الخميس 27 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

رفيف الفراشة.. أمثولة عن الخوف والحب والضياع

حرف

- بناء الرواية فضفاض مما حرر الكاتب من البناء التقليدى

غالبًا ما يعتمد زهير كريم فى سرده القصصى والروائى على شخصيات تعيش فى منطقة الهامش، شخصيات لا يعنيها أن يكون لها أى دور سياسى أو نضالى، تتحرك داخل روتين يومى بسيط جدًا، لكنها فجأة تسقط فى الفخ، إما عن طريق الصدفة أو بسبب هندسة سردية متخيلة. الكاتب ينسج شبكة من الحيل والفخاخ لتسقط الشخصيات فيها، فيدفعها بعيدًا عن قانونها الخاص إلى أتون صراع دموى، لتخرج منه فى النهاية أشلاء ممزقة ومنتهكة. هذا ما عرضه فى روايته الأخيرة «رفيف الفراشة»، الصادرة عن دار العين للنشر والتوزيع - القاهرة.

زهير كريم يفتتح هذا العمل بعتبة يمنح فيها إهداءً رومانسيًّا إلى «كامل» و«حنان»، بوصفهما كائنين واقعيين يعرفهما جيدًا، أو أن قرابة ما تجمعه بهما. لكن مع قراءة المتن بعد ذلك، يكتشف القارئ أن الكاتب يهدى هذه الرواية إلى بطلى العمل، الكيانين السرديين اللذين تم خلقهما عبر التخييل الروائى. كأنه يقول لنا إنه بمجرد انبثاقهما وتجليهما فى العتبة النصية، أصبح لهما الحق فى الحياة، مثل فلورينتينو أريثا وفيرمينا داثا، الثنائى الشهير فى رواية «الحب فى زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز. إذ تناص الإهداء والمتن مع هذه الرواية من خلال فتح قوس سردى واسع، تحركت داخله سيرة «كامل» و«حنان»، العاشقين اللذين تفرقت بهما السبل ليلتقيا فى نهاية العمر، وفى أثناء ذلك تسرد الرواية مجموعة من التغيرات الاجتماعية والسياسية والنفسية التى طرأت على حياتهما بسبب هذا الحب.

يظهر المؤلف فى رفيف الفراشة بشخصيته الحقيقية داخل العمل، كاتبًا وجد نفسه بالصدفة داخل منزل فى مدينة طرابلس الليبية، فى غرفة كان يشغلها شاب عراقى غادرها منذ فترة. تحت السرير يجد حقيبة جلدية مهترئة، فى داخلها لفيفة، وفى الصفحة الأولى منها، يكتب صاحبها أنه يتنازل عن المدونة التى تضمها اللفيفة المكونة من أربعين صفحة، وهى أشبه بمذكرات يحاول من خلالها التخلص من حياته السابقة والعيش فى الحاضر فقط.

اللعبة السردية التى لجأ إليها زهير كريم «الميتافكشن» هى آلية من آليات ما بعد الحداثة، يزيل فيها الكاتب الوهم عن العملية السردية، ويخاطب القارئ عبر الإفصاح عن صناعة العمل الروائى والتدخل فى حركة النص، من خلال إزاحة الراوى أو مواجهته أو كشف هويته.

«ولكن كامل لم يسمع، وتحرك كأن العالم سيستعيد ازدهاره لو وزع هذه الأوراق التافهة، يستيقظ الناس فيجدون ملائكة السعادة على الأبواب محملين بالهدايا والبشارات».

هذه السخرية المريرة من «كامل» مقصودة، لإبعاده عن الراوى الملغَّم دائمًا والذى يحتاج إلى دراسة دقيقة. فشخصيات زهير كريم تتصف دائمًا بطبيعة معقدة، حيث يجد القارئ نفسه فى حيرة؛ لا يعرف هل يتعاطف مع هذه الشخصيات، أم يحتقرها، أم يرثيها؟ فهو يسرد ترنيمة طويلة عذبة لهذه الشخوص الساذجة التى لا تتحلى بمكر كافٍ لمجابهة الحياة القاسية، لذلك يسهل افتراسها.

جوهر الحكاية

كامل، طالب هندسة فى الصف الثالث، متفوق، ولديه مخيلة مدهشة، ينشغل بصناعة نموذج ماكيت لبيت يراه بذرةً لأسطورة معمارية سيتداولها الناس. يعيش فى عزلة، حالِمًا بالمجد والشهرة، يدعم نفسه برؤى حلمية من خلال شخصيات أسطورية لها شأن عظيم فى العمارة، مثل رفعت الجادرجى، الذى يستدعيه ويحاوره ليطمئن إلى أن عمله لا يبتعد عن كونه إنجازًا حلميًا يقترب من صورة المنجز الأسطورى.

