السبت 22 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

صوت الإيمان.. هل يُصلح غناء أم كلثوم بعضًا مما أفسده الخطاب الدينى؟

حرف

- هناك شيوخًا يسمعون أم كلثوم كثيرًا لكنهم لا يتكلمون فى ذلك أمام الناس ويعرف من بينهم كثيرين

- يفعلون ذلك فى الخفاء لكنهم يخافون مواجهة الناس به.. والشيخ عبدالباسط عبدالصمد كان عاشقًا لـ«الست»

- عندما نفتش فى كواليس أغانى أم كلثوم الدينية سنجد أنفسنا أمام حالة إيمانية تستند إلى تكوين أم كلثوم الروحى والنفسى

- ما قامت به أم كلثوم للإسلام يمكننا اعتباره أفضل كثيرًا مما قامت به مؤسسات دينية كبيرة على مدى عصور ممتدة فقد قربت من الناس المعانى الصوفية الروحية وجعلت الناس يرددون أشعارًا صعبة

- أم كلثوم: عندما غنيت قصيدة «ولد الهدى فالكائنات ضياء» كنت مترددة لأنها قصيدة صعبة ولكنى غنيتها لأنها أخذتنى بمعانيها الصوفية العميقة

- أم كلثوم قالت مرة فى حديث خاص مع أحد محررى آخر ساعة إنها تتمنى لو أنها رتلت القرآن كله على أشرطة مسجلة وإن شرطها هو أن لا يذاع التسجيل إلا بعد وفاتها بعمر طويل

- رياض السنباطى: كان من أحلامنا أنا وأم كلثوم أن ألحن وتغنى سورة «الرحمن»

لم أكن أتخيل رد فعل الصوفى الكبير الحبيب على الجفرى وأنا أطلب منه أن يستمع معى إلى مقطع من أغنية أم كلثوم «القلب يعشق كل جميل». 

كان الحبيب على ضيفى فى برنامج «90 دقيقة»، عندما أهلّت أم كلثوم علينا وهو تشدو: طاوعنى يا عبدى/ طاوعنى أنا وحدى/ أنا اللى أعطيتك من غير ما تتكلم/ وأنا اللى علمتك من غير ما تتعلم/ واللى هديته إليك/ لو تحسبه بإيديك/ تشوف جمايلى عليك/ من كل شىء أعظم.

رأيت دموعه تغلبه.. لم يستطع أن يقاومها فاستسلم لها. 

قال لى الحبيب: هذه الكلمات التى كتبها بيرم التونسى ولحنها رياض السنباطى تحمل معانى روحية، فيها عمق المخاطبة مع الله بذوق صوفى يحرك القلب. 

وبتأثر شديد يعترف الجفرى بأن هذه الأغنية من أقرب الأغانى إلى قلبه، خاصة أنها بصوت أم كلثوم المؤثر المعجز. 

لم يكتفِ الحبيب بذلك، فقد دلنى على شيخه محمد سعيد البوطى، الذى كان يستشهد بهذه الأغنية فى دروسه وهو يبكى، يردد كلماتها بتأثر شديد، معتبرًا إياها درسًا من دروس الوصل مع الله. 

هذه الحالة من الهيام بأم كلثوم وجدتها عند مشايخ آخرين. 

يحكى الشاعر صالح جودت أنه كان يلتقى السيدة أم كلثوم عند أمير قراء الذكر الحكيم المرحوم الشيخ محمد رفعت. 

فمن بين ما كان معروفًا عن الشيخ محمد رفعت أنه كان يقيم ما يشبه الصالون الأسبوعى فى بيته بالسيدة زينب، يبدأه بمقرأة يتجمع فيها عدد من القراء لختم القرآن، ثم تبدأ ندوة ثقافية، كان يحرص على حضورها كبار الكتّاب والفنانين، ومنهم فكرى أباظة وأحمد رامى ومحمد عبدالوهاب، وكانت السيدة أم كلثوم حريصة على حضور هذه الندوة بصحبة والدها الشيخ إبراهيم. 

يقول جودت: كان الشيخ محمد رفعت ظريفًا فى مجلسه، يلون الحديث والغناء، وكثيرًا ما كان يمتعنا بغناء نداء الباعة فى حوارى القاهرة، باعة الخيار والجميز والتوت وعلى لوز وغزل البنات. 

فى إحدى الليالى غنى الشيخ محمد رفعت لضيوفه أغنية السيدة أم كلثوم: «وحقك أنت المنى والطلب/ وأنت المراد وأنت الأرب». 

يقول صالح: غناها ولوّنها وتصرف فيها حتى بلغ السماء، وقد تتلمذت أم كلثوم على أصوات المشايخ، وأولهم والدها الشيخ إبراهيم، ثم الشيخ أبوالعلا محمد، والشيخ محمد القصبجى الذى كان شيخًا فى أول حياته، والشيخ على محمود، والشيخ سيد درويش، والشيخ محمد رفعت، والشيخ زكريا أحمد. 

وفى حديث تليفزيونى فى العام ١٩٦٧، سألت المذيعة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد: هل تسمع لأحد غيرك؟ 

فقال: أنا أسمع كل صوت جميل.. وأسمع الصوت الجميل بزيادة من أم كلثوم كوكب الشرق والغرب، فهى سيدة الغناء والطرب. 

وكانت السيدة أم كلثوم صديقة مقربة من الشيخ مصطفى إسماعيل. 

جرى اللقاء الأول بينهما فى مبنى الإذاعة. 

كان الشيخ مصطفى يسجل تلاوته الأسبوعية، وفى أثناء مغادرته المبنى فوجئ بالسيدة أم كلثوم تدخل، ولما لمحته اتجهت إليه، وقالت له: يا شيخ مصطفى تعالى أنا عايزاك فى حاجة. 

أخذت السيدة أم كلثوم الشيخ مصطفى إلى الاستديو الذى تسجل فيه أغنيتها الجديدة، وأجلسته وقالت: أنا سجلت أغنية بس حاسة إن فيها حاجة مش مضبوطة، اسمعها وقول لى رأيك. 

فلما سمعها أخبرها بملاحظاته، وبأنه فى الحتة الفلانية فيه حركة ناقصة.

استمعت السيدة أم كلثوم لما قاله الشيخ مصطفى باهتمام شديد، وهنأته على دقة ملاحظته، وعالجت الخطأ فى الإعادة.

وما لا يعرفه الكثيرون أن الشيخ مصطفى إسماعيل كان يسكن بجوار السيدة أم كلثوم فى الزمالك، وكان من عادته أن يمارس رياضة المشى فى الصباح، فإذا مرّ بفيلتها ووجدها مستيقظة يدخل ليتناول معها الإفطار، وكان يقتنى أسطوانات أغانيها منذ أن كان يقيم فى طنطا، وكان يصف صوتها بأنه «صوت دسم». 

وعندما التقيت بابنه المهندس عاطف، فى منزله بالزمالك، قال لى إن السيدة أم كلثوم أوصت بأن يقرأ الشيخ مصطفى فى عزائها، وهو ما حدث، فقد كان هو الوحيد الذى أحيا ليلتها. 

