بيرم.. مذكرات الزجّال الذى شغل الدنيا: «إزاى يا ترى؟.. أهو ده اللى جرى»
- فى مذكراته يروى «بيرم» عن أبيه المزواج، وحقيقة موته مسمومًا، واستيلاء زوجة أبيه على ثروة العائلة، ولماذا كره الكُتاب
- كان موت والد «بيرم» صدمة لكل الأسرة، فهو لم يترك لهم مليمًا واحدًا سوى البيت الذى يسكنون فيه. لذا اضطرت الأم إلى أن تبيع البيت.
- أبوه قُتل بالسم من ضرة أمه وأعمامه رفضوا اتهامها خوفًا من تشريحه
- عندما رفضت المطبوعات منحه ترخيصًا لصحيفة طلب تصريحًا بتجارة الحشيش
- توفيت زوجة بيرم التونسى وتركت له ولدًا اسمه «محمد»، وبنتًا سماها «نعيمة»، وبعد 15 يومًا من وفاة زوجته، تزوج من أخرى.
- أهله فى تونس أنكروا نسبه لأن جدة والده كانت جارية لأحد سلاطين الأتراك
- كان «بيرم» يكتب من قلبه و«سيد» يغنى بكيانه نغمات يحملها الناس ويرددونها
- هاجم المرأة الجاهلة وصاحبة التربية الخطأ وحب المظاهر والإسراف، فيقول إن أطباء الأخلاق شخصوا داء هذه الأمة فأجمعوا على أن المرأة أصل جرثومته.
- كتب للزوجة المهملة فى كل جمعة اكنسى تحت السرير مرة لا تحطى تحته لا مقلاية ولا جَرة
- أصدر مجلة اسمها «الخازوق» وفيها هاجم المحافظ محمود فخرى باشا، صهر السلطان، تحت عنوان «لعنة الله على المحافظ».
- تاجر فى السمن وصياد نصب عليه وهوادج الجمال بنت له عضلات الملاكمين
- «بيرم» كان الصحفى المصرى الوحيد الذى يحفظ السلطان فؤاد اسمه جيدًا
- عاد إلى مصر عبر جواز سفر مزور يحمل اسمًا مختلفًا وحصل عليه عن طريق قنصل بريطانى
- هاجم مفتى الديار محمد بخيت دفاعًا عن سعد زغلول فحرض عليه القصر
فى عام 1961، ولم يكن قد انقضى على وفاته إلا شهور قلائل، خرجت مجلة «آخر ساعة»، تحمل بعضًا من مذكرات الشاعر الكبير بيرم التونسى، التى يكشف فيها العشرات من الأسرار عن حياته بوضوح وجرأة، لا تميل للكذب حتى تتجمل.
فى هذه المذكرات، يقف بيرم التونسى على مسافة من حياته ومسيرته، يتحدث، يروى، عن سيرته الذاتية وكأنه يحكى عن آخر، حتى إنه يشير إلى بطل المذكرات بـ«بيرم» وكأن من يكتب المذكرات آخر غيره، لا هو بنفسه يكتب عن حياته.
يحكى «بيرم» عن طفولته، وجحود عائلة والده ونكرانهم نسبه، لا لشىء سوى أن جدة والده كانت إحدى جوارى سلطان تركى وهبها للعائلة، فما كان من الجد الأكبر إلا أن يشد الرحال إلى أرض الحجاز، ومنها إلى مصر، وتحديدًا ميناء الإسكندرية، حيث كان يعمل أغلب المهاجرين اللاجئين إلى المحروسة.
يحكى كذلك عن أبيه المزواج، وحقيقة موته مسمومًا، واستيلاء زوجة أبيه على ثروة العائلة، ولماذا كره الكُتاب، وكيف فتحت له تجارة «السمن» طريق الزجل والشعر والأدب، إلى جانب لقائه الأول بـ«فنان الشعب» سيد درويش، وما دار فيه، وغيرها من الوقائع الشخصية، التى نقدمها لقارئ «حرف» فى السطور التالية، عن الزجال الذى شغل الدنيا والناس.

«لبيبة» تبشر والدها بـ«محمود محمد مصطفى بيرم»
كالكرة بدأت الفتاة السمينة القصيرة تسير فى طريقها بخطوات سريعة، وكأنها تتدحرج على الأرض. كانت على عجل جعلها تشق طريقها بجهد وسط زحمة المجاورين أو الطلاب الأزهريين الغرباء، الذين تجمعوا حول بائعى كتب، ممن افترشوا الأرض أمام مسجد «الأباصيرى» فى الإسكندرية.
حالة العجلة هذه لم تجعل الفتاة تلقى بالًا إلى تعليقات وقفشات الصيادين وصانعى الشباك، الذين لا يتركون واحدة تمر بسلام أمام الميناء الشرقى.. المهم أن هذه الفتاة، واسمها «لبيبة»، لم تشعر بنفسها إلا وهى على مشارف سوق «المغاربة».
وقفت لحظات، وتأكدت من تغطية الطرحة السوداء لكل معالم وجهها، ثم عادت تتدحرج من جديد إلى أن أصبحت على بُعد خطوات من دكان والدها. أرادت أن تتقدم لكنها وجدت أمام الدكان «هيصة». تراجعت إلى الخلف قليلًا، ثم أخذت تدور بعينيها فى كل اتجاه بحثًا عن ولد صغير، ينادى لها الرجل المعلم الذى يتصدر الاحتفال ویرتدى الجلباب القطنى.
كان الاحتفال عبارة عن عادة يقيمها والدها فى كل شهر مرة أمام دكانه. كان يلتقى فى هذا الاحتفال العلماء والحلب وأغلب تجار السوق بملابسهم، التى كانت لا تخرج عن العمائم والجيب أو الكواكيل والطرابيش.

