الأربعاء 08 أكتوبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

السادات.. خالد الذكر وطيبه

افتتاحية العدد الثالث
افتتاحية العدد الثالث والتسعين

إذا أردت دليلًا على اعتلال النخبة السياسية والثقافية فى مصر، فليس عليك إلا أن تراجع الصورة التى رسمها عدد كبير من رموز هذه النخبة للرئيس السادات.

لسنوات طويلة وأنا أبحث خلف العقدة التى حكمت العلاقة التى تربط بين السادات وأسماء كثيرة من السياسيين والكتاب الذين أسهموا بكتاباتهم وأحاديثهم وتشنيعاتهم فى رسم صورة مشوهة للرئيس الذى هو بالفعل واحد من أكبر صناع مجد مصر الحقيقى. 

كان من السهل علىّ الاستسلام إلى توصيف هذه العقدة بأنها «نفسية»، المحرك الأساسى لها هو «الانتقام»، فما فعلوه لا يمكن ترجمته إلا بأنه كان ولا يزال تصفية حسابات. 

كنت أجلس مع صديق ناصرى الهوى فى أيام الجامعة الرائقة الصافية، نستمع لألبومات عبدالحليم حافظ الوطنية التى أنتجتها شركة صوت القاهرة للصوتيات والمرئيات، وبينما عبدالحليم يتجلى برائعته «عاش»، التى وثق فيها بالأغنية القرار الأهم فى تاريخنا المعاصر، وهو قرار عبور قناة السويس، ويردد صديقى مع عبدالحليم: عاش اللى قال الكلمة بحكمة وفى الوقت المناسب.. عاش اللى قال للرجال عدوا القنال، فجأة توقف، وقال لى: شايف عبدالحليم بيغنى بصدق لعبدالناصر إزاى؟ 

قلت له ساخرًا: عبدالناصر مين اللى عبدالحليم بيغنى له.. السادات هو اللى قال للرجال عدوا القنال؟ 

الصفحة الاولى من العدد الثالث والتسعين لحرف

أسكت الصديق الناصرى صوت عبدالحليم بضغطة عصبية على مفتاح الكاسيت وهو يقول: سادات إيه وزفت إيه؟ عبدالناصر هو من وضع الخطة.. السادات جاء فوجد كل شىء جاهزًا.. لم يفعل شيئًا.. عبدالناصر هو من فعل كل شىء.. ثم إن عبدالحليم لا يمكن أن يغنى بكل هذا الصدق إلا لجمال عبدالناصر وحده، فهل معقول أن يغنى يا جمال يا مثال الوطنية.. يأتى عليه اليوم ويغنى عاش للسادات؟.. السادات؟ 

أنهيت الحوار العبثى بينى وبين صديقى على طريقتى. 

قلت له: إنت صح.. أصحاب العقول فى نعيم. 

ظلت هذه الواقعة تلازمنى، أضعها أمامى وأنا أرسم للرئيس السادات صورته الخاصة عندى من خلال الكتب والدراسات التى صدرت له أو عنه، سواء فى حياته أو بعد استشهاده. 

هناك فريقان أسهما فى تشكيل صورة السادات فى الذهنية العربية. 

فريق يحبه ويؤيده، يكتب عنه بعاطفة يمكنك أن تشعر بها من السطور الأولى لكتبهم، يأخذون من ثنائية الحرب والسلام مدخلًا مهمًا للحديث عن رجل أعاد لمصر وللأمة العربية كلها كرامتها، تغزلوا فى عبقريته، ودافعوا عنه فى مواجهة من قرروا تشويه صورته والإساءة إليه. 

يمكننى أن أضع أمامكم عشرات الكتب التى انحازت للرئيس السادات، ويمكنكم أن تعودوا إليها، فهى متاحة ومتوافرة بصيغيتها الورقية والإلكترونية. 