كان هذا زمنًا ومضى. 

فالآن هناك شيوخ كثيرون يستمعون إلى السيدة أم كلثوم، لكنهم لا يعلنون ذلك، ربما خوفًا من رقابة دينية أصبحت صارمة وقاسية. 

فعندما كنت أتحدث مع الدكتور محمد سالم أبوعاصى، أستاذ التفسير بجامعة الأزهر، فى برنامجى «أبواب القرآن»، أشار إلى أن هناك شيوخًا يسمعون أم كلثوم كثيرًا، لكنهم لا يتكلمون فى ذلك أمام الناس، ويعرف من بينهم كثيرين يفعلون ذلك فى الخفاء لكنهم يخافون مواجهة الناس به. 

وأذكر أن الدكتور أحمد الطيب عندما كان رئيسًا لجامعة الأزهر كان ضيفًا على أحد البرامج التليفزيونية، سأله المذيع: هل تسمع الأغانى؟ فرد: ليس لدىّ وقت لذلك، ألحّ المذيع: وعندما يكون لديك وقت، فقال الدكتور الطيب: كنت أسمع أم كلثوم زمان. 

فى تراث السيدة أم كلثوم مجموعة من الأغنيات الدينية التى يعرفها جمهورها جيدًا، منها «إلى عرفات الله» التى قدمتها فى العام ١٩٥١، من كلمات أحمد شوقى وألحان رياض السنباطى، و«التوبة» فى العام ١٩٦٢، التى كتبها عبدالفتاح مصطفى ولحنها رياض السنباطى، وفى العام ١٩٦٣ شدت بمجموعة من الأغنيات ضمن فيلم «رابعة العدوية»، ومنها «لغيرك ما مددت يدًا» و«الرضا والنور»، وكتبها جميعها طاهر أبوفاشا، وغنت «حديث الروح» فى العام ١٩٦٧، وهى القصيدة التى كتبها محمد إقبال فى العام ١٩١٣ ولحنها رياض السنباطى. 

ومن أشهر أغنيات أم كلثوم الدينية «الثلاثية المقدسة» التى شدت بها فى العام ١٩٧٢، وكتبها صالح جودت ولحنها رياض السنباطى، هذا غير أغنيتيها «سلوا قلبى» و«نهج البردة» اللتين كتبهما أحمد شوقى. 

لم يكن الغناء الدينى جديدًا على أم كلثوم، فقد بدأت منشدة تردد المدائح النبوية والتواشيح، ولن يكون غريبًا علينا عندما نعرف أنها كتبت بنفسها بعض الأشعار الدينية فى بدايتها. 

فى كتابها «أم كلثوم.. معجزة الغناء العربى» تقول الدكتورة نعمات أحمد فؤاد إن الست عندما كانت فى الـ١٥ من عمرها أقدمت على تأليف القصائد والموشحات، وكانت أول قصيدة ألّفتها وغنتها بعنوان «تبارك من تعالى فى علاه». 

وتقول كلماتها: تبارك من تعالى فى علاه/ يقول للعبد اطلبنى تجدنى/ أنا المطلوب فاطلبنى تجدنى/ وإن تطلب سواى لم تجدنى/ أنا المقصود لا تقصد سواى/ كثير الخير فاطلبنى تجدنى. 

وفى مدح النبى، صلى الله عليه وسلم، كتبت أم كلثوم «يا حبيبى يا محمد»، التى تقول كلماتها: صلى يا رب وسلم ع النبى بدر التمام/ يا حبيبى يا محمد أنت مصباح الظلام/ أنت سر الله حقًا والمظلل بالغمام/ أنت نور أنت بدر أنت كهف للأنام/ أنت أصل للبرايا أنت مولانا الإمام/ يا رسول الله إنى أبتغى نيل المرام/ كن مغيثى كن مجيرى فى الورى يوم الزحام/ أنت مطلوبى فهب لى نظرة لو فى المنام. 

لا يمكننا أن نتعامل مع أغانى أم كلثوم على أنها أغانٍ مناسباتية، بل هى فى الحقيقة حالة دينية مكتملة، تقود من يسمعها إلى الإيمان، بل يمكننا النظر إليها على أنها خطاب دينى قدمته صاحبته بما تستطيعه وهو الغناء. 

عندما نفتش فى كواليس أغانى أم كلثوم الدينية سنجد أنفسنا أمام حالة إيمانية تستند إلى تكوين أم كلثوم الروحى والنفسى، فقد كانت قريبة من والدها الشيخ إبراهيم، الذى حرص على تحفيظها القرآن. 

كان القرآن مكونًا أساسيًا من مكونات شخصية أم كلثوم، ويمكن أن نلمح ذلك فى إشارات عديدة. 

عندما مال إليها الشيخ زكريا أحمد فى بداية حياتها الفنية، وضع لذلك ثلاثة أسباب. 

فى كتابه «أم كلثوم وزكريا أحمد أمام القضاء» يذهب مؤلفه كمال سعد إلى أن سر حماس الشيخ زكريا أحمد لأم كلثوم سببه- فى رأيه- أن أم كلثوم تختلف عن المغنيات الأخريات فى ثلاثة أمور: صوتها الذى لا مثيل له من ناحية القوة والجمال، حفظها وتجويدها القرآن الكريم الذى أدى إلى أن يصبح غناؤها بوضوح وسلامة فى مخارج الحروف، دقتها وحسها العظيم الذى تدعمه بكثرة الاطلاع والتعمق فى فهم كل أغنية وفى الإحساس الشديد باللحن. 

وفى جريدة الجمهورية عدد ٣١ يناير ١٩٦٩ يكتب صلاح درويش عن سر القرآن فى حياة أم كلثوم. 

كان درويش يصاحب أم كلثوم فى زيارتها إلى السودان ضمن حفلات جمع التبرعات للمجهود الحربى بعد هزيمة ١٩٦٧. 

كتب صلاح يقول: معظم ساعات يوم أم كلثوم مع الله، تتلو القرآن والأحاديث النبوية والكتب الدينية، كل صلاة تحرص على تأديتها فى أوقاتها، حتى ولو كانت على سفر، وأول شىء طلبته فور وصولها إلى السودان هو مواقيت الصلاة هناك، وكانت تنفرد بنفسها فى هذه المواعيد، أو تستأذن من الجالسين معها فى صالون قصر الضيافة أو تصعد إلى غرفتها لتأدية الصلاة وقراءة القرآن. 

ويضيف صلاح: فى لقاء مع كوكب الشرق فى الخرطوم، قلت لها: فى كل خطوة وكل عمل أراكِ تقرئين القرآن، وقبل أن أكمل السؤال قالت: إننى أتفاءل بالقرآن، إذا خرجت من بيتى أو كنت مسافرة أقرأ قوله تعالى «إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد» وفائدة هذه الآية أن من يقرؤها لا بد أن يعود سالمًا إلى نفس المكان الذى غادره، وفى طريقى إلى المسرح وأنا فى السيارة أقرأ الفاتحة والمعوذتين والإخلاص وآية الكرسى، كل سورة ثلاث مرات، وقبل أن تنفرج الستار أقرأ «رب اشرح لى صدرى ويسر لى أمرى واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولى» ثلاث مرات. 