«برافو كامل، راح تكون مهندسًا كبيرًا، لكن تذكّر دائمًا التبسيط والتجريد. لا تنسَ أيضًا توظيف التراث، لكن بوعى».

حكاية حنان 

أدخل أحدهم كفه الضخمة إلى صدرى، فانفتحت من الطول إلى الطول، الثانى سحب السوتيان، فانغرز الدبوس الذى كان يثبته فى نقطة قريبة من عمودى الفقرى، أكمل الآخر جر اللباس الداخلى، أغمضت عينى، عارية تمامًا هكذا كان جسدى المربوط إلى تلك الحلقة المعلقة ثم جاءت ضربة لا أعرف من أين؟، انطفأت عينى اليمنى «ثم يستمر التعذيب وعندما تخرج يعاد القبض عليها، ليس ذلك فحسب بل تجبر على الزواج من نقيض لها من يمين وعضو حزب الدعوة المعارض للحكومة، والذى يخوض فى حرب مسلحة مع النظام الفاشى، وكلاهما وجه لنفس العملة، كلاهما مستبد كالح مظلم لا يعبأ بقيمة الحرية ويريد أن يصل إلى هدفه على جثة الذوات الحرة لذلك كانت تخوض ضده حوارات قوية تدافع فيها عن حريتها، عن استقلالها حتى يتم اغتياله من قبل النظام، فتخرج من كل هذه الأطر هربًا بحريتها، لكنها فى النهاية ورغم قوتها إلا أن هذا الانتهاك الذى تعرضت له أفقدها البوصلة، لذلك عندما قابلت كامل وجدت فيه البراءة وكأنه أمير خارج من الحكايات، الحب أتى من منطقة الحاجة، هى تحتاج البراءة وهو يحتاج القدرة على الفاعلية/ الشجاعة على خوض الصراع، لذلك وقع فى شباك السياسة رغم أنه لا يبالى بالعمل السياسة، ولكن الفكرة فى خوض كامل التجربة بل إنه بمجرد أن يلتقط كيس المنشورات الأسود ينهار من الداخل، ومن خلال منولوج متخيل يعبر عنهم هذا الانهيار الداخلى.

يستمر الراوى طوال النص فى استدعاء الشخصيات التى يحاول من خلالها تعزيز ذاته الحائرة، للحصول على نوع من الرضا، مستحضرًا شخصيات وكتبًا وأعمالًا فنية من ثقافته المتنوعة، مثل «فى انتظار جودو، ولوحة فوق المدينة لمارك شاغال»، و«عمر الشريف»، و«اللغة المنسية» لإريك فروم، والانمساخ لفرانز كافكا، و«بيت شعرى لعلى بن الجهم»، وألف ليلة وليلة، و«رواية الدون الهادى» وحوار مع الكاتب، ولقاء مع شارلى شابلن، ولوحات عصر النهضة، والموسيقى الشعبية العراقية، وقصائد أنسى الحاج، وملحمة جلجامش، وهيدغر، ودوستويفسكى، وألبير كامو، وغيرها. كل هذه الاختيارات تعكس فلسفة وجودية ترى أن العالم قائم على الشر والعنف والخوف والموت، وأنه لا مكان فيه للذوات الطوباوية الرومانسية الحالمة، هى ذات لا تعيش حياتها ولم تصنع قصة بل هى ضائعة، مشتتة بين قصص وحيوات الآخرين. 

هذا الشاب الخيالى يصاب بصدمة مروعة عندما يذهب مع صديقه لزيارة أخيه فى مستشفى الرشيد العسكرى، حيث أصيب فى إحدى المعارك. هناك، يسمع صراخ جندى مبتور الساق، فينهار كأنه العسكرى، حيث أصيب فى إحدى المعارك. هناك، يسمع صراخ جندى مبتور الساق، فينهار كأنه يستشرف مصير ساقه هو نفسه، التى ستُبتر لاحقًا.

«تسلل إلىَّ هذا المشهد ولم يخرج. تحول فيما بعد إلى حزمة كوابيس وأفكار سوداوية وشعور باللا جدوى. تساءلتُ، وأنا أقف أمام الماكيت المنجز للتو بعد عامه الثالث: كيف يمكن للمرء أن يحلم بالبناء وصناعة التحف المعمارية؟».

