلك الرسومات من أسباب نجاح الرواية وتعلق القراء بها..واعتبر ناقد تشكيلى مرموق مثل مختار العطار رسومات الأرض بأنها «ترقى إلى مستوى الأعمال التعبيرية الكبرى شكلًا وموضوعًا ومضمونًا».
وبعد مرحلة إثبات الذات وتأكيد الموهبة يمكننا أن نتوقف أمام أربع تجارب كبرى حملت بصمة وإبداع حسن فؤاد، هى فى تصورى العلامات الفارقة فى مشواره الصحفى رسامًا وكاتبًا ومخرجًا فنيًا ومبدعًا.
أولاها تجربته فى «التحرير» أول مجلة تصدرها ثورة يوليو لتكون صوتها وتعبر عن مبادئها وشعاراتها.. كان حسن فؤاد خارج مصر عندما قامت ثورة الضباط الأحرار ونجحت فى إزاحة الملك وإسقاط الملكية.. اختاره أستاذه عبدالسلام الشريف ليكون بين وفد من المبدعين المصريين فى رحلة إلى إيطاليا، منهم جمال كامل وأنيس منصور وعبدالغنى أبوالعينين.
من اللحظة الأولى آمن حسن فؤاد بالثورة ومبادئها واعتبر نفسه من جنودها المكلفين بتحقيق أحلامها، وعاد من روما ليشارك فى إصدار «التحرير» وكلفه رئيس تحريرها أحمد حمروش بالمسئولية الكاملة عن إخراجها بل ما هو أكبر وأخطر، وهو ما يحكيه حمروش فى مذكراته بالتفصيل:
«عندما انتصرت ثورة يوليو كان حسن فؤاد من أكثر الناس ابتهاجًا، فقد تحقق بعض أحلامه، وبعد شهر واحد تقريبًا كنا نجتمع فى دار الهلال لنصدر أول مجلة تحمل فكر الثورة.. كان ذلك يوم أول سبتمبر ١٩٥٢ بالتحديد، ولم نكن قد حددنا بعد اسم المجلة أو شكلها، كل ما اعتمدنا عليه موافقة جمال عبدالناصر على صدور المجلة، وتكليفى بأن أكون رئيسًا لتحريرها.. واجتمعنا مجموعة من الأصدقاء، لم يكن أحد منا قد تجاوز بعد الثلاثين من العمر: حسن فؤاد وعبدالرحمن الشرقاوى وعبدالمنعم الصاوى وسعد لبيب ويوسف إدريس وصلاح حافظ.. وخلال ١٦ يومًا فقط كان الرأى قد استقر على أن تحمل المجلة اسم «التحرير»، وكان الفنان حسن فؤاد قد تولى مسئولية الإخراج، وأمضى كل هذه الأيام فى صالة التحرير.. ونحن من حوله نعد المقالات ونجمع الأخبار ونقدم الصور.. لم يغادر الدار مطلقًا إلا إلى منزله بعد منتصف الليل ليعود فى الصباح.
«وفى يوم ١٦ سبتمبر ١٩٥٢ كانت المجلة بين يدى القراء، وكنا قد قررنا أن نطبع منها ١٠٠ ألف نسخة، وهو رقم لم تكن الصحافة الأسبوعية قد جرؤت على الاقتراب منه، ويومها شاهدت حسن فؤاد يخرج إلى الشارع يتابع التوزيع، ثم يعود ليطلب منا أن نطبع مزيدًا من الأعداد..ولم يقتصر دور حسن فؤاد على إصدار المجلة، ولكنه رسم ما اتفقنا عليه من لوحات ارتفعت فى شوارع القاهرة والإسكندرية.. صحيح أن الذين أصدروا التحرير كانوا فريقًا متجانسًا، ولكن حسن فؤاد كان يحمل لهم الوحى والإلهام ويوفر جوًا هادئًا للعمل».
