مولد وصاحبه غايب 1
مرثية للسينما المصرية.. من ألقى بنا فى هذا القاع السحيق؟

- الوضع الحالى لها يستعصى على التصنيف.. لا هى قطاع خاص ولا عام.. مجرد مولد وصاحبه غايب
- أنتجنا فى 2025 عشرين فيلمًا فى حين أنتجنا 48 فيلمًا عام 1970 رغم النكسة ورحيل عبدالناصر
- فقدت السينما المصرية جوهرها: الهواية الصادقة والهدف الثقافى
- أزمة السينما المصرية ليست وليدة اليوم بل هى نتيجة قرن من القرارات الخاطئة والصراعات الشخصية
- أفلامنا أصبحت «أكشن متعاص كوميديا».. بناء على رغبة المنتجين الجدد وليس الجمهور
- لماذا اختفت نقابة السينمائيين من المشهد وتقزم دورها وكأن انهيار السينما لا يعنيها؟
سألنى صديقى المحرر الفنى الشاب عن تفسيرى لظاهرة اكتساح أفلام الأكشن لموسم الصيف فى سينما 2025، وراح بحماس يذكر لى ثلاثة أفلام بالاسم: «روكى الغلابة» لدنيا سمير غانم ومحمد ممدوح والمخرج أحمد الجندى، وللمخرج نفسه «الشاطر» لأمير كرارة وهنا الزاهد، و«أحمد وأحمد» للأحمدين السقا وفهمى والمخرج أحمد نادر جلال..
الأفلام الثلاثة غلبت عليها بالفعل مشاهد الأكشن الممزوجة ببعض الكوميديا الهزلية والإفيهات الفاقعة، وتصدرت بالفعل إيرادات الشباك وحققت نجاحًا جماهيريًا لا يمكن إنكاره، فما السر فى رواج هذه النوعية من أفلام الأكشن، وما توصيفك لتلك الظاهرة؟.. سألنى صديقى المحرر الفنى الشاب.
ولكن حماسه فتر وتلاشى، بل تحول إلى صدمة عندما سمع منى توصيفى لما اعتبره رواجًا ونجاحًا مُجسدًا فى ظاهرة اكتساح أفلام الأكشن وقلت له: ما يعتبرونه ظاهرة ونجاحًا واكتساحًا أراه علامات أزمة وتوابع جريمة تم ارتكابها جهارًا نهارًا فى حق السينما المصرية، وإن كانت ثمة تهنئة على النجاح فينبغى أن توجه لهؤلاء الذى خططوا ودبروا لاغتيال سينمانا و«إخصاء» أفلامنا، ولهؤلاء الذين تواطئوا معهم من أهل الصناعة ومسئوليها ولو بالصمت العاجز..! هكذا أجبت.
معذرة يا صديقى لأنك لم تجد عندى الإجابات التجارية الناعمة، ولا الكلمات البلاستيكية التى تمسك العصا من المنتصف وتحاول أن ترضى كل الأطراف.. وإن كان ثمة أسف فيجب أن نتوجه به إلى السينما المصرية ذاتها التى رأينا كل الموبقات تُرتكب فى حقها، ووقفنا نتفرج على مشهد «اغتصابها» باستسلام وخذلان وبأعصاب باردة، وبعد أن تحولت إلى مسخ، وإلى مولد بلا صاحب، وصلنا إلى التهليل الفج والحماس المفتعل لعدد بائس من الأفلام منزوعة السينما!.
ولو كان لى أن اختار وصفًا للمشهد السينمائى الراهن فسوف أستعير عنوان العرض المسرحى المبهر الذى شاهدته مؤخرًا فى مسرح الهناجر: عايش إكلينيكيًا!

ويمكننى كذلك أن أستعير من شاعرنا العظيم أحمد عبدالمعطى حجازى عنوان قصيدته الأيقونية «مرثية للعمر الجميل» مع تحويرها لتناسب الموقف إلى: مرثية للسينما المصرية.