رواية عن الخوف والتوق والضياع

رواية «رفيف الفراشة» هى رواية عن الخوف والتوق والاستدعاءات النصية لكتاب وفلاسفة وفنانين ومعماريين، استدعاءات تمنح الشخصية الرئيسة معنى. رغم ذلك، لا تكاد تخلو صفحة من الرواية من كلمة «الخوف» ومرادفاتها، وكأن الخوف يتناثر كدمامل صغيرة داخل السرد، ولو قدّر لهذه الشخصيات أن تُعصر، لتمخض عنها كيان ضخم مشوّه، قلق، ضائع فى متاهات السؤال.

«قلت: إن يدًا عبثت بكل شىء. يد الصدفة أم القدر أم الشيطان؟ أم أنها يد الكابوس؟ لكن اليقظة أحيانًا أقسى. خوف اليقظة أعظم، ثقيل، صلب، وله رائحة ولون، ليس مثل الخوف الذى يرافق النوم، واستسلمتُ لحقيقة أن الحياة تعرض علينا نوعين من الوقائع الكريهة؛ منها ما يظل محبوسًا فى دائرة الأطياف، ومنها ما يخرج ليصبح كابوسًا حيًّا متوترًا لا يعرف الهدنة».

الرواية، رغم تعدد شخصياتها، تتركز بشكل رئيسى على «كامل» و«حنان»، حيث يقدمان استبطانًا نفسيًا عميقًا بدلًا من صراع خارجى تقليدى. إنها رواية عن ضياع الفرد فى مواجهة سلطة ضخمة تمتلك الثروة والسلاح، لكنه رغم ذلك يبقى خائفًا من ذوات فردية بسيطة.

زهير كريم نجح فى بناء سرد فضفاض تحرر من البناء التقليدى الرتيب، مستخدمًا لغة استعارية مدهشة، ليقدم نصًّا روائيًا يتأرجح بين الحلم والكوابيس، بين الرغبة فى المقاومة والهزيمة والضياع.

رواية زهير كريم نثر شعرى بداية من عنوان الرواية رهف الفراشة إلى العناوين الداخلية، بيت الفراشة، طفل داخل خزانة الحكايات، موسيقى إلى جواره عكازه، يجلس على تلة، ويشاهد الأطلال، جناح من ظلمة وآخر من نور، هواء لا مرئى، طائر غريب الوجه والشكل يرفع إصبعه الوسطى فى وجهى، أشاهد العالم من ثقب فى جدار، الضفادع تغنى، والظلام يعزف لها بإصبعه اللامرئية، إلخ إلخ.

أما داخل السرد الروائى فهناك نفس شعرى شفاف حتى تحول السرد لقصيدة نثر مميزة.

واصل النظرَ إلى البحر حتى اختفى الشراع. اختفى، لكنه ظل يرفرف فى قلبه مثل غزالة هاربة فى البرارى، من المستحيل القبض عليها. هبط الليل أخيرًا على المدينة، والبحر، والطيور. ولم يشأ الشخص الوحيد، المحبط، المهزوم، الذى ترسب فى عينيه الشراع، العودة إلى البيت. ماذا يفعل فى البيت المرء الذى أضاع حلمه، وضيع غزالته، وترسب شراع أبيض فى عينيه؟.

كان مهزومًا حقًا فنام على الشاطئ، كما لو أنه لم يصدق هزيمته، أو كأن الهروب إلى النوم طريقة للحصول على فرصة أخرى، عزاء أو أن معجزة ستحصل عندما يغير المرء زاوية الرؤية.

بناء الرواية فضفاض مما حرر الكاتب من البناء التقليدى الرتيب فتخلق نسيجًا سرديًا ممتعًا، كما أنه استخدم لغة استعارية مدهشة معبرة عن ذوات تتراوح بين الرغبة فى المقاومة والهزيمة والضياع، وأنا أعتبر هذه الرواية الأكثر نضجًا بعد رحلة طويلة مع السرد بدأها بـ«قلب اللقلق»، «صائد الجثث»، «ماكينة كبيرة تدهس المارة»، «فرقة العازفين الحزانى»، «رومانتيكا»، «غيوم شمالية شرقية»، خيوط الزعفران، قصر الصبار، خط أحمر. صائد الجثث رواية فازت بجائزة دار أثر للرواية، وصدرت دار فضاءات الأردنية ٢٠١٤.