فى نفس الوقت الذى كانت فيه «لبيبة» فى حالة حيرة، تعبر عنها مرة بقدمها، ومرة ثانية بالدوران حول نفسها، ومرة أخرى بتجفيف عرق وجهها، فى نفس هذا الوقت كان القوم يتمايلون على إنشاد شاعر الربابة وهو يرفع صوته الرخيم قائلًا:
سألت يا رحمن يا سامع الدعا.. تنجى أولادى من الأوغاد
لكى ياخذوا تارى من ولد غانم.. ويشفوا قلوبهم من الأكباد
وسألت يا رب تستر عيوبنا.. عيوب لنا واضحات جداد.
لا تحتمل الأصوات التى تصل إلى سمعها، وتزداد حيرتها، وتضطر فى نهاية الأمر إلى أن تتجه بخطوات سريعة نحو الجمع لتسحب طفلًا من أطفال الحى الذين جذبهم هذا الاحتفال وتنتحى به جانبًا، وتُكلفه بالمهمة وهى تشير إلى مكان والدها. يخترق الطفل الصفوف بصعوبة ليهمس بالكلمات المطلوبة فى أذن الرجل صاحب الاحتفال فيتجه بدوره نحوها، بينما شاعر الربابة مستمر فى إنشاده.
يكون الأب فى هذا الوقت قد عرف النبأ من ابنته، وكلف واحدًا من أولاد أخيه أن يسد مكانه فى الاحتفال إلى أن يحضر. غادر المكان مسرعًا مع «لبيبة». وما إن يصل الاثنان حتى يسمعا صوت طفل يرتفع بالصراخ.
يندفع الأب إلى حجرة الزوجة، ويقترب من السرير الذى ترقد عليه، ويقول لها وهو متلهف: ولد ولا بنت؟! تقول له فى إعياء وهى تكشف وجه الطفل: ولد. تغمر الفرحة وجه الأب، ويستأذنهم فى إبلاغ أصدقائه بالخبر وإنهاء الاحتفال وإغلاق الدكان والعودة فورًا.
وما كاد يتجه إلى الباب ويقف على عتبته، حتى سمع صوتًا غليظًا جدًا يرن فى أذنيه وهو يقول: «وحتسميه إيه يا حاج محمد؟» يلتفت خلفه فى عتاب إلى الداية «جازية» صاحبة الصوت الأجش، وبدلًا من أن يقول لها: «وده وقته؟» تنير الابتسامة كل ملامحه وهو يقول: «أتوكل على الله وأسميه محمود.. محمود محمد مصطفى بيرم».

صفعة و«فلقة» تنتهى بترك «كُتاب الشيخ جاد الله»
جاء مولد الطفل محمود بيرم التونسى فى لحظة يقظة، يوم ٤ مارس عام ١٨٩٣. هذا يوم من الأيام التى كانت تفيق فيها الإحساسات الوطنية من حقنة «البنج» التى أنامت الشعب مدة ١١ عامًا تقريبًا، منذ دخول الإنجليز مصر وضربهم الإسكندرية، وقبضهم على «عرابی» وإرساله إلى المنفی.
يشب الطفل وسط همسات الناس وهو لا يدرى شيئًا عنها. يشب وسط اجتماعات تجار الحى ورجال الأزهر وأولاد البلد، وهم يتكلمون فى أحاديث خافتة عن أطماع «الباب العالى»، وشهوات الحاكم، والاحتلال الجاثم فوق صدورهم.
يذهب «بيرم» إلى دكان والده فى ذات يوم، ويجلس بجواره على الكنبة وسط أكداس الحرير، فيقول له أبوه إنه بعد شهور سيصبح عمره ٤ سنوات كاملة، وحينئذ سيرسله إلى كُتاب سيدنا.
ذهب بيرم إلى كُتاب «الشيخ جاد الله»، فى زاوية «خطاب» الموجودة فى حى «السيالة». كان «الشيخ جاد الله» فقيهًا يعلم الأولاد القراءة والكتابة وحفظ القرآن فى النهار، ويذهب إلى المآتم ليقرأ فيها بعد الظهر. كان يعلمهم الهجاء بطريقة منغمة كالتواشيح، ويُدربهم على الحروف دون توقف لمدة ساعة ونصف الساعة.
«الشيخ جاد الله» كان يتمتع بمزاج حاد يجعله ينهال بالصفع على تلاميذه بمناسبة أو بدون. كانت عقدة «بيرم» هذه، أنه بليد فى الحساب، لا يعرف كتابة السبعة من الثمانية. لذا كان لا ينجو من وطأة «الفلقة» فى أى يوم من الأيام.

ذات يوم، ذهب «بيرم» إلى أبيه وهو يبكى، قال له إنه لن يذهب إلى كُتاب سيدنا مرة ثانية. وكانت الإجابة، أول صفعة تنزل على صدغ «بيرم» فى حياته من والده، وتهديدًا بالموت إذا انقطع عن الذهاب إلى الكُتاب.
فى الصباح، لم يستيقظ «بيرم» ليذهب إلى الكُتاب مبكرًا كعادته، وجاءت أمه لتوقظه، لكنه تمارض، وجازت الحيلة على الأم، أما الأب فلم ينخدع بها، وسحب خيزرانة رفيعة ونزل بها على جسم الطفل الصغير وهو يتلوى، وجره من يده إلى كُتاب سيدنا، الذى وضع رجليه فى «الفلقة»، بعد أن عرف أنه كان يريد «الزوغان» من «الكُتاب».
بدأ «بيرم» من هذا الوقت يكره الكُتاب، ولا ينفذ أوامر «سيدنا»، وكلما فعل ذلك زاد الشيخ فى معاقبته، وعندئذ وجد الأب أنه لا فائدة من الولد الذى كان يطمح فى أن يراه فقيهًا فى العلم يومًا ما، فأخرجه ليجلسه مع أولاد أخيه الكبار، فى دكان الحرير الذى يمتلكه.

الجدّة «جارية السلطان» وراء «الهروب» من تونس
فى العام الذى خرج فيه «بيرم» من الكُتاب، فوجئ بحادثین. الأول كان مولد أخته وموتها بعد هذا الميلاد بـ٣ أيام. والثانى جاء عن طريق المصادفة، فقد اكتشفت أمه أن زوجها قد تزوج عليها سرًا من فتاة كانت تتردد على دكانه فى فترات متفاوتة، وأنه أسكنها فى منطقة بعيدة عنهم اسمها «الأزاريطة»، وكانت آنذاك من ضواحى الإسكندرية وغير معمورة.
على الرغم من ذلك، لم تستطع أمه مفاتحة زوجها بالخبر خوفًا من غضبه، واتهامها بالتجسس على أحواله. لكن، مع الأيام وبالتدريج صارحها بزواجه. وقال لها إن الله أحل له ٤ زوجات، وهو لم يتزوج عليها إلا واحدة فقط.
قابلت أم «بيرم» هذه الحادثة فى حياتها بمنتهى البرود والاستكانة. كانت لا تعاتب زوجها بأى کلام، ولم تفاتحه فى هذا الزواج الجديد مرة ثانية، ولم تشكُ لأحد إلى أن كانت ليلة جلست فيها مع ابنها الصغير «بيرم» لتروى له قصة أبيه المزواج من أولها.
قالت له إن الزوجة الجديدة ليست الزوجة الثانية فى حياة والده، فأمه هى الزوجة الثانية، أما الزوجة الأولى فهى أم «لبيبة» أخته، التى توفيت تاركةً له هذه البنت الوحيدة، التى بينها وبينه ٢٠ سنة كاملة من العمر.

