الأحد 19 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

يا جمال النبى.. تجليات الغيطانى فى سبيل تجديد روح الدين

جمال الغيطانى
جمال الغيطانى

- كان ضريح الإمام الحسين ومرقده هو المكان الوحيد الذى يصالحه على نفسه وكان يسعى إليه دائمًا فى وقت الضيق

- لم يختلط الإسلام بالمسيحية فى نفس جمال الغيطانى فقط بل اتسع قلبه لكل الموحدين بالله

- عاش بين أئمة التصوف الكبار قارئًا ومستلهما لتراثهم الذى كان له حضور كبير فى كتاباته وهو ما أورثه روحًا رقيقة فى التعامل مع الدين

- لا يمكننا التعامل مع جمال الغيطانى على أنه مجدد فى تكوينه عرق أصولى كان يمنعه من التحليق

- ما من موال أو غناء شعبى مصرى إلا ويفيض وجدًا وشوقًا لز يارة البيت والنبى العظيم

أنصحك قبل أن تسير معى فى رحلتى للبحث عن المخفى من أفكار الكاتب والأديب الكبير جمال الغيطانى أن تُنحى جانبًا كل الصور التى قد تكون رسمتها له من قبل. 

ضع جانبًا صورة المواطن المصرى العصامى الذى ولد فى جهينة إحدى قرى محافظة سوهاج عام 1954، وتلقى تعليمه الابتدائى فى مدرسة عبدالرحمن كتخدا، ثم أكمله فى مدرسة الجمالية الابتدائية، وأنهى المرحلة الإعدادية فى مدرسة محمد على، ثم التحق بمدرسة الفنون والصنائع بالعباسية، فى عام 1963، وهى الشهادة التى عمل بها رسامًا فى المؤسسة المصرية للتعاون الإنتاجى حيث استمر بالعمل مع المؤسسة حتى عام 1965. وضع جانبًا كذلك صورة الناشط السياسى الذى تم اعتقاله فى أكتوبر 1966 على خلفية انتمائه لتنظيمات شيوعية، ثم أطلق سراحه فى مارس 1967. 

ولا تركن كثيرًا إلى صورة المراسل الحربى الذى بدأ عمله فى عام 1969 فى جبهات القتال حيث حروب الاستنزاف، وكان ذلك بتكليف من مؤسسة أخبار اليوم، ثم واصل عمله خلال حرب أكتوبر، وهو العمل الذى منحه ومنحنا أعمالًا أدبية رائقة عن الحرب وعن بطولات الجيش المصرى. 

ولا تقف كثيرًا عند صورة الصحفى المحترف الذى انتقل للعمل فى قسم التحقيقات الصحفية فى أخبار اليوم فى العام 1974، ثم تمت فى عام 1985 ترقيته ليصبح رئيسًا للقسم الأدبى. 

ولا تلتفت كثيرًا إلى صورة المؤسس، حيث أطلق فى العام 1993 جريدته الرائدة أخبار الأدب، التى أصبحت قبلة للأدباء والمبدعين العرب، وظل رئيسًا لتحريرها فى تجربة ألقت بظلال كثيفة على كل من جاءوا بعده، فكثيرون من أصبحوا رؤساء لتحرير أخبار الأدب، لكنّ أحدًا منهم لم يكن أبدًا جمال الغيطانى الصحفى والأديب.

وطبيعى أن أقول لك لا تتوقف كثيرًا عند صورة الأديب صاحب الطعم الخاص والعالم الخيالى الرحب وصائغ التراث فى أعمال أدبية لا تزال زادًا لمن يريد أن يستمتع بروائع الرواية العربية. 

جمال الغيطانى معنا هنا هو المفكر الذى جعل من تجديد الفكر الدينى مهمة مقدسة من مهام عمله الصحفى والأدبى، وهو جانب لم يهتم به كثيرون ممن تصدوا لظاهرته بالتأريخ والبحث والنقد. 

وحتى تكون البداية صحيحة، فلا بد أن ننطلق من تكوينه الدينى.. كيف كان؟ وإلى أى اتجاه وصل به؟ 

فى يناير من العام ٢٠٠٢ طلبت مجلة «تليراما» الفرنسية واسعة الانتشار من جمال الغيطانى أن يشارك بمقال فى العدد الخاص الذى ستصدره عن الإسلام. 

اختار جمال الكتابة عن أبيه، وكيف عرف الإسلام منه فى الحياة اليومية كعقيدة وسلوك، ووضع له عنوان «أبى فى صلاة الفجر». 

بدأ جمال مقاله بإثبات حقيقة لا تقبل التشكيك وهى أن الإنسان لا يختار دينه، بل على ما ينشأ عليه والداه. 

يحكى جمال ما جرى له: تعرفت إلى دينى من خلال أبى وأمى، من خلال الحياة اليومية وتربيتهما لى منذ تفتح وعيى على العالم، أقدم ما ينتمى إلى ذاكرتى، بصرية، أو سمعية، أو شمية، أو صور مبهمة تستعصى على التفسير. 

يصف جمال والده بأنه كان كادحًا، جاء من الصعيد من قرية جهينة بحثًا عن الرزق بعد أن ضاقت به الأرض بما رحبت فى الصعيد، لم تتح له فرصة إتمام تعليمه فى الأزهر كما تمنى واستهدف فى بداية سعيه، إلا أن يُتمه المبكر، وفقدانه الأب وهو ابن عامين، والأم وهو ابن ستة أعوام، أدى إلى مواجهته الحياة وحيدًا، فردًا، طمع أقاربه فى قطعة أرض تتجاوز الفدان ونصف الفدان، وتلك مساحة كبيرة بمقاييس الوقت فى عشرينيات القرن الماضى، وكان تمسكه بها أحد أسباب هجاجه إلى القاهرة، إلى مصر كما يسميها أهالى الصعيد والوجه البحرى. 