لا أبالغ فى توصيف الحالة، ولا أستعير تعابير بلاغية مجازية هلامية، لأن واقع السينما ووقائعها أصعب وأعقد وأخطر من عنوان قصيدة أو مسرحية.. ولعل المشهد الكاشف الذى عشناه مؤخرًا وتجاوز فى تفاصيله حد العبث خير دليل، وأقصد به اعتصام مخرج سينمائى شاب وإضرابه عن الطعام وتهديده بالانتحار لأنه لا يجد مكانًا يعرض فيه فيلمه الأول!.
لا أريد أن أتوقف عند مهزلة المخرج الشاب وسينما زاوية، فكلنا عرفناها وتابعناها واختلفت مواقفنا فيها وانقسمنا حولها بين متعاطف وساخط، ولكنى أتوقف عند ما كتبه صديقنا الناقد السينمائى طارق الشناوى ومحاولته استخلاص العبرة مما حدث: «علمت من المخرج الصديق سعد هنداوى أن المخرج الشاب محمود يحيى أوقف الإضراب عن الطعام.. أنتظر أن نناقش الأمر بهدوء، والسؤال هو: كيف نحمى المبدعين فى بلادنا من الإقدام على التهديد بالانتحار؟..كنت ولا أزال رافضًا لاستخدام هذا السلاح مهما كانت الأسباب، إلا أن هذا لا يمنعنى من أن أطالب بتدخل نقابة السينمائيين لتهيئة مناخ صحى لكل مبدع فى بلادى يريد التعبير عن نفسه ولا يجد منفذًا ولا نافذة.
ياه.. لولا تلك الإشارة إلى نقابة السينمائيين ما تذكرت أن للسينمائيين نقابة يفترض أن تحميهم وتدافع عن حقوقهم، بل تدافع عن صناعة السينما كلها، ولا يتقزم دورها فى توفير معاش هزيل وما تيسر من دواء للمرضى؟!.
ولكن أين هى السينما لكى تكون لها نقابة؟، ولماذا نظلم نقابة السينمائيين ونعلق الفأس فى رقبتها وحدها، فمن الذى قال وقرر أن هناك جهة واحدة مسئولة عن السينما فى مصر؟..أتحداك أن تعرف حدود ومسئوليات وأدوار كل من نقابة السينمائيين وغرفة صناعة السينما والشركة القابضة للسينما والمركز القومى للسينما ولجان السينما فى وزارة الثقافة؟!
للأسف تفرق دم السينما بين عشرات الهيئات والنقابات واللافتات واللجان، فالمسئوليات غائمة والحدود غامضة، بل أشك أن السيد وزير الثقافة نفسه يعرف حدود مسئوليات وزارته فيما يتعلق بملف السينما، وهل لديه صلاحيات تتخطى المركز القومى للسينما والرقابة على المصنفات الفنية وحضور حفلات افتتاحات مهرجانات السينما والتقاط الصور مع المكرمين وتسليم الجوائز للفائزين؟!.
وأتحدى أن يخرج أى مسئول عن السينما فى مصر ليجيبنى على هذا السؤال شديد البديهية: هل السينما عندنا قطاع عام..أم خاص؟ ..لا أبالغ عندما أقول أن لا أحد يملك إجابة هذا السؤال البديهى منذ خمسين سنة!.. لأن لا أحد يملك أو يعرف توصيفًا لهذا الوضع «الهجين» الشائه لسينمانا.
بدأت السينما فى مصر على أكتاف القطاع الخاص، أفراد من عشاق هذا الفن دفعوا من جيوبهم وموهبتهم وعمرهم لتأسيس صناعة السينما فى بلادنا، وكان فى الصدارة والطليعة رائدات مبدعات، فأول فيلم روائى مصرى- وهو فيلم «ليلى» حسب القول الراجح بين مؤرخى السينما- أنتجته ومثلته عزيزة أمير، غامرت فيه بثروتها وتاريخها ومستقبلها المسرحى كنجمة، ودفعت من جيبها مبلغ ٣٠٠ جنيه «وهو ثروة طائلة بحسابات عام ١٩٢٧» لصاحب سينما «متروبوليتان»، ليسمح لها بعرض فيلمها المصرى بدلًا من الأفلام الأجنبية، وليلة الافتتاح تقدم منها أمير الشعراء شوقى بك وأمير الاقتصاد طلعت باشا حرب وقالا لها مهنئين: «لقد صنعت يا سيدتى ما يعجز عن صنعه الرجال».

