الخميس 27 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

من كتاب «خالد النبوى المتفرد» للكاتب زين العابدين خيرى

الدبلوماسية الأدائية.. خالد النبوى.. إعادة بناء نموذج العربى فى هوليوود

حرف

تتجاوز قراءة المسيرة العالمية لخالد النبوى كونها مجرد سلسلة من النجاحات الفردية أو خطوات مهنية تهدف إلى توسيع الانتشار، لتصل إلى كونها مشروعًا فنيًّا منهجيًّا وأطروحة جمالية وفكرية متكاملة، يمكن أن نطلق عليها مجازًا «مقاومة التشويه والتنميط».

بدأت هذه المسيرة فى لحظة تاريخية فارقة، حقبة ما بعد الحادى عشر من سبتمبر، حيث كانت صورة الإنسان العربى والمسلم تتعرض لأعنف موجات التنميط والتشويه فى الذاكرة الغربية المعاصرة. وسط هذا المناخ المشحون، سلكَ «النبوى» مسارًا فنيًّا أكثر تعقيدًا وعمقًا، وهو مسار «الدبلوماسية الأدائية»، التى تستخدم فن التمثيل كسلاح ناعم لإعادة بناء المفاهيم، وتفكيك الصور النمطية من داخلها، وتقديم بديل إنسانى معقد ومحترم.

إن فلسفة هذا المشروع تقوم على ركيزتين أساسيتين: الانتقائية الواعية للأدوار، وجماليات الأداء القائمة على المقاومة الهادئة.

فلسفة الاختيار والانحياز للإنسان فى منطقة الصراع

تتجلى عبقرية مسار النبوى فى اختياره الدقيق لشخصيات تقف دائمًا عند «تقاطعات تاريخية حساسة»، أو فى قلب «معضلات أخلاقية كبرى». تتميز شخصياته بكونها محورية فى فهم المعنى الأعمق للعمل، حتى وإن كانت مساحتها على الشاشة محدودة. تتجه اختياراته نحو «شخصيات بينية» «Liminal Characters»، عالقة بين عوالم متصادمة: بين الشرق والغرب، بين الواجب والضمير، بين الولاء للوطن والرغبة فى الخلاص الفردى.

فعلى سبيل المثال يتجاوز «مُلّا» فى «مملكة الجنة- The Kingdom of Heaven» كونه مستشارًا للسلطان صلاح الدين الأيوبى ليصبح تجسيدًا للعقلانية الإسلامية المستنيرة فى مواجهة التعصب الدينى من كلا الطرفين.. وجوده يكسر الصورة الغربية النمطية لرجل الدين المسلم كشخصية أحادية التفكير ومحرِّضة على العنف.

فى «اللعبة العادلة- Fair Game»، يمثل «الدكتور حامد» رمزًا لمأساة النخبة العلمية العربية التى سُحقت بين مطرقة الديكتاتوريات المحلية وسندان المصالح الدولية الخادعة.. هو الضحية الذكية التى تفهم اللعبة، لكنها لا تملك أوراق اللعب.

فى «المواطن- The Citizen»، يظهر «إبراهيم» كتجسيد للحلم الإنسانى بالكرامة والفرصة، وهو الحلم الذى يتحطم على صخرة الرهاب والشك والعنصرية.. شخصيته تطرح سؤالًا جوهريًّا على المجتمع الأمريكى: من هو «المواطن» الحقيقى؟ وهل المواطنة تُمنح أم تُكتسب بالصمود الأخلاقى؟

ثم يأتى تجسيده لشخصية الرئيس المصرى «أنور السادات» فى «كامب ديفيد- Camp David» كاستحضار لروح رجل دولة راهن بكل شىء من أجل السلام، وهو يقف ممثلًا لإرث أمة بأكملها، بصراعاتها وآمالها وتناقضاتها.

هذا الخيط الناظم بين الشخصيات يكشف عن انحياز «النبوى» الواعى لتمثيل الإنسان العربى كفاعل فى التاريخ، يمتلك وعيًا ومعاناة وعمقًا، وليس مجرد «مفعول به» فى سرديات الآخرين.

