الإثنين 03 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

رؤية الرجل الخالد.. كيف يرى عمر الشريف الله؟

حرف

- عمر الشريف كان مبهورًا جدًا بالشيخ الشعراوى وتقابل معه وأكد عليه ضرورة أن يؤدى فريضة الحج

- من بين ما كان يرفضه عمر فى المسيحية عندما كان يدين بها طقس الاعتراف

- عبّر عن علاقته الخاصة جدًا بالله عندما قال: أكثر شىء أقوله دائمًا هو الحمد الله أقولها بصدق وبشكل حقيقى لأن ربنا «دلعنى خالص».. أعطانى كل شىء وأنا أستحى من الله جدًا

- كان مسيحيًا وأسلم عندما تزوج من فاتن حمامة

- نحتاج لمساحة حرية تضمن أن يتحقق عليها التسامح الذى نادت به كل الأديان والإسلام نفسه كان عنوانًا بارزًا للتسامح ولديه تصورات كثيرة لتحقيقه ومن يتوغل فى الدين ويرفض التعصب ينادى بالحب لا الكراهية

- أنا أؤمن بكل شىء ولا أؤمن بشىء لأن أول شىء تعلمته كان أن الله هو العدالة لكنى لا أرى عدالة فى هذا العالم

- كان يقول: بإمكاننا أن نحب بعضنا بعضًا رغم انتمائنا إلى أعراق وأديان مختلفة

- رغم بُعد عمر الشريف عن الروحانيات إلا أنه كان متمسكًا بالأخلاقيات والقيم والمبادئ ومنها مثلًا أنه كان لا يكذب أبدًا

هى حكاية واحدة.

أما رواياتها فأربع. 

وعندما تتعدد الروايات يبدأ الشك وتتبدد الحقيقة. 

يقول الراوى الأول، الذى لا نعرف له اسمًا رغم أن كثيرين يتداولون روايته، إنه فى منتصف الثمانينيات جاء الفنان العالمى عمر الشريف إلى مصر ليشترك فى فيلم «أيوب»- الفيلم عن قصة لنجيب محفوظ وسيناريو وحوار محسن زايد وإخراج هانى لاشين وتم إنتاجه العام 1983- وعندما انتهى من أداء دوره قرر أن يعود إلى أمريكا للاستجمام، وفى صالة المطار صادف عددًا من المصريين الذين يستعدون للسفر لأداء فريضة الحج. 

رأى عمر الحُجاج فى ملابسهم البيضاء يرددون فى صوت متناغم «لبيك اللهم لبيك» فأخذه الحنين لأداء فريضة الحج، ذهب إليهم وتحدث معهم، فسألته سيدة مسنة: هل ستسافر معنا، فبكى تأثرًا بسؤالها، وطلب من مساعديه أن يحجزوا له ليسافر إلى السعودية بدلًا من الولايات المتحدة، لأنه يريد أن يحج هذا العام. 

أسرع مساعدو عمر لإجراء الاتصالات مع السفارة السعودية بالقاهرة، وطلبوا الحصول على تأشيرة سفر لهم جميعًا، لكن المفاجأة- كما يقول الراوى المجهول- أن المسئولين فى السفارة أجابوا بإجابة غريبة، حيث قالوا لهم إنهم يريدون أن يتأكدوا من صحة إسلام عمر، لأنه أسلم من أجل الزواج من سيدة مسلمة، وعليه أن يشهر إسلامه من جديد إذا كان يريد أن يذهب إلى الحج. 

خشى مساعدو عمر أن يخبروه برد السفارة السعودية، كانوا يعرفون أنه سيغضب، خافوا من رد فعله الذى يأتى فى الغالب عصبيًا فى الأمور الصغيرة، فما بالهم والأمر هذه المرة كبير ومحرج، لكنهم فى النهاية اتفقوا على أن يخبروه، وكانت المفاجأة الثانية أن عمر استقبل الأمر بهدوء شديد وقال لهم: موافق، وذهب ليعلن دخوله الإسلام من جديد. 

يضيف الراوى المجهول إلى روايته أن عمر الشريف حصل على التأشيرة وذهب إلى مكة بالفعل، وأدى فريضة الحج، وأنه تعلق بالكعبة، وحرص على الشرب من ماء زمزم، وزار مسجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، ووقف أمام قبره باكيًا نادمًا مستغفرًا. 

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلأن عمر لم يكن يجيد الدعاء، ولا يعرف ما الذى يقوله أثناء مناسك الحج المختلفة، فقد كان يسأل من حوله، وتذكر بعض الأدعية التى كان يسمعها من الشيخ الشعراوى، حيث كان يتابع حلقاته التليفزيونية- خواطرى حول القرآن الكريم- باهتمام شديد. 

ويختم الراوى المجهول روايته الأولى بتأكيده أن عمر عندما ظهر بعد شهور فى أحد البرامج التليفزيونية الأمريكية قال إنه زار كل بلاد الدنيا، لكنه لم يشعر براحة نفسية مثل التى شعر بها وهو يؤدى فريضة الحج، وأنه امتلأ بهدوء داخلى لم يجربه من قبل، وشرح للمشاهدين مناسك الحج، وكيف كان قبل أداء الفريضة ثم كيف أصبح بعدها.

الرواية الثانية، وصاحبها مجهول أيضًا، تنسج بعض التفاصيل حول رحلة لعمر الشريف إلى مكة، لكن هذه المرة كانت رحلة عمرة وليست رحلة حج. 

يقول الراوى إنه فى عام ٢٠٠٧ كان الفنان عمر الشريف فى زيارة عمل إلى السعودية، وقرر لأول مرة فى حياته أن يقوم بأداء العمرة، لكن المسئولين فى السعودية رفضوا أن يدخل مكة بحجة أن إسلامه ليس مؤكدًا بالنسبة لهم، فقد أعلن إسلامه فقط حتى يتزوج من الفنانة فاتن حمامة، وطلبوا منه أن ينطق الشهادتين ويعلن إسلامه من جديد حتى يتأكدوا من صحة دخوله إلى الإسلام، وعلى الفور استجاب عمر ونطق الشهادتين، وأدى العمرة، ووقتها حرص على ألا تكون هناك أى تغطية إعلامية، أو التقاط صور تذكارية توثق رحلته، وقال لمن حوله إنه يريد أن يكون ما يفعله أمرًا خاصًا بينه وبين الله فقط. 