وانطلقت بعده السينما المصرية وتألقت وتعملقت وأصبحت صناعة راسخة البنيان وصانعة للوجدان. وظل للقطاع الخاص بشركاته ومنتجيه ودور عرضه اليد العليا فى صناعة السينما، إلى أن تغير الحال والمآل بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، التى تركت القطاع الخاص مسيطرًا طيلة عشر سنوات بعد قيامها واكتفت بـ«الإرشاد والترشيد والتوجيه»، إلى أن صدر القرار بتأميم السينما فى العام ١٩٦٣، كانت فيها الدولة لعشر سنوات تالية هى المسيطر والحاكم والمتحكم، وعاشت السينما فى كنف القطاع العام حتى العام ١٩٧٢ حين رفعت الدولة يدها فجأة عن الإنتاج السينمائى.
انتهت مرحلة القطاع العام ومؤسسة السينما على الورق، لكن السينما من حينها أصبحت مشتتة ومبعثرة ولا تصنيف لها، فلا الدولة تركتها فى حالها لتعود سيرتها الأولى كصناعة خاصة، ولا هى استمرت فى إدارتها بشكل مباشر.
ونحن على أعتاب الاحتفال بمئوية السينما الروائية فى مصر «١٠٠ عام على فيلم (ليلى)» من حقنا، بل واجبنا أن نسأل ونستفسر عن هذا الوضع البائس الذى تعيشه السينما المصرية، ثانى أعرق سينما فى تاريخ البشرية، حيث تؤكد سجلات التاريخ أنه فى يوم ٢٨ ديسمبر ١٨٩٥ ولدت السينما فى العالم بأول عرض أقيم بمقهى «الجراند كافيه» فى ١٤ شارع كابوسين بباريس، وبعدها بأربعة أيام فقط أقيم أول عرض سينمائى فى مصر بمقهى «روانى» بالإسكندرية ، وبعده بـ٢٨ يومًا شهدت القاهرة أول عرض سينمائى بدار سينما سانتى الملاصقة لفندق شبرد القديم.
وعندما نصف وضع السينما المصرية الآن وبعد كل هذا التاريخ الناصع الذى تحمله على ظهرها بـ«البائس» فنحن نحاول انتقاء اللفظ الأكثر تهذيبًا، لأن الصورة تتجاوز البؤس بمراحل.
وحتى لا يكون الكلام على عواهنه، فإننا سنحاول أن نقوم بتقدير موقف بالمصطلح العسكرى، نرصد فيه حال السينما المصرية وظروفها من ناحية الإنتاج ودور العرض وعدد الأفلام وتراثها الطويل وتأثيرها الذى يكاد أن يتلاشى على المستوى المحلى مثلما تلاشى على المستوى الإقليمى والعالمى.

ولأن كل تفصيلة تحتاج إلى مقال مستقل فإننا سنحاول أن نقدم صورة بانورامية موجزة لما آلت إليه أوضاع وأحوال السينما المصرية:
* أشعر بالخجل- ومؤكد أنك ستشاركنى فيه- عندما أطالع قائمة أفلامنا فى العام ٢٠٢٥، فلا عددها ولا قيمتها يليقان بهوليود الشرق، فكل ما أنتجناه طيلة العام نحو ٢٠ فيلما، وهو عدد هزيل ومحبط، ولا يتناسب مع حجم الصناعة وتاريخها وما تمتلكه من نجوم ومبدعين وبنية أساسية، ولا يتناسب مع دولة يزيد عدد سكانها على ١٠٠ مليون مواطن، ومع سوق عربية تضم نصف مليار مواطن عربى لديهم شغف أصيل بالسينما المصرية ونجومها وأفلامها.
