الجمعة 28 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

أسئلة المستقبل.. المشهد الأدبى

هل نستسلم أمام أزمات الثقافة؟

حرف

فى كل مرة نطلّ فيها على المشهد الأدبى المصرى نجد أنفسنا أمام مرآة متعددة الوجوه؛ مرآة تستحضر تاريخًا طويلًا من الريادة والابتكار، وفى الوقت نفسه تكشف عن ملامح واقع ملبّد بالتحديات، تتنازعه تحولات المجتمع والثقافة والتكنولوجيا. فمنذ بدايات القرن العشرين لم يكن الأدب المصرى مجرد خطاب جمالى أو ترف لغوى، بل ظلّ الصوت الموازى لتطورات الوعى الوطنى والقومى والإنسانى مرآة لتحولات السياسة والاجتماع.

لقد كانت مصر، لعقود طويلة، بوصلة الوعى الأدبى العربى، ومصنع الحداثة، ومرجع السرد العربى، ومختبرًا لتجارب الشعر الحديث. وعلى أرضها ظهرت الأسماء المؤسسة التى وضعت اللبنات الأولى للرواية والقصيدة والنقد فى العالم العربى. غير أن هذه المكانة التى اكتسبتها عن جدارة لم تعد تُمنح تلقائيًا؛ فعالم اليوم لا يعترف بالمركز كما كان، بل ينزاح نحو الهامش ويحتفى بالتعدد والاختلاف.

ريادة تصنع الذاكرة

يكفى أن يُذكر الأدب المصرى حتى تتدافع إلى الذاكرة أسماء كبرى:

طه حسين، عميد الأدب العربى، والعقاد، الذى ربط الأدب بالفكر والفلسفة، ونجيب محفوظ، صانع القاهرة السردية بحسّ ملحمى استثنائى؛ ويوسف إدريس، رائد القصة القصيرة، وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل، اللذان أعادا للقصيدة معناها الحى، ورضوى عاشور، التى كتبت للحرية، وبهاء طاهر، وصنع الله إبراهيم، وجمال الغيطانى، وغيرهم ممن أسّسوا وعيًا جمعيًا أدرك دور الأدب فى مساءلة السلطة وتأمل الإنسان.

لم يكن هؤلاء كُتّابًا فحسب، بل ضمائر لعصرهم، وشهودًا على زمنهم، يحملون أسئلة الوجود والهوية والعدالة. 

وقد لعبت المؤسسات الثقافية- وزارة الثقافة، والهيئة العامة للكتاب، والمجلات الكبرى مثل «فصول» و«إبداع» و«الكاتب»، والصحف المهمة مثل «الأهرام» و«أخبار الأدب»- دورًا محوريًا فى ترسيخ حضورهم.

غير أن هذه الصورة لم تبق ثابتة. فمع نهاية القرن العشرين بدأت مكانة الأدب المصرى تهتز بفعل التحولات السياسية والاقتصادية، وتراجع الثقافة الرسمية، وبروز أصوات عربية شابة من المشرق والمغرب والخليج، فرضت رؤى جديدة على خريطة الأدب العربى.

تحولات النص

مع مطلع الألفية الجديدة، أعاد الأدب المصرى تعريف نفسه. لم تعد الرواية امتدادًا تقليديًا للنزعة السردية التقليدية، بل أصبحت فضاء تجريبيًا يحتفى بالهامش، ويكسر خطية الزمن، ويفكك البنى السردية التقليدية. 

برزت أسماء مثل: محمد المنسى قنديل، وإبراهيم عبدالمجيد، وعزالدين شكرى فشير، وميرال الطحاوى، وأحمد خالد توفيق، ويوسف رخا، وهدى حسين، وغيرهم ممن رسّخوا مرحلة جديدة فى الكتابة.

وفى الشعر، تمددت قصيدة النثر لتصبح الشكل الأبرز فى المشهد الراهن، مع أصوات مثل: فاطمة قنديل، وحسام عبدالهادى، وأشرف البولاقى، وشريفالشافعى، ونورا أمين، ومحمد خير.. أصوات أعادت رسم العلاقة بين الذات واللغة، وبين القصيدة والواقع، بلغة شعرية شديدة الحساسية، تحتفى بالهشاشة والقلق واللا يقين.