نجحت «التحرير» تحريريًا وأصبحت بعد أعدادها الأولى مجلة الثورة الأولى، وكان شكلها المتفرد سببًا رئيسيًا فى هذا النجاح المدوى، كانت مجلة الثورة بمثابة ثورة فى الإخراج الصحفى، حملت لمسات وأفكار حسن فؤاد، بداية من الغلاف، حيث فوجئ القراء فى عددها الأول بغلاف لا يحمل صورة تقليدية اعتاد عليها قراء المجلات وقتها لفتاة جميلة، وإنما كان عبارة عن لوحة رسمها حسن فؤاد لمجموعة من عمال التراحيل حفاة الأقدام بجلاليبهم البالية، يحملون فئوسهم ووجوههم المكدودة وأملهم فى المستقبل.. وكان ذلك يحدث لأول مرة فى تاريخ الصحافة المصرية.
وامتدت الثورة الإخراجية للصفحات الداخلية، فقد طالع القراء- بوصف الفنان محى الدين اللباد- بساطة وصراحة واختيارًا ذكيًا لصور ورسوم وكاريكاتير وخطوط وأشكال، كلها من نوع جديد، ووظف حسن فؤاد كل هذا بذكاء وبذوق وثقافة، لإبراز توجه المجلة الفكرى والسياسى، ولخلق لغة جديدة غير مكتوبة « بصرية» عميقة التأثير فى وجدان القارئ.
ورغم هذا الإبداع لم يكتب للتجربة أن تستمر سوى أسابيع قليلة، انتهت مع قدوم ثروت عكاشة ليتولى رئاسة تحرير «التحرير»، فترك حسن فؤاد موقعه كنوع من الالتزام الأخلاقى، وغادرها مع حمروش.

3
وبعد أشهر قليلة من «اغتيال» نجاحه فى مجلة «التحرير» قرر حسن فؤاد أن يُصدر مجلة على نفقته، يرأس تحريرها ويشرف على إخراجها، تحمل أفكاره ورؤيته وجنونه وتكون تجسيدًا حيًا للشعار الذى آمن به ودافع عنه وناضل من أجل رفع رايته: «الفن فى سبيل الحياة».
ولذلك لا يبالغ صديقه ورفيقه صلاح حافظ عندما يصف «الغد»- مجلة حسن فؤاد - بأنها ابنته العزيزة والأثيرة:
«فقد أنجب حسن فؤاد من بين ما أنجب مجلة تحمل اسمه، وتمثل أصدق تمثيل لفكره وطبيعته وشخصيته.. وعلى صفحاتها يمكن أن تراه وتتعرف عليه.. مجلة اسمها (الغد).. أصدرها وعمره ٢٥ سنة، وأغلقتها الدولة، ثم أصدرها وعمره ٣٥ سنة وأغلقتها الدولة، ثم أصدرها قبل أن يرحل عن العالم بشهور، ورحل عن العالم وهى لم تغلق بعد.. ولم يكن إصرار حسن فؤاد على إصدار الغد- وتكرار إصدارها - صدفة، فقد كانت هذه المجلة هى النسخة المكتوبة منه، وكانت ملامحها ملامحه، وفلسفتها فلسفته، وموقفها من الفن والحياة موقفه، ولم يكن يميز بينهما سوى محل الميلاد: هو ولد فى البيت.. وهى ولدت فى المطبعة!».
فى افتتاحية العدد الأول من مجلة «الغد» الشهرية الصادر فى أول مايو ١٩٥٣ كتب «الرفيق» حسن فؤاد- رئيس تحريرها ومخرجها ومنتجها وراسم شخصيتها - ما يشبه «المانيفستو»، يشرح فيه لقرائها فكرة مجلته وأهدافها وما تحمله من توجهات مختلفة عمَّا يعرفونه عن المجلات الثقافية العادية، وينبههم- من أولها - إلى أنهم على موعد مع «معركة» وليس مطبوعة، مع طليعة مؤمنة برسالة الثقافة وليس مجرد كتاب وصحفيين، مع مجلة صاحبة رسالة لا تسعى لربح وتجارة.