الرواية الثالثة، والتى تهدم الروايتين السابقتين وأثق فيها كثيرًا لمنطقيتها واتساقها مع سيرة عمر الشريف، صاحبها هو الكاتب شريف قنديل، الذى كتب مقالًا فى جريدة الوطن السعودية فى ٢٤ مايو ٢٠١٠ بعنوان «عندما سألت عمر الشريف فى جدة: هل أديت العمرة؟». 

يقول شريف: بصلافة، بل بجلافة شديدة، سألت الفنان العالمى عمر الشريف عندما التقيته فى جدة: هل زرت مكة وأديت العمرة؟

كان ذلك قبل نحو عشرين عامًا- أى حوالى العام ١٩٩٠- فى بيت القزاز للعطور، إذ كان عمر فى مهمة عاجلة لم تستغرق سوى سويعات لتدشين العطر المسمى باسمه. 

ويضيف شريف: لم يكن السؤال على مشروعيته مناسبًا للموقف وللمناسبة التى جاء من أجلها الرجل، إن تأدية العمرة أو عدم تأديتها مسألة شخصية محضة، وإن كان المؤدى لها فى تلك الحالة هو عمر الشريف، وكنت حينها عائدًا لتوى من جولة صحفية شملت جنوب السودان واليمن وباكستان ثم أفغانستان، وكان جواز سفرى- أيامها أيام الدعوة لمناصرة المجاهدين فى أفغانستان وجنوب السودان والبوسنة والهرسك- يدعو للعجب العجاب.

ويعترف شريف بأن الداعين له لمناسبة الاحتفاء بعمر الشريف لم يستضيفوه كى يسألوه عن مدى تدينه أو تمسكه بهويته المصرية ودينه الإسلامى، أو عن الموقف فى بيشاور وزغرب، فضلًا عن أن الأسئلة المطروحة كلها كانت تدور فى شقها الفنى عن «لورانس العرب» و«دكتور زيفاجو» وصوفيا لورين، وفى شقها الاجتماعى عن زوجته فاتن حمامة وابنه طارق وحفيده الجديد، وفى شقها المحلى عن رأيه فى جدة التى يراها لأول مرة.

ورغم معرفة شريف قنديل بكل ذلك إلا أنه اتجه إلى عمر الشريف وهو مكفهر الوجه وبصوت عالٍ وسأله: هل زرت مكة وأديت العمرة؟ 

رد عمر بأدب جم شارحًا كيف أن وقته للأسف لم يسمح، وأنه سيغادر بعد دقائق للعودة إلى فينيسيا حيث يوجد لديه ارتباط عالمى.

ويختم شريف قنديل مقاله بقوله: تذكرت ذلك وأنا أتابع حلقات عمر الشريف التى تبث حاليًا على القناة المصرية، والتى يؤكد فيها تمسكه بجنسيته ورفضه القاطع للممارسات الصهيونية فى الأرض المحتلة، وانتقاده الشديد لنفسه فنيًا واجتماعيًا، وكلما جاء الحديث عن أصعب المواقف التى تعرض لها، سألت نفسى عن قيم صحفية وإنسانية كثيرًا ما تغيب عنا فى غمرة الحماس.

قبل أن أغادر هذه الروايات لا بد أن أتوقف عند رواية رابعة، صاحبها هو المخرج عمر زهران، الذى كان صديقًا لعمر الشريف، وكتب عن ذكرياته معه مقالًا مطولًا بعد يوم واحد من وفاته، ومن بين ما جاء فيه أن عمر الشريف كان مبهورًا جدًا بالشيخ الشعراوى، وأنه تقابل معه وأكد عليه ضرورة أن يؤدى فريضة الحج، وبالفعل قرر عمر أن يؤدى فريضة الحج، وكان رفقة مجموعة من أصدقائه السعوديين، وقال لزهران: شعرت بأن هناك سرًا كبيرًا يكمن داخل هذه الكعبة، وقد دعوت الله كثيرًا على جبل عرفات. 

الثابت إذن من تناقض هذه الروايات أن هناك عدم يقين فى مسألة أدائه لا للحج ولا للعمرة خلال حياته المديدة التى بدأت فى العاشر من أبريل من العام ١٩٣٢ عندما ولد فى الإسكندرية وحتى وفاته فى العاشر من يوليو فى العام ٢٠١٥، وقد يكون هذا التناقض بسبب حياة عمر الشريف الصاخبة التى تختلط فيها الماديات بالروحانيات، ثم إنه لا توجد صورة واحدة له وهو يؤدى الفريضة، فأداء فنان عالمى مثله الفريضة فى النهاية حدث لا يمكن تفويته بسهولة، وكان لا بد أن تكون هناك ولو صورة واحدة تظهر لنا حتى بعد وفاته، لكن هذا لم يحدث. 

تفتح لنا هذه الروايات مساحة كبيرة فى حياة عمر الشريف، وتمنحنا مبررًا للتعامل معه على أنه واحد ممن قدموا لنا أفكارًا مهمة فى مسألة التعامل مع الدين والنظر له، فهو لم يكن فقيهًا ولا عالمًا، ولكنه كان من واقع تجربته الحياتية فيلسوفًا كبيرًا، يمكننا أن نركن إلى نظرته ونحن نبحث عن روح جديدة ننفخها فى شرايين الدين التى تيبست. 

وقد يكون سؤالنا الأول: هل الدين مجرد شعائر وطقوس أم أنه ثقافة؟ 

فى حياة عمر الشريف نجد الدين كقيمة أخلاقية وثقافية باديًا بشدة، وهنا يمكننا أن نعود مرة أخرى إلى مذكراته الحقيقية التى نشرت لأول مرة فى العام ١٩٧٦. 

ولهذه المذكرات قصة نعرفها من الكاتب الكبير محمود قاسم فى كتابه «وجوه عمر الشريف» الذى صدر فى العام ٢٠١٥. 

كان عمر الشريف قد جلس إلى الصحفية الفرنسية «مارى تيريز جينشار» وأملاها مذكراته حتى هذا الوقت، ونشرتها هى فى كتاب بعنوان «الذكر الخالد»، وعندما تُرجمت إلى اللغة العربية تم استبدال كلمة الذكر بالرجل، فأصبح عنوان المذكرات «الرجل الخالد»، وقد صدرت بالعربية بأكثر من ترجمة، أشهرها الترجمة التى قام بها الناقد الفنى مجدى فهمى، وصدرت فى العام ١٩٧٧، وهناك ترجمة أخرى قام بها عبدالمنعم سليم، وصدرت فى العام ١٩٨٩ تحت عنوان «عمرو الشريف يروى أسرار حياته الخاصة» عن مؤسسة «روزاليوسف». 