وتقول أم كلثوم: إن القرآن أعظم كتاب قرأته، ففيه كل شىء يفيد البشر فى دنياهم وآخرتهم، وترى أن من واجب كل فنان وفنانة مسلمة أن تقرأه دائمًا، وتجعله دليلًا لها فى حياتها، تتصرف على هديه وتسير بتعاليمه ومبادئه السامية. 

وفى حديث إذاعى مع طاهر أبوزيد قالت أم كلثوم: أقوى عاطفة عندى هى العاطفة الدينية، القرآن له تأثير واضح على عملى الفنى، وكل مغنٍ لا بد أن يحفظ القرآن ويقرأه جيدًا لأنه أكبر وأهم كتاب يقوّم اللسان ويحسن النطق ويجعل الحروف واضحة.

 

وتضيف الست: أنا دائمًا أقرأ القرآن، وقبل كل حفل لا بد أن أفعل ذلك، ولا أخرج من بيتى فى أى يوم من الأيام إلا بعد قراءة سورة الكرسى، القرآن يجعلنى مرتاحة الضميرة ومتفتحة ويمنحنى روحًا حلوة.

بهذه الروح الخفاقة المنسابة كانت تؤدى أم كلثوم أغنياتها الدينية، تدخلها بحالة خاصة وتخرج منها بحالة خاصة، وهو ما يمكننا أن نضع يدنا عليه من التعرف على كواليس ظهور بعض أغنيات أم كلثوم الدينية إلى النور. 

بعد وفاتها كتب الدكتور عبدالعزيز كامل، الذى كان وقتها وزيرًا للأوقاف، مقالًا مهمًا هو «الأفق الدينى عند أم كلثوم»، ونشرته مجلة «الهلال» فى عدد مارس ١٩٧٦، ومنه نعرف سر أغنيتها «الثلاثية المقدسة». 

ففى العام ١٩٧١ زارت أم كلثوم عبدالعزيز كامل فى مكتبه بالوزارة، قبل أن تذهب اتصلت به. 

قالت له: لى مسجد أريد أن أضمه إلى وزارة الأوقاف. 

فقال لها: الأمر يسير، ولكنى أحس بأن هناك سببًا آخر، فهل أستطيع معرفته؟ إن كانت هناك مشكلة تتعلق بالأوقاف يمكن إعداد أوراقها قبل حضورك، رغم أن الحضور فى حد ذاته إسعاد للوزارة، وكلنا فى انتظارك. 

دخلت أم كلثوم فى الموعد المحدد، وإذا بها تقول لكامل: لا أكتفى بما أقوم به، الكلمة وحدها لم تعد تكفينى، حفلاتى المحلية والخارجية من أجل المعركة لا تكفى، إننى أنسج بيدى أغطية الرأس للجنود، بلوفرات لهم، وسجائر أرسلها، والمطلوب منك المصاحف، إننى أحس بأن يدى يجب أن تعمل، ماذا أستطيع أكثر من نسج أغطية الرأس، والمشاركة فى البلوفرات، هذا جهد يدى، أود أن أحس أن جانبًا منى هناك، ليست الكلمة وحدها، أريد أن أرسل أشياء تلبس وتتحرك فى ميدان المعركة. 

كان عبدالعزيز كامل يستمع إلى أم كلثوم، التى أكملت: تأتى عربات القوات المسلحة أمام بيتى، وتأخذ هذه الأشياء كلها، وقد أوصت بكتمان ذلك كله، ماذا أستطيع أن أعمل أكثر من جمع المال والعمل اليدوى والحفلات وجمع كلمة العرب حول المعركة؟ أريد أن أعمل أكثر. 

أنهت أم كلثوم حديثها إلى عبدالعزيز كامل، ليجدها تقول له: والآن جاء دورك؟ 

فسألها: فى أى شىء. 

قالت له: لقد استمعت إليك فى حفل المولد النبوى الشريف المذاع من مسجد الإمام الحسين، رضى الله عنه، لقد أرسلتِ فيه بثلاث رسائل، الأولى من المسجد الحرام والثانية من المسجد النبوى والثالثة من المسجد الأقصى، الفكرة أعجبتنى والمضمون أعجبنى. 

كان عبدالعزيز كامل قد قال فى كلمته: المسجد الحرام فى هذا الحديث رمز الوحدة والتوحيد، ومسجد المدينة المنورة رمز المجتمع الإسلامى بتضامنه واتحاده من أجل بناء ذاته داخليًا والدفاع عنه، والمسجد الأقصى رمز المعركة، ونحن فى حاجة إلى الوحدة والمجتمع المتماسك تمهيدًا لخوض معركة المصير. 

نظرت أم كلثوم «لكامل» وقالت له: تصور نفسك مرة أخرى فى مسجد الحسين، واذكر مقاطع من هذا الحديث، لحظات تجمع فيها نفسك وتتحدث وأسمعك، ثم أقول لك بعد هذا ما أريد. 

ابتسم «كامل» وقال لها: لقد وضعتينى فى صورة غير متوقعة، كل أمل من يجلس معك أن يستمع إليك. 

قالت: ستعرف السبب بعد قليل. 

بدأ «كامل» يستعيد حديثه، حتى وصل إلى الفقرة التى قال فيها: ووقف المسجد الأقصى نبيلًا أسيرًا، محترقًا جريحًا، يخاطبنا قائلًا: أما آن لكم أن تعيدونى إلى أخوى، المسجد الحرام ومسجد المدينة؟ أما آن لكم أن تفكوا أسارى، فلا أبقى تحت سيطرة باغية عادية. 

فاجأت أم كلثوم عبدالعزيز كامل بقولها: سأغنى هذا الحديث، سأغنى هذه الثلاثية المقدسة.. هل النص عندك؟ 

أعطاها عبدالعزيز كامل النص، وصاغه شعرًا صالح جودت، ولحنه رياض السنباطى، وأصبحت لدينا أغنية أم كلثوم، أغنيتها «الثلاثية المقدسة» التى شدت بها فى ٢٥ نوفمبر ١٩٧٢. 