وقد يتحجج أحدهم بالظروف السياسية وأحداث «غزة» ومزاج الجمهور المتعكر، وهى حجة البليد ليس إلا، ويمكننى أن أرد عليها وأسأل صاحبها: وهل هناك أصعب وأقسى مما مرت به مصر فى العام ١٩٧٠، كنا خلاله فى عز النكسة وتوابعها، وحرب الاستنزاف وتكاليفها، والاستعداد للمعركة وطوارئها، ثم جاء رحيل الرئيس عبدالناصر فى خريف ذلك العام لتعيش مصر بعده فى حداد عام طويل، ورغم ذلك أنتجت السينما المصرية فى ذلك العام ٤٨ فيلمًا، يكفى أنها تضم أعمالًا بعظمة «الأرض»، «غروب وشروق»، «نحن لا نزرع الشوك»، «السراب» و«الحب الضائع».. حتى أفلام «الهلس» فكانت بجودة «إنت اللى قتلت بابايا»،» «لصوص لكن ظرفاء»، «رضا بوند» و«سفاح النساء».
وهى أفلام تضاعف الخجل من مستوى أفلامنا الآن ومضمونها، والتى تتراوح بين أفلام أكشن على الطريقة الهندية، وأفلام خفيفة لا تبغى سوى زغزغة الجمهور وانتزاع ضحكاته بالعافية، فحتى أفلام «الهلس» فشلنا فيها بجدارة، ولك أن تقارن مثلًا بين فيلم على ربيع الجديد «الصفا ثانوية بنات» وبين ما اعتبره النقاد فى سنة ٧٠ نموذجًا فاقعًا للكوميديا الرديئة وهو فيلم «ربع دستة أشرار» لفؤاد المهندس وشويكار ومدبولى وسعيد صالح!.
* ولا بد أن نعترف بأن توجيه السينما المصرية نحو تلك النوعية من الأفلام منزوعة السينما «الأكشن المتعاص كوميديا» تم بفعل فاعل، ولم يكن صدفة ولا بناء على طلب الجمهور، فخلال السنوات الأخيرة سيطر رأس المال العربى على سوق السينما، وفرض شروطه وذوقه وأفلامه، وضخ أموالًا بلا حساب ليسيطر على الصناعة والسوق والذوق، ترتب على تلك «السيطرة» مضاعفات مروعة لعل أبرزها: احتكار النجوم، زلزلة بورصة الأجور والإيرادات بأرقام «خيالية» وهمية، فرض نوعيات بعينها من الأفلام تتمثل فى تلك الخلطة الهجين من الأكشن والكوميديا، وتقديمها على أنها عنوان للسينما المصرية الجديدة وذوق جمهورها.. تمامًا مثل محاولة فرض وتقديم «حمو بيكا» و«كسبرة» على أنهما عنوان الغناء المصرى!

* لا يمكن فصل الإنتاج عن العرض عن التوزيع فى السينما المصرية الآن، إذ إن هناك «دائرة جهنمية» جرى فرضها بحكم النفوذ والفلوس والأمر الواقع، ترتب عليها «طرد» عشرات من المنتجين وشركات الإنتاج الصغيرة وإفراغ الساحة والسوق لعدد محدود من «الأباطرة» الذين يملكون المال ودور العرض والجهات المسئولة التى تملك الأختام والتصاريح.
منذ منتصف التسعينيات بدأت تظهر الكيانات الكبيرة فى سوق السينما المصرية، ومع ضراوة المنافسة حُسم الأمر للخمسة الكبار: وائل عبدالله، إسعاد يونس، هشام عبدالخالق، وليد صبرى، محمد حسن رمزى.. فهم أصحاب أقوى شركات الإنتاج وأصحاب أكبر وأهم دور العرض .. ثم دخل رأس المال العربى ليفرض واقعًا جديدًا ومعادلات جديدة.