عن والديه يقول عمر الشريف: تعلم أبى فى مدرسة الفرير، ودرست أمى عند الراهبات، ومن هنا ترسبت فى نفسيهما تقاليد موحدة وقوية، وظلا مرتبطين دائمًا بذلك الوشاح القوى الذى يتولد عن التربية الدينية، ويجعل المثالية هى القِبلة، والمسلك القويم هو الطريق المختار، ولم يحدث أبدًا أن سمعت أبى يتلفظ مرة واحدة بلفظة نابية، كما لم يحدث أن اغتاب والدى أحدًا، فقد كان كل منهما ملتزمًا بالمبادئ القويمة فى قوله وتصرفاته. 

لم يدّعِ عمر الشريف أنه كان متدينًا كأسرته، يقول: كان أبى كاثوليكيًا، متمسكًا بأحكام دينه، لذا أصبحت أختى إنسانة متعصبة للغاية، ترى فى أغلب الأفعال العادية خطايا مميتة، وهى انطلاقًا من هذا كانت تدين كل تصرفاتى، سواء فى البيت أو فى خارجه، وعندما غيرت دينى بسبب الزواج، كان الأمر فى نظرها كارثة وأى كارثة. 

ويعترف عمر: أنا بطبعى ومنذ نشأتى الأولى غير متمسك بالمعتقدات الدينية، لذا جاءت معارضة أختى لتقوى فى أعماقى- من باب صدها أو مقاومة ميولها العدائية- البعد عن الروحانيات. 

من بين ما كان يرفضه عمر فى المسيحية عندما كان يدين بها طقس الاعتراف، كان يرى أن الأمر بين الإنسان وبين الله، ولا يجب أن يتدخل فيه أى مخلوق، مهما كان قدره أو مكانته. 

ورغم بُعد عمر الشريف عن الروحانيات إلا أنه كان متمسكًا بالأخلاقيات والقيم والمبادئ، ومنها مثلًا أنه كان لا يكذب أبدًا. 

فى شبابه كان والده رافضًا تمامًا أن يصبح ابنه ممثلًا، كان يرى فى التمثيل مهنة المهرجين، وفى مرحلة مبكرة بدأ عمر يعمل بالفعل مع والده فى تجارة الأخشاب التى كان بارعًا فيها. 

يقول عن ذلك: بدأت المرحلة بدرس طويل ومبسط منه، حاول به أن يفسر لى الفوارق بين نوع الخشب والأنواع الأخرى، وأن يعوّد عينى على قياس الألواح مبدئيًا بالنظر، كما قدمنى إلى عملائه الذين كان مقدرًا لهم أن يصبحوا عملائى، وقال لى أبى شارحًا أساس التجارة: أن تبيع بأحد عشر قرشًا ما تشتريه بعشرة، صُدمت نوعًا ما فى أبى، كيف يقبل هو الرجل المتدين أن يخدع الناس؟ اتهمته بينى وبين نفسى فى نزاهته، بالرغم أن هذه هى قواعد التجارة المعروفة فى العالم أجمع، وعبثًا حاول أبى إقناعى بأن ربح التجارة حلال، وأنه لولا هذا الربح ما استمر متجر واحد مفتوح الأبواب، ولكن كل شىء بدا لعينى غير قانونى وغير أخلاقى. 

ويعترف عمر بأنه فى مرحلة متقدمة من حياته تغير، لكن هذا التغير لم يجعله يقترب من الدين. 

يقول: تغيرت أختى بعد الزواج، استوى فيها عود الأنثى، فأصبحت أكثر أناقة، وأكثر رشاقة، ولعل أجمل ما فيها شعرها الطويل بلون النحاس، ونظراتها الجذابة الوديعة، ورغم مهادنتها لى فما زال الكثير من طباعها مختلفًا مع طباعى، أنا أنفق وهى حريصة، هى تزن كل الأمور بتعقل وأنا أتصرف باندفاع، وأصبحت أكثر تمسكًا بالدين، بنفس المقدار الذى به أنا بعيد عنه. 

وفى مذكراته يحكى عمر الشريف عن «أليك جينيس» الذى شاركه فى فيلمه العالمى الأول «لورنس العرب» فى العام ١٩٦٢، ونلمح من حديثه عنه التفاته إلى بعض القيم الدينية المهمة. 

كانت حياة «أليك جينيس»- كما يقول عمر- قد تعرضت لإعصار شديد كاد يقضى عليه تمامًا، حتى تدخلت السماء لإنقاذه، كان «أليك»، الذى ولد يهوديًا، زوجًا وأبًا لصبى واحد، وقد أصيب ابنه فجأة بمرض وصفه الأطباء بأنه خطير، وعجزوا تمامًا عن تشخيصه، وقد طاف «أليك» معابد اليهود الواحد بعد الآخر يصلى، ويقدم النذور دون جدوى، حتى خطر له أخيرًا أن يدخل كنيسة كاثوليكية، وقف الأب الحزين أمام الهيكل يبكى، ثم نذر اعتناق المسيحية إن شفى ابنه، وقد شفى ابنه بالفعل، وأصبح «أليك» من أكثر المسيحيين تدينًا وتعصبًا. 

فى هذا الفيلم نفسه «لورنس العرب»، الذى تم تصويره فى الصحراء، استطاع عمر أن يمسك بمعانٍ روحية نادرة.

كان والد عمر قد حدّثه كثيرًا عن الصحراء عندما كان طفلًا، يقول: أنا أحب الصحراء، أحبها جدًا، منذ كان والدى يروى لى قصصها، وهو يحاول أن يجلب إلى عينى النعاس، كان أبى وهو منحنٍ فوق فراشى يقول لى إن سكان الصحراء لا نجاة لهم إلا بتعاون كل فرد منهم مع الآخرين، وإن الأخوة بين سكانها هى السقف الوحيد الذى يقيم أشد العواصف، والصحراء هى المدرس الأول الذى علّم السكان الشجاعة والعطاء الكبير، وهى أيضًا باحة كبرى، يعيش الناس فوقها وهم خاضعون تمامًا لسيدين، الجوع والظمأ، هذان السيدان هما اللذان يصدران الأوامر بالبقاء أو الرحيل. 