تقول كلمات الأغنية: «رحاب الهدى يا منار الضياء/ سمعتك فى ساعة من صفاء/ تقول أنا البيت ظل الإله/ وركن الخليل أبى الأنبياء/ أنا البيت قبلتكم للصلاة/ أنا البيت كعبتكم للرجاء/ فضموا الصفوف/ وولوا الوجوه/ إلى مشرق النور عند الدعاء/ وسيروا إلى هدف واحد/ وقوموا إلى دعوة للبناء/ يزكى بها الله إيمانكم/ ويرفع هاماتكم للسماء/ طلع البدر علينا/ من ثنيات الوداع/ وجب الشكر علينا/ ما دعا لله داع/ أيها المبعوث فينا/ جئت بالأمر المطاع/ يا عطاء الروح من عند النبى/ وعبيرًا من ثنايا يثرب/ يا حديث الحرم الطهر الذى/ يطلع النور به فى اللهب/ قم وبشر بالمساواة التى/ ألفت بين قلوب العرب/ والإخاء الحق والحب الذى/ وحد الخطو لسير الموكب/ والجهاد المؤمن الحر الذى/ وصل الفتح به للمغرب/ أمة علمها حب السماء/ كيف تبنى ثم تعلو بالبناء/ فمضت ترفل فى وحدتها/ وتباهى فى طريق الكبرياء/ بيد توسع فى أرزاقها/ ويد تدفع كيد الأشقياء/ سادت الأيام لما آمنت/ أن بالإيمان يسمو الأقوياء/ فإذا استشهد منهم بطل/ كانت الجنة وعد الشهداء/ من مهبط الإسراء فى المسجد/ من حرم القدس الطهور الندى/ أسمع فى ركن الأسر مريمًا/ تهتف بالنجدة للسيد/ وأشهد الأعداء قد أحرقوا/ ركنًا مشت فيه خطى أحمد/ وأبصر الأحجاز محزونة/ تقول واقدساه يا معتدى/ لا والضحى والليل إذا ما سجى/ وكل سيار به نهتدى/ لن يطلع الفجر على ظالم/ مستغرق فى حقده الأسود/ سترجع الأرض إلى أهلها/ محفوفة بالمجد والسؤدد/ والمسجد الأقصى إلى ربه/ مزدهيًا بالركع السجد/ ستشرق الشمس على أمة/ لغير وجه الله لم تسجد. 

يقول صالح جودت عن هذه الأغنية: كان الفضل الأول فى «الثلاثية المقدسة» لصديقنا وأستاذنا الدكتور عبدالعزيز كامل- نائب رئيس الوزراء- الذى استوحينا الفكرة من حديث له فى عيد الهجرة، ولم يفتنى فى هذه المرة أن أستأذن رامى، لأننى كنت يومئذٍ شديد الشوق إلى بيت الله، لعل بعض الدعاء ولو بالغناء يرفع عنا الغمة. 

كان رياض السنباطى أكثر من لحّن الأغانى الدينية لأم كلثوم، ما جعله شاهدًا على ما كان يجرى قبل الصعود إلى المسرح. 

عندما طلبت منه أم كلثوم تلحين أغنية «نهج البردة»، أعادها إليها باللحن بعد ثلاثة أيام فقط. 

لم تصدق أم كلثوم ما جرى، فقد كان هذا أسرع لحن ينجزه رياض فى مسيرتهما الغنائية، سألته مندهشة عن سر كل هذه السرعة، فقال لها: أرجوك أن تصدقينى.. كنت أستمع إلى صوت فى داخلى يلهمنى اللحن وأنا أردد وراءه. 

استمعت أم كلثوم إلى لحن رياض، لم تتمالك نفسها، فبكت.

لم يتعجب رياض من بكاء أم كلثوم، ولا مما قالته تفسيرًا لهذا البكاء، فقد شعرت نفس شعوره، بأن هناك دافعًا داخليًا يقودها إلى تقديم هذه الأغنية، وقد اهتزت من أعماقها عندما استمعت إلى كلماتها واهتزت أكثر عندما استمعت إلى اللحن. 

كانت القصيدة فى مديح الرسول، صلى الله عليه وسلم. 

ولأم كلثوم قصة مع النبى، رصدها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل. 

يقول هيكل: زرت أم كلثوم بعد عودتها من زيارة إلى الأراضى المقدسة.

قلت لها: هيه.. ماذا قلت وأنت واقفة أمام الروضة الشريفة، قبر الرسول، صلى الله عليه وسلم؟ هل همست فى نجواك بإحدى أغنياتك العابدة الخاشعة، التى تغنيها له وأنت هنا فى القاهرة؟ 

قالت أم كلثوم: اسكت.. لم أستطع أن أفتح فمى بكلمة واحدة.

قلت فى دهشة: أنت! أنت التى تغنى فى مدحه وفى سيرته أروع ما قيل فى مدحه وفى سيرته من قصائد كالهمزية النبوية ونهج البردة؟!. 

قالت أم كلثوم: نعم.. نعم.. أنا التى أجد نفسى فى مدحه وسيرته، هنا من على البعد، مثل اللبلب، وجدت نفسى فى رحاب قبره وليس على لسانى كلمة واحدة.

واستطردت أم كلثوم: العجيب أننى عندما وجدت المدينة المنورة تبدو أمامى قابعة فى أحضان الرمال، ورأيت المآذن والقباب الخضراء فوق الروضة الشريفة، أحسست بفيض جياش من المشاعر والأحاسيس، وأخذت أتحدث وأعبّر عنها فى طلاقة، فلما وصلت إلى الروضة نفسها، ووقفت أمام القبر الطاهر، ران علىّ الصمت وتملكنى السكون.

وقلت لأم كلثوم ضاحكًا: لم تستطيعى أن تذكرى ولا قصيدة واحدة من أغانيك!.

قالت أم كلثوم ضاحكة: تذكرت أغنية واحدة ولكن بعد أن خرجت؟ 

قلت لأم كلثوم: أيها؟ 

قالت: الأغنية التى أقول فيها «ولما أشوفك يروح منى الكلام وأنساه».

وتقول الرواية المتداولة أن السيدة أم كلثوم بعد أن انتهت من تسجيل أغنية «غريب على باب الرجاء»، التى كتبها طاهر أبوفاشا ولحنها كمال الطويل، وكانت واحدة من أغانى الأوبريت الإذاعى «رابعة العدوية» فى العام ١٩٥٥، قررت عدم إذاعتها، وعندما تم تقديم الأغانى مرة أخرى فى فيلم «رابعة العدوية» الذى تم إنتاجه فى العام ١٩٦٣، أصرت على موقفها، ولم تذع الأغنية فى الفيلم أيضًا. 

أما لماذا رفضت أم كلثوم الأغنية؟ 

هنا أكثر من سبب وأكثر من رواية. 

الرواية الأكثر تداولًا صاحبها الشاعر الغنائى بشير عياد، وكان مهتمًا بتاريخ الغناء وكواليسه، ويؤكد أن أم كلثوم تشاءمت من الأغنية، لأنها أثناء تسجيلها فى معهد الموسيقى العربية أطل عليها الموسيقار محمد عبدالوهاب مصادفة، فرحب به كمال الطويل ودعاه لحضور التسجيل.

بعد أن انصرف عبدالوهاب، عاتبت أم كلثوم كمال الطويل، وقالت له: اللحن اتشم خلاص، وقررت أن تستبعد الأغنية من الأوبريت. 

هذه الرواية حكاها كمال الطويل بنفسه، ربما ليبعد بها رواية أقل تداولًا، وهى أن السيدة أم كلثوم عندما انتهت من تسجيل اللحن لم ينل إعجابها، فقد كان اللحن أضعف ألحان مجموعة الأغانى التى قدمتها فى الأوبريت. 