جماليات الأداء والمقاومة عبر «بلاغة الصمت»

إذا كانت الاختيارات تمثل الهيكل الفكرى للمشروع، فإن الأداء هو الروح التى تبث فيه الحياة. وهنا، طوّر خالد النبوى أسلوبًا فريدًا يمكن وصفه بـ«التكثيف»، وهو أسلوب يعتمد على أدوات تبدو بسيطة فى ظاهرها، لكنها تحمل قوة تأثير هائلة:

الاقتصاد التعبيرى: فى مقابل الأداءات الصاخبة التى غالبًا ما تُلصق بالشخصيات العربية «الانفعالية، العصبية»، يقدم النبوى أداءً يعتمد على السكون. إنه «سكون مشحون» ملىء بالتوتر الداخلى والتفكير. جسده الهادئ وحركاته المقتصدة يجبران الكاميرا والمُشاهد على الاقتراب أكثر والبحث عن المعنى فى التفاصيل الدقيقة: فى ارتعاشة جفن، أو حركة يد بطيئة، أو طريقة استقامته فى الجلوس التى تعلن عن كبرياء لا يُقهر.. هذا السكون يصبح فِعْل مقاومة ضد الصورة الكاريكاتورية الصاخبة.

النظرة كأداة سردية: عين خالد النبوى- فى أدواره عمومًا وفى أدواره العالمية خصوصًا- هى مسرح قائم بذاته، فهى تروى قصصًا كاملة متجاوزة مجرد عكس المشاعر. فى «مملكة الجنة» كانت نظراته عارفة مؤمنة تنقل روح الإسلام والسلام. وفى «المواطن» تحمل مزيجًا من الحلم المكسور، والذهول، والرفض الصامت للإذلال. وفى «اللعبة العادلة»، كانت نظراته تحمل ثقل المعرفة الخطرة والخوف من المصير المجهول.. هذه النظرات العميقة والمعبّرة تُحوّل الشخصية من مجرد ضحية إلى شاهد يملك الحقيقة ويدين محيطه بصمته. وفى «كامب ديفيد» حملت كل أنواع الدهاء والحيطة والتحدى.

الصوت كأداة هُويّة: عَمدَ «النبوى» إلى توظيف لهجته العربية بذكاء، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من هُويّة الشخصية وصِدقها. يحمل صوته «نبرة» و«إيقاعًا» يعكسان خلفيته الثقافية، دون أن يشكل ذلك عائقًا للفهم. هذا الاختيار الفنى هو بحد ذاته إعلانُ سيادة ثقافية، فالشخصية لا تحتاج إلى أن تتخلّى عن أصلها لتكون مفهومة أو محترمة.. صوته يصبح علامة على الأصالة، لا على الغرابة.

من كسر الصورة إلى صناعة النموذج

إن الأهمية القصوى لمسيرة خالد النبوى العالمية تتجاوز مجرد التمثيل المشرّف. لقد أحدث تأثيرًا مزدوجًا: خارجيًّا، نجح فى فرض الاحترام النقدى والجماهيرى فى بيئة هوليوودية معقدة من خلال تحديها فنيًّا، وتقديم أداءات «أصيلة» حازت إعجاب كبرى الصحف العالمية. لقد أجبر المشاهد الغربى على الانتقال من منطقة الراحة فى مشاهدة «الآخر» النمطى إلى منطقة التساؤل والقلق المعرفى.

أما داخليًّا وعلى الصعيد العربى، فقد صنع «النبوى» «نموذجًا أوّليًّا» للممثل الذى يستطيع أن يخوض غمار العالمية بشروطه الخاصة، محافظًا على هويته، ومقدمًا لفنه جسرًا حقيقيًّا للتواصل الإنسانى. لقد أثبت أن القوة تكمن فى الهمس العميق لا فى الصراخ، وأن الكرامة تُفرض فرضًا عبر فن رفيع وأداء صادق ولا تُستجدى.