تسهب الأم فى الحديث مع الطفل، وهو متجه بكل مشاعره نحوها، وكأنه يطلب مزيدًا من المعرفة عن أبيه. قالت له الأم: إن جد والده جاء من تونس إلى الإسكندرية، وهو حاقد على أقاربه فى موطنه الأصلى تونس. قطع «بيرم» كلامها وهو يقول لها فى سذاجة: «طردوه؟» تربت الأم على كتف «بيرم» وتُقبّل وجنتيه ثم تقول له: «لم يحدث هذا بالضبط».
تضيف متحدثة إلى طفلها: «جدك كان مضطرًا للهجرة حتى يهرب من العيون التى كانت تطارده، والسبب جارية رماها القدر فى يد سلطان من سلاطين الأتراك، أهداها هذا السلطان إلى والد جدك، ومات الأب تاركًا ابنه دون حق شرعى يثبت بنوته. بالتالى لم تعترف الأسرة بشرعية جدك حتى لا يشاركهم فى الميراث، فبصق عليهم وشد رحاله، ومر بالأراضى الحجازية، وجاء منها إلى ميناء الإسكندرية باعتباره ميناء يعمل فيه أكثر المهاجرين، وتزوج لينجب أباك وولدين هما عماك الآن».
تمر الأيام وأشباح هذه الحوادث والقصص لا تفارق مخيلة «بيرم»، بل تجعله يبدو أمام الناس طفلًا حزينًا لا يقبل اللعب مع أولاد عمه أو غيرهم من أولاد الجيران، ويكتفى بالجلوس على عتبة البيت ليراقب أنداده «يبلبطون» فى ميناء البحر، ويجرون بعضهم وراء بعض بمحاذاة الساحل.

«هل قتلته الزوجة الثالثة؟».. موت غامض للوالد
يحاول والد «بيرم» أن يعود إلى محاولة جديدة لتعليم ابنه، فيرسله إلى مسجد «المرسى أبوالعباس»، وكان معهدًا دينيًا تابعًا للأزهر آنذاك، ويتردد عليه أغلب أولاد تجار الحى.
فى أول مرة يذهب فيها «بيرم» إلى هذا المعهد، يلاحظ أن التلاميذ الكبار يجلسون فى أركان المسجد بعد الدراسة للمذاكرة فيراقبهم من بعيد مراقبة دقيقة.
يعود فى اليوم التالى وفى يده كتاب أصفر اشتراه بقرش من البائعين الذين يفرشون كتبهم أمام المسجد، وبعد أن يستمع إلى الدرس، يأخذ ركنًا فى المسجد، ويبدأ فى القراءة بصوت عالٍ، وهو يروح ويجىء بظهره، تمامًا كما يفعل الطلبة الكبار فى طريقة مذاكرتهم.

لكن هذا التقليد لا يستمر طويلًا. ينظر حوله على أثر صوت ضحكات عالية، ويفاجأ بأن الطلبة قد تركوا مذاكرتهم، وبدأوا يتفرجون عليه ويضحكون. فى لمح البصر يطوى الفتى كتابه، ويتناول «قبقابه»، ويجرى صوب الباب ليصبح فى الطريق.
أقبل «بيرم» على ما كان يلقى فى هذا المعهد من دروس فى نهم وشغف. لكن هذا الاقبال لم يستمر طويلًا. فى ليلة باردة من ليالى طوبة، استيقظت أمه وأخته غير الشقيقة على إثر ضربات عالية متلاحقة على باب المنزل. فتحت أمه الباب لتعرف أن زوجها قد مات فى منزل زوجته الثانية «الثالثة»: الفنانة.
كان موت والد «بيرم» صدمة لكل الأسرة، فهو لم يترك لهم مليمًا واحدًا سوى البيت الذى يسكنون فيه. لذا اضطرت الأم إلى أن تبيع البيت، وانتقلت إلى بيت أخيها. وأهمل «بيرم» الذهاب إلى المسجد الذى كان يستمع فيه إلى الدروس، ورفض أولاد عمه استقباله فى دكان أبيه، وادّعوا أنه أصبح ملكًا لهم.
شاعت فى الحى شائعة آنذاك تقول إن والد «بيرم» مات موتًا بطيئًا عن طريق السم التدريجى، الذى كانت تدسه له زوجته الفنانة فى الطعام، وأن هذه الزوجة استولت على «الكمر» الذى كان يلفه حول وسطه لحظة موته، وكان فى هذا «الكمر» كل ثروته، وهى ٥ آلاف جنيه ذهبًا. لكن أحدًا لم يلق بالًا لهذه الشائعة، لأن إثباتها يحتاج إلى تشريح الجثة، وأقارب والد «بيرم» يعتقدون أن هذا العمل فيه مساس براحة الميت.

قلب الفتى يدق لـ«الأساطير الشعبية» و«ابنة العطار»
يذهب «بيرم» بعد موت أبيه إلى بيت خاله المقاول، فيرسله خاله إلى محل بقالة ليعمل فيه. لكن ذلك لا يدوم كثيرًا. يترك صاحب الدكان محله لـ«بيرم» ويذهب إلى صلاة الجمعة، ويعود ليفاجأ بالدكان مفتوحًا ولا أحد فيه، ويكتشف فى هذه اللحظة أن «بيرم» تركه ليذهب إلى مولد سيدى أبوالعباس، حيث يستمع إلى المواويل الحمراء.
فى هذا اليوم، تلقى «بيرم» علقة ساخنة من صاحب الدكان، الذى سلمه إلى خاله وهو يقول له: «هذا الولد لا يصلح إلا للعمل فى تياترو». وينتهى الأمر بـ«بيرم» إلى أن يصبح متعطلًا فى البيت.
يلتقى فجأة بأحد البنائين، الذين يأتون لخاله فى نهاية الأسبوع لأخذ أجرتهم، ويكتشف أن هذا البَناء يحفظ كثيرًا من القصص الشعبية، ويطلب منه أن يروى له بعضها، وتتطور هذه الهواية الجديدة عند «بيرم»، إلى حد أنه أصبح لا يكتفى بسماعها، بعد أن عرف مصدرها فى حى «الشمرلى».