وعندما أصبح عمر الشريف وجهًا لوجه مع الصحراء بدأ فى التعرف عليها من خلال نظرته هو، وخرج من ذلك بأن الصحراء هى أرض التأمل، فهى كانت لهذا السبب مهبطًا لأغلب الأنبياء، ومصدرًا لأكبر الفلسفات، والعرب منذ رسالة محمد، عليه الصلاة والسلام، لم يعرفوا الخوف، لأن الرسول علّمهم كيف أن الموت ليس هو النهاية، وإنما هو البداية، وكان والده يختار له من بين آيات القرآن والإنجيل ما يبعث فى النفس الأمل والشجاعة، وهذه المشاعر كانت غالبًا مغروسة فى أرض الصحراء.

يقول عمر: ليالٍ طويلة قضيتها وعيناى على الصحراء الواسعة المترامية، التى لا حدود لها، إلا ذلك الخط الذى يربط بينها وبين سماء صافية الأنجم، وفى الصحراء تحت السماء الصافية ازداد إيمانى بالله، بل لعلنى وجدت الرب هناك.

عرف عمر الشريف الله مرة أخرى، بل يمكننى أن أقول إنه قابل قدرته وجهًا لوجه. 

كان فى المجر، وقتها لم يكن وصل إلى عامه الستين، وكان يدخن ما يقرب من ١٠٠ سيجارة يوميًا، وهو ما استمر معه طوال أربعين عامًا، يقول: لم أكن تعبت أبدًا قبل ذلك، وعندما كنت وحدى فى غرفتى شعرت بتعب كبير لم أجربه من قبل، بحثت عن أحد لأكلمه فلم أجد، كنت على وشك الدخول فى نوبة صعبة للغاية، نظرت إلى السماء، وكلمت ربنا، وقلت له: لا أريد أن أتعبك.. لكن لو أبقيتنى حتى الصباح فلن أشرب سيجارة واحدة بقية عمرى، مر الوقت وبدأت فى التحسن، وقلت لنفسى: الصبح لم يأتِ بعد، قررت أن أشرب سيجارة، لكن عندما أمسكت بها وجدت أن يدى تكهربت تمامًا، ولم أستطع إشعالها، ومن يومها لم أشرب سيجارة أخرى، وأدركت أن الله أنقذنى لأننى لجأت إليه، ولأننى أحب الناس ولا أكذب عليهم ولا أتسبب فى أذى لهم. 

بهذه الروح كان عمر الشريف يتعامل مع دينه الذى يعتنقه، لم يكن يضيق بأحدهم عندما يسأله: هل أنت مسلم؟ 

بل كان يجيب ببساطة: نعم أنا مسلم، وأنا سعيد أننى مسلم، ولى علاقتى الخاصة بربنا، أكلمه وأطلب مساعدته، وأعرف أنه يقف بجانبى ويدلنى على طريقى حتى لا أقع فى الخطأ. 

وكم كان مدهشًا عندما عبّر عن علاقته الخاصة جدًا بالله، عندما قال: أكثر شىء أقوله دائمًا هو الحمد الله، أقولها بصدق وبشكل حقيقى، لأن ربنا «دلعنى خالص».. أعطانى كل شىء، وأنا أستحى من الله جدًا، فهناك فقراء يحمدون الله كثيرًا، يقولون: الحمد لله على كل شىء.. فكيف لا أحمد أنا وقد أخذت منه كل شىء؟ 

لم يلتفت كثيرون إلى هذه القيم التى تربّى عليها عمر الشريف، ولم يلتفتوا إلى ما تراكم عليه من خبرات جعلته يقترب بشكل حقيقى من الله، وربما لهذا السبب انشغل كثيرون بديانته، ولا يزال هناك حتى الآن من يغمزون ويلمزون فى سيرته بأنه كان يهوديًا، رغم أنه لم يكن يهوديًا أبدًا، بل كان مسيحيًا ينتمى لأسرة مسيحية متدينة. 

فى كواليس أحد أعماله الفنية، تحكى فنانة شابة أنها تحدثت معه، وقالت له: يقولون إنك كنت يهوديًا يا أستاذ عمر؟ 

فرد عليها: بلاش تخلف.. أنا كنت مسيحيًا وأسلمت عندما تزوجت فاتن حمامة. 

تحدث عمر الشريف عن مسألة إسلامه ببساطة بعد ذلك. 

يقول فى مذكراته: كانت علاقتى بفاتن فى البداية مجرد صداقة، كان لفاتن زوج وابنة، ثم أصبحت علاقتنا كما لو كانت قصيدة، وفى النهاية قررنا أن نتزوج، وبسماحة وافق زوجها، وفى مصر العقد الذى يجمع بين رجل وامرأة هو مستند من ورقة واحدة، والذى يحمل هذا العقد له كل الحقوق، وزوجها هو الرجل الذى يمتلك هذا العقد والذى يستطيع أن يرغمها على الالتزام، ولكن زوج فاتن كان حقًا رجلًا شهمًا وأنهى كل شىء. 

ويضيف عمر: أصبح من الممكن أن نتزوج، ولكن كانت هناك مشكلة دينية، فأنا مسيحى كاثوليكى وهى مسلمة، وكان مستحيلًا أن تترك دينها، وهكذا لم يكن لدىّ خيار، ذهبت إلى أحد المكاتب الحكومية حيث كان يجلس أحد الشيوخ، وقال لى: إذا أردت أن تكون مسلمًا كرر ورائى: إننى أؤمن بأنه لا إله إلا الله وأن موسى وعيسى ومحمد أنبياء الله، كررت وراءه، وبعد ذلك قال: ضع توقيعك هنا، وأصبحت مسلمًا، كان الأمر سهلًا ورسميًا للغاية. 

كانت هناك مشكلة أخرى، وهى إخبار أسرته، خاصة أبيه الكاثوليكى الملتزم، بأمر إسلامه. 

كان والده قد رفض قبل ذلك أن يتزوج ابنه من فتاة بروتستانتية لاختلافهما فى المذهب، فماذا يفعل وابنه ترك ملّته كلها؟ 

كانت الفتاة التى أحبها عمر اسمها «يان لى مولور» فرنسية، كان يسبقها بيوم واحد، فقد ولدت فى ١١ أبريل ١٩٣٢، تعرف عليها على بحر الإسكندرية وعمرهما خمسة عشر عامًا، واستمرت قصة حبهما ست سنوات، وعندما فاتح والده فى رغبته فى أن يخطبها، وبمجرد معرفته بأنها مختلفة عنه فى المذهب، كاد أن يصاب بأزمة قلبية، رفض وهدد، فاستسلم عمر وترك مَن كان يعتبرها فى حكم خطيبته، لأن تدين والده وقف حائلًا بينهما. 