لم يسمع أحد أغنية «غريب على باب الرجاء» إلا بعد وفاة أم كلثوم بعشر سنوات، تقريبًا فى العام ١٩٨٤. 

وقتها كان كمال الطويل ضيفًا على الإذاعية الكبيرة «آمال العمدة» فى برنامجها «صحبة وأنا معهم» وأخبرها بأن هناك لحنًا سجلته أم كلثوم له، لكنه لم يذع حتى الآن، طلبت آمال ممن يملك اللحن أن ينشره وهو ما استجابت له شركة صوت القاهرة التى كانت مسئولة عن توزيع أغانى أم كلثوم، فقد أذاعت الأغنية، ليسمعها جمهور أم كلثوم بعد تسجيلها بما يقرب من ثلاثين عامًا. 

وفى كتابه المدهش «مثقفات ومتصوفات» ينقل أيمن الحكيم عن الناقد الموسيقى السورى سعد أغا القلعة ما قاله عن تأجيل أم كلثوم أغنيتها «غريب على باب الرجاء». 

قدمت أم كلثوم الأوبريت الإذاعى «رابعة العدوية» فى العام ١٩٥٥ 

يقول القلعة: هناك احتمال مرجح فى رأيى وهو أن أم كلثوم طلبت عدم بث القصيدة إلا بعد وفاتها، لتكون كما أرادتها تضرعًا منها وليس من رابعة، خاصة أن نص الأغنية تضمن ما يشير إليها هى فى إيراد لفظة الغناء مرتين: يقولون غنى وبالقلب لوعة/ أغنى بها فى خلوتى وأنوح. 

ويشير أغا إلى أن أم كلثوم من جهة أخرى كانت تعانى فى تلك الفترة ومنذ بداية الخمسينيات من مرض الغدة الدرقية، وأنها سافرت إلى أمريكا للعلاج عام ١٩٥٣ ورفضت إجراء جراحة لتأثيرها على الأحبال الصوتية، فعولجت باليود المشع، وبقيت لفترة طويلة تتناول الأدوية، مما جعلها تخشى على صوتها وعلى حياتها، إذ إن العلاج أصابها بتليف فى الكلى، ولا شك بالتالى فى أن حالتها النفسية كانت متعبة، وأنها تخشى الرحيل المبكر عن هذه الدنيا بسبب المرض، ما يوحى بأن هذا الاحتمال فى أنها أرادت الأغنية لتكون صوتها إلى الله بعد وفاتها.. متوقع.

لا يقدم القلعة دليلًا واحدًا على روايته، وما يجعلنى أقبلها أنها على سبيل التخمين المتوقع والذى يمكن أن يكون مقبولًا، فهو من ناحية يتسق مع تكوين أم كلثوم الدينى، ومن ناحية ثانية فهو يصب فى أسطوريتها، فقد أرادت الست أن تلقى الله وهى تناجيه: غريب على باب الرجاء طريح/ يناديك موصول الجوى وينوح.

كانت أم كلثوم تعرف أن كلمات أغنياتها الدينية صعبة، وليست فى متناول آذان الجمهور الذى تعود على الكلمات الخفيفة، لكنها خاضت التجربة التى نجحت بالنسبة لها بشكل كامل بعد الأثر الذى أحدثته أغنيتها «ولد الهدى». 

تقول أم كلثوم: عندما غنيت قصيدة «ولد الهدى فالكائنات ضياء» كنت مترددة لأنها قصيدة صعبة، ولكنى غنيتها لأنها أخذتنى بمعانيها الصوفية العميقة، وذات ليلة كنت فى الإسكندرية وذهبت إلى كازينو الشاطبى، وهناك تتناثر الملاهى التى تقدم أنواع الفنون المختلفة، وبلغ مسمعى من ميكروفون مرتفع الصوت ذلك المقطع من القصيدة: «أبا الزهراء قد جاوزت قدرى بمدحك»، ولحظتها شعرت بسعادة لا تُوصف، لأن معنى ما سمعت أن القصيدة وصلت إلى الناس. 

ما قامت به أم كلثوم للإسلام يمكننا اعتباره أفضل كثيرًا مما قامت به مؤسسات دينية كبيرة على مدى عصور ممتدة، فقد قربت من الناس المعانى الصوفية الروحية، وجعلت الناس يرددون أشعارًا صعبة بمجرد أن منحتها صوتها الساحر. 

ويبقى فى حياة أم كلثوم محاولتها لتسجيل القرآن بصوتها، وهى رحلة طويلة أعتقد أنه من المناسب هنا أن نوثقها من الأرشيف الذى نضع من خلاله أيدينا على ملامح كثيرة لهذه المحاولة. 

البداية كانت من العام ١٩٤٥ عندما قدمت أم كلثوم فيلمها «سلامة» الذى كتبه على أحمد باكثير وأخرجه توجو مزراحى. 

يدور الفيلم حول قصة حب من أيام الدولة الأموية بين رجل زاهد، وبين جارية من مكة تدعى سلامة «بتشديد اللام». 

ففى عهد الدولة الأموية عاشت سلامة ذات الصوت الرخيم، جارية عند الشيخ أبوالوفا، تقوم هى وزميلتها شوق برعى الغنم ومساعدة أم الوفا فى أعمال المنزل،

وكانت سلامة تهوى الغناء وتحلم أن تكون يومًا مثل المطربة جميلة أو المطربة حبابة، فلما قابلت الراعى حكيم طلبت منه أن يعلمها الغناء فعلمها أغنية واحدة غنتها وحولها كل بنات الحى يرددنها وراءها بينما ترقص شوق وتضرب أم الوفا على الدف.

كان الشيخ أبوالوفا يعانى من الصخب الصادر من منزل ابن أبى سهيل الفاجر الفاسق الذى يقضى ليله يشرب الخمر بين الراقصات والمغنيات، فطلب من الشيوخ اللجوء إلى الحاكم، ولكن الشيخ عبدالرحمن الجس التقى الورع اقترح التوجه لمنزل ابن سهيل لإرشاده ونصحه أولًا، ولكنهم شاهدوا أهل بيت أبوالوفا سلامة وشوق وأم الوفا، هم الذين يغنون ويرقصون، فأُحرج أبوالوفا وهدد ببيع الجاريتين إن عادتا للغناء مرة أخرى، وقام بحبس سلامة داخل المنزل، ولكن حكيم استطاع أن يهربها خارج المنزل فلما شاهدهما أبوالوفا، نفذ تهديده ببيعهما للدلال زحمان بدينارين، الذى باعهما بدوره لابن سهيل بمائة دينار وطلب منه أن يستأجر المغنى معبد ليعلم سلامة الغناء، فأصبحت مطربة ذائعة الصيت. 