بدأ يقتصد فى مصروف یده لیشتری به من مكاتب هذا الحى كُتب الأساطير الشعبية مثل: «ألف ليلة وليلة»، و«أبوزيد الهلالى»، و«عنترة»، و«سيف بن ذى يزن»، وغيرها. وكان كلما قرأ كتابًا من هذه الكتب ازداد نهمًا وعمل على استبداله ودفع الفرق وشراء غيره.
لكن هذه الحياة لم تستمر طويلًا، فقد تزوجت أمه من قريب لها من أسرة «الشريدى». ذهب «بيرم» إلى دكان الزوج الجديد ليساعده فى صناعة هوادج الجمال، وكان عمل «بيرم» الجديد شاقًا جدًا. كان يقول عنه لأصدقائه: «هذه الصنعة ثقيلة لدرجة أنها ربت لى أكتاف عضلات». لم ينقذ «بيرم» من هذا العمل إلا موت أمه، التى أصيبت بخراج فى صدرها فجأة، وفتحه لها حلاق بموسى ملوثة، فحدث تسمم فى الجرح وماتت قبل إسعافها.
كان «بيرم» فى هذا الوقت يبلغ من العمر ١٧ سنة، وأحس بأن عليه الاستقلال بعمل خاص، فاتفق مع أحد الصيادين، واسمه حامد المكى، على أن يعملا معًا، على أساس أن يشارك الصياد فى صيده، ويشترك معه الصياد فى مكسب دكان البقالة الذى سيفتحه.
فى هذه اللحظة كان قلب «بيرم» يتحرك، كان يبحث عن نصفه الآخر، خاصة بعد أن ماتت أمه وتزوجت أخته الكبيرة، وأصبح يعيش حياته وحيدًا هائمًا. كلف أخته أن تبحث له عن زوجة من أسرة محافظة فى الحى، ووجدتها فى ابنة تاجر عطارة، فتزوجها وعاش معها فى بيت والدها.

فى هجاء المجلس البلدى.. القصيدة الأولى
نعود إلى الدكان الجديد، ونعرف أن «بيرم» كان يُقلِب فجأة فى الكتب التى يقطع منها الأوراق ليبيع لزبائنه، فإذا به يجر كتابًا فى الصوفية لـ«محيى الدين بن عربى»، ویبدأ فى قراءته وحل ألغازه.
بعد أن ينتهى من قراءته، يبدأ فى البحث عن كتب من هذا النوع، ويشترى كتبًا لكل من «المقريزى» و«الغزالى» و«الميدانى». كما يقرأ فى الأدب الشعبى لـ«عبدالله النديم»، ويحفظ أزجال الشيخ النجار والشيخ القوصى، ويحاول تقليد هذه الأزجال، ويمزق كل ما يكتبه فى هذا الوقت لأنه فى رأيه لا يستحق الاهتمام.
هذه الدراسات، وادعاء شريكه بأنه لا يكسب من الصيد، ويقتسم معه ربح الدكان، وفتح باب الشك على مصراعيه لعساكر السواحل فى المنطقة، كل هذا عجل بغلق دكان البقالة الذى يملكه، ليصفى «بيرم» بضاعته بعد افتتاحه ببضعة أشهر فقط.
بعد أن ترك التجارة، لم يستسلم «بيرم» لحظه السيئ فيها، خاصة أنه كان عليه فى هذا الوقت أن يوفر القوت لنفسه وللإنسانة التى أصبحت أمانة فى عنقه، وهى زوجته. هداه عقله إلى تجارة مربحة، فقرر أن يشترى بجزء من الميراث الذى تركته له أمه، مجموعة من صفائح السمن لبيعها لتجار التجزئة، ويشترى بالجزء الباقى بيتًا فى «الأنفوشى».
كانت تجارة السمن هذه تدر عليه مكاسب لا بأس بها. لكن المجلس البلدى فاجأه بطلب مبلغ كبير كعوائد على البيت الذى اشتراه. اغتاظ «بيرم» حينئذ، وقرر أن يفعل شيئًا. قرر أن يكتب قصيدة يهجو فيها البلدية، ويذهب بها إلى جريدة لتتولى نشرها.

مما قاله «بيرم» فى هذه القصيدة:
إذا الرغيف أتى فالنصف آكله... والنصف أجعله للمجلس البلدى
كأن أمى بلل الله تربتها.. أوصت وقالت: أخوك المجلس البلدى!
ذهب «بيرم» بهذه القصيدة إلى جريدة «الأهالى»، واقتحم حجرة صاحبها عبدالقادر حمزة، وهو فى حالة عصبية، وقال له: «تنشروا الكلام ده وإلا أمرى لله؟». أخذ «عبدالقادر» القصيدة منه وهو ينظر له باستغراب، وقرأها مرة ومرتين وثلاثًا وهو يضحك، ونظر إليه ثم قال: «ولا يهمك، سأنشرها كاملة».
كانت أول قصيدة تُنشر لـ«بيرم»، وقد طبع من العدد الذى نُشرت فيه ١٤ ألف نسخة، وكانت النسخة تُباع بتعريفة، وأحدث نشرها دويًا بين موظفى المجلس البلدى، الذين ترجموها إلى اللغات الأجنبية، فقد كانوا جميعًا من الأجانب... بدأ «بيرم» بعد هذه القصيدة يشعر بأنه أصبح مهمًا فى عالم الأدب، فترك التجارة وبدأ الاهتمام بتأليف الزجل.

60 جنيهًا ذهبًا من سيد درويش نظير «أنا عشقت»
فى ذلك الحين، كان «بيرم» يتردد على كازينو «الأنفوشى» وقهوة «فرنسا»، وكازينو «الأنفوشى» وقتها كان عبارة عن حمام يستقبل زواره للاستحمام فيه، وتناول الأطعمة الخفيفة والمياه الغازية، ويقع على البحر من جهة بحرى التى يسكنها «بيرم». وكثيرًا ما كان زوار الكازينو يشاهدون «بيرم»، الشاب النحيل صاحب الشعر الأصفر الغزير، وهو يحمل مجموعة ضخمة من الأوراق تحت إبطه، ويضع فى جيب جاكتته العلوى مجموعة كبيرة من الأقلام.
كان يتناول طعامه دائمًا بمطعم فى شارع «البوسطة القديمة»، تحت لوكاندة «قناة السويس». وحدث أن ذهب ليتناول طعامه مع صديقه محمد العطار، الذى أصبح مؤرخًا فيما بعد، فالتقى مصادفة بصاحب جريدة «النظام»، سيد على، ومعه صديقه محمد عبدالعزيز، وهو أحد محررى نفس الجريدة.
كان سيد على يحب بيرم التونسى جدًا، ويميل دائمًا إلى مداعبته، فدخل عليه وهو يقول: «طيب التين شامى ودى حاجة كويسة، وهوه مغربى برضه حاجة كويسة، لكن إيه اللى جمع الشامى على المغربى؟». غمز له «بيرم» بعينيه وهو يقول: «العشق.. العشق والله يا أستاذ سيد».
ضحك سيد على وهو يقول: «يا أخى مش تبقى تورينا نفسك ولا أنت غاوى التُقل على الناس؟». نظر له «بيرم» نظرات عتاب ورد عليه فى هذه المرة بالزجل فقال:
أفوت عليكم أسلم من بعيد لبعيد
نظرة يا سيد يا أبو البونية حديد
يا بخت من يندهلك يصبح غنى وسعيد.