بحماس مناضل مؤمن بمبادئه ومستعد أن يموت من أجلها كتب:
«حول الفن الذى يقدم الحياة ويدفعها إلى الأمام: اجتمعنا..جلسنا معا لنصدر هذه المجلة إلى الذين يؤمنون معنا بأن الثقافة تؤكد كل ما عرفه الإنسان فى تاريخه من حق وعدل وشرف، وأنها تراث خلّفه لنا أناس عُلقت رقابهم وسُلخت أطرافهم وقُتلوا فى الطريق».
لم تكن «الغد» مجرد مجلة أو تجربة صحفية فى حياة حسن فؤاد، بل كانت مشروع حياته وحلمه الكبير وخلاصة رسالته التى آمن بها وكافح لنشرها وإثبات صحتها، والمتجسدة فى مقولته والعنوان الدائم لمقالته: الفن فى سبيل الحياة.
وتحولت المجلة إلى تجسيد عملى وترجمة حية لنظريته وموقفه الفنى وفلسفة حياته، وتتلخص فى أن الفن جزء من نسيج الحياة، وأن الحياة هى مادة الفنان وموضوعه، والفن لا يمكن أن يكون فنًا بغير موضوع، والموضوع وحده لا يكفى لصياغة فن، فقضية الفن هى الإنسان والبشر، ولا يمكن أن يكون هناك فن منفصل عن الناس.. إن رسالة الفن كما رأى هى تحرير الإنسان من الاستعباد والاستغلال والجهل والرجعية والتخلف.
ورغم إيمانه الراسخ بالفكر اليسارى التقدمى إلا أن حسن فؤاد قرر منذ العدد الأول أن يكون ولاؤه الكامل للقارئ، لا لحزب ولا تيار ولا سلطة، وأن يفتح صفحات المجلة لكل فكر مستنير وقلم موهوب وعقل متوهج، حتى ولو كان على خلاف معه ولا يروق له.. وهى سياسة جرّت على حسن فؤاد كثيرًا من المتاعب والأزمات، سواء مع السلطة أو التيارات الرجعية، أو حتى مع تيار اليسار الذى ينتمى إليه، مما كان سببًا رئيسيًا فى المشاكل والتعثرات التى واجهتها المجلة واضطرته إلى إيقاف إصدارها بعد العدد الخامس، بعد أن تحالف الجميع ضدها.
لكنه أبدًا لم يتراجع أو يستسلم أو يغير قناعاته أو يتنازل عن مبادئه، فأعاد إصدارها من جديد فى مطلع العام ١٩٥٩، وتعطلت من جديد فأعاد إصدارها فى مطلع العام ١٩٨٦، وكتب فى افتتاحية العودة الأخيرة بنفس الحماس والتحدى:
«من منا نحن الذين أصدرنا هذه المجلة قبل أكثر من ثلاثين عامًا كان يحلم بأن «الغد» ستعود إلى الصدور مرة ومرات بعد كل هذه الأعوام الطويلة، من منا نحن الذين أصدرنا هذه المجلة سنة ١٩٥٣ والثورة المصرية ما زالت فى نضارة العام الأول يتصور أن نفس الكتّاب والفنانين الرواد الذين أصدروها سيتجمعون مرة أخرى ليطلوا بأقلامهم على دنيا جديدة قد تغيرت بأسرع مما كان فى حسباننا جميعًا.. ونحن على العهد سنفتح صفحات هذه المجلة لكل أصحاب الموهبة والرأى من الكتّاب والفنانين الوطنيين.. إنها ليست مهمة سهلة.. ولكن طموحنا كثيرًا ما كان أكبر من طاقتنا».