فى هذا الفصل، سنغوص فى أعماق تجارب خالد العالمية الأربع، باعتبارها فصولًا مترابطة فى رواية فنية كبرى عنوانها «خالد النبوى»، الفنان الذى ذهب إلى العالم ليقدم صورة أكثر صدقًا عن «ذواتنا» جميعًا.

Kingdom of heaven .. مُلّا 2005

فى العام ٢٠٠٥، كان خالد النبوى على موعد مع فيلمه العالمى الأول «مملكة الجنة» Kingdom of Heaven، من إخراج البريطانى ريدلى سكوت، وهو يمثل علامة فارقة فى معالجة السينما الغربية لقضايا الصراع الدينى والتاريخى بين الشرق والغرب خلال فترة الحروب الصليبية. بعيدًا عن كونه مجرد ملحمة ضخمة بمعايير الإنتاج، يحمل الفيلم أبعادًا فلسفية حول فكرة التسامح والبحث عن إنسانية مشتركة فى وجه التطرّف والتعصب الدينى، ما أضفى عليه أهمية فنية وثقافية تتجاوز تجربته السردية المباشرة.

تميز «مملكة الجنة» بمحاولة واعية لتقديم رؤية معاصرة للصراع الدينى القديم، وترجمة ذلك عبر معالجة سجالية للنزاع بين المسيحيين والمسلمين على القدس. الفيلم يخلق حالة من التفكير النقدى فى أصل النزاع وأُفق المصالحة.

استمد الفيلم قوة فنية من عظمة الإنتاج البصرى: مشاهد المعارك، تصميم الملابس والمعمار، بناء الأجواء التاريخية بدقة عالية، إضافة إلى إخراج محكم يعطى لكل تفصيلة معمارية وشخصية وزنًا يعزز إحساس المشاهد بالانغماس فى النص التاريخى. الأهم من ذلك هو تبنى لغة سينمائية تبتعد عن التبسيط وتمنح كل شخصية أبعادًا إنسانية ومعقدة، بعيدًا عن الصور النمطية السابقة التى لازمَت أفلام الغرب عن الشرق.الفيلم تناول أسئلة فلسفية حول فكرة «الجنة على الأرض»، وأهمية العدالة والمساواة، ورفض التطرف باسم الدين، ما جعله مادة غنية للنقد السينمائى والمؤرخين على حد سواء. واستُقبل بحفاوة نقدية فى الشرق الأوسط، إذ اعتُبر خطوة مهمة نحو تمثيل أكثر اتزانًا وإنسانية لشخصيات المسلمين فى السينما الغربية.

خالد النبوى قدم فى «مملكة الجنة» شخصية «مُلَّا»، مستشار السلطان صلاح الدين الأيوبى «جسده السورى غسان مسعود». يمثل هذا الدور نقطة تحول فى حضور الممثلين العرب فى الأفلام التاريخية الهوليوودية المهمة، إذ أبدع النبوى فى رسم صورة رجل الدين والمثقف الذى يوازن بين الثبات العقائدى والانفتاح الإنسانى، ويعمل على تهدئة الصراع بروح الحوار، لا بروح التحريض.تميز أداء خالد النبوى بهدوء عميق ورصانة لافتة فى المشاهد التى جمعت مستشارى صلاح الدين فى مواجهة التوترات العسكرية والسياسية. وحرص سكوت على أن يكون الدور بعيدًا عن الذهنية النمطية لرجل الدين المتشدد، بل جاء المُلا وسيط سلام وخبيرًا استراتيجيًّا، يطرح حلولًا عقلانية، ويعكس صورة المجتمع العربى والإسلامى فى تعدده وثقافته الرفيعة.