انقلب المكان فى هذا الوقت إلى الهرج والمرج وإلقاء الدعابات. ونصح سيد على «بيرم» بأن يذهب لسماع مطرب جديد اسمه سيد درويش. قال له إن هذا المطرب جعل الشيخ سلامة حجازى، يذهب لسماعه فى مقهى بحى كوم الدكة. كان «بيرم» من أنصار فريق التجديد فى الإسكندرية. لذا ما صدق أن سمع بهذا المطرب حتى ذهب إليه مع زملائه: الأديب زكى أبوشادى، والتاجر الشيخ محمد أبوخاطر، والجواهرجى نقولا الملا، ومحمد شاهين، رئيس نادى الإسكندرى.
بعد أن استمعوا إلى المطرب الشاب، قرروا ألا يشجعوا أى فرح أو مناسبة حج أو خلافه إلا إذا كان يغنى فيها هذا المطرب. من هذا الوقت بدأت العلاقة تتوطد بين «بيرم» وسيد درويش. أسمع «بيرم» أزجاله لـ«سيد درويش» فأعجب بها، وطلب منه أن يؤلف كلمات أغانيه.
وبالفعل، وضع بيرم التونسى لـ«فنان الشعب» كلمات أغنية: «أنا عشقت وشفت غيرى كتير عشق.. عمرى ماشفت المر إلا فى هواك». وأعطاه سيد درويش من إعجابه بكلمات هذه الأغنية ٦٠ جنيهًا ذهبًا. وكتب له كذلك: «ضيعت مستقبل حياتى فى هواك.. وازداد عليه اللوم وكتر البغددة».
الخلاصة أن الفن ربط بين «بيرم» وسيد درويش بأوثق الروابط، فقد كان «بيرم» يكتب من قلبه، و«سيد» يغنى بكيانه نغمات يحملها الناس ويرددونها.

«المسلة».. جريدة بـ«سن مُدببة» يماثل الغمزات واللمزات!
توفيت زوجة بيرم التونسى وتركت له ولدًا اسمه «محمد»، وبنتًا سماها «نعيمة»، وبعد ١٥ يومًا من وفاة زوجته، تزوج من أخرى.
فى هذا الوقت كان قد بدأ يشترك فى مكافحة الطغاة والمستعمرين فى ثورة ١٩١٩. وكان حلم «بيرم» لا يقف عند حد إرسال قطعة الزجل إلى الصحف التى كان يكتب لها مثل «الإكسبريس»، أو يكتفى بكتابة الأغانى، ولكنه كان يحلم بإصدار جريدة تحمل كلماته إلى الناس.
كان يعرف أن «خلاط بك»، مدير المطبوعات، سيقف فى وجه هذه الجريدة، لأنه يعرف أن «بيرم» مشاغب وطويل اللسان. لكن الفكرة كانت تطارد «بيرم» وتؤرقه، حتى استقر على إصدار جريدة، ولو أدى ذلك إلى أخذ رخصتها بالقوة أو التهديد، أو حتى قتل مدير المطبوعات!
ذهب «بيرم» إلى القاهرة، وقابل «خلاط بك»، الذى طلب منه أن يمر عليه بعد أسبوع ليستأذن فى ذلك وزارة الداخلية. وبالفعل، مر عليه بعد انتهاء الأسبوع، ليقول له إن وزارة الداخلية لم تسمح له بإصدار هذه الجريدة. كان «بيرم» يتوقع هذا الرد وقد استقبله بمنتهى البرود، ونظر إلى «خلاط بك» فى شماتة وقال له: «طيب.. والله ممكن تعمل لنا تصريح من وزارة الداخلية نتاجر به فى الحشيش!».
نظر «خلاط بك» إليه والدم يفور من وجنتيه. وعاد «بيرم» يقول له فى هذه المرة، وكان ثائرًا: «ماهو أنا عارف إن اللى بياخدوا حقهم معاكم الحشاشين وبس». انتفض «خلاط بك» وهاج، وصرخ فى حجرة مكتبه، وعندها تدفق السُعاة والموظفون فأمرهم بإخراج هذا الرجل المعتوه من حجرته فورًا.. وخرج «بيرم» وهو فى منتهى الثورة، وقرر أن يفعل شيئًا.

خرج بيرم التونسى من مكتب مدير المطبوعات مطرودًا، وقرر أن يتحدى هذا الرجل بإصدار جريدة تحمل اسمه وتعبر عن أفكاره، بطريقة شيطانية تجعله لا يخضع لديكتاتورية إدارة المطبوعات أو وزارة الداخلية.
سافر إلى الإسكندرية، وبدأ فى البحث عن اسم للجريدة التى سيصدرها. رشح له أصدقاؤه أكثر من اسم؛ واحد يقول له «الميناء»، وثانٍ يقول: «فى المليان»، وثالث يقول «صوت الإسكندرية». وبهذه الطريقة أصبح أمامه أكثر من اسم، كان عليه أن يختار واحدًا منها، لكنه ترك كل هذه الأسماء، واختار لجريدته اسمًا غريبًا: «المسلة».
يسأله أصدقاؤه عن السبب فى ذلك فيقول لهم لأن المسلة لها سن رفيعة مدببة فى نهايتها، تماثل الغمزات واللمزات التى أخرجت من أجلها هذه الجريدة. يكتب «بيرم» جريدته من الغلاف إلى الغلاف. وفى يوم ٤ مايو ١٩١٩ ينزل ليوزعها بنفسه فى المحطة وعلى المقاهى وعلى طلبة الأزهر والمدارس ودواوين الحكومة.
تصبح هذه الجريدة، عند أول يوم من صدورها، حديث أغلب أهالى الإسكندرية. والسبب فى اهتمام أهل الإسكندرية بها هو أن أغلب الصحف فى هذا الوقت كانت تهتم بالأختام المفقودة والإعلانات التجارية أكثر من اهتمامها بمشكلات الناس، أما جريدة «بيرم» فقد كانت مع مشاكل الجماهير من أولها لآخرها.