اختلف الأمر مع فاتن، إنه لم يتزوج من فتاة مختلفة معه مذهبيًا فقط، ولكنه غيّر دينه. 

يقول عمر: لم تكن لدىّ الشجاعة لمواجهة أبى، وكان علىّ أن ألجأ إلى أمى كالعادة، وعندما سمع أبى بخبر إعلان إسلامى وقرارى بالزواج من فاتن أصابته كريزة سكر، لكن وبرغم ذلك، وبعد ثلاثة أيام، تزوجت فاتن واحتفلنا فى بيتها، وحضرت أسرتى، وما زلت أذكر وجوههم الحزينة ليلتها، ولكن عندما كان أبى يغادر الفيلا توقف قليلًا، وقال: من الآن فصاعدًا أريد أن يكون الجميع سعيدًا.. وبارك الزواج.

دخل عمر الشريف الإسلام من بابه الواسع، وقد توقفت عما قاله عن واقعة إشهار إسلامه، فقد طلب منه الشيخ أن يقول إنه يؤمن بأن لا إله إلا الله وبأن موسى وعيسى ومحمد أنبياء الله، وهو ما يعنى أنه فهم أن الأديان كلها واحدة، وأنه فقط يعبر بين مسميات لها، وربما كان هذا سببًا فى فكرته المهمة التى أعلنها من أن الجنة ليست لفئة بعينها، أو لأتباع ديانة معنية، فقد وافق على زواج ابنه طارق من سيدة يهودية، لكنه أصر على أن يكون حفيداه الاثنان مسلمين، وحرص على تعليمهما اللغة العربية والقرآن. 

فى كتابها «عمر الشريف بطل أيامنا الحلوة» الذى اعتمدت فيها مؤلفته ناهد صلاح على الأرشيف الصحفى الكامل لعمر نقلت عنه ما قاله قى حواره لمجلة «تايم الأمريكية» فى العام ٢٠٠٣، فقد صرح بأن لديه حفيدًا يهوديًا وآخر مسلمًا، والاثنان ابنا طارق ابنه من الفنانة فاتن حمامة، وأضاف أنه سوف يترك لهما حرية اختيار الدين، كما أنه لن يجبرهما على التمسك بالدين الإسلامى، حتى وإن كانت رغب حفيده المسلم فى أن يصبح بلا دين. 

جرّ هذا الحوار على عمر الشريف هجومًا كبيرًا، حيث اعتبره ناقدوه أنه يتخلى عن هويته كعربى يدين بالإسلام، واعتبره آخرون ضربًا من الجنون واللا مبالاة لكسب ود اليهود فى أمريكا، وهم أصحاب النفوذ فى عالم السينما. 

علق عمر على هذا الهجوم ببساطة، وقال إنه لن يفرض على حفيديه أى شىء، وإنه سيترك لهما حرية الاختيار. 

وأضاف: كلامى لـ«تايم» كان واضحًا، أنا قلت للصحفى أنا ربيت ابنى على التسامح وأن يحب الناس، ولما سألنى الصحفى عن حفيدى اليهودى، قلت إنه ليس يهوديًا ولكن أمه اليهودية هى التى تربيه، وهذه ليست نهاية العالم، ولا الأزمة التى تجعل مدافع الهجوم تفتح نيرانها علىّ، لأن حفيدى واسمه عمر استطعت أن أجذبه لصفنا، وهو يعرف جيدًا أنه مسلم، وجواز سفره يقول هذا. 

القصة لم تنته عند هذا الحد، فقد أوضح عمر تفاصيل ما جرى. 

قال: فى البداية لم أكن متحمسًا لزواج طارق ابنى من أم الولد، ناقشته كثيرًا، لكنه كان مصممًا، ولم يستمر الزواج أكثر من سنة ونصف السنة، انفصلا لكن بعد ما أنجبا عمر ابنهما، وذهبنا إلى المحاكم وعملنا قضية من أجل الحضانة، لكن بلا نتيجة، ولم يكن أمامى إلا أن أذهب إلى القنصلية فى كندا وأستخرج لعمر «جواز سفر مصرى»، بحيث إنهم لو منعوه عنا أتصرف وأرجعه مصر بأى طريقة، لكن أم الولد كانت لطيفة وكانت تسمح لى بأن أزوره، فبقيت على صلة به، حتى لا يشعر بأنه وحده. 

وفى موقف درامى دال فوجئ عمر الشريف بحفيده يقول له: إحنا وأنتم، فسأله: مين إحنا ومين أنتم؟ فقال لى: إحنا اليهود وأنتم المسلمون، فقال له عمر بهزار: أنت اسمك إيه؟ فقال:

اسمى عمر، فقال له: مينفعش واحد يهودى يبقى اسمه عمر. 

ويضيف عمر: بقينا نهزر فى هذه النقطة، لكن أنا بينى وبين نفسى أدركت إن أنا داخل معركة ولازم أكسبها، وده حصل فعلًا بالحوار، دى كانت الطريقة الصحيحة اللى كسبت بها الولد، مش طريقة الصدام، وإن أصدمه وأقول له «إن اليهود دول ولاد كلب»، لأن ده لو كان حصل كان كرهنى، لكن العكس هو اللى حصل، وخلاص نسى حكاية إحنا وأنتم دى، وبقى مصرى مسلم زيه زى أبوه وجده اللى هو أنا. 

وفى خلاصة لتجربة إنسانية، يقول عمر الشريف ما يمكننا اعتباره درسًا إنسانيًا مهمًا: علمت أحفادى منذ نعومة أظفارهم يكونوا طيبين ومتسامحين، طلبت منهم أن يحبوا الناس جميعًا وألا يكرهوا شخصًا لكونه أبيض أو أسود، أو لكونه مسلمًا أو مسيحيًا أو يهوديًا، وفى الحقيقة قلت لهم إن من حقهم كراهية الأشرار فقط. 

وكان طبيعيًا بعذ ذلك أن تكون لدى عمر رؤية ناضجة جدًا لما يحدث بين أصحاب الديانات المختلفة. 

يقول: حين أرى ما يحدث بين أصحاب الديانات المختلفة، حيث يتقاتلون ويقتل بعضهم بعضًا أشعر بأن هذا شىء مقرف، وبالنسبة لى هو شىء سخيف جدًا، فأنا أؤمن بالله، وأؤمن بالدين، لكن على الإنسان أن يحتفظ بمعتقده لنفسه. 