رغم قِصَر مساحة الشخصية فى النص، فإن أهمية حضور «النبوى» جاءت مضاعفة: من جهةٍ لتمثيله مصر والعرب فى إنتاج عالمى ضخم له تأثير ثقافى عابر للحدود، ومن جهةٍ أخرى للإسهام فى تصحيح صورة العربى/ المسلم المشوهة- فى الغالب- فى السينما الهوليوودية.

اعتمد «النبوى» فى أدائه على لغة جسد هادئة ونبرة صوت حاسمة ونظرة عارفة، منحته مصداقية وعمقًا، وأضفت على حضوره معنى يتجاوز دوره ليصبح شريكًا فى صياغة خطاب الفيلم حول التسامح والحكمة والجدل الإنسانى.

Camp David Theater.. أنور السادات 2014

فى أبريل ٢٠١٤، وقف خالد النبوى لأول مرة فى على خشبة مسرح «أرينا ستيدج» فى واشنطن العاصمة، مشاركًا فى مسرحية «كامب ديفيد»، وهى من تأليف الكاتب والصحفى الأمريكى لورانس رايت، الحائز على جائزة بوليتزر عن كتابه «The Looming Tower»، وإخراج مولى سميث.

المسرحية تستعيد وقائع مفاوضات كامب ديفيد عام ١٩٧٨، التى جمعت بين الرئيس المصرى أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجن، بوساطة الرئيس الأمريكى جيمى كارتر، فى محاولة لصياغة اتفاق سلام أنهى عقودًا من الحرب بين مصر وإسرائيل. النص يقدّم الأحداث كحوار إنسانى وسياسى محتدم داخل كواليس المفاوضات، حيث تتصادم الشخصيات وتتصالح فى رحلة مليئة بالانفعالات والرهانات الكبرى.

الطاقم الرئيسى للمسرحية ضم:

خالد النبوى: فى دور الرئيس المصرى أنور السادات.

رون ريفكين Ron Rifkin: فى دور رئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجن.

ريتشارد توماس Richard Thomas: فى دور الرئيس الأمريكى جيمى كارتر.

هول هولبروك Hall Holbrook «فى بعض العروض» أو ممثل آخر حسب جداول التقديم: فى دور الراوى/ المُحاور «فى النسخ التجريبية».

خالد النبوى بتقمصه شخصية السادات فى المسرحية كان يحمل على كتفيه مسئولية مزدوجة: مسئولية الأداء الفنى، ومسئولية الاقتراب من رمز سياسى شديد الجدل.. ناهيك عن تمثيله لرؤية مصر فى الماضى والحاضر، وبالتالى كان كمَن يسير على الجمر.

لم يسعدنى الحظ بمشاهدة المسرحية، فكان البديل أن أقرأ كل ما كُتب عنها، وأدخل فى حوارات مطولة مع خالد النبوى عن كل ما يخصها من تفاصيل، ثم كان أن لخصتها فى هذا التحليل لأدائه فيها.

بداية الرئيس السادات ليس شخصية عادية، هو زعيم ترك بصمته فى التاريخ المصرى والعالمى، ملامحه وصوته وإيماءاته محفورة فى ذاكرة أجيال، لذا فإن أى ممثل يجسده يواجه تحديًّا بالغ الصعوبة: إما أن يسقط فى فخ التقليد، أو أن يغامر بتقديم رؤية مختلفة تبتعد عن روح الشخصية. أما النبوى فاختار طريقًا ثالثًا أكثر تعقيدًا: لم يكتفِ باستنساخ الشكل الخارجى، وإن كان قد اقترب من نبرة الصوت وإيقاع الكلام وطبقة الضحكة الشهيرة، لكنه ذهب أبعد من ذلك ليعيد بناء الشخصية من الداخل، معتمدًا على الجوهر النفسى أكثر من الملامح الجسدية.

من ناحية الصوت، أجاد النبوى التحكم فى نبرته، محافظًا على «لكنة» السادات الشهيرة- ذلك المزيج بين اللغة الرسمية والارتجال الشعبى- لكنه لم يحوّله إلى كاريكاتير، فعكسَ الصوت شخصية زعيم واثق لكنه لا يتردد فى توظيف الدعابة لتهدئة التوتر.