نقد لاذع للاحتلال فى أول الأعداد: «ضيف ساقع وابن جزمة!»
كانت «المسلة» فى ١٦ صفحة، على غلافها صورة لـ«بيرم التونسى»، وكُتب على هذا الغلاف، بدلًا من العدد الأول: «الجزء الأول بقلم محمود بيرم التونسى، صاحب قصيدة المجلس البلدى». وكُتب فى أسفل صفحة الغلاف: «عُرضت على مراقبة قلم المطبوعات».
جعل «بيرم» هذا العدد يحتوى على زجل سياسى طويل، يهاجم فيه الاستعمار، وظله الثقيل الذى لا يريد أن يبارح أرض الوطن. هذا الزجل كان بعنوان «يا متمتع الحجر»، ومن بعض أبياته:
جالنا ضيف بارد وساقع وابن جزمة
نام ومزع فى القماش والوقت أزمة
والضيافة بالكتير ما تكونشى لازمة
غير ٣ أيام.. ودى بالتلتمية!
رأى «بيرم» ألا يقتصر هذا العدد على المشاركة فى المشاعر الوطنية ضد المستعمر فقط، فيقيم من نفسه مُصلِحًا اجتماعيًا، يهاجم المرأة الجاهلة وصاحبة التربية الخطأ وحب المظاهر والإسراف، فيقول إن أطباء الأخلاق شخصوا داء هذه الأمة فأجمعوا على أن المرأة أصل جرثومته. ينهى هذه العظة بأن الأمهات لا تجدى فى تهذيبهن المقالات المنمقة والقصائد المهذبة بل بمثل هذا الكلام، ثم يبدأ فى مجموعة أزجال كلها نصائح للمرأة واكتشاف لأخطائها.

يقول مثلًا للزوجة المهملة:
دود الحصيرة زحف والعنكبوت عشش.. على البيبان والستاير والقزاز غشش
شوفى التراب اللى بالزوفة على الكنسول.. قومى امسحيه ليشوفه جوزك ييجى يوشوش
إزاى تحطى صابونة الوش فى الكابنيه.. ما عند الرف واسع والوساخة ليه؟
يحطها يدلعدى جوزك على وشه.. تطلع له فيه الحرارة ويشتكى بعينيه
فى كل جمعة اكنسى تحت السرير مرة.. لا تحطى تحته لا مقلاية ولا جَرة
والمحلبة والصفيحة وسلة الهلاهيل.. وقِدرة المش لازم يترموا بره.
ثم يتكلم عن الزوجة الخائبة فيقول:
يا منيلة دا اللى من مثلك ما حقه جواز.. غلبتى جوزك وعلمتيه علة النزناز
مبسوطة لما بسلامته يروح يقول عنك.. دى كل ليلة تجيب لى الأكل متعاص جاز
يوم طبخة العدس أشوفك محتاسة.. ما تخلى فى البيت لا حلة ولا طاسة
وتقعدى تبعترى المواعين فى الفسحة.. وتبقى أرض المطارح كلها كناسة
وينبه بيرم فى هذا العدد المرأة الجاهلة إلى كيفية تربية أولادها فيقول لها:
ما تمدغيش للعيال الأكل بأسنانك.. والنفخ فى الأكل سم فى عرض أيمانك
إخيه عليكى بقيتى خصلتك سودة.. ما تسمعيش الكلام تنشكى فى لسانك
ما تحسبيش من عمايلك ربنا يحبك.. بطن الولد توجعه والأكل يتلبك
بعدين يخستك قوى ويموت بالعربى.. قلت اللى فيها بقى وذنبك على جنبك.

ويحتار «بيرم» فى المرأة التى تخرج إلى الشارع على آخر موضة، بينما هى فى بيتها وأمام زوجها كالخباز أمام الفرن فيقول:
عمرك ما تتزوقى إلا عشان بره.. وتطلعى بالبوال والصدر يتعرى
خللى الزواق والعدل فى البيت للراجل.. لحسن يكيدك وياخد بالعَجل ضُرة
ثم يخاطب المرأة التى تنكر كل ما يحضره زوجها فيقول:
دبقتى جوز الأساور من قفا المسكين .. الوزن ١٠٠ عياره ٢٤
ولا يسأل تقول دول بتوع أختى.. لهو إنت بتجيب أساور وإنت عيشتنا عيشة الشحاتين؟!
تاخدى الفلوس بالربا وتفصلى حبرة.. وتجرجرى الديل وقال إيه واحدة معتبرة.
ثم ينتهى هذا العدد فى صفحة ١٦ بإعلان عن موضوعات الجزء المقبل من «المسلة». ويفعل نجاح العدد الأول فى نفس «بيرم» فعل السحر، فيبهره هذا الانتصار، ويقرر ألا يكون نشاطه الصحفى فى الإسكندرية، فعليه أن يذهب إلى القاهرة الأم، ليكون قريبًا من الأحداث، ويشارك الشعب فى مواقفه الوطنية.

هجوم على المفتى وفتوة عماد الدين: «مين الشطح ده؟!»
يأتى «بيرم» إلى القاهرة، ويعثر على مقر للمجلة بجوار جامع «العظام» فى شارع «عبدالعزيز». يذهب فى هذا الوقت ليقيم فى شقة مع زميله محمد العطار، حيث يعقد الندوات والسهرات مع أصدقائه. يجد هذه الشقة فى بدروم بالإدارة أمام قسم عابدين، فى منزل عبده بدر الترزى، الذى كان له صوت رخيم فى الغناء.
يجلس «بيرم» مع عبده بدر، ويتفق معه على أن يأخذ الشقة مقابل ١٥٠ قرشًا شهريًا، لكن قبل أن ينصرف، يسأله صاحب البيت عن اسمه، ويعرف أنه الزجال بيرم التونسى، صاحب القلم المعروف، فيتخلى له عن جنيه من إيجار الحجرة، ويقول له إنه لن يأخذ فيها شهريًا سوى ٥٠ قرشًا.
قبل صدور العدد الثانى من «المسلة»، يدعو «بيرم» كثيرًا من الكتّاب وأصحاب الصحف المنافسة إلى سهرة فى هذه الحجرة. يحضر الزجال خليل نظير، ومحرر «الكشكول» محمد إبراهيم هلال، وصاحب جريدة «المسامير» السيد عارف، وفهيم قنديل صاحب «عكاظ»، وأحمد فؤاد صاحب «الصاعقة»، ومحمد فرحات صاحب «إياكا»، ومحمد شرف صاحب «أبوشادوف»، وأحمد حلمى صاحب «الزراعة».
تظل سهرتهم إلى ما بعد منتصف الليل، حيث كانت القفشات والدعابات وتقليد المطربين تجعل الأصوات ترن فى قسم عابدين. وعلى ضجة هذه الأصوات يأتى مأمور القسم، المرحوم الأميرالاى حسن كامل الأرناؤوطى، ليسهر معهم هو وضباطه.
يظهر العدد الثانى من «المسلة» فى القاهرة، بعد ذهاب سعد زغلول إلى باريس لحضور مؤتمر «فرساى» لعرض قضية البلاد. يظهر هذا العدد وفيه هجوم شديد على مفتى الديار المصرية، الشيخ محمد بخيت، لمعارضته سفر «سعد»، واختلافه مع وجهات النظر الوطنية فى هذا الوقت.
وما إن يظهر هذا العدد، حتى يأخذه «الشيخ بخيت» ويذهب به إلى القصر، الذى يجد أنه لا يستطيع المساس بـ«بيرم التونسى»، لأنه أجنبى وبالتالى «حماية».