* حاولت الدولة ألا تكتفى بدور المتفرج فقررت إنشاء كيان كبير حمل اسم الشركة القابضة، تكون مسئولة عن إدارة أصول السينما وحفظ أرشيفها وتاريخها ودعم الإنتاج المحلى، لكن النوايا الطيبة داستها المصالح الشخصية وفساد الموظفين، فتوالت خسائر الشركة «المتعمدة» وبات بيع الأصول مسألة وقت، ولنا فى نجاح عملية تخريب دور العرض المملوكة للدولة خير دليل، وهو ملف متخم بالتفاصيل والوقائع والفضائح سيأتى آوان الحديث عنه بالتفصيل.
* سألت واحدًا من أهل الصناعة والعارفين ببواطنها وأسرار مطبخها عن هذه الدائرة الجهنمية التى سيطرت على السينما المصرية واحتكرتها وأوصلتها إلى هذا الموت الإكلينيكى، وأنقل ما قاله لى حرفيًا:
أزمة السينما المصرية ليست وليدة اليوم، بل هى نتيجة قرن من القرارات الخاطئة، والصراعات الشخصية، والاحتكارات المقنّعة التى حوّلت الفنّ إلى تجارة موسمية بلا روح. منذ بداياتها فى مطلع القرن العشرين، لم تُبنَ صناعة السينما المصرية على رؤية وطنية أو اقتصادية واضحة، بل على مغامرات فردية، كثير منها بتمويل وأفكار من خارج مصر، جعلت الهوية الثقافية للمحتوى هشّة ومشوشة. ومع مرور العقود، أصبح الهدف الأساسى هو المجد الشخصى لا الإبداع الجمعى. المخرج يبحث عن شهرته، النجم عن تصدّره، والمنتج عن عائد سريع، بينما غاب الوعى بأن السينما ليست ترفًا، بل قوة اقتصادية وثقافية ودبلوماسية ناعمة.تحوّلت الصناعة تدريجيًا إلى «مواسم» إنتاج، تُحكمها حسابات التوزيع والاحتكار، لا احتياجات السوق أو ذوق الجمهور. سيطرت شركات بعينها على النجوم ومواعيد العرض، وبدأت لعبة تصدير الإيرادات الكاذبة لتضخيم أسماء وضرب منافسين، فى مشهد عبثى لا يخضع لأى رقابة أو شفافية.

وفى ظل غياب الدور التنظيمى للدولة، وتراجع النقابات الفنية عن أداء مهامها، فقدت السينما المصرية جوهرها: الهواية الصادقة والهدف الثقافى. أصبحت تُدار بعقلية البورصة لا بعقلية المبدع، بينما الإعلام يواصل تمجيد رموز تكرّست حولهم أسطورة مزيفة تُخفى وراءها فسادًا بنيويًا وإفلاسًا فكريًا.
إن ما حدث هو جريمة متكاملة الأركان: تدمير الوعى السينمائى والاقتصادى فى آنٍ واحد، حتى تحولت السينما المصرية من صناعة قومية رائدة إلى سلعة خاضعة لمواسم التسويق ومصالح الكبار.
ومع بداية التسعينيات، دخلت السينما المصرية مرحلة جديدة ظاهرها التحديث، وباطنها التمركز والاحتكار. ظهرت تكتلات إنتاجية ضخمة تمتلك المال، العلاقات، وأذرع التوزيع والإعلام. هؤلاء لم يكتفوا بصناعة الفيلم، بل صنعوا أيضًا «النجوم» و«الرأى العام»، وأمسكوا بمفاتيح السوق من الإنتاج إلى العرض، ثم امتد نفوذهم إلى غرف الصناعة والنقابات نفسها، لتصبح المنظومة دائرة مغلقة لا يدخلها إلا من يخدم مصالحها.
ومع مرور الوقت، تحوّلت هذه المجموعة من رجال المال والإعلام إلى اللاعبين الدائمين فى كل دورة إنتاجية. لا يُسمح لأى منتج مستقل بالنجاح، ولا لأى فكرة مغايرة بالوصول للجمهور، إلا بعد أن تمر عبر «بوابة النفوذ». حتى الدولة، بدلًا من أن تنظم السوق وتضع سياسات عادلة، استعانت بالمستشارين أنفسهم الذين صنعوا الأزمة، فكرّست بذلك نفس الوجوه، ونفس السياسات، ونفس الأخطاء.