أما الجسد عند «النبوى» فكان مشدودًا دائمًا، يميل إلى الأمام فى لحظة المواجهة، ويتراجع بخطوة صغيرة عند لحظة التأمل. هذه الحركات الدقيقة نقلت الترددات الداخلية للسادات بين الحسم العسكرى والرهان على السلام. حتى طريقة الجلوس، حين يضع ساقًا على أخرى ويشير بيده، استدعت صورة السادات دون أن تصبح نسخة جامدة.

الأهم أن «النبوى» ضخ فى الشخصية روحًا إنسانية، فالسادات على خشبة المسرح كان الزعيم الأيقونى كما كان نفسه الرجل الذى يعانى من ثقل المسئولية، يواجه تاريخه العسكرى، ويخشى فى الوقت نفسه من خيانة الحلم.. هذه الروح هى ما جعلت الأداء يتجاوز حدود التمثيل إلى إعادة قراءة للتاريخ.

مسرحية «كامب ديفيد» التى كتبها لورانس رايت نصٌّ مكثف يقوم على الحوار أكثر مما يقوم على الفعل المسرحى. فالمكان واحد هو المنتجع الرئاسى، والزمن قصير، أيام المفاوضات، والأحداث كلها تدور فى النقاشات الحادة بين الشخصيات الثلاث. هذه الطبيعة الحوارية للنص وضعت عبئًا مضاعفًا على الممثلين، إذ يتحول الأداء إلى صراع بالكلمات، يعتمد على الإيقاع والانفعال أكثر من الحركة الخارجية. هنا تحديدًا تألق النبوى، الذى وظّف مهاراته فى ضبط الإيقاع الداخلى، مقدّمًا شخصية قادرة على التحول من نبرة هادئة إلى انفجار غضب فى ثوانٍ، دون أن يبدو ذلك مفتعلًا.

حين يواجه بيجن بسلسلة من التعليقات اللاذعة، يطلقها «النبوى» بابتسامة ساخرة، فتتبدى شخصية السادات كزعيم يعرف كيف يوجّه الضربة بالضحك لا بالسلاح.

حين يختلى بنفسه ليفكر فى ثمن التنازل عن سيناء، يترك خالد فجوة صامتة على الخشبة، يملؤها بعينيه وجسده، كأن الجمهور يسمع صوت الأفكار يدور فى رأسه.

وحين يصل النقاش إلى طريق مسدود، يرفع صوته فجأة، ويضرب بيده على الطاولة، فيعيد إلى الأذهان خُطَب السادات الشهيرة، لكنه يضيف إليها مرارة شخصية.

حظى أداء خالد النبوى بإشادات واسعة فى الصحافة الأمريكية. وصفت «واشنطن بوست» أداءه بأنه «مفعم بالحيوية والذكاء»، بينما أشارت «نيويورك تايمز» إلى أنه «قدّم سادات حقيقيًّا أكثر من أى تمثيل سابق». النقاد رأوا أن النبوى كان حضوره أصيلًا فى العمل، أعاد صياغة صورة الزعيم المصرى بما يليق بوزن الشخصية التاريخية.

أما الجمهور العربى الذى تابع التجربة عن بُعد، فشعر بالفخر بأن ممثلًا مصريًّا استطاع أن يقف على واحد من أهم المسارح الأمريكية ليقدم شخصية من بلاده بتلك القوة.

The fair game.. حامد.. عالِم نووى عراقى 2010

يُعد فيلم «Fair Game اللعبة العادلة- ٢٠١٠» للمخرج الأمريكى دوج ليمان واحدًا من أبرز الأفلام السياسية التى تناولت الفضائح السياسية لإدارة الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن.