يظل «بيرم» يتعقب «الشيخ بخيت»، ويصفه بأقبح النعوت التى يوصف بها إنسان. ولا يكتفى بذلك، بل يهاجم الاستعمار والعملاء ورجال القصر الوصوليين، وكذلك العادات الاجتماعية السيئة.
يحدث فى هذا الوقت أن يجلس «بيرم» على مقهى فى شارع «عماد الدين»، وفجأة يقترب منه رجل طويل القامة، عريض المنكبين، ويسحب كرسيًا ليجلس أمامه فى تحدٍ وبمنتهى البرود، ثم يلكم «بيرم» فى أنفه وهو يقول: «شوف لنا معاك حاجة!». يحس «بيرم» بأن من واجبه أن يقوم ليصفع هذا الرجل، لكن أحد الجالسين على المقهى يقترب منه ويقول له فى أذنه إن هذا الرجل هو فتوة عماد الدين الذى يخشى سطوته الجميع فى أى مكان.
بسرعة يخرج «بيرم» ٥٠ قرشًا من جيبه ليعطيها للرجل، الذى يقول وكأنه يأمره: «عايز جنيه». يكمل له «بيرم» الجنيه، وينتظر أن يختفى من أمامه ليقول للذين حوله: «مين الشطح ده؟»، فيقولون له إنه شرير تونسى اسمه يوسف شهدی، يقيم فى المنزل رقم ٢ بـ«عطفة الحنة» فى «المغربلين».
لا يملك «بيرم» حينئذٍ إلا أن يقول بأعلى صوته، وكأنه يشفى غليله وينتقم للجنيه الذى ضاع منه: «مش بذمتكم واحد زى ده مش كان من الأولى يجرله ساقية!».
بعد هذه الحادثة بأيام، يسمع «بيرم» أن هذا البلطجى قد عمل فضيحة فى القاهرة، فقد تحدى بلطجيًا آخر اسمه محمد ماكين، ووقف الاثنان فى ميدان الأوبرا، ومعهما مجموعة من الأسلحة الخطيرة، وأخذ كل منهما يطعن الآخر محاولًا أن ينتزع اعترافًا يثبت أنه فتوة الأزبكية، ولا يوجد فتوة غيره.

يأخذ «بيرم» وقائع هذه الحادثة ليهاجم بها رجال البوليس والمسئولين عن الأمن، الذين يتركون أمثال يوسف شهدى بفرض إتاواته على الناس، ويأتى هذا الهجوم تحت عنوان: «اللى بياكلوا بلاش». وبعد هذا الزجل طُرد هذا البلطجى خارج البلاد.
يعود «بيرم» للاتصال بسيد درويش، ويتفق معه على أن يؤلف لفرقته الجديدة «أوبريت» من طراز ممتاز. كان سيد درويش وقتها قد ترك العمل فى فرقة «الريحانى»، وبدأ يعد العدة لهذه الفرقة التى عيّن عزيز عيد مديرًا لها.
يذهب «بيرم» ذات ليلة إلى فرقة سيد درويش، فى شارع «النبيلة»، المسمى بـ«حارة النصارى» الآن. وما إن يبدأ فى مناقشة «الأوبريت» الذى ألّفه، واسمه «شهرزاد»، حتى تدخل عليهم شلة من الأصدقاء، يقدمهم «سيد» إليه: زكريا أحمد، وبديع خيرى، وصديق بيرم القديم محمد شاهين.
فى هذه اللحظة، يقول سيد درويش لكل من بديع خيرى وزكريا أحمد: «بيرم إسكندرانى مثلى، وأديب ممتاز، يحب الفرفشة والفن، وعيبه الوحيد إنه يقول للأعور أعور ولو فى عينه!». يعلّق زكريا أحمد: «أيوه والله يا سيد، أنا حسيت برضو بكده من أول ما شفته، وعشان كده حاطط إيدى على قلبى»، ثم ينظر إلى فوق وهو يقول: «يا رب استر» فيضج الجميع بالضحك.

نُفِى خارج مصر بسبب مقال «ولى العهد فاروق ابن حرام»!
ظل بيرم التونسى على هذا النهج يسير، ينتقد ما لا يعجبه من الحكومة أو القصر أو المجتمع، حتى صدر العدد رقم ١٢ من «المسلة»، وهو الأخير.
كان العدد زاخرًا بذم الملك، إلى درجة أن «بيرم» أصبح الصحفى المصرى الوحيد الذى يحفظ السلطان فؤاد اسمه جيدًا. وكانت المفاجأة فى هذا العدد أنه كتب زجلًا تحت عنوان «البامية الملوكى.. والقرع السلطانى».
العنوان فى حد ذاته عادى، فهو عبارة عن نداء البائعين على خضرهم فى الإسكندرية، فهم دائمًا يرفعون عقيرتهم فى الأحياء بقولهم: «ملوكى يا بامية.. بدنجان طاليا.. سلطانى يا قرع».
لكن المفاجأة فى أن «بيرم» أخذ ورقة كانت توزع على المتظاهرين فى هذا الوقت، واسمها «المنشور الصغير»، وحوّل الاتهامات التى فيها إلى أزجال، وكانت الاتهامات تقول صراحة إن وريث العرش الجديد «فاروق» ابن حرام، لأنه ولد بعد زواج أمه بـ٤ أشهر فقط.
على إثر نشر هذا الزجل، أصدر السلطان فؤاد بنفسه أمرًا بإغلاق المجلة فورًا، وتُغلق المجلة بالفعل. لا ييأس «بيرم» فى المقابل، ويصدر محلها صحيفة أخرى اسمها «الخازوق»، ثم يفتتح العدد الأول والأخير فيها بمقال عنيف يهاجم فيه المحافظ محمود فخرى باشا، صهر السلطان، تحت عنوان «لعنة الله على المحافظ».
يغضب القصر على «بيرم» الغضبة الأخيرة، ويتصل بالإنجليز حتى يتوسطوا لدى سفارة فرنسا، لإصدار أمر بنفيه، حيث إنه «حماية فرنسية»، ويتم الاتفاق على ذلك.
يذهب إلى مقر الصحيفة كل من: الضابط أحمد عبدالرحمن، والأميرالاى ماركو بيه، والضابط الإنجليزى فيتز باتريك، وكذلك حكمدار العاصمة رسل باشا، الذى كان يركب حصانه ويراقب عملية تنفيذ الأوامر.
تشتد غيرة جيران «بيرم» فى هذا الوقت، فيقررون إنذاره بالخطر المحدق به، وتتطوع صاحبة محل تخديم، واسمها «أم حسين»، بتنظيم عملية تحذيره، فتوقف بعض الشبان على ناصية جامع «العظام»، والبعض الآخر عند المطافى.