وساعدت المنصات الرقمية فى تحرير النص الأدبى من سطوة الرقابة المؤسسية، لكنها فى المقابل أفرزت قدرًا من التشويش، وجعلت التمييز بين الإبداع والسطحية مهمة أكثر صعوبة فى غياب آليات نقدية مواكبة.

واقع معقد

ورغم هذا التنوع، لا يزال المشهد الأدبى المصرى يواجه أزمات بنيوية عدّة، من أبرزها:

- أزمة التلقى: تراجعت القراءة الجادة فى المدارس والجامعات، مقابل صعود ثقافة مرئية سريعة الاستهلاك.

- أزمة فى النشر والتوزيع: يجد كثير من الكتّاب أنفسهم مضطرين إلى تمويل نشر كتبهم بأنفسهم، بينما تواصل دور النشر الكبرى إحكام قبضتها على جوائز الأدب ومسارب التوزيع، فتتقلّص المساحة أمام المواهب الصاعدة.

- أزمة فى المؤسسات الثقافية: بيروقراطية تُعوق التجدد، وفشل فى استيعاب الحيوية الثقافية الجديدة.

- أزمة فى النقد الأدبى: غياب رموز نقدية بحجم الماضى، وتراجع دور الجامعات فى إنتاج خطاب نقدى يواكب التحولات الحديثة.

من الهامش إلى الصوت

فى مقابل هذا الانكماش، ثمة يقظة تنطلق من الأطراف.

من شمال سيناء إلى أسيوط، ومن مطروح إلى النوبة، ومن السويس إلى كفرالشيخ، تبرز طاقات شابة تكتب من داخل جراح المكان، لا من خارجه؛ طاقات تعيد تعريف معنى الأدب ودوره.

لم تعد القاهرة مركز الفعل الوحيد؛ لكل إقليم اليوم لغته ورؤيته وذاكرته الخاصة، عبر أصوات تتنامى بثقة وتبحث عن معنى أكثر اتصالًا بالمكان والواقع.

الكتابة.. فعل مقاومة

رغم العوائق، لا يزال الأدب المصرى يقاوم النسيان والتفاهة، ويصرّ على أن يكون شاهدًا على زمنه. المشهد اليوم ليس انهيارًا، بل إعادة تشكُّل؛ ليس انكفاء، بل بحثًا عن أفق جديد. 

وربما تكون المرحلة انتقالية، لكن المؤكد أنّ ما يُكتب الآن ينتمى إلى حساسية جديدة: أكثر قلقًا، وأكثر صدقًا، وأكثر انفتاحًا على الأسئلة الكبرى:

من نكون؟ ولماذا نكتب؟ ولمن؟

وهنا تتجلى أهمية التوثيق: أن نكتب عن الكُتّاب بوصفهم حراسًا للذاكرة الثقافية، وشهودًا على زمن هشّ؛ وأن نعيد رسم المشهد قطعة قطعة، حتى لا تتلاشى التفاصيل فى زحام التبدل.

فى النهاية، يظل المشهد الأدبى المصرى حكاية مستمرة، بين ذاكرة الريادة وإشكالات الحاضر، وبين مركزية القاهرة وأصوات الأطراف التى تعيد تعريف الأدب من الهامش إلى الصدارة. 

إنه مشهد لا يكتفى بالحفظ أو التكرار، بل يتطلّب يقظة مستمرة واهتمامًا بالعلاقات بين النص والواقع، وبين الكاتب والقارئ، وبين التاريخ والمستقبل. 

وما يجرى اليوم ليس سوى مرحلة فى رحلة أطول، رحلة يعيد فيها الأدب اختراع نفسه، مؤكدًا أن الكتابة فعل مقاومة، وأن المشهد الأدبى، مهما اشتدت عليه التحديات، سيبقى مرآة للوعى الجمعى وفضاء للأسئلة الكبرى: عن الهوية، والحرية، والإنسان، وعن معنى أن نكتب لنعيش ونفهم ونشارك الآخر ما نحلم به.