منها مثلًا: السادات الحقيقة والأسطورة لموسى صبرى، ومن أوراق السادات لأنيس منصور، والسادات كما أراه فى كلمات لأمين سلامة، والسادات فلاحًا لمحمد رشاد، والسادات المبادئ والمواقف لجعفر محمد نميرى، والسادات الزعيم المفترى عليه، والسادات بلا رتوش لإسماعيل عبدالتواب، وأنور السادات رائدًا للتأصيل الفكرى لنبيل راغب، والمسيرة الطويلة.. مع السادات على طريق النضال لصبرى أبوالمجد، والسادات الذى عرفته لعبدالستار الطويلة، وعرفت السادات لمحمود جامع، والسادات من القرية إلى الثورة الذى نشرته دار الهلال. 

الرئيس السادات يزور الجنوب على الجبهة

الفريق الثانى لم يكن مناهضًا للسادات فقط، ولكنه كان معاديًا له بشكل كامل. 

يأتى على رأس هذا الفريق محمد حسنين هيكل ليس بكتابه «خريف الغضب» فقط، ولكن من خلال مجمل ما كتبه وقاله عن السادات عبر عقود، ويوسف إدريس بكتابه المريب «البحث عن السادات». 

ويمكن أن نضيف إلى هذه الكتب أيضًا: مدرسة السادات السياسية واليسار المصرى للطفى الخولى، وديكتاتورية السادات لجمال سليم، والسادات قبل الرئاسة لأحمد طلعت، وحقيقة السادات لعبدالله إمام، والسادات.. هل قتل الليثى ناصف؟ لفاروق فهمى.

فى كتابات الفريق الثانى لا نجد حسنة واحدة يمكن أن يكون الرئيس السادات قام بها، بل يمكننا أن نجده شيطانًا رجيمًا مطرودًا من رحمة الله، ومطاردًا من عباده الذين لم تكن تخلو نواياهم من السوء. 

على هامش الفريقين، ظهرت كتب حاولت أن توازن بين المدح والقدح، منها على سبيل المثال: «محاوراتى مع السادات لأحمد بهاء الدين، وزيارة جديدة للسادات لرشاد كامل، والذين غيروا القرن العشرين لصلاح منتصر، والتحليل النفسى للسادات لسمير عبده، ولعبة الأمم والسادات لمحمد الطويل. 

يقولون إذا تعددت الآراء فى رجل واحد تاهت حقيقته. 

وعندما نستعرض ما كتب عن الرئيس السادات سنكتشف أننا أمام ألف رأى فيه، ولذلك لم تضع حقيقته فقط، ولكنها تشوهت وتهشمت وتبددت، لكن ولأن الأصوات المعارضة له والناقدة لتجربته والمنقضة على منجزه السياسى والعسكرى كانت أعلى، فقد أسهمت بالجزء الأكبر فى تشكيل الصورة التى استقرت فى أذهان الأجيال المتعاقبة عنه. 

الرئيس السادات

بين هذا الركام الهائل من الكتب توقفت طويلًا عند كتاب أصدره الدكتور سعد الدين إبراهيم لأول مرة فى العام ١٩٩٧ عن دار الشروق.. وكان عنوانه «رد الاعتبار للسادات». 

فى هذا الكتاب قام سعد الدين إبراهيم بإعادة تقييم للحقبة الساداتية وتوجهاتها وسياستها، واعترف بأنه كان من أشد المعارضين للرئيس السادات فى حياته، لكن ما تكشف له واطلع عليه ووصل إليه جعل من المحتم عليه كمفكر موضوعى أن يرد الاعتبار للرجل. 

المفارقة أن هذا الكتاب ورغم أهميته الكبيرة، وموضوعيته المنهجية فإنه تم إخفاؤه تمامًا، فلا يأتى عليه أحد بذكر، والسبب فى اعتقادى ليس أن كاتبه هو سعد الدين إبراهيم بكل ما يمثله فى حياتنا السياسية والفكرية من ريبة وتحولات، ولكنه فقط لأنه كان يسعى إلى إعادة الاعتبار للسادات. 

لا أخفى انحيازى للرئيس السادات، أدركت مبكرًا أن الرجل نمط مختلف بين من قادوا مصر فى تاريخها الحديث. 

لدىّ قناعة راسخة أن هناك نمطًا من الحكام يميل إلى ما سيكتبه التاريخ عنه، وهو نزولًا على هذه القناعة ينافق الجماهير ويسترضيها، حتى لو كان على حساب واقع البلاد ومستقبلها، وهؤلاء القادة يظل الشعب يصفق لهم، حتى لو كانوا سببًا واضحًا ومباشرًا لمعاناته، وعلى رأس هؤلاء كان الرئيس جمال عبدالناصر الذى حكم بمبدأ منح الشعب ما يريده لا ما يحتاجه. 