تعبت أم الوفا من أعمال المنزل فطلبت من عبدالرحمن الجس أن يتوسط لدى ابن سهيل لإعادة سلامة وشوق مقابل رد الدينارين، وقد كان الجس يحب سلامة دون أن يفصح وهى تبادله نفس الشعور، ولكن ابن سهيل رفض إعادة سلامة كما رفضت سلامة العودة لأم الوفا ورفضت نصائح عبدالرحمن الجس بترك ابن سهيل. 

تعرضت سلامة لمضايقات ضيوف ابن سهيل فلجأت إلى الجس وتعددت لقاءاتهما وتداول الناس أن الجس يعشق سلامة، فلجأ الجس إلى ابن سهيل ليشترى منه سلامة ويتزوجها، ولكن ابن سهيل منحها له ولكن بعد فوات الآوان، فقد كان مديونًا بمبلغ كبير ووقعت أملاكه فى مزاد فاز فيه ابن أبى رمانة، وقد عرض عليه الخليفة يزيد بن عبدالملك ٥٠ ألف دينار مقابل سلامة، التى هربت من أبى رمانة مع إحدى القوافل. 

عمل عبدالرحمن الجس مع ابن أبى سهيل فى التجارة لجمع المال اللازم لاستعادة سلامة، وبعد أن جمع ثروة وعثر على سلامة هاربة فضل إعادتها أولًا إلى أبى رمانة ويشتريها منه، ولكنه علم أن الخليفة يزيد قد اشتراها فتركها له وتطوع فى جيوش المسلمين لمحاربة أعداء الدولة الأموية وأبلى بلاءً حسنًا فى الدفاع عن الخليفة ودولته وحقق الانتصارات ضد أعدائه وما إن علم الخليفة بحب الجس لسلامة وهبها له، ولكن الجس كان قد أصيب فى إحدى المعارك ومات بين يدى سلامة التى أصيبت بالذهول وسارت هائمة على وجهها فى الطرقات لا تلوى على شىء.

فى هذا الفيلم قرأت أم كلثوم آيات من سورة إبراهيم هى: «رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فِى الْأَرْضِ وَلَا فِى السَّمَاءِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ* رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ». 

لاقت هذه القراءة استحسانًا من جميع من سمعها، وكان السؤال الذى التفتت إليه أم كلثوم هو لماذا لا يسمع جمهورها القرآن كاملًا بصوتها، وهو ما جعلها تفكر جديًا فى أن تقدم على هذه التجربة التى أشرف عليها الشيخ زكريا أحمد. 

المحطة الثانية كانت فى العام ١٩٥١ عندما كانت أم كلثوم تتحدث إلى مجلة روزاليوسف وكشفت عن رغبتها فى أن تقوم بتسجيل القرآن كاملًا بصوتها، وكيف أن هذا واحد من أحلامها المؤجلة. 

بعد نشر الحوار ظهر الشيخ زكريا أحمد الذى قدم نفسه على أنه صاحب هذه الفكرة، وأرسل إلى روزاليوسف رسالة تحمل هذا المعنى. 

كان هذا ما كتبه الشيخ زكريا أحمد نصًا ونشرته روزاليوسف فى ١٩ يونيو ١٩٥١: 

عندما التقيت أنا وأم كلثوم لأول مرة بعد خصامنا الطويل، خيل إلىّ أن أم كلثوم قد وصلت إلى السن التى يتصوف فيها الإنسان ويتقرب إلى الله، فلم أحدثها بطبيعة الحال عن موضوع الخلاف الذى كان قائمًا بيننا والذى يرجع إلى سوء معاملتها المادية والمعنوية معى. 

ورأيت وقتها أن أسدل الستار على الماضى، وأوقفت حديثى معها على أنه من واجبنا، وقد تجاوزنا الخمسين من عمرنا، أن نختم حياتنا الفنية ختامًا رائعًا، بتسجيل القرآن الكريم كله، وكان قد شاع آنئذ أننى لحنت القرآن كما هو الحال فى الأغانى، بل إننى لحنته بطريقة تعبيرية فى الإلقاء، كما هو الحال فى الآيتين اللتين حفظتهما لها فى فيلم سلامة. 

وقصصت على أم كلثوم كيف أننى حاولت منذ عشرين عامًا تسجيل القرآن كله على أسطوانات أدويون بالطريقة التعبيرية لا طريقة التطريب والتنغيم المعروفة الآن، ولكن فضيلة المفتى فى ذلك الوقت أفتى بعدم شرعية تسجيل القرآن على الأقراص المتكلمة. 

وبدأت أم كلثوم تنصت إلىّ فى دهشة، ثم اقتنعت بعد ذلك بأن نسجل السور الصغيرة لا القرآن كله، فوافقتها على أساس أن نتنازل معًا عن جميع حقوقنا لإحدى الجمعيات الخيرية، ولم توافق أم كلثوم طبعًا إلا بعد ما أقنعتها بأن عملنا هذا هو خير ختام لحياتنا الفنية، وهكذا اتفقنا منذ شهرين على أن نتكتم هذا الأمر حتى نشرع فى تنفيذه. 

ولكننى فوجئت هذا الأسبوع بحديثها فى روزاليوسف الذى قالت فيه إنها على استعداد لتسجيل القرآن كله بلا مقابل، هدية منها لمسلمى الأرض جميعًا، ومع كل فبالرغم من أنها أخلت باتفاقنا فإننى أتمنى لها التوفيق فى تنفيذ فكرتى هذه، وأرجو من الله أن يكتب لها النجاح كما نجحت فى فيلم سلامة. 

وأخيرًا أحب أن أهمس لأم كلثوم بكلمة صغيرة، وهى أنها إذا أرادت أن تعود عليها بركة القرآن وحدها، عليها أن تتذكر أن وراءها تعهدات والتزامات أخلت بها نحوى ونحو غيرى، وأن عليها أن تفى بكل ذلك، ما دامت تريد أن تتقرب إلى الله بتسجيل آيات كتابه الكريم.

فى العام ١٩٥٨ تجددت الفكرة مرة أخرى، ولكن على صفحات مجلة «آخر ساعة» ووقف أمام طرح الفكرة من جديد الكاتب الصحفى مصطفى أمين الذى كان صديقًا لأم كلثوم. 

فى عدد ١٢ مارس ١٩٥٨ من مجلة «آخر ساعة»، نقرأ تقريرًا بعنوان أول مشروع ثقافى للجمهورية المتحدة.. القرآن كله بصوت أم كلثوم. 

وجاء فى التقرير الآتى: 

إن «آخر ساعة» تتقدم باقتراح خطير جرىء إلى الشعوب الإسلامية والعربية، ما رأيكم أن ترتل أم كلثوم جميع سور القرآن بصوتها؟ ما رأيكم أن تسجل هذه الصور على أشرطة وتوزع فى كل مكان فى العالم؟

إن أم كلثوم لو فعلت هذا، فإنها تقدم خدمة ضخمة للغة العربية وللدين الإسلامى، إن أم كلثوم تجيد تلاوة القرآن، إنها بدأت حياتها بتلاوة آى الذكر الحكيم. 