يظهر «بيرم» ومعه زميله محمد العطار، ويقول «بيرم» لـ«العطار» فى ذلك الوقت: «شد حيلك.. عايزين شوية فلوس علشان ألعن بيها سنسفيل جدود أكبر حمار فى العدد القادم». يلمحه أحد الشبان الواقفين، فيجرى نحوه ويقول له: «حاسب يا عم بيرم، البوليس منتظرك».
لكن «بيرم» يُصر على أن يذهب ليرى الأمر، ويدخل دكان تاجر ملابس فى شارعه، ليخرج بعد قليل وهو يرتدى جبة وقفطانًا وعمامة، ويذهب إلى مكان الجريدة ليجد زحامًا، ويقترب أكثر فأكثر من المكان إلى أن يصبح فى الصفوف الأمامية.
لا يشعر إلا والضابط، أحمد عبدالرحمن يضربه على كتفه، ثم يرفع عصاه لينزل بها على كل الذين تجمهروا أمام هذا المكان وهو يأمرهم بالابتعاد. يكتفى «بيرم» بضربة العصا، ويعود إلى حجرته التى كانت فى بنسيون متواضع فى «درب الطواشى»، خلف «عمر أفندى» بشارع «عبدالعزيز».
وينام ولا يستيقظ إلا على صوت دقات، ويفتح الباب ليجد البوليس أمامه، ومعهم موظف من القنصلية الفرنسية، وأمر بمغادرة البلاد فورًا. يحاول أن يقنعهم بأنه لا بد أن يرى أولاده وزوجته، ولكن دون جدوى، فالأوامر تستوجب سفره فى الحال.
يخرج من البيت، فى طريقه إلى محافظة القاهرة بميدان باب الخلق، وفى الطريق يقابل أحمد فؤاد، صاحب جريدة «الصاعقة»، الذى يندفع نحوه ليسأله عن الأمر، رغم أن علاقتهما كانت سيئة فى هذا الوقت، لأنه هاجمه، وتمتلئ عينا «بيرم» بالدموع وهو يقول له: «الدنيا يا أحمد.. خلاص حكموا عليا إنى ما أشوفش مصر تانى».
يتأثر أحمد فؤاد، وتدر الدموع من عينيه، وحينئذٍ يطلب منه «بيرم» أن يعطيه جنيهًا لأنه لا يملك مليمًا واحدًا، ويقول له أحمد فؤاد: «لا أملك إلا هذا الجنيه»، لذا سيكتفى بإعطائه نصفه. يوافق «بيرم» ويقول له: «هات الجنيه وأنا أديك من الشاويش نص»، ويعطيه الجنيه. بمنتهى الهدوء يأخذه «بيرم» ليضعه فى جيبه وينظر إلى الشاويش ويقول له فى عجل: «ياللا بينا يا شاويش».
يرحل «بيرم» من المحافظة إلى الإسكندرية، يركب الباخرة «شيلى» إلى تونس، فى يوم عيد الأضحى. وكان ذلك فى عام ١٩٢٠، وعمر «بيرم» فى هذا الوقت ٢٧ سنة، وزوجته الجديدة حامل.

نداء من باخرة ليون: «الأولة مصر.. قالوا تونسى ونفونى»
تترك الباخرة «بيرم» فى تونس، ويسأل هناك عن بيت أسرة والده إلى أن يهتدى إليه، ويذهب إلى عم والده، وهو كبير الأسرة، واسمه «على مصطفى بيرم». بمجرد أن يراه عم الوالد يقول له: «كأنك ولد عمنا»، ويقول له «بيرم» وهو يحنى رأسه: «أظن كده، وأنا جدى فلان وجدتى فلانة». ينتفض الرجل فى هذه اللحظة ويقول له: «آه جدتك فلانة، جدتك كانت جارية عندنا، دى كان أهداها السلطان التركى لأسرتنا».
يغضب «بيرم» ويخرج ثائرًا، ويبدأ فى البحث عن عمل يستطيع أن يحصل منه على قوته، لكن الإدارة الفرنسية، بعد أن وصلت إليها تقارير سرية عنه تقول إنه «مشاغب وباعث ثورات»، وضعته تحت المراقبة وضيّقت عليه الخناق، وتبعه البوليس فى كل مكان يذهب إليه.
على هذا الأساس لم يمكث «بيرم» فى تونس سوى ٤ أشهر. هرب بعدها بجواز سفر مزور إلى ليون فى فرنسا. وعلى ظهر الباخرة التى أقلّته إلى «ليون»، كتب الزجل المعروف الذى يقول فيه:
الأولة مصر.. قالوا تونسى ونفونى
والثانية تونس.. وفيها الأهل جحدونى
والثالثة باريس.. وفى باريس هيرمونى!
فى «ليون»، بدأ «بيرم» يراسل جريدة الشباب، التى كان يحررها من أولها لآخرها بالزجل، نظير نقود قد تصل إليه وقد لا تصل، من صاحبها. كان توضيب الصفحة الأولى منها غريبًا جدًا، ففى رأس الصفحة كان يكتب على اليمين كلمة «الرسائل» وتحتها هذا الزجل:
ممنوع كتابة كلام فارغ ولعب عيال
يزعل اللى كتب والبوستة والجورنال
جريدة فيها المدير يوزنها بالمتقال
ولا ترد الرسائل لو تكون أزجال
وكتب على شمال الصفحة فى الرأس أيضًا:
الاشتراكات.. والاشتراكات عن سنة واحدة جنيه بالإيد
وللتلامذة مفيش تكليف بين الأجاويد
وخارج القطر أهملناه لكونه بعيد بزيادة
مصر السعيدة وبورسعيد ورشيد.

كانت هذه المجلة تحتوى دائمًا على زجل فى الحالة الحاضرة، وأمامه مقامة أو رواية، وفى نهاية العدد حادثة، وراجت رواجًا كبيرًا. بعد أن مرت سنة، بدأ يشعر بحنين إلى الوطن، واستطاع أن يحصل على جواز سفر مزوّر يحمل اسمًا غير اسمه من قنصل إنجلترا يبيح له دخول القاهرة.
يركب «بيرم» السفينة ويصل إلى بورسعيد وينزل إلى الميناء، وهو يحمل حقيبة صغيرة فى يده، ويرتدى بذلة سوداء، ويضع «برنيطة» من الخوص فوق رأسه، ويتسلل على الفور إلى الإسكندرية. هناك يتجه مباشرة إلى منزل زوجته فى حى «الأنفوشى».
فى الطريق تتزاحم الذكريات على رأسه، ويمر أمام عينيه شريط من الأحداث التى وقعت له. يتذكر ابنه «محمد» الذى تركه وعمره ٥ سنوات، ويتذكر أيضًا ابنته «نعيمة» التى تركها وعمرها سنة واحدة.