عندما نزل والد جمال إلى القاهرة اتجه إلى مقام سيدنا الحسين، حفيد الرسول الكريم، الذى قتل من أجل الحقيقة فى كربلاء، وأصبح سيدًا للشهداء عند كل المسلمين، مبجلًا عند المصريين الذين عبدوا الإله «أوزير»، الذى استشهد فى صراعه مع شقيقه إله الشر «ست»، وتناثرت أجزاء جسده إلى اثنين وأربعين موضعًا، بعدد مقاطعات مصر القديمة، وسعت زوجته الوفية «إيزيس» تلملم أشلاءه، ومنه أنجبت ابنهما «حورس» الذى ينتسب إليه ملوك مصر القديمة.

من خلال هذه المقابلة التى نسجها جمال على هامش نزول والده إلى القاهرة، يمسك بحقيقة مهمة وهى أن فكرة الاستشهاد من أجل الإنسانية، من أجل فكرة عادلة، مضمون روحى أساسى فى مصر، ولذلك تقبلت مصر المسيحية واعتنقتها ومنحتها مضمونها الروحى، وهكذا نشأت الكنيسة القبطية، وعندما اعتنقت مصر الإسلام، أحب المسلمون آل البيت، خاصة سيدنا الحسين، رغم أنهم ليسوا شيعة. 

يقول جمال: لا يوجد فرد من آل البيت إلا وله ضريح فى مصر، سواء كان حقيقيًا، يضم رفات صاحبه، أو رمزيًا، وإلى سيدنا الحسين يتجه المصريون، وإليه اتجه أبى، فبجوار ضريحه يشعر الغريب بالأمن، ويجد الضعيف ملاذًا وعونًا، وقد ورثت عن أبى تعلقه بالحسين وآل البيت، فتحت عينى على الدنيا فى منزل صغير متواضع فوق سطح بيت مرتفع، منه كنت أرى مئذنة المسجد السامقة. 

فجر كل يوم كان يستيقظ الوالد، فى ليالى الشتاء قارسة البرد، أو فى الصيف الحار لا فرق، وكان جمال من مرقده الدافئ يصغى إلى خطوات والده، إلى خرير الماء إذ يبدأ الوضوء، لم يحل بينه وبين أداء الصلاة فى مسجد الحسين الذى كان يقع على مسيرة خمس دقائق طوال عمره إلا المرض الشديد. 

قبل أن يصل جمال إلى الخامسة من عمره طلب صحبة والده إلى مسجد الحسين، لكنه قال له: صلّ فى البيت.. وعندما تكبر أصحبك إلى صلاة الفجر.

يعود الوالد من صلاة الفجر حاملًا إفطارًا للأسرة، طبق الفول الشهى من بائع شهير اسمه أبوحجر، كان يقف قرب الباب الرئيسى للمسجد، يخرج المصلون ليشتروا منه الفول، ومن المالكى اللبن الحليب الدسم، ومن السنى الخبز الساخن الجميل، يستيقظ جمال وإخوته، وبعد أن يغتسلوا، يتحلقون حول المائدة. 

يقول جمال: ربما أول ما تلقيته من تعليمات: قل بسم الله الرحمن الرحيم أولًا، النطق باسم الله يبعد الشيطان، ويقصى الشر، ويطرح البركة فى الطعام والرزق، قبل أى اتفاق، قبل أى رحيل قصير أو طويل، قبل الشروع من الأفضل دائمًا ذكر اسم الله، قبل دخول الغرف المظلمة يكفى التلفظ باسم الله لنطرد العفاريت والأرواح الشريرة. 

وتأتى الوصية الثانية من الوالدة: كل من أمامك ولا تحف.. أى يجب أن تراعى من يأكل معك، ذلك لأنهم يأكلون من ماعون واحد. 

لكن متى عرف جمال طريقه إلى المسجد.. وتحديدًا مسجد الحسين؟ 

يقول هو: عرفت طريقى إلى ضريح ومسجد سيدنا الحسين مع الوالد مرتين فى العام، الأولى فى العيد الصغير، والثانية العيد الأكبر، عيد الأضحى، كنت أنام مبكرًا محتضنًا ملابسى متطلعًا إلى الصباح الباكر حيث أصحب أبى لصلاة العيد، بالتحديد فى مسجد الحسين، يفيض هذا المكان بالضوء والسكينة والسجاد الأحمر الياقوتى الذى يفرش أرضه، والأخضر الخصب الذى يصبغ غطاء الضريح، ولون الرخام الأبيض المشرب بحمرة، وألوان الخطوط التى تكون الآيات القرآنية المعلقة على الجدران، إضافة إلى زرقة السماء القاهرية، إنها الألوان الأساسية فى ذاكرتى. 

ويرسم جمال صورته الخاصة للإمام الحسين، يقول: تصورته شابًا، جميلًا، يتطلع إلى الأمام، بشر لكن فى وضع تمثال منحوت بإتقان وعلى وجهه تعبير فيه حزن، وفيه أسى، وصفاء أيضًا، وربما كان ذلك التصور بتأثير رسم شعبى يباع على أرصفة المساجد حتى نهاية الستينيات من القرن الماضى، صورة رسمها فنان شعبى مجهول لسيدنا على بن أبى طالب يجلس متوسطًا نجليه الحسين عن يساره والحسن عن يمينه، وصورة أخرى لسيدنا إبراهيم عليه السلام يمسك سكينًا ويستعد لذبح ابنه إسماعيل امتثالًا للرؤيا، وأعلى الركن الأيمن الملاك سيدنا جبريل نازلًا من السماء وبيده خروف فداءً لإسماعيل. 

ويذكر جمال صورًا أخرى لأبينا آدم وأمنا حواء، وصورة لسيدى أحمد البدوى وسيدى عبدالقادر الجيلانى أحد أقطاب الصوفية، وصورة للبراق الذى أسرى به الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام إلى السماء، حصان مجنح، له رأس إنسان جميل الصورة، أنثوى الحضور، وصورة للمحمل عند خروجه من مصر قاصدًا مكة يحمل كسوة الكعبة، وهدايا مصر إلى أهل الحجاز وفقراء الحجاج. 