ويضيف عمر: الشىء غير العادى أن اليهود يؤمنون بأنهم فقط مَن يمكنهم دخول الجنة، والمسيحيون يؤمنون بأنهم فقط من يمكنهم دخول الجنة، والمسلمون أيضًا يؤمنون بأنهم وحدهم من يمكنهم دخول الجنة، وهو لا يستقيم مع إله بهذا العدل الذى أؤمن به، فلا يمكن أن يجعل الله طفلًا يولد لكى يعيش حياة لا تؤهله للجنة. 

لم يكن الدين عند عمر الشريف إذن هو الدين الشعائرى الطقوسى، وإن كان هذا لم يمنعه أن يتعلم الصلاة، ففى العام ١٩٦٢ وعندما كان يعمل فى فيلم «لورنس العرب» الذى شاركه فيه الفنان الكبير جميل راتب، طلب من صديقه جميل أن يعلمه الصلاة، وهو ما حدث بالفعل. 

وحتى عندما عبر عن حبه للشيخ الشعراوى، تحدث من زوايا مختلفة عن الداعية الذى اختلف حوله الناس بقدر ما التفوا. 

يحكى زاهى حواس أنه فى أحد احتفالات عمر الشريف الأخيرة بعيد ميلاده، فوجئ الموجودون بأنه يقول لهم دون مقدمات إنه يحب الشيخ الشعراوى، وقبل أن ينتبهوا إلى المفارقة، ربّع قدميه وبدأ فى تقليد الشيخ، صوتًا وصورة وحركات ولزمات، ويومها اقترح عليه زاهى أن يقوم بدور الشعراوى فى فيلم أو مسلسل، وأبدى الشريف ترحيبه الكبير بذلك، لأنه بالفعل من المعجبين الكبار به. 

أعاد عمر الشريف تقليد الشيخ الشعراوى مرة أخرى، لكن هذه المرة فى برنامج تليفزيونى كان يوثق من خلاله قصة حياته وعرضه التليفزيون المصرى، وزاد على ذلك أن فسر سر هذا الإعجاب، قال: أنا أحب الشيخ الشعراوى جدًا، ولا أفوت له حلقة من حلقات برنامجه عندما أكون فى مصر، لأنه متمكن فى اللغة بدرجة كبيرة، فهو أستاذ لغة عظيم، ولذلك كما أفهم منه تفسير الآيات، فإننى أتعلم منه اللغة العربية وأكون سعيدًا بذلك جدًا. 

ويضيف عمر: الشيخ الشعراوى كان ممثل هايل جدًا، وكانت تعجبنى طريقته التى يشرح بها القرآن، كنت أفهمه كما يفهمه الناس البسطاء، فقد كان يتحدث باللغة الدارجة، يتحدث مثل الفلاحين. 

روج كثيرون ممن أحاطوا بعمر الشريف أنه كان يسخر من الشيخ الشعراوى فى جلساته الخاصة، وأنه يقلده بشكل كاريكاتورى هزلى، لكننى أعتقد أنه كان جادًا فى إعجابه به، فقد كان مبهورًا بقدرة الشيخ الشعراوى التمثيلية وقدرته على أن يصل إلى جمهوره، وهو ما مال إليه حسن يوسف عندما كان يتحدث عن رأى عمر الشريف فى الشعراوى.

كان حسن يوسف قد أدى دور الشيخ الشعراوى فى مسلسله «إمام الدعاة»، وعندما سئل عما قاله الشريف عن الشعراوى، قال إن هذه شهادة للشيخ الشعراوى تأتى من ممثل عالمى، يعرف جيدًا كيف يحكم على القدرات التمثيلية، وهو ما يصب فى صف الشيخ الشعراوى ولا يخصم منه. 

تحدث عمر الشريف كثيرًا، ومن بين كلماته يمكننا أن نضع أيدينا على أى نسق أخلاقى وقيمى كان هذا الرجل الذى ربما لا يتخيل أحد أن لدينا شيئًا يلتزم به فى حياته. 

سأبقى معكم هنا قليلًا مع واحد من حواراته المهمة، أجرته معه الإذاعية الراحلة آمال العمدة، وأعادت نشره فى كتابها «صحبة وأنا معهم» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى العام ٢٠٠٣. 

فى مواطن كثيرة من الحوار يبدو عمر مؤمنًا بشكل حقيقى، مؤمن بالمعنى الإنسانى العام. 

تسأله آمال: هل كانت كفاءتك الفنية هى جواز سفرك للنجاح؟ 

فيقول لها: الحقيقة إننى كنت حسن الحظ جدًا فى بدايتى. 

فتسأله: وهل تؤمن بالحظ فى حياتك؟ 

فيرد عليها: طبعًا أؤمن بالحظ جدًا، وأؤمن بأن كل شىء مكتوب، وأن كل ما يحدث لا بد له أن يحدث. 

فتعود آمال لتسأله: هل أنت إنسان قدرى؟ 

فيقول: جدًا، وكل حياتى أعيشها بهذه الطريقة، ولا أفعل شيئًا يغير الحياة، بل أجعل الحياة هى التى تؤثر فىّ، وغالبًا هذا أسلوب خاطئ. 

لم تترك آمال الخيط، عزفت على نفس اللحن مرة أخرى: أعلم أن كل فنان عالمى يوجد وراءه مخطط لمستقبله الفنى، ألم يكن هناك نوع من التخطيط أو عقلية كانت تخطط لنجاحك الفنى؟ 

فيعود عمر ليؤكد: لم يكن هناك تخطيط، بل تركت كل شىء للقدر، حاولت بقدر إمكانى أن أقوم بأعمال جيدة، ثم تركت الجزء الباقى للحظ والقدر. 

وتسأل آمال عمر: هل كنت مسيّرًا فى حياتك أم مخيرًا؟ 

ويجيب هو: كنت مسيرًا بنسبة مائة بالمائة، فأنا كنت أعمل باستمرار وأسافر كل بلد تبعًا لتصوير الأفلام فيه، وكل فيلم يصور فى مكان معين بلا منزل ولا أحد أعرفه، فأصل لبلد معين، أقيم فيه ثلاثة أو أربعة أشهر، ثم أسافر وأكون قد كونت أصحابًا مع من أعمل معهم، لكن بعد انتهاء تصوير الفيلم تنقطع صلتى بهم، ويختفون من حياتى. 