كانت «الغد» حدثًا فارقًا فى مسيرة حسن فؤاد وفى تاريخ المجلات الثقافية المصرية، فقد قدمت تجربة مختلفة شكلًا ومضمونًا، منحها صاحبها من روحه وموهبته وخبرته، فخرجت متفردة بلا شبيه، وهو ما عبّر عنه الفنان الكبير محى اللباد عندما كتب:
«وعرّفت صفحات (الغد) قارئها بأسماء جديدة (أصبحت فيما بعد نجوم الحركة الثقافية الوطنية الجديدة)، كتّاب وقصاصين وشعراء ورسامين وصحفيون، كما عرّفتهم على مفهوم جديد للثقافة وللفن، وعلى طرح جديد وذوق جديد (خاصة الذوق البصرى)، عرّفتهم على نوع مغاير من الصور الفوتوغرافية والرسوم والخطوط والإخراج الصحفى، بل والورق».
ورغم كل المتاعب التى عاشها وعاناها بسبب تلك التجربة، ورغم التعثرات والإغلاقات المتعددة والأزمات المتعاقبة، إلا أن صاحبها كان عارفًا بقيمتها وتأثيرها، راضيًا بما حققته من مكاسب معنوية، كان فخورًا بها عندما كتب بقلمه عن التجربة:
«وكثير من أحلام الماضى تحول إلى حقائق، والبذور التى نثرناها لم تذرها الرياح ولم تذهب سدى، بل لقد تحولت إلى شجرة أصلها ثابت وفرعها فى السماء».

4
بعد «التحرير» و»الغد» تأتى تجربته الثالثة الأهم مع المجلة التى صدرت فى العام ١٩٥٦ تخاطب القلوب الشابة والعقول المتحررة واشتهرت باسم «صباح الخير».
وعندما اختاره رئيس تحريرها أحمد بهاء الدين لمهمة تصميم المجلة الجديدة ووضع سياستها الفنية والبصرية كان عمر حسن فؤاد لا يتخطى الثلاثين من عمره، وكان قد اكتسب خبرات متراكمة من سنوات عمله بالصحافة والإخراج الفنى لعديد من المطبوعات، مكنته من وضع تصور بصرى إخراجى يتفق ويتسق مع شخصية المجلة، بل يمكن أن نعتبره ثورة فى شكل وتوضيب المجلات فى تاريخ الصحافة المصرية.
ولذلك لم يكن اللقب المبتكر الذى سبق اسمه على ترويسة المجلة من فراغ، وكان «المشرف الفنى» يستخدم لأول مرة بديلًا عن الألقاب المتعارف عليها وقتها للمسئول عن توضيب المجلة مثل «سكرتير التحرير الفنى» و«الموضب» و«المنسق» و«رجل الماكيت»، وكان فى اختياره للقب الجديد- المشرف الفنى - محاولة لإرساء مفهوم جديد وتوصيف حديث لهذه المهمة، فلم يكن عمل حسن فؤاد مجرد توضيب للمجلة أو تنسيق موضوعاتها، إذ إنه لم يكن فقط يؤدى مهمة تسكين الموضوعات والصور والعناوين والإعلانات.. بل كان- بوصف اللباد - أقرب إلى عمل مخرج الفيلم السينمائى الذى يقود أشخاصًا وجهات فنية وجهات تقنية متعددة، ليحصل على فيلم يجمع بين كل هذه الأعمال فى شكل موحد، ويكون حاملًا لرؤيته وفكرته وبصمته.
وعندما يقول العارفون إن شكل الصحافة قبل حسن فؤاد شىء وبعده شىء آخر، فليس فى كلامهم أى مبالغة أو مجاملة، فلقد نحت هذا الرجل فى الصحافة المصرية لغة جديدة هى اللغة البصرية، ويبدو أن هذه اللغة- مثلها مثل لغة الأنغام المسموعة - تتعامل مع مناطق فى الوجدان أكثر عمقًا من تلك التى تتعامل مع النصوص والكلمات المكتوبة، ولهذا تستطيع الأشكال البصرية المبدعة أن تُثبّت فى الذاكرة وفى وجدان القارئ المحتويات الأساسية «الرسالة» للنصوص المرتبطة بهذه الأشكال لزمن طويل، وتظل الرسوم والأشكال والتصميمات مفاتيح مهمة للذاكرة.