وينعى جمال هذه الصور التى كانت منتشرة على الأرصفة فى مصر، فقد استمر وجود هذه اللوحات حتى نهاية الستينيات، واختفت تمامًا فى السبعينيات مع بدء ظهور تيارات التطرف الدينى. 

كان الوالد هو مصد الحكايات، فى أوقات فراغه وراحته كان يحكى لجمال وإخوته عن الأنبياء، طوفان نوح، وسيدنا إبراهيم وعن ابنه إسماعيل الذى أطلق اسمه على أخيه. 

سأله جمال فى صغره: لماذا لم تطلق علىّ اسم أحد الأنبياء كما أطلقت على أخى؟ 

فرد الأب: ألا تسمع الناس تقول.. يا جمال النبى.

كان الوالد يحفظ سورة أهل الكهف عن ظهر قلب ويحكيها لهم فى صيغ مختلفة وكذلك سورة سيدنا يوسف ولقاء سيدنا موسى بحبر أوتى العلم اللدنى، ويعتقد المفسرون أنه سيدنا الخضر الذى شرب من عين الحياة فهو لا يموت أبدًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها. 

كان يحكى لهم عن مشاهد القيامة كما وردت فى القرآن الكريم، وكان جمال يسأله عن يوم الحشر، وهل سيفترقون فيه عن بعضهم؟ 

فيقول له: يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، فيبكى جمال حزنًا لأنه لن يتعرف على أمه وأبيه وإخوته، ولأنهم سيفترقون. 

تسرب الموت إلى نفس وروح جمال من طقوس والده التى كان يتبعها ولا يتخلف عنها. 

يقول: فى يوم العيد، نرجع إلى البيت بعد اكتمال البهجة برؤية موكب الزعيم جمال عبدالناصر الذى كان يحرص على رؤية الناس من عربة مكشوفة، وبعد إفطارنا يحمل الوالد حقيبة من ورق، فيها كعك وفواكه وما تيسر، لتوزيعها على أرواح الموتى، أولًا شقيقى خلف وكمال اللذان رحلا صغيرين قبلى، وثانيًا على أرواح من يحب، وزيارة الموتى وتوزيع الهدايا من أجلهم عادة مصرية فرعونية قديمة، وتمتزج زيارات الموتى بالمناسبات الدينية، العيدين، ونصف شعبان، والسابع والعشرين من رجب، وقد دارت الأيام دورتها، وصرت أسعى إلى مرقد الوالدين رحمهما الله تمامًا كما كان يفعل والدى، أمام ضريح الحسين ومرقده، فهو المكان الوحيد فى العالم الذى يصالحنى على نفسى حتى الآن، إليه أسعى عند الضيق.

كان الموت من هذه اللحظة حاضرًا فى حياة جمال، فى دفتر التدوين الأول وتحت عنوان «تحنين» يقول الغيطانى: 

ما تبقى أقل مما مضى. 

يقين لا شك فيه، أعيه، أتمثله، أعيشه، فلماذا أبدو مبهوتًا، مباغتًا كأنى لا أعرف، مع أننى المعنى والمطوى والماضى إلى زوال حتمى؟ لا أتوقف عن إبداء الدهشة، لا أكف عن التساؤل إن بالصمت أو بالنطق. 

لماذا يسرع الإيقاع مع قرب التمام؟ 

لماذا تنشط الخطى وتسرع الحركة عند الدنو؟ 

لماذا يقوى العزم عند قرب نفاد الطاقة؟ 

لماذا يقع التوثب مع صلصلة أجراس الرحيل؟ 

لماذا تكون أقصى درجات اللمعة قبيل الانطفاء؟ 

لنا فى توثب واندلاع لهب الشمعة أسوة وعبرة، أما ذروة ضجيج الآلة المحركة فى الطائرة أو الناقلة البحرية قبل الكف مباشرة، إدراكى غشانى وانتباهى قضنى. 

حتى الثلاثين يكون التطلع أكثر من الالتفات، بدءًا من الأربعين وبعد فقد الأحبة يكون بدء إدراك الفوت، حتى إذا حلت الخمسون، وأوصدت أبواب، أيقنت أن ما تبقى سينقضى كندف الغمام إذ تذروها الرياح، لهذا شرعت، قلت فلأعتبر السنوات القادمة، إذا قدر لى اجتيازها، حقًا.. لا تدرى نفس ماذا تكسب غدًا، ولا تدرى نفس بأى أرض تموت. 

نعود إلى الوالد مرة ثانية، الذى سرب الدين إلى جمال دون أن يتحول إلى واعظ. 

كان الوالد يحفظ آيات كريمة من القرآن الكريم، يتلوها بمفردها، وعندما يستعيدها جمال فتبدو له كمواد قانون كونى ينظم حياته، أحيانًا ينطقها أثناء صحته وأحيانًا يتلوها ليدلل بها على صحة موقف أو قول، كانت تعاليم الدين جزءًا من الحياة من السلوك الانسانى، ليست بمعزل.

«إنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد فى الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا». 

«ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق». 

يقول جمال: مر والدى بظروف عسيرة جدًا فى حياته، خاصة فى كفاحه البطولى من أجل تعليمنا، من أجل أن يجنبنا الصعاب التى رآها فى حياته، وكثيرًا ما ردد على مسمعى: والله لولا خوفى من الموت كافرًا لانتحرت.. أن يقتل المسلم نفسه، أو يقتل إنسانًا آخر، فهذا كفر بعينه، حرم الله فى القرآن الكريم تحريمًا صريحًا قتل النفس الحية دون ذنب.. كما حرم وأد البنات الذى كان منتشرًا فى الجاهلية قبل الإسلام. 

كان الوالد يذكر الله كثيرًا، بعد تناولهم الطعام لا بد أن يقولوا الحمد لله. 

إذا سافر أحدهم يقول له ربنا معاك. 

وإذا خرج لقضاء حاجة يطلب من زوجته أن تدعو له فتقول: ربنا يسهل لك.

