الثلاثاء 04 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

محمد صالح يكتب: أصفق للنادل كى يبكى معى

حرف

فى الطريق إلى الكافيتريا 

دائمًا ما أتخذ الشوارع الجانبية

الشوارع الجانبية منجاة من العيون اللزجة،

وضجيج الباعة،

ولقيا من لا أحب. 

انا أحب البيوت التى تعانق بعضها البعض فى حنو..

البيوت التى أشم فيها رائحة العرق والصبر. 

البيوت التى كانت مفتوحة دائمًا على بعضها 

البيوت التى كانت أطباقها تدور كما تدور الشمس.

ضاع نصف عمرى فى هذه البيوت، 

وهذى الأزقة،

وأمر كل يوم كى أصافحه..

أستأنس به..

أبحث عن جوربى الذى صار كرة 

عن الأهداف التى لم أحرزها 

عن الأحلام التى فرت من بين يدىّ.

عن بنت الجيران التى أيقظت حواسى، 

ودفعت بدماء جديدة إلى شرايينى.

بعضى لم يزل هنا،

يفتقد البعض الآخر..

يفتش عنه بين العتبات والأبواب 

فى الحصا الذى يركله المارة 

فى بنت الجيران التى صار لها كومة من الأولاد

وافترش النمش وجهها.

إن غاب عنك بعضك عليك أن تسعى لاستعادته 

عليك أن تمشى خفيفًا حتى لا تدوس بعضك 

عليك أن تستعيد صوتك القديم 

صورتك التى يعرفك بها بعضك.

البيوت فى هذه الأزقة لا تمرض،

ولكن تتقزم قليلًا. 

لا تعجز، ولكن تنهار دفعة واحدة.

لا تتألم ولكن تتثائب فى كسل. 

البيوت فى الأزقة تعرفنى 

تطبطب على قلبى 

تبتسم لى، تعابثنى..

تنادينى باسمى 

تحتفى بى كلما مررت 

تذكرنى بما كنت عليه 

وتنظر بشفقة إلى شعرى الذى ابيض 

إلى خطواتى التى تباطأت 

إلى خطوط الزمن على وجهى 

إلى أكياس الدواء التى بين يدىّ

إلى حنينى الذى يتدفق كلما مشيت.

البيوت فى الأزقة لا تنام حين ينام أصحابها،

بل تظل ساهرة تحرس النائمين 

حتى تزهر أحلامهم.

تأتى الذكريات دومًا من أماكن بعيدة 

من حقول فاتها الفلاحون وراء ظهورهم،

ومضوا بحثًا عن حياة أخرى فى مدن أطعمتهم القسوة،

وشربوا حليبها الجاف،

ومياهها الملونة.

وسواق لم تزل تشكو شوقها للماء والحقول 

من عصافير فقدت أشجارها 

ونامت على الرصيف..

من طرق لم تعد معبدة بالأحلام 

من أحبة تساقطوا فى الطريق دون وداع يليق 

من ألبوم صور أعيد نسخه على هاتفى النقال للمرة العاشرة.

كل الذين بكيت من أجلهم صرت واحدًا منهم 

أحمل أحلامهم على كتفىّ،

وأمضى مثقل الخطو إلى الكافيتريا.

مغمض العينين أصفهم على الطاولة،

وأصفق للنادل

كى يبكى معى.