اعتبرت آمال أن عمر الشريف لم يُجبها على سؤالها، فعادت لتسأله من جديد: لو كنت مخيرًا فى حياتك، فماذا كنت ستختار؟ 

يستسلم عمر فيصبح أكثر وضوحًا: لا يوجد أى شخص مخير فى حياته، لذلك فأنا لا أندم، فما حدث كان لا بد أن يحدث فى الوقت الذى حدث فيه تمامًا، ويمكن لو نفس العروض التى عرضت علىّ قد جاءت بعدها بساعة واحدة لكان كل شىء قد تغير، لكن فى الثانية التى تأتى فيها أنفعل انفعالًا معينًا، وأندفع لتنفيذ هذه المسيرة لكن الإرادة تتغير من ثانية لثانية، أو من ساعة لساعة، فإرادتى الآن مثلًا إرادة معينة، لكن بعد ساعة واحدة قد تكون مختلفة. 

وفى حواره مع الإعلامية اللبنانية جيزيل خورى قال لها: فى كل بلاد العالم نجد أن الفقراء يحقدون على الأغنياء، يعتبرونهم لصوصًا، لكن عندنا يقول الفقير عندما يرى غنيًا: حلال عليه.. ربنا يزيده. 

تستوقفه «جيزيل» وتقول له: هذا فى مصر.. أعتقد أن الوضع فى مصر خاص بدرجة كبيرة؟ 

فيرد عمر: هذا الأمر فى الإسلام، فى الإسلام هذا التفكير، فربنا خلق أغنياء وفقراء، حتى يستطيع الغنى أن يكسب الجنة بقدر ما يعطى الفقير، وهذا فيما أعتقد من أساسيات الدين. 

تمسك جيزيل بنقطة مهمة تواجه بها عمر، تقول له: لكن ما رأيك فى أن هذا الفقر الذى تتحدث عنه هو الذى أوصل العالم العربى إلى التشدد الدينى؟ إلى الإرهاب؟

فيقول لها: قطعًا.. هذا صحيح مائة بالمائة، فالذى يأكل حتى يشبع والذى يعيش سعيدًا وتعيش عائلته بشكل جيد لا يمكن أن يكون إرهابيًا. 

وفى حواره مع بلجاريان البريطانية، قال: أنا أؤمن بكل شىء، ولا أؤمن بشىء، لأن أول شىء تعلمته كان أن الله هو العدالة، لكنى لا أرى عدالة فى هذا العالم. 

ويجمل عمر فلسفته فى الحياة بقوله: بعض الناس شغلهم الشاغل الدنيا من حولهم، أما أنا فلا أنتمى إلى تلك الفئة التى توصف بالالتزام، فجميع النظريات المهمة، والأفكار الكبرى، لا تستهوينى على الإطلاق، بل هى على العكس تفزعنى وترهبنى، فالكثير منها قد أصاب الدنيا بجراح جديدة، بدلًا من أن يشفيها من جراحها السابقة، وهى فى حالات عديدة، قد تكون الشرارة التى تندلع منها نار الخلافات، فخطب المسيح مثلًا ومواعظه كانت تنادى بالحب والخير، لكن جرائم كثيرة ارتكبت من بعدها باسم المحبة، وتحت شعار الخير، وذلك بعد تحريف كلمات المسيح أو التوسع فى تفسيرها.

قادت التجربة الطويلة عمر الشريف إلى أن يبدو على الشاشة كما أصبح فى الحياة، وتجلى ذلك فى تجربتين مهمتين: 

الأولى كانت فيلمه «مسيو إبراهيم وزهور القرآن» الذى تم إنتاجه فى العام ٢٠٠٣. 

كان الفيلم مأخوذًا عن رواية بنفس الاسم للكاتب «إريك إيمانويل شميت» الذى أطلق عليه الفرنسيون «الفيلسوف الشعبى». 

شميت كان مبدعًا فى فهمه لطبيعة الأديان، وهو ما انعكس فى روايته، فهو يجاور شيخًا مسلمًا مع طفل يهودى، وربما تكون دراسته للفلسفة هى التى مكنته من أن يكون صاحب رؤية شاملة، فمن بين ما ينسب إليه أن قال: علمتنى الفلسفة كيف أسبر أغوار النفس البشرية والتحقق من بواطن الأمور، ودفعتنى إلى إدراك الجوهر الحقيقى للأديان، وهو التسامح الذى يمكن من خلالها أن نتعايش ولا نتصادم. 

قام عمر الشريف بدور السيد إبراهيم البقال المسلم المتصوف تركى الأصلى الذى يعيش فى أحياء الأقليات فى باريس، ويلتقى الصبى اليهودى مويس الذى يطلق عليه «مومو» الذى يعيش حياة تعيسة فى ظل انشغال أبيه وغياب أمه، وسرعان ما تتكون علاقة صداقة بين البقال والصبى، يظهر من خلالها مفهوم التسامح بين البشر ليتجاوز بذلك الفروق العمرية والاختلافات فى المعتقدات. 

حصل عمر الشريف على جائزة «سيزار» عن دوره فى هذا الفيلم الذى لم يعتبره فيلمًا دينيًا أو سياسيًا، ولكن كما قال: لقد أحببت فى هذا الفيلم كونه قصة حب، فيلم عن البشر، إنه فيلم عن التسامح، الشىء الوحيد الذى أريده أن يصبح الناس أسعد قليلًا، وأطيب قليلًا عندما يخرجون منه. 

رسالة الفيلم كانت واضحة فى ذهن عمر الشريف. 

قال عنه: بإمكاننا أن نحب بعضنا بعضًا رغم انتمائنا إلى أعراق وأديان مختلفة، أردنا أن نظهر أنه يمكن التحاور بين الأديان، ويمكن توظيف الدين ليس من أجل شن حروب وحسب، إنما من أجل الحب أيضًا، لا يجدر بنا تصنيف الناس حسب ألوان بشرتهم وموطنهم، بل يجب أن نفهم الأشخاص ونجد الجوانب الطيبة فى كل منهم، التسامح يحتاج ما يعززه، كأرضية مناسبة نستطيع التحرك عليها وتمنحنا حق التعبير وحق الاختلاف والتحلى بالقدرة على الاستماع للرأى الآخر، باختصار نحتاج لمساحة حرية تضمن أن يتحقق عليها التسامح الذى نادت به كل الأديان، والإسلام نفسه كان عنوانًا بارزًا للتسامح ولديه تصورات كثيرة لتحقيقه، ومن يتوغل فى الدين ويرفض التعصب ينادى بالحب لا الكراهية، بالحوار لا الصدام، بالرفق لا العنف، بالرحمة لا القسوة، بالسلام لا الحرب. 