وأحيانًا أثناء صمته يصيح يا رب سترك ورضاك... أو.. يا غفور يا كريم يا رب. 

عندما بلغ جمال السابعة بدأ يتابع الوالد أداءه الصلاة، ويؤمهم ليصلى بهم جماعة. أمه وأشقاؤه إسماعيل وعلى ونوال، وعندما بلغ التاسعة بدأ يصوم رمضان، وكان ذلك علامة على خطوه نحو طور الرجال، كان يغالب العطش والجوع، ويكتمل شمل الأسرة حول الطعام بعد أذان المغرب. 

يقول جمال: بعد تقدمى فى العمر مررت بظروف أمرنى فيها الطبيب أن أفطر فى رمضان بسبب أدوية سيولة الدم، لا يمكننى أبدًا تناول الطعام وقت الغذاء، أنتظر أذان المغرب، وخلال النهار أتناول الدواء وبعض ماء وعندى إحساس بالذنب. 

ويعود بنا جمال إلى ضريح الإمام الحسين ومسجده، فلم يكن الضريح بالنسبة له مكانًا للصلاة فقط، إنما كان ملاذًا أيضًا وملتقى، فيه يتساوى الناس.. فالثرى إلى جوار الفقير، الناس سواسية كأسنان المشط طبقًا لما يأمر به الإسلام، ولكم قضى والده من حاجات عبر جيرانه فى الصلاة الذين كان بعضهم فى مناصب مرموقة بالحكومة، أو أطباء مشهورين، كلهم يجيئون إلى الحسين، التماسًا للبركة، وتعلقًا بالرمز، وهذا ما يميز الإسلام فى مصر، فثمة أقطار إسلامية تسود فيها مذاهب تحرم التحلق بالأضرحة، أو زيارة الراحلين. 

وكما اقترب جمال من الصلاة فى مسجد الحسين، فقد اقترب أيضًا من أصوات مشاهير القراء. 

يقول: استمعت هناك إلى أجمل الأصوات، التى تجسد مدرسة تلاوة القرآن المصرية، قارئ واحد شهير لم أستمع إليه لأنه رحل عن دنيانا وعمرى خمس سنوات، إنه الشيخ محمد رفعت الذى تبث الإذاعة تسجيلاته النادرة كان الوالد يستيقظ مبكرًا فى بعض أيام الجمع ليستطيع حجز مكان فى مسجد فاضل باشا بالجماميز الذى كان يقرأ فيه الشيخ محمد رفعت، وكان والدى إذ يصغى إلى تسجيلاته كان يقول لى إن ما نسمعه مجرد شبه بعيد جدًا بصوت الشيخ صاحب الصوت العميق العذب. 

وفى أسى يقول جمال: للأسف بدأت مدرسة التلاوة المصرية تختفى من الإذاعة والتليفزيون، لكن ثمة قراء ما زالوا يتلون القرآن الكريم فى الريف المصرى طبقًا لتقاليد المدرسة المصرية فى التلاوة، كان والدى- رحمه الله- يحرص على مجاملة جيراننا الأقباط، فى القرية أو الجمالية، وأذكر زياراته المنتظمة لتاجر غلال من بلدنا اسمه فخرى غورس ومن زياراته تلك عرفت أعياد الأقباط، مثل عيد القيامة، وسبت النور، وعيد الغطاس، وفى أثناء قضاء إجازتنا بالقرية كان يصافح القسس والرهبان الأقباط بمودة واحترام، ويعلمنى أن أنادى كلًا منهم يا أبونا، كان يردد دائمًا: الدين لله والوطن للجميع.

من هذا المشهد وضع جمال الغيطانى صورة الدين الحقيقى فى مصر، فهذه العبارة «الدين لله والوطن للجميع» كما يراها تمت إلى سياسى مصرى قبطى شهير هو مكرم عبيد، كان من رجال ثورة ١٩١٩ التى شبت ضد الاحتلال الإنجليزى، وللأسف لم تختل العلاقة بين المسلمين والأقباط إلا مع صعود موجات التطرف منذ السبعينيات فى القرن الماضى، اختلت بتأثير ظروف اجتماعية واقتصادية نفثت عن أوارها من خلال تلك الفتن، ولكن مصر بمضمونها الروحى القديم يمكنها تجاوز شتى المحن. 

لم يختلط الإسلام بالمسيحية فى نفس جمال الغيطانى فقط، بل اتسع قلبه لكل الموحدين بالله، وهذا المشهد يكفينا. 

يقول: أحيانًا أغيب عن زيارة مولانا الحسين بسبب سفر أو انقطاع قسرى، عندئذ أسعى إلى ضريحه، تمامًا كما كان يسعى أبى، بنفس إيقاع خطواته، ونفس اتجاه نظراته، أجلس فى فراغ المسجد مسترجعًا حضور أبى الذى غاب، مستأنسًا بذكراه، وبالمعانى التى يجسدها مولانا الشهيد، نفس معنى التضحية والشهادة الذى كان يجسده أوزير بالنسبة للمصرى القديم، مسترجعًا بالذاكرة أبياتًا شعرية لمولانا الصوفى الأكبر محيى الدين بن عربى أثق أن والدى رحمه الله لو كان اطلع عليها لحفظها ورددها: 

لقد صار قلبى قابلًا لكل صورة.. فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف.. وألواح توراة ومصحف قرآن

بهذا التكوين الدينى البسيط السمح المنطلق فى رحاب الله تفاعل جمال مع القضايا الدينية، ومع وضعية الدين فى حياتنا. 

على خلاف كثير من الكتاب والمفكرين كان الغيطانى ينزل الأزهر مكانة كبيرة، ويرى فيه الأمل فى أى إصلاح يمكن أن ننشده، ولذلك تحدث كثيرًا عن إصلاح الأزهر. 