إن «آخر ساعة» سبق أن تحدثت مع أم كلثوم فى شأن هذا الاقتراح. 

قالت أم كلثوم إنها مهمة خطيرة جدًا، وإنها تحتاج إلى عدة سنوات، وإنها ترى أن تقوم بها مؤسسة كبيرة، وإنها على استعداد أن تفكر فى هذا الموضوع، وإنها لا تستطيع أن تتقاضى أجرًا على هذا العمل الذى سوف تقدمه من أجل الله وفى سبيل دين الله. 

إننا نقترح أن يصدر قرار من الدولة بإنشاء هذه المؤسسة، وأن تتولى هذه المؤسسة الإشراف على ملء هذه الأسطوانات، على أن تراعى فيها الدقة المتناهية، وأن يكون من بين أعضاء هذه المؤسسة عدد من رجال الدين. 

وأن تخصص ملايين الجنيهات التى سيدرها هذا المشروع الضخم لإرسال وفود إلى كل بلد إسلامى وعربى تتولى الوعظ والإرشاد وتحمل راية الإسلام إلى المناطق البعيدة وإلى البلاد غير المؤمنة. 

إن مهمة هذه المؤسسة ألا تقوم بالتبشير بين المسيحيين أو اليهود، وإنما تنشر الدين بين الملحدين، وعددهم يصل إلى مئات الملايين. 

إننا نعرف أن هذا المشروع جرىء. 

إن بعض رجال الدين لا يزال يعارض أن تتلو سيدة القرآن، ولكن المؤكد أن صوت أم كلثوم الذى حمل الإيمان إلى الملايين فى قصيدتى «سلوا قلبى» و«الهمزية» يختلف عن أى صوت آخر. 

إن نطق أم كلثوم صحيح، إنها تنطق الكلمات كما ينطقها شيوخ الأزهر، إنها تفهم العبارات ومدلولها، وتستطيع أن تعبر بحنجرتها عن الكلمة بكل ما فيها من بلاغة وقوة إيمان. 

إن كل بيت فى العالم العربى والإسلامى سوف يحتفظ بأشرطة القرآن الكريم. 

إن هذا المشروع قد يُدر على الدولة نحو عشرين مليونًا من الجنيهات. 

إنه ثروة جديدة للثقافة ولرسل الدين وللعلم وللمبادئ السامية. 

إن أم كلثوم قالت مرة فى حديث خاص مع أحد محررى آخر ساعة إنها تتمنى لو أنها رتلت القرآن كله على أشرطة مسجلة، وإن شرطها هو أن لا يذاع التسجيل إلا بعد وفاتها بعمر طويل، وسواء تمسكت أم كلثوم بهذا الشرط أو لم تتمسك، فإن هذا المشروع يجب أن يبدأ فورًا، ويجب أن يبدأ من الآن. 

إننا نقترح أن تتكون لجنة فيها ممثل للأزهر وممثل للمؤتمر الإسلامى، وممثل لوزارة التربية والتعليم، وتضع أسس المشروع، إننا نريد أن نعرف رأى أنور السادات سكرتير المؤتمر الإسلامى، ورأى كمال الدين حسين، ورأى شيخ الأزهر، وأخيرًا رأى أم كلثوم. 

وفى الأسبوع التالى وتحت عنوان «القرآن كله بصوت أم كلثوم» نشرت آخر ساعة مجموعة من الآراء وقدمت لها بقولها: قدمت آخر ساعة فى الأسبوع الماضى اقتراحًا جريئًا، كان اقتراح آخر ساعة أن ترتل أم كلثوم جميع سور القرآن بصوتها، وأن تسجل هذه السور على أشرطة توزع فى كل مكان فى العالم. 

ولقد قالت آخر ساعة فى اقتراحها إن أم كلثوم ترى أن تقوم بهذا العمل مؤسسة كبيرة وهى لن تتقاضى أى أجر عن هذا العمل الذى تقدمه فى سبيل دين الله. 

إن آخر ساعة وهى تنتظر رأى أنور السادات وكمال الدين حسين وشيخ الأزهر، تقدم آراء مفتى الديار وعدد من شيوخ الأزهر والمقرئين. 

كان من بين ما نشرته آخر ساعة رأى الشيخ حسن مأمون مفتى الديار المصرية، الذى قال: إن فقهاء المسلمين بحثوا مسألة صوت المرأة، والراجح فى مذهب الإمام أبى حنيفة أن صوت المرأة ليس بعورة، والشريعة الإسلامية لم تفرق فى تكاليفها بين الرجال والنساء، فإذا قرأت المرأة القرآن بصوتها وحافظت على قواعد القراءة والتزمت حدودها ولم تدخل فيه شيئًا من الغناء كان ذلك جائزًا ولا شىء فيه. 

وقال الشيخ عبدالباسط عبدالصمد: أرى أن يستشار العلماء الأفاضل فى المسألة، ولكن بالنسبة لرأيى الشخصى فمع احترامى للسيدة أم كلثوم التى لا يسمو على صوتها أى صوت أعتقد أنه لا مانع من أن نقول: إن لقراءة القرآن الكريم أحكامًا، خاصة أن هذه الأحكام لم ولن تتوافر لأم كلثوم.. لذلك فأنا أعتقد أنه من الأفضل لها ألا تقدم على تنفيذ هذا المشروع. 

بارك الشيخ مصطفى إسماعيل الفكرة، وقال: أنا شخصيًا لا أرى مانعًا من أن تقوم أم كلثوم بتسجيل آيات الذكر الحكيم كلها وقراءتها. 

وقال الشيخ عبدالفتاح الشعشاعى: سأبحث مشروع قيام أم كلثوم بتسجيل القرآن من الناحية الشرعية والشىء الذى يوافق عليه الشرع سأوافق عليه، ومن جهة صوت المرأة عورة سأبحث ذلك أيضًا من هذه الناحية المهمة. 

يقول مصطفى أمين عن هذه المحاولة: فى يوم من الأيام طلبتنى أم كلثوم وبمجرد لقائنا، قالت لى إن لها أمنية تحلم بها وهى أن ترتل القرآن بصوتها، وأن تسجله على أسطوانات، وأنها لا ترغب فى أن تستفيد من ريع هذه العملية، ولكنها ستتبرع بكل حصيلة هذه التسجيلات لطلاب الجامعات المصرية غير القادرين، وقد قدر لها الخبراء فى ذلك الوقت أن تربح مليون جنيه كل عام، وتوجهنا إلى أحد المحامين، وطلبنا منه أن يكتب لنا تنازلًا من أم كلثوم عن هذا المبلغ لصالح الطلاب، وعندما اتصلت أم كلثوم بشيخ الأزهر آنذاك للحصول على موافقته، رفض من الأساس أن تقرأ أم كلثوم بصوتها جميع سور القرآن، حدث ذلك رغم استحسان كثير من الشيوخ تلاوتها فى فيلم «سلامة».

المحاولة الثالثة كانت بعد هزيمة ١٩٦٧، وكانت عبارة عن تصريح بالحلم الذى يتجدد، وهنا يمكننا أن نعود مرة أخرى إلى ما كتبه عبدالعزيز كامل عن الأفق الدينى لأم كلثوم. 