نستطيع أن نتكلم بإسهاب وتفاصيل عن «الثورة الإخراجية» التى قادها حسن فؤاد فى الصحافة المصرية، وعن تجاربه فيها وفى القلب منها «صباح الخير»، «التى تولى رئاسة تحريرها عام ١٩٧١»، والتى تسببت نتائجها بما أدخله من ابتكارات فى فن الإخراج الصحفى فى توقف مجلات شهيرة مثل «الاثنين والدنيا» و«الجيل» لم تستطع أن تواكب التطورات الجديدة.. ولكن يمكن بسهولة أن تستغنى عن الشرح والإسهاب إذا ما راجعت وطالعت توضيب المجلات التى تصدر الآن على امتداد العالم العربى، ستجد فيها روح حسن فؤاد وإبداعه، فهو الأب الروحى الذى سار الجميع على نهجه ودربه وخطاه ولمساته.
يرتبط بتجربته فى الإخراج الصحفى ويتقاطع معها ويؤكدها ما أحرزه وأبرزه من تألق فى رسوماته المتفردة لأغلفة المجلة، وللرسومات المصاحبة للأعمال الأدبية، خاصة فى أعمال رفيقه وصديقه وشريكه فى الدعوة إلى «الواقعية الجديدة»» الشاعر الأديب عبدالرحمن الشرقاوى، والتى بدأت برواية «الأرض» عند نشرها مسلسلة عام ١٩٥٣، ثم تواصل التألق فى رواية «الشوارع الخلفية» التى نشرت مسلسلة بجريدة «الشعب» عام ١٩٥٩، ورواية «الفلاح» بجريدة «الجمهورية» سنة ١٩٦٧، وقبلها رسوماته البديعة لقصيدة الشرقاوى السياسية الأيقونة «من أب مصرى إلى الرئيس ترومان».
ولا ينسى قراء ذلك الزمان رسومات العم حسن لروايات مهمة مثل «الشمندورة» لمحمد خليل قاسم، و«العنكبوت» لمصطفى محمود، ولديوان فؤاد حداد الملهم «أحرار وراء القضبان»..وعشرات أخرى من الرسومات للقصص القصيرة والمسرحيات، كانت ريشة حسن فؤاد سببًا فى نجاحها وانتشارها وشهرة مؤلفيها ونجوميتهم.. فعندما صدرت رواية «الأرض» برسوماته لشخصياتها أصبحت وكأنها إبداعًا موازيًا للنص لا ينفصل فى وجدان القارئ عن الرواية ذاتها.
وربما عوضته تلك الرسومات عن تعطل مشروعه كرسام محترف، كانت موهبته وأعمال البدايات تدل على أننا أمام فنان كبير ينتظره مستقبل واعد.. لكن الصحافة لم تترك له الوقت الكافى ليواصل مشروعه وليقف أمام لوحاته وليواصل إبداعه.
وربما لا يزيد جميع لوحاته الزيتية- كما كتب صديقه وزميل دفعته الناقد التشكيلى المرموق مختار العطار - على الخمسين إلا قليلًا، أبدعها على طول المشوار الذى يقع بين عامى ١٩٤٨ إلى ١٩٨٥، لكنها على قلة عددها تمثل ثروة فنية رفيعة بما تحمله من إبداع وتفرد وروح مصرية خالصة، فرغم تأثره برسامين عالميين مثل بيكاسو وجوجان، ورغم زياراته العديدة لكثير من عواصم الفن التشكيلى العالمية مثل باريس ولندن وروما وموسكو، إلا أن جميع رسوماته ولوحاته وملامح شخصياته ظلت تحمل النكهة والمذاق والروح المصرية على الدوام.