بعد وفاته فى ١٨ أكتوبر ٢٠١٥ نعاه الأزهر الشريف، وجاء فى بيانه: إن التاريخ سيظل يذكر الفقيد بأعماله الأدبية الأصيلة، ومنهجه فى احترام حضارة أمته وثقافتها وتراثها، وتعمقه فى تاريخ الأمتين العربية والإسلامية وآدابهما، وجهوده الفكرية فى الثقافة المصرية والعربية الإسلامية، ومشاركته بأفكاره الرصينة مع الأزهر الشريف فى إعداد وثائقه العامة وإصدارها، وآخرها وثيقة «تجديد الخطاب الدينى» التى لم تصدر بعد. 

كان جمال الغيطانى قد شارك بالفعل فى إعداد وثيقة تجديد الخطاب الدينى التى عكف عليها الأزهر مع عدد من رجال الفكر والثقافة بداية من العام ٢٠١٥ وصدرت فى العام ٢٠١٧ بعد عامين من وفاته. 

حمل الغيطانى ومبكرًا شغلته فكرة إصلاح الأزهر، فقد كان يغمه ما وصل إليه من أحوال. 

كان جمال يمتلك مفهومًا محددًا للإسلام المصرى، وهو المفهوم الذى ساد قرونًا طويلة، ويعد الأمثل بالنسبة لروح الإسلام وموقفه ومضمونه، والذى أسهم الأزهر فى نشره ودعمه وخدمته وتقديم الصورة الحقيقية للدين المعتدل، الوسط، الذى لا يجنح إلى التطرف، استمر ذلك قرونًا عديدة قبل أن تتسرب من مجاهل الصحراء عناصر الفقه البدوى والفهم السطحى للإسلام الذى ألحق بالدين الحنيف أبلغ الضرر كما نرى الآن. 

ويعترف جمال بأن هذا الفهم المصرى للإسلام تراجع مع تراجع دور ومكانة أقوى مؤسسة دينية فى العالم الإسلامى، كانت تعمل على نشره وبث تعاليمه، ويعنى الأزهر. 

ويضع جمال بعضًا من روشتة العلاج، يقول: هذا أمر يحتاج إلى مواجهة صريحة ومعالجة واضحة دقيقة، فالأمر الآن يمس العالم الإسلامى كله، والدين نفسه، ولننح جانبًا الأقوال التى يروج لها البعض الآن عن تحسين الصورة، لأنه لا يوجد تحسين لصورة، إنه التعبير المهذب عن تزييف الصورة بواسطة شركات العلاقات العامة المحترفة التى تنهب المليارات، إننا نظلم جوهر الإسلام الحقيقى ونسهم فى تزييفه، عندما نقول بتحسين الصورة، لأن الأصل حسن فعلًا، ولكن تلك المذاهب السطحية، التى أدت إلى فهم متطرف ضار للإسلام، ألحقت به الضرر وأبعدته عن العصر، نحن فى حاجة إلى سيادة المفهوم الحقيقى الذى أهيل عليه التراب، خلال العقود الأخيرة بعد امتلاك أصحاب هذه المذاهب قوة اقتصادية هائلة، عملوا من خلالها على نشر مفهومهم السطحى للإسلام، وليس مبادئ الإسلام السمحة المعتدلة. 

وفى أبريل من العام ١٩٩٨ وبعد زيارة جمال جماعة أكسفورد، يعود ليكتب: 

الأزهر مؤسسة أقدم من أكسفورد ومن السوربون ومن الكوليج دى فرانس ومن بولونيا، ولكننا للأسف لم نحافظ على تقاليده أو نظم الدراسة المتوارثة به، كان الأزهر مسجدًا وجامعة للعلم فى نفس الوقت، لم يكن مقصورًا فقط على تدريس العلوم الدينية، إنما كانوا يدرسون فيه الفلك والعلوم الطبيعية وغيرها. 

كان الطلبة يقيمون فى الأروقة المتصلة مباشرة بصحن المسجد، حيث تقام الشعائر الدينية وتلقى الدروس، عرف الأزهر نظام أستاذ الكرسى، حيث يجلس فوق مقعد مستندًا إلى عمود رخامى من أعمدة المسجد المهيب ويتحلق حوله الطلبة، ومن يرغب فيما يشبه محاضرة مفتوحة، وكان الطالب ينتقل من أستاذ إلى أستاذ وله حق الاختيار، وفى اللحظة المناسبة يتقدم إلى المشيحة ليؤدى الامتحان، ويمنحه الشيخ الأكبر إجازته. 

حتى بدء عمليات الترميم الأخيرة كانت أروقة الأزهر عامرة بالطلاب، ولا تزال تحمل أسماء البلاد التى يجيئون منها، رواق المغاربة والشوام والجبرتية وغيرهم، كان من الممكن الحفاظ على تقاليد الأزهر العريقة والعناية بها؛ باعتبارها أقدم نظم التعليم الجامعى فى العالم، وقد لا يعرف الكثيرون أن نظام أستاذ الكرسى انتقل من الأزهر إلى الجامعات الأوروبية، وكذلك المحاضرات المفتوحة للدارسين. 

ويرى جمال أن التطوير الذى حدث للأزهر فى الستينيات لم يكن تطويرًا. 

يقول: فى الحقيقة كان التطوير تدميرًا للطابع التقليدى وأصول التعليم الأزهرى، وأضيفت إلى الجامعات المصرية جامعة حديثة تحمل اسم الأزهر، لكن لا علاقة لها بالأزهر القديم، لست بحاجة إلى ذكر مكانة الأزهر عند مسلمى العالم، ومدى تأثيره وتطلعهم إليه، إضافة إلى ضرورة الحفاظ على هيبة الأزهر فى مواجهة التعصب والتطرف، إضافة إلى تدعيم استقلاليته، الأساس فى الأزهر هو العلوم المتصلة بالفقه واللغة والأدب، إنها النواة المركزية لجامعة الأزهر، لقد أضاف التطوير جامعات للهندسة والطب والعلوم المدنية، وهذا إيجابى بلا شك، غير أن القضاء على التقاليد الجامعية الأزهرية أفقدته وأفقدتنا الكثير من القيم العلمية والثقافية والتاريخية، لقد تميعت شخصية الجامعة الأزهرية بتحويلها إلى جامعة تشبه أى جامعة أخرى، ومن المهم أن نستعيد خصوصية هذه الجامعة العريقة، خاصة أن عملية الترميمات الواسعة على وشك الانتهاء، وهى عمليات تعد الأشمل والأكبر منذ تأسيس المسجد- الجامعة قبل أكثر من ألف سنة، ولكم أتمنى أن تعمر الأروقة من جديد بالنابغين من العالم الإسلامى مع تطويرها، فيمكن على سبيل المثال أن تكون أجهزة الحواسب الآلية والإنترنت جنبًا إلى جنب مع المجلدات القديمة التى تضم المتون والحواشى وبعد افتتاح المسجد أتمنى أن يعود نظام التدريس التقليدى الذى يؤكد للأزهر استمرارية عراقته. 