التجربة الثانية كانت فى فيلمه «القديس بطرس» الذى تم إنتاجه عام ٢٠٠٥، وقام فيه بدور القديس بطرس أحد تلاميذ السيد المسيح، وتم التركيز فيه على علاقته بالمسيح ودوره فى نشر المسيحية فى العالم، وهو الفيلم الذى انتهى بمشهد صلب القديس بطرس. 

أثار الفيلم ردود أفعال متباينة، فقد اعترضت عليه الجماعات المتطرفة وعلى رأسها تنظيم القاعدة، إذ كيف يقدم ممثل مسلم دورًا يقول من خلاله إن المسيح هو الله. 

الجدل الأكبر أثاره الفيلم فى مصر بعد أن قررت الكنيسة الكاثوليكية عرضه عام ٢٠٠٨ تزامنًا مع قرار الشركة المنتجة بعرضه فى دور السينما بمصر. 

وقتها قال الأنبا مرقس، رئيس لجنة الإعلام فى الكنيسة الأرثوذكسية، إن الكنيسة القبطية لن تسمح بعرض الفيلم إلا بعد مشاهدته ومعرفة محتواه، فالشركة المنتجة تتبع المذهب الكاثوليكى، الذى يعتقد أن بطرس هو الرسول رئيس التلاميذ، وهو ما ترفضه الكنيسة القبطية شكلًا وموضوعًا، والتى لن تسمح بعرض الفيلم فى حالة إشارته إلى هذا الموضوع.

فى مواجهة ما قاله الأنبا مرقس، أكد الأب رفيق جريش المتحدث باسم الكنيسة الكاثوليكية، أن الفيلم تم عرضه فى بعض الكنائس الكاثوليكية، لأنه فيلم عالمى ومدته ٣ ساعات و١٧ دقيقة، ويتناول حياة القديس بطرس، كرئيس لتلاميذ المسيح، وكيف عاش مع المسيح، وعمله على نشر المسيحية فى العالم أجمع، وموته فى المشهد الأخير مصلوبًا، بطريقة عكسية حتى لا يتساوى فى الصلب مع المسيح.

علق عمر الشريف على الجدل الذى أثاره «القديس بطرس» بقوله: أنا ممثل، وهذا شىء يسعدنى جدًا، ولا يحلم به أى سياسى، أقوم بتمثيل أى دور، شريرًا كان أو طيبًا، غضبت القاعدة منى جدًا، وقالوا كيف تمثل فيلمًا تقول فيه إن عيسى ابن الله، فقلت للجميع: أمثل أدوارًا كثيرة وهذا لا يعنى أننى أؤمن بها، كله تمثيل يحكمه نص، هذه مهنتى التى آكل منها عيش، ولا أتدخل فى عقائد الآخرين، القرآن على سبيل المثال كلام عظيم جدًا، ومعجزة بلاغية، ولا يمكن أن يكون من تأليف النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، أبدًا، هذه عقيدتنا، ولكن هل يؤمن غير المسلمين بذلك؟، بالطبع لا، أنتونى كوين ظهر فى فيلم «عمر المختار» وهو يمجد القرآن ويقرأه، فهل يلومه المسيحيون على ذلك؟

هذه الخبرة الحياتية العريضة جعلت لعمر الشريف آراء وأفكار جديرة بالتأمل، وهى الأفكار التى عرضها بجرأة فى حواراته التليفزيونية. 

منها ما قاله مثلًا عن إيمان الأغنياء وإيمان الفقراء، وكيف أن الدين وسيلة للسيطرة على الفقراء. 

يقول: الفقراء لديهم إيمان أكثر بكثير من الناس الأكثر مالًا وتعليمًا، الفقراء لديهم تعصبًا أكثر ربما لأنهم لا يملكون أملًا فى الحياة بقدر ما فى الجنة، ففى الإسلام مثلًا على سبيل المثال يتحمل الناس العيش ٥٠ أو ٦٠ سنة فى فقر مدقع، لأن لديهم أملًا فى الذهاب إلى الجنة، وعندما تهاجم هذا الأمل الذى لديهم فى الحياة الثانية التى ينتظرونها، يكون الأمر صعبًا جدًا عليهم. 

ويضيف عمر: طبعا يتم التلاعب بالفقراء من قبل رجال الدين والقادة السياسيين، والسؤال: لماذا يسهل التلاعب بالفقراء من خلال الدين؟ والإجابة: لأنهم لا يقرأون الكتاب الذى بين أيديهم، ولا يعرفون شيئًا عنه، ولو قرأوا فلن يخدعهم أحد، فأنت لا تستطيع أن تتلاعب بمن لديهم تعليم أو عندهم مال. 

وعن المال يقول عمر فى حوار مطول أجراه معه طارق حبيب: «أنا بيتهيألى إنهم بيدفعوا لى فلوس على الفاضى، أنا طول عمرى مقتنع إن ليه الواحد يكسب الفلوس اللى أنا باكسبها دى كلها، عشان باحفظ كلمتين وأروح أقولهم قدام الكاميرا، بيتهيألى إن الفلوس دى حرام، لما بشوف الناس اللى حواليا، اللى تعبان واللى عبقرى واللى ميت من الجوع، أقول يعنى أنا عشان باعمل بلياتشو قدام الكاميرا آخد الفلوس دى كلها، أنا مبحبش أخلى الفلوس فى إيدى، وعندى معتقد إن الفلوس دى مش رزقى أنا، دى رزق الناس اللى حواليا، اللى بيستنفعوا منى، وأنا لما بادى الفلوس دى للناس اللى هى رزقهم ربنا بيبعت لى أنا وهما فلوس تانى من خلالى». 

فى النهاية لقد عاش عمر الشريف حياته كما أراد، وكم كان رائعًا عندما لخص لنا فلسفته فى الحياة بقوله: فلسفتى فى الحياة هى أننى أعيش كل دقيقة بكل قوة كما لو كانت آخر دقيقة فى حياتى، ولا أفكر فيما حدث قبلها ولا ما سيحدث بعدها، فأنا أفكر فيما أفعله فى هذه اللحظة، أما أسوأ شىء، فأنا لا أعرف أنه بالفعل أسوأ شىء، ولكن من أسوأ الأشياء التى يمكن أن تحدث هو أن تموت ويكون آخر شىء قمت به أو آخر ليلة قضيتها قبل الموت كئيبة ومملة.

من فيلم «مسيو إبراهيم»