5
أما التجربة الرابعة الفارقة فى مسيرة حسن فؤاد فكانت مع الفن السابع، وكما ترك بصمته فى كل الفنون التى مارسها، من الرسم إلى الكتابة، ومن الإخراج الصحفى إلى أغلفة المجلات والكتب، فإن بصماته امتدت إلى السينما.. ويمكننا هنا أن نشير إلى العلامات البارزة فى تجربته السينمائية:
- سيناريو فيلم «الأرض» المأخوذ عن رواية عبدالرحمن الشرقاوى التى سبق له أن رسم أبطالها على صفحات الصحف بريشته، ثم عاد ليرسمهم فى هذا السيناريو البديع الذى صار من أيقونات السينما المصرية، وهو الفيلم الذى أخرجه يوسف شاهين وقام ببطولته محمود المليجى وعزت العلايلى ونجوى إبراهيم، وأنتجته مؤسسة السينما عام ١٩٧٠.. وكان قبله قد كتب سيناريو وحوار التمثيلية التليفزيونية «طرقات فى الليل» التى قامت ببطولتها سناء جميل وعبدالله غيث وأخرجها إبراهيم الصحن عام ١٩٦٥، وكتب بعده سيناريو فيلم سينمائى عن رواية «لا» لمصطفى أمين أخرجه صديقه المخرج الجزائرى أحمد راشدى.
- تأسيسه وإدارته للمركز القومى للأفلام التسجيلية عام ١٩٦٧، وتوليه بالرعاية جيل من المخرجين الشبان أصبحوا نجومًا فيما بعد «منهم رأفت الميهى وعلى عبدالخالق وأشرف فهمى وهاشم النحاس ومصطفى محرم»، ومن خلال تجربته فى المركز أنشأ أول قسم للرسوم المتحركة، وأصدر أول مجلة سينمائية ثقافية حملت اسم «الفن والحياة».. وتحمس لتجارب طليعية مثل فيلم مدكور ثابت «ثورة المكن»، و«فن الفلاحين» الذى أخرجه عبدالقادر التلمسانى عن تجربة الفنان ويصا واصف والفن التلقائى لصناعة السجاد فى قرية «الحرانية».
ولذلك لا تستغرب عندما يكتب ناقد سينمائى بحجم سمير فريد بهذا الحماس عن حسن فؤاد: «الذى تتعدد مجالات إبداعه بحثًا عن الشمول والعمق، فهو مناضل سياسى من أجل تقدم وطنه ورفاهيته، وصحفى يمتلك الحس بالقارئ والرغبة فى تطور الصحافة من الناحية المهنية فى نفس الوقت، وهو فنان تشكيلى له كتاب من أجمل كتب الفن العربية عن بيكاسو، وهو أديب وكاتب للنصوص السينمائية سوف يبقى له دائما سيناريو فيلم (الأرض)، وسينمائى قدير كانت إدارته للمركز القومى للأفلام التسجيلية والقصيرة مع بدء إنشائه عام ١٩٦٧ نقطة تحول فى تاريخ هذا النوع من الأفلام وفى تاريخ السينما المصرية».

6
كان حسن فؤاد قادرًا على أن يترك بصمته من الإبداع والتفرد حتى فى السجن ووراء القضبان، حيث كان من بين الذين اعتقلهم عبدالناصر فى حملته الأشد على الشيوعيين بسبب تأييدهم لنظام عبدالكريم قاسم فى العراق، وظلوا رهن الاعتقال من أبريل عام ١٩٥٩ ولخمس سنوات متصلة، تنقل خلالها بين سجون أبى زعبل والفيوم والواحات، ورغم قسوة التجربة وما لاقاه من صنوف التعذيب لكنه قرر أن يقاوم هذا كله بالفن، وأن يحول السجن إلى مرسم ومسرح ودار نشر ومركز للإبداع والفنون.