وفى ٩ مارس ٢٠٠٣ بزاويته بأخبار الأدب يكتب: هناك إحساس عميق بضرورة النهوض بمؤسسة الأزهر واستعادتها دورها القديم، وهذا الدور لا يتصل فقط بحاجة الإسلام والمسلمين إليه الآن فى تلك الظروف العصيبة، إنما يتصل بقدرة مصر على التأثير فى محيطيها العربى والإسلامى، لقد ظل الأزهر على امتداد أكثر من عشرة قرون منارة حقيقية قوية، واسعة التأثير، وركيزة للعلم الدينى والدنيوى، الأزهر جامعة للعلوم بكل مستوياتها قبل أن يكون مسجدًا شهيرًا، وفى تاريخ الأزهر تقاليد عريقة إحياؤها الآن فيه أجل خدمة للإسلام والمسلمين. 

يعدد الغيطانى مزايا المؤسسة الأزهرية من وجهة نظره، يقول: أول هذه التقاليد أو السمات ذلك التسامح العلمى والمذهبى، فالأزهر جامعة تدرس فيها جميع مذاهب المسلمين، وتدرس فيه جميع الآراء، ومنذ أن يدخله الطالب يتعلم تلقى الرأى والرأى المخالف، وعليه أن يعمل فكره وعقله، من هنا أصبح الأزهر مقصدًا لجميع علماء المسلمين من شتى بقاع الأرض، فيه يجد السنى أيًا كان مذهبه، والشيعى الفرصة للدراسة بدون تمييز، كذلك المغربى والشرقى والجنوبى والرومى، ويكفى نظرة إلى أروقة الأزهر القديمة لنرى الأممية ماثلة، متحققة بدون تعصب، لقد وصل تأثير الأزهر إلى أقصى أطراف الأرض، هذا التأثير متعدد المستويات فالطلبة الذين يدرسون فى الأزهر لا يتعلمون فقط مبادئ الإسلام السمحة، إنما يرتبطون أيضًا بمصر بالمكان، بالبشر، بالثقافة، وهذا له تأثير بعيد المدى على جميع المستويات. 

ويمسك الغيطانى بأصل القضية من وجهة نظره، فاستعادة الأزهر تقتضى استقلاليته التامة، هذا أمر يجب أن تتفهمه الحكومة، فالمحاولات التى جرت على امتداد القرن الماضى كانت قصيرة النظر، بدءًا من محاولات القصر الملكى التأثير على الأزهر، وربط شيوخه بسياساته، إلى القرارات التى صدرت فى بداية الستينيات، والتى سميت بتطوير الأزهر، وكان الهدف الحقيقى منها تطويع الأزهر كمؤسسة دينية عريقة فى إطار صدور القرارات الاشتراكية، باستمرار كانت الحكومات المتعاقبة تحاول السيطرة على الأزهر وتطويعه، وكان الأمر يتعلق بمدى قوة شيخ الأزهر نفسه وقدرته على مقاومة الضغوط التى تمارس خفية وعلنًا، النتيجة هى إضعاف الأزهر كمؤسسة، وكمنارة للإسلام. 

لكن كيف يستعيد الأزهر دوره؟ 

يجيب الغيطانى: يجب عودة الأزهر كمؤسسة دينية علمية للعلوم الشرعية، وأن تعود هيئة كبار العلماء التى ألغيت، وأن يكون اختيار شيخ الأزهر بالانتخاب من هذه الهيئة، وأن يتخذ من الإجراءات ما يؤدى إلى دقة مراقبة المنح المالية التى تقدم إلى الأزهر، لحمايته من اختراقات المذاهب التى ألحقت أبلغ الأذى بالإسلام عندما قدر لها أن تنتشر وتذيع بتأثير قوة اقتصادية طارئة، خرجت بها من مجاهل الصحراء حيث نمت إلى ما نراه الآن من آثار مدمرة. 

لم يدل جمال الغيطانى بدلوه فى قضايا التجديد، كان مهتمًا بوضع الإطار الذى يمكن أن يتحرك فيه هذا التجديد، ولذلك نراه دائمًا مهتمًا بإصلاح المؤسسات القائمة على شئون هذا الخطاب. 

فى يونيو من العام ٢٠٠٧ عاد إلى مصر بعد أن أمضى شهرًا فى الولايات المتحدة، وخلال إقامته هناك لم تنقطع عادته القديمة فى أن يقرأ الصحف قبل تناول الإفطار يوميًا.

فى الخامسة صباحًا كانت توضع أمام الباب نسخة من جريدة «نيويورك تايمز» إحدى أكبر الصحف فى الولايات المتحدة، اعتاد جمال قراءة الجريدة وملحق الفن اليومى، وملحق الكتب الأسبوعى الذى يصدر يوم السبت، عدد السبت كان يزن أكثر من كيلو جرام بتعدد ملاحقه الصحفية والإعلانية. 