النتيجة كانت احتكارًا مقنّعًا تداخلت فيه المصالح بين المال والإعلام والسلطة الفنية. المنتج أصبح الموزّع، والموزّع أصبح صاحب القرار فى الغرفة، والغرفة تُشرّع لمصالحهم، والنقابات تبرّر، وكل ذلك تحت شعار «الجمهور عايز كده».
لكن الحقيقة أن الجمهور لم يُستشر أبدًا. الذوق تم تشكيله عمدًا عبر إعلام موجَّه، وتم نفخ نجوم وهميين، وتزييف الإيرادات لتبرير توجيه التمويل نحو نوع واحد من الأفلام، يخدم أجندات خارجية وأفكارًا تُضعف الهوية المصرية وتشوّه الوعى الجمعى.
ما حدث ليس صدفة، بل عملية مُمَنهجة لضرب القوة الناعمة لمصر من الداخل، وتحويل السينما من منبر وطنى وثقافى إلى وسيلة ترفيه مفرّغة من المعنى، تُدار من الخارج بالمال، ومن الداخل بالفساد».

* وفوق كل هذا الوضع البائس والشائه الذى تعيشه السينما المصرية منذ سنوات طويلة جاءت الرقابة على المصنفات لتحكم الدائرة الجهنمية وحصارها الخانق، حيث تحولت إلى جهة «تأديب وتهذيب وإصلاح» للمبدعين، ولا أريد أن أظلم رئيسها الحالى الكاتب والسينارست عبدالرحيم كمال، فقد ورث تركة مثقلة و«مُلغمة» من القرارات سيئة السمعة، أضيفت فيها «رقابات» غير قانونية فوق الرقابة الشرعية، والنتيجة هى تلك الأفلام المسخ والماسخة، التى تلعب فى المضمون بعيدًا عن وجع الدماغ والأعمال الحقيقية التى تحمل فكرًا ورؤية وموقفًا، لنترحم معها على زمن وحيد حامد وبشير الديك ورأفت الميهى وغيرهم من الكتاب المبدعين، وعلى أبو شادى ومصطفى درويش من الرقباء المستنيرين.
* هذا هو المعلن، لكن هناك عشرات الألغاز التى تستعصى على الحل: منها مثلًا: لماذا احتكرت الأفلام التى ينتجها منتجًا بعينه تمثيل مصر فى مسابقة الأوسكار العالمية وتحظى كل عام بترشيح لجنة الأوسكار خلال السنوات العشر الأخيرة؟.. ومنها مثلًا: لماذا غسلت غرفة صناعة السينما يدها من إيرادات الأفلام وشباك التذاكر وأخلت مسئوليتها، دون أن تكون هناك جهة بديلة أو معتمدة يمكن الرجوع إليها فى «البوكس أوفيس»؟.. ومنها مثلًا: من الذى يحمى «مافيا» الاستيلاء على تراثنا السينمائى وبيعه بأوراق «مضروبة»؟!.
لكن يظل السؤال الأهم والأخطر: كيف دخلت السينما المصرية إلى تلك الدائرة الجهنمية؟..كيف وصلت- وهى على مشارف عامها المائة- لذلك الوضع البائس الذى يستحق منا قبل أن نحتفل بمئوية فيلمها الروائى الأول أن نعتذر لصاحبته ورائدته السيدة عزيزة أمير، ونقول لها من الكسوف ووشنا فى الأرض: حقك علينا يا ست عزيزة، وهو اعتذار موصول لكل هؤلاء الرواد الذين خذلناهم ولم نحافظ على إرثهم وحلمهم ومشروعهم وصناعتهم وأفلامهم.
هذه دعوة لفتح ملفات السينما المصرية، لنُخرجها من الأدراج المعتمة، ونضعها تحت الشمس وفى الهواء الطلق، نُشخص حالتها وأوضاعها ونعترف بتقصيرنا فى حقها، عسى أن نمنحها قُبلة الحياة ونُخرجها من تحت أجهزة التنفس الصناعى.. وقبل أن يكتبوا شهادة وفاتها!.