ما أقوله ليس من نسج خيالى، بل حقائق تؤكدها شهادات الذين عاشوا معه التجربة وكانوا زملاء له فى أوردى أبى زعبل وسجن المحاريق بالواحات ورفاقه فى تكسير البازلت فى الجبل، ومنهم المفكر اليسارى الكبير محمود أمين العالم، الذى أنقل عنه:
«راح حسن فؤاد يشارك فى مقاومة هذا كله بالفن.. صانع (الغد) القديم راح يصنع غدًا جديدًا مشرقًا داخل ظلمة السجن، لا أستطيع اليوم أن أستعيد قراءة مسرحية (وفاة بائع متجول) دون أن أتصور حسن فؤاد فى دور البائع الذى قام بتمثيله تمثيلًا أكثر من رائع فى سجن الواحات.. ولا أستطيع أن أستعيد مسرحية (عيلة الدوغرى) دون أن يتجسد (سيد) الأخ الأكبر فى حسن فؤاد الذى مثّله باقتدار، لا أتذكر مسرحية (حلاق بغداد) إلا وأرى بغداد تتوهج بفن حسن فؤاد فى ردهة عنبر من عنابر سجن الواحات.. فى الواحات جعل لنا حسن فؤاد من الفن، من الرسم، من النحت، من التمثيل، من الأخوة والأبوة والصداقة والرفاقية.. نبضًا إنسانيًا يرف بالمحبة ويحقق لنا السجن حرية إنسانية رائعة.. بنيّنا مسرحًا كان حسن فؤاد من مهندسيه.. بنيّنا مسجدًا راح حسن فؤاد يُجّمله ويزينه ويجعل منه آية فنية..».
وهى شهادة يؤيدها ويؤكدها ما كتبه «الرفيق» فيليب جلاب:
«وفى المعتقل حيث ينكفئ كثيرون على أنفسهم كان حسن فؤاد عندما سمحت الظروف يرسم وينحت ويدرب ممثلين هواة ورسامين مبتدئين وفنانى أراجوز، ويسهم فى إقامة مسرح فى الصحراء، ويقرأ وينصح كتابًا وفنانين لم يسبق لهم قبل الاعتقال أن تعاملوا مع هذه الفنون الجميلة».
وبلغ من تفاؤله أن قرر- فى السجن - تأسيس دار نشر أطلق عليها اسم «دار الغد» وجعل شعارها «الثقافة للحياة»، كان يتولى كل المهام فيها، يكتبها ويرسمها ويُخرجها وينشرها من نسخة واحدة ليتداول المعتقلون قراءتها.
وحتى وهو فى السجن مقيد الحرية ويعانى من الإنهاك الروحى والجسدى ومن آلام الربو وحصوات الكلى لم ينس دوره كفنان وكأستاذ وكأب روحى لمن هم خارج السجن، فكان يتابع أعمالهم من خلال ما يصل إلى السجن من صحف ومجلات ، ويرسل إليهم بملاحظاته ونصائحه ورأيه، مثل هذا الخطاب الطويل الذى أرسله إلى زميله وصديقه وتلميذه الرسام الموهوب جمال كامل، ولعلك تدرك روح حسن فؤاد العظيمة وأنت تقرأ هذه السطور:
«رأيت رسومك الأخيرة فى (روزاليوسف)- الناس والبطيخ - ربما كانت الشىء الأصيل الذى ذكّرنى بمجلتنا القديمة.. جمال الاختيار وذكاء التلميح ورصانة التعبير وقليل من الجنس، والمهم أنك مازلت ثابتًا على موقفك من المدرسة الواقعية ومن الأسلوب أيضًا، وهذا عظيم فى زمن نرى فيه مسألة الفن الحديث تطل علينا من الصحافة وتستولى على منح التفرغ وتستثير اهتمام الناس فجأة ثم سرعان ما تنهار ثقتهم فى كل المدارس، حتى لقد أصبحت الفنون التشكيلية الآن كمسألة هيئة التحرير والاتحاد القومى.. أسخف تعبير عن أعظم معنى، وبالطبع تقف أنت وحدك مع قليل من الفنانين وسط هذا الجنون الذى يحمل من ادعاء الثقافة أكثر مما يحمل من الجدية فى خلق فن وطنى عظيم فى بلد ما زال نصفه لا يعرف القراءة ومعظمه لا يعرف ما هى اللوحة الزيتية.. لعلنى أطلت عليك ولكن شوقى للحرية هو السبب.. تحياتى إليك وأشواقى وثقتى فى الله وأصدقائى لن تتوقفوا عن المطالبة بالإفراج عنى.. حاشية: صلاح حافظ سيفرج عنه بعد شهرين ومعه روايتان ومسرحيتان وعديد من القصص القصيرة كلها تشيد بهذه الموهبة التى نضجت وآن لبلادنا أن تجنى ثمارها».