يحكى لنا جمال عما جرى: تطلعت إلى الصفحة الأولى، صورة ضخمة بالألوان ملتقطة من دار الإفتاء المصرية، يجلس شيخ وأمامه شاب يصغى، وخلف الباب سيدة تنتظر، أما الموضوع فكتبه مراسل الجريدة فى القاهرة ميشيل سلاكمان، ويدور بالطبع حول الفتاوى التى صدرت عن المفتى وأحد أساتذة الأزهر، فى السطر الأول يتحدث عن فتوى الثدى، وفتوى شرب البول، الموضوع طويل، احتل الصفحة الأولى، وبقيته على صفحة كاملة فى الداخل، لن أستطيع سرد ما جاء به، لكنه ينقل المناقشات التى جرت وصلتها بالحياة الحديثة، وبالطبع تتخلل السطور نبرة الدهشة والتهكم. 

يستكمل جمال الحكاية: بمجرد قراءتى للموضوع تراجعت مهمومًا أسفًا حزينًا على ما يلحق دين عظيم ورسالة إلهية خالدة على أيدى أبنائه، مرة من الذينيمارسون الذبح الشرعى على الهواء وعبر قنوات التليفزيون، ربما كان هؤلاء مدفوعين من بعض أجهزة المخابرات والجهات التى تستهدف الإساءة إلى الإسلام، لكن الأدهى والأمر هذه الفتاوى الغريبة التى تخرج عن دائرة العقل وكل ما يمت إلى المنطق، وتلحق أبلغ الضرر بالإسلام والمسلمين، لو أن جهة انفقت المليارات وجندت الجيوش وكل وسائل الإقناع والبث لتشوه ديننا الحنيف، لما وصلت إلى ما ألحقته تلك الفتاوى من ضرر وأذى، هذا الشعور القوى بالضرر خاصة مع تزايد الفضائيات وظهور نجومها الذين يعتمدون الإثارة والإفتاء بغير علم. 

ينتقل جمال مباشرة إلى رؤيته الإصلاحية لما أصبحت عليها الفتاوى، يقول: خلال توليه منصب المفتى أخبرنى الشيخ الدكتور أحمد الطيب أنه ينوى طباعة جميع الفتاوى التى صدرت منذ تأسيس دار الإفتاء فى القرن التاسع عشر، ومثل هذا الجهد العلمى يمكن أن يشكل مرجعية كبرى لدار الإفتاء، خاصة أن الفتوى كان يقوم بها الأئمة والشيوخ الكبار الذين استوعبوا العلم والدرس، ولم تكن الفضائيات متاحة ولا شيوخها المحترفون الحاليون، هنا تبرز أمامى نماذج رائعة للقتوى، الأول للإمام محمد عبده، وقد استوقفنى فى هذه الفتاوى أسئلة المسيحيين المصريين للأستاذ الإمام وردوده عليهم، كذلك مجموعة فتاوى الشيخ محمود شلتوت، هذا تراث لا يخص المصريين فقط، إنما يخص المسلمين جميعًا، ومرجعية لشيوخ الحاضر الذين يجب أن يجتهدوا أكثر، وأن يتفهموا ما يحيط المسلمين من مخاطر آتية من الداخل والخارج، وقبل ذلك كله روح العصر، حقًا شتان ما بين فتاوى الشيوخ العظام والفتاوى الفضائحية التى طالعناها أخيرًا من شيوخ توسمنا فيهم العلم، ولكن وأأسفاه. 

ظل جمال الغيطانى طوال حياته يتحرك بحس صوفى نادر، عاش بين أئمة التصوف الكبار قارئًا ومستلهما لتراثهم، الذى كان له حضور كبير فى كتاباته، وهو ما أورثه روحًا رقيقة فى التعامل مع الدين، ويمكننا أن نقول إن رؤيته للتجديد كان مدخلها صوفيًا، وربما هذا ما جعله يطالب بإصلاح المؤسسات الدينية دون أن يهاجمها أو يجرح فى شيوخها، وكان هذا سببًا أيضًا فى ترحيبهم به وعدم إعلان العداء فى مواجهته كما فعلوا مع آخرين. 

لم يكن جمال متصوفًا نظريًا، ولكنه كان يسعى فى الموالد وخلف المنشدين، ولعل ما كتبه عن المنشد الأعظم الشيخ ياسين التهامى ما يدلنا على ذلك. 

فى ٩ ديسمبر ١٩٩٧ كتب الغيطانى فى يومياته بجريدة الأخبار نصًا رائقًا دالًا، منحه عنوان «فى حضرة الشيخ ياسين»، أعتقد أنه من اللائق أن أترككم معه دون تدخل. 

فها هو الغيطانى يتحدث عن التهامى. 

بالنسبة لى هنا مركز الكون، من ميدان سيدنا ومولانا تتفرع الأقطار والبلدان وتبدأ المساعى إلى أركان الدنيا الأصلية والفرعية. لميدان الحسين حضور قوى فى حياتى وحياة معظم المصريين، والليلة غير عادية. 

سينشد الشيخ ياسين. 

وأين؟

أمام الباب الأخضر فى قلب الميدان. 

الشيخ ياسين التهامى ابن الحواتكة، الصوت العذب الجميل، بدأ العالم يعرفه ويقدمه عبر المحطات المرئية والمسموعة، عدا التليفزيون المصرى «إنه أقوى وأجمل وأكثر الأصوات التى خرجت من مصر تفردًا وروعة، الشيخ ياسين فى ميدان الحسين، ليلة مولده العطر، إنها والله لليلة. 

القوم يفترشون الأرض حول المسجد، يلوذون بالضريح القاهرى لسيد الشهداء، نساء جئن من الريف ، رجال، صبية، عجائز، الكل فى حالة تأهب، لكن ثمة قلقًا، ثمة من يقول إن المحافظ أو رئيس الحى أو الشرطة لا تريد السماح بالحفل الكبير الذى سيبدأ بعد العشاء مباشرة، ودعم هذه الشائعات ظهور بعض المخبرين يحاولون فض التجمعات حول المسجد، بالطبع ظلال حادث الأقصر مخيمة، ولكن هذا يعنى عدم فهم دقيق لحالة المصريين الخاصة جدًا، والموالد المصرية بالتحديد، حالة خاصة تعانى سوء فهم من المثقفين والباحثين، فهل تبدأ الإدارة قصيرة النظر فى التدخل أيضًا. 