يقول كامل: اعتدنا فى كل رمضان أن نلتقى أنا وأم كلثوم مرة بعد الإفطار، ما أعانتها صحتها وظروفها على ذلك، كان لقاءً دينيًا أعرض فيه لشرح آيات من كتاب الله، أو قصة من قصص الأنبياء، إلى أن كانت هزيمة يونيو ١٩٦٧. 

ظلت أم كلثوم محافظة على اللقاء، ولكن- كما يقول كامل- الابتسامة والفرحة غاصت من وجهها، الأحاديث الدينية أصبحت عن معركة عين جالوت وحطين وعوامل النصر فيها، والدروس من السيرة النبوية تركز حول الصمود، وبعض ما أصاب المسلمين فى غزوة أحد وفى المراحل الأولى من غزوة حنين. 

كانت أم كلثوم تعلق على هذه الأحاديث من حين إلى حين، والمعركة والنصر قضيتها، وكانت تقول: كل أملى أن أعيش حتى أرى النصر، أدعو الله، وعلينا جميعًا أن نتعاون من أجل هدف واحد، استرداد أرضنا والانتصار على عدونا. 

من بين ما يذكره عبدالعزيز كامل من كلام أم كلثوم فى جلساته معها ما قالته عن أحلامها المؤجلة، والتى يبدو أنها رحلت دون أن تنفذها. 

قالت له أم كلثوم: أملى أن أسجل السيرة النبوية فى ثلاثين حلقة، كل حلقة نصف ساعة، وما زلت أختار الشعر، قابلت كثيرين، وقرأت لكثيرين، وكلفت كثيرين وما زلت فى مرحلة الاختيار. 

وقالت له: كان أملى ولا يزال أن أسجل القرآن كاملًا، قراءة صحيحة أراعى فيها كل أحكام التجويد بإشراف مختصين، وأعطى كل آية حقها فى الأداء، قراءة آية الرحمة غير قراءة آية العذاب، وقراءة آية الدعاء غير قراءة آيات القتال. 

ويعقب كامل على كلام أم كلثوم بقوله: كان حديثنا هذا بعد تفسير لسورة طه بما فيها من محبة الله وتوجيهه لرسوله الأعظم، صلوات الله وسلامه عليه، ومشاهد قصة موسى، بعد هذا تتوالى فى الطور وأرض مدين، والعودة إلى مصر والخروج، وكلها تركز على رعاية الله لأنبيائه ومدهم بعونه على طريق الحق، وآمال الكبير دائمًا أوسع من حياته. 

كان حلم أم كلثوم لا يزال مستيقظًا فى قلبها، والغريب أنه فى نفس الوقت تقريبًا صدر عدد مجلة عدد الهلال التاريخى عن القرآن الكريم فى رمضان ١٩٧٠، وكتب فيه ضياء الدين بيبرس تحقيقًا صحفيًا مميزًا، كان عنوانه محايدًا للغاية هو «تلحين القرآن بين أهل الفن ورجال الدين»، وضع له مقدمة محايدة جدًا، قال فيها: أين موقع الفكر العصرى من فكرة- أو دعوة- تلحين القرآن الكريم؟ وهل تبيح النظرة الإسلامية العصرية، مهما اتسع أفقها، دعوة تحبذ أداء آيات الله أداءً يستند إلى تلحين النوتة الموسيقية، سواء أكان هذا الأداء مصحوبًا بموسيقى الآلات أو غير مصحوب بها، وما الحد الفاصل بين النظرة العصرية أو التقدمية، وبين الانزلاق إلى ما يدخل المنطقة الحرام تحت شعار التوفيق بين الدين وروح العصر. 

سجل ضياء الدين بيبرس آراء مجموعة من الكبار، من أهل الفن استعان بالموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، والموسيقار العبقرى رياض السنباطى، وسيدة الغناء العربى أم كلثوم، ومن أهل الاختصاص فى الدين، سجل رأى كل من الشيخ محمد خاطر الذى كان مفتيًا للديار المصرية وقتها، والشيخ محمود الحصرى شيخ عموم المقارئ المصرية، والشيخ عبدالباسط عبدالصمد، والشيخ أحمد حسن الباقورى، والكاتب والفيلسوف الإسلامى الكبير خالد محمد خالد. 

فى هذا التحقيق بدا أن أم كلثوم كانت قد يئست من الاستجابة لمحاولتها تسجيل القرآن بصوتها بعد الاعتراضات المتتالية على ذلك من الشيوخ والقراء، ولذلك لم يكن غريبًا أن تقول: الحديث عن تلحين القرآن باب يحسن إغلاقه، ومسألة من الأفضل عدم الخوض فى تفاصيلها، فالمشكلة ببساطة هى: هل تخدم الموسيقى القرآن؟ أم أن القرآن هو الذى يخدم الموسيقى؟ 

وبحسم يكاد يكون نهائيًا تقول أم كلثوم: القرآن أكبر من الموسيقى، وموسيقاه النورانية المتمثلة فى تلاوته كما أمر الله والسنة بها كافية لبث الهيبة فى نفوس المسلمين.

كانت هناك محاولة مخفية لتسجيل أم كلثوم القرآن بصوتها، وهى المحاولة التى كشف عنها الموسيقار الكبير رياض السنباطى وشريك أم كلثوم تقريبًا فى معظم أغنياتها الدينية. 

كان أنيس منصور يحاور رياض السنباطى على صفحات جريدة الأهرام، فى ١٩٧٥. 

قال السنباطى لأنيس: كان من أحلامنا أنا وأم كلثوم أن ألحن وتغنى سورة «الرحمن»، إن هذه السورة فى جمالها وعمقها هى القرآن كله، وقد حاولت شيئًا من ذلك ولكن خفت. 

ويحكى رياض أنه عندما كان يلحن لأم كلثوم قصيدة الثلاثية المقدسة لصالح جودت كانت بها آية «والضحى والليل إذا سجى»، وكان مفروضًا أن يلحنها لتغنيها أم كلثوم، لكنهم غيروا فى القصيدة، حتى لا تبدو أنها آية، واكتفوا بـ«والضحى والليل»، وذلك حتى لا يقال إن السنباطى يلحن القرآن. 

بذلت أم كلثوم محاولات كثيرة لتسجيل القرآن بصوتها، كانت تعتبر ذلك حلمًا من أحلامها، لكنه فيما يبدو كان حلمًا مستحيلًا، حاصره الشيوخ، حتى مَن وافقوها على ما تريده، كانوا يفعلون ذلك مترددين، ولو أخلصوا فى اجتهادهم، لكانت لدينا الآن نسخة من القرآن بصوت السيدة التى كان صوتها من أصوات الإيمان التى استطاعت أن تقدم للدين ما عجز عنه كثيرون، والتى أصلحت بغنائها كثيرًا مما أفسده من تولوا صياغة الخطاب الدينى على مر العصور.