يستند الفيلم إلى كتاب فاليرى بليم وجو ويلسون، ويكشف ما عُرف إعلاميًا بـ«فضيحة بلايم جيت»، حين سرّبت الإدارة الأمريكية هوية عميلة الـCIA «فاليرى بليم»، انتقامًا من زوجها السفير جو ويلسون، بعد تشكيكه علنًا فى رواية البيت الأبيض حول امتلاك العراق أسلحة دمار شامل. يجمع الفيلم بين النقد السياسى الحاد والتحليل الإنسانى للعلاقات الأسرية، وقدّم بطولته ناعومى واتس وشون بن، بينما شارك فيه خالد النبوى بدور الدكتور حامد، العالم النووى العراقى.

يجسد النبوى شخصية عالم نووى عراقى، يجد نفسه ممزقًا بين ضغوط الداخل العراقى تحت حكم صدام حسين وضغوط القوى الكبرى التى تلوّح بالإنقاذ ولا تقدم سوى الخذلان. يتقاطع مساره مع بطلة الفيلم «فاليرى بليم» فى قلب عملها المخابراتى، لتتحول قصته إلى رمز لمأساة العلماء العرب الذين عايشوا حصارًا مزدوجًا: استبدادًا محليًّا وخداعًا دوليًّا.

الدكتور حامد فى الفيلم علامة رمزية على واقع عربى مُثخن بالخيبات، يعيش حالة من القلق المستمر، بين رغبة فى النجاة الفردية وارتباط داخلى بالوطن الممزق.. وبذلك يصبح حضوره بمثابة مرآة للإنسان العربى فى لحظة سقوط أوهام السياسة الدولية.

اختار خالد النبوى أن يؤدى الدور بلغة هادئة بعيدة عن الانفعال الزائد. اعتمد على تعابير وجه مشبعة بالحزن المكبوت، وحركات جسدية محدودة. أضاف إلى ذلك لهجة مقنعة، سواء فى الحوار العربى أو الإنجليزى، ما منح الشخصية مصداقية وعمقًا وسط بيئة هوليوودية غالبًا ما تقدم العربى بصورة سطحية أو نمطية.

بفضل هذا الأداء، بدا حامد شخصية «واقعية» أكثر من كونه رمزًا مجردًا، إذ جمع بين القلق الإنسانى والذكاء المهنى، وبين خوفه من مصير شخصى غامض وإحساسه المرهف بالانتماء إلى وطن مهدد.

رغم محدودية مساحة الدور، فإن شخصية النبوى حملت قيمة رمزية بارزة. فقد شكّلت صوت الضحية الذكية داخل حبكة سياسية معقدة، مُمثِّلة معاناة النخبة العلمية العراقية التى وجدت نفسها ورقة فى لعبة دولية قاسية. وجود هذه الشخصية أضفى على الفيلم بُعدًا إنسانيًّا لم يكن ليكتمل من دونه، إذ جعل «القضية» أكثر من مجرد صراع بين البيت الأبيض والسياسة العالمية، بل تجربة شخصية لأفراد حقيقيين.

أشاد نقادٌ عرب وأجانب بأداء خالد النبوى فى الفيلم. واعتبره بعضهم حضورًا «هادئًا وفعّالًا»، منح العمل لحظة صدق وسط ضجيج المواجهات السياسية. ورأى آخرون أن السيناريو كان يمكن أن يمنحه مساحة أوسع، لكنّ أداءه ترك رغم ذلك أثرًا نفسيًّا بارزًا، ونجح فى تذكير المشاهد بأن خلف كل ملف سياسى هناك وجوهًا بشرية وقصصَ حياة.

أثار الدور أيضًا جدلًا فى الإعلام العربى.. فبينما اعتبره البعض إنجازًا يكرّس صورة الممثل العربى فى السينما العالمية بصورة مشرّفة، تحفَّظَ آخرون على حساسية السياق العراقى وظلاله السياسية.. غير أن «النبوى» نفسه أوضح فى مقابلاته أن خياره كان فنيًّا ومقاوِمًا للتنميط، وأنه أراد من خلال الدور أن يدافع عن صورة الإنسان العربى الممزق بين ضغوط الداخل والخارج.