ونظرًا لفرادة وتأثير تجربة السجن الطويلة على روح وريشة وشخصية حسن فؤاد فقد أفرد لها الفنان والناقد التشكيلى المرموق عزالدين نجيب فصلًا من كتابه القيم «فنانون وشهداء» جعل عنوانه «حسن فؤاد.. باب السجن باب الخلاص»، حكى فيه كيف حوّل السجن- الذى هو ذروة القهر الإنسانى - إلى طاقة إبداع قهرت السجن والسجان:
«كانت سنوات الاعتقال فى صحراء الواحات ميلادًا جديدًا له، امتحانًا قاسيًا لمعتقداته وحبه للوطن وللشعب.. كان أول ما رسمه فى السجن هو لوحة على باب الزنزانة من الداخل.. تحولت إلى طاقة حب لكل المعتقلين تجاوزت بهم القضبان إلى آفاق الحرية والحياة.. لم يتوقف بعدها عن الإبداع، إن دفتر اسكتشاته فى السجن ملىء بصور القهر والمعاناة: طابور التكدير، مسح البلاط، العقاب الجماعى بالوقوف الطويل فى مواجهة الحائط، لكن قسوة السجن لم تقهر روحه، فرسم نفسه منتصبًا داخل الزنزانة فى شموخ مثل عبدالهادى فى (الأرض) تطل عليه فى المقابل عيون بهية ووصيفة من باب الزنزانة».

7
بعد خمس سنوات وراء الأسوار عاد حسن فؤاد إلى الحياة، لم يعلق بقلبه أى إحساس بالحقد والمرارة، ولم يغير السجن قناعاته الراسخة بالاشتراكية، وبالفن فى سبيل الحياة، ولم يزلزل إيمانه بالواقعية الجديدة كمذهب فى الفن والرسم.
ولكن الملاحظة الجديرة بالتأمل والتوقف فى لوحات ورسومات حسن فؤاد كرسام، أنه رغم شخصيته النهمة للحياة، الفياضة بالحب والأمل والبهجة والتفاؤل، المحبة للأطفال «لم ينجب رغم زواجه مبكرًا عام ٤٩ من حب عمره السيدة رضا حسين، فاعتبر كل الأطفال أطفاله» والشيكولاتة وحياة الليل ومباهج الدنيا، إلا أنك من العسير أن تلتقى شخصيات سعيدة مرحة فى رسوماته التصويرية، ثمة مسحة من الحزن تكسو وجوه شخصياته، ربما لأنه كان يعيش المجتمع المصرى بقلبه ووجدانه وألوانه وريشته، ويعرف ما تحت سطحه وما فى أعماقه، ومع ذلك فإن هذا الحزن فى الوجوه كان ممزوجًا بحالة من الصلابة والتحدى والأمل.
كانت ريشته الواقعية- كما يقول رفيق عمره صلاح حافظ - تستمد الحبر والألوان من آلام الإنسان، لكنها كانت أيضًا تحلم، وكانت تلمح وراء البؤس الإنسانى نبل المقاومة، ولم يكن يصرفها الألم عن الابتهاج بالحياة ذاتها، وكأنه يؤكد لهم المعنى العظيم: الحياة أروع من اليأس.
حسن فؤاد نفسه كان تجسيدًا وتجليًا لهذا المعنى العظيم، لا يأس مع الحياة، وما أروع وأصدق كلمات رفيقه عبدالرحمن الشرقاوى فيه وعنه وإليه عند رحيله فى ٢٦ يوليو ١٩٨٥:
«سأظل أذكر طربك لكل عمل جميل وشريف، وسأظل أذكر طربك لكل دعوة حب، ولكل ومضة أمل، ولكل إبداع يضيف إلى الحياة».