مكبرات الصوت، المصابيح تصدح، الأضواء رسائل إلى حواف الكون، والآباد التى لا يمكن إدراكها، كنت مرهقًا متعبًا، أتوكأ على صاحبى وأخى الشاعر أحمد الشهاوى، وعندى شك فى قدرتى على تحمل ما تبقى من الليل، لكن ما إن أهل الشيخ ياسين بعمامته البيضاء وقامته المهيبة واتخذ مكانه أمام الباب الرئيسى، ما إن بدأت الموسيقى المنبعثة منه، فالموسيقى تتبعه وتنبع منه، لا تسبقه، وما يؤديه إنما يجىء من اللحظة ذاتها، أى أن كل حفل يأتى بحالة جديدة من الإبداع لا تتكرر، يقف عشرات يحملون آلات التسجيل المسموعة والمرئية، تنسخ التسجيلات فى نفس الليلة من القراصنة وتتجه شرقًا وغربًا لا شىء يعود على الشيخ وفرقته، الرجل وهب فنه ونفسه للإنشاد الدينى، أما الشرائط التى تحمل اسمه فتجاوزت الثلاثين. 

يبدأ متمهلًا، يرتقى الوقت، يتسلق المطلع، فوح جميل وميلاد ندى، أصعب القصائد الصوفية ينشدها بجمال وسلاسة، وتصل المعانى إلى الناس، حتى أولئك الذين لم يقرأوا الشعر، ولا يقدرون لأميتهم. 

شيئا فشيئًا تتصاعد الحالة التى يطلق عقالها أداء الشيخ ياسين، من قصيدة إلى أخرى، من ابن الفارض إلى سيدى محيى الدين إلى الجيلى إلى الجازولى، يهدأ الإيقاع حينًا ويعلو حينًا، تارة همسة وتارة عاصفة، وبعد ذلك سكون فيه حركة، القوم يأخذهم الوجد، الدقائق تمضى، الوقت يسرى، الوجود يتحول إلى نغم، صوت الشيخ ياسين يطوى العناصر كلها، يصحبنا ممدوح ابن شقيقته بعد أن يلمحنا إلى موقع فى الشرفة المطلة، نرى الجموع كلها ونراه، نرى الكل فى واحد، والواحد فى الكل، ثلاث ساعات ونصف لم يهدأ ولم يكف، وعندما اختتم قرب بزوغ الفجر كنا فى حال غير الذى بدأنا، وكنت قادرًا رغم إعيائى. 

صحبنا ممدوح عبر شارع أم الغلام إلى حارة صغيرة، صعدنا إلى حيث يقيم الشيخ، إنها المرة الأولى التى نلتقى خلالها، كنت أتبعه طبقًا للأحوال والطاقة، فهو كل يوم فى مكان، يذهب إلى الناس فى ديارهم، وبرنامجه مشغول لمدة عامين، يمضى رمضان كله فى مكة والمدينة المنورة مجاورًا بالصمت الظاهر، نما وانتشر بعيدًا عن أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية. 

سافر للإنشاد فى مدريد وباريس ولندن، وأينما حل أثار الإعجاب والهيبة. 

إنها المرة الأولى التى أتحدث فيها إليه، كنت أراه دائمًا فى ليالى الإنشاد فى ساحات الموالد، ولا أقدر على مصافحته حتى للزحام ولتحركه محاطًا بالمريدين، تبعه بعضهم إلى شقته، يجلسون صامتين فى الصالة، يتطلعون إليه ملتمسين البركة. 

نجلس إليه أحمد الشهاوى وممدوح ونحاوره، يتنفس الشيخ المعانى، لا ينطق إلا شعرًا أو حكمة. اسأله عن مقر إقامته، كم يقضى فيه وهو فى مكان مغاير كل ليلة؟ 

يقول إن العالم بيته، أما سكنه فيقيم فى المعانى. 

يسأله أحمد عن المعانى الصعبة وتفسيره لوصولها إلى الناس واستيعابهم لها وتمايلهم عليها. 

يقول إن الإحساس بالمعنى نصف فهمه، والمشاركة فيه فهم كامل. 

يتصل الحوار محملًا فائضًا، وألاحظ أن الشيخ مصاب بنوبة برد حادة، فاستفسر عن صموده طوال الانشاد لمدة ثلاث ساعات ونصف. 

يقول إن المدد يأتى من عند الله. 

نخرج والنهار على وشك، ترى كم نهار أشرق على الدنيا وكم سيطلع، أفيض بالأشواق فى لحظات نشوتى، من حارة إلى حارة، من درب إلى درب، عطفة قصر الشوق، درب الزمرد، العطوف، القاهرة القديمة، قصيدة من الشعر رغم رثاثتها وإهمالها وقذارة أركانها، لكن ثمة شيئًا يكمن خلف هذا كله، لا يمكن أن ينال منه إهمال الحكومة، وبلادة المحافظة، وغياب المهتمين بالآثار، إنها الروح الخفية السارية، والتى يمثل الشيخ ياسين أحد تجلياتها. 

لا يمكننا التعامل مع جمال الغيطانى على أنه مجدد، فى تكوينه عرق أصولى كان يمنعه من التحليق، لكنه ونزولًا على صورة الإسلام لديه التى بدأ والده فى رسمهاعلى جدران قلبه، واستكملها الأئمة والأولياء، فإنه أقرب إلى المرشد للتجديد والدال على طريقه، وأعتقد أن هذا يكفيه جدًا.. فقد أشار إلى السبيل وجلس يرقب سالكيه.. منهم من ضل ومنهم من وصل.. ويبقى الكاتب والمفكر والأديب ليس مسئولًا لا عمن ضل ولا عمن وصل. 

اقرأ أيضًا: 

عندما بكى الغيطانى بين يدى الرسول الأعظم