هذا المبدأ جعلنا نغفر لعبدالناصر كل خطاياه مهما عظمت، كل من أساء لهم سامحوه، ورغم أن كثيرًا مما نعانى منه الآن يعود إلى ما فعله بنا، وإلى النكسة التى لا تزال تمثل شرخًا فى الذاكرة الوطنية، فإننا سامحناه، والتمسنا له الأعذار وبررنا له الأخطاء، وحولناه إلى أسطورة لا تمس، واعتبرناه جزءًا من حلمنا وجرحنا كما يذهب شاعرنا المبدع إبراهيم عبدالفتاح الذى كتب مرثية مفعمة بالعاطفة لناصر، وغناها وائل جسار فى مقدمة مسلسل ناصر الذى تم إنتاجه فى العام ٢٠٠٨ أى بعد وفاة جمال بما يقرب من ٤٨ عامًا. 

فيما يشبه المريد العاشق يقول إبراهيم عن عبدالناصر: يا كلمة الحق يا روحنا وملامحنا/ فسرنا بيك حلمنا وعرفنا مين إحنا/ ومشينا ومسيرنا هنعدى يا ناصرنا/ وفى يوم نطول شمسنا تنور بصايرنا، إنت اللى من حلمنا وجرحنا يا جمال. 

لهذه الدرجة بالغنا فى رسم صورة لجمال عبدالناصر، ولكم أن تتصوروا وقع كلمات مثل هذه على أجيال لم تعاصره، ولم تقرأ عنه، ولم تتعرف على تجربته بما فيها من آلام وجراح وهزائم. 

لست من أنصار إهالة التراب على جمال عبدالناصر، ولكننى أقف منبهرًا من قدرة هؤلاء الذين يُؤلهون عبدالناصر رغم خطاياه، ويهشمون كل شىء يرتبط بالسادات رغم كل نجاحاته وإنجازاته وانتصاراته حربًا وسلامًا. 

كان السادات من بين ضمن حكام النمط الثانى، لم يكن يهتم كثيرًا بما يمكن أن يقوله التاريخ عنه، كان يفعل ما يرى أنه صحيح بصرف النظر عن العواقب أو التبعات، وربما لهذا تجرأوا عليه. 

لقد اغتال هيكل السادات مرتين. 

الرئيس السادات على الجبهة

المرة الأولى بكتابه خريف الغضب الذى أعتبره من أسوأ الكتب السياسية على الإطلاق، فنحن لسنا أمام كتاب، كان أقرب إلى الخنجر الذى طعن به هيكل السادات فى قلبه، جاء على كل ما يمكن أن يتميز به، وحوله إلى رماد، لم يكن هيكل موضوعيًا ولا إنسانًا حتى، قرر أن ينتقم لنفسه مرة من إبعاد السادات له من عرشه فى الأهرام فى العام ١٩٧٤، ومرة ثانية بسبب حبسه له فى العام ١٩٨١ ضمن حبسة سبتمبر الشهيرة. 

والمرة الثانية كانت فى كتابه «أكتوبر ٧٣.. السلاح والسياسة». 

من بين العبارات التى صكها هيكل وصارت مثلًا بعد ذلك «أعتقد أن السياسة خذلت السلاح ولا أقول خانته»، وهى العبارة التى أراد بها هيكل نسف جهود السادات فى صنع السلام، لكنه دون أن يدرى- أو ربما كان يدرى- نسف ما فعله السادات من انتصار فى حرب أكتوبر. 

فى محاولة للتشويش على ما أراده هيكل قرر أن المعلومات فى كتابه أكثر من الآراء، والوقائع أوسع من التحليل. 

ويسوق نظريته على أساس خدع به قراءه وغرر بهم لعقود طويلة عندما يقول: إننى أنتمى إلى مدرسة تعتقد أن صميم حرية الصحافة هو ضمان تدفق المعلومات، فليست هناك قيمة لرأى إلا إذا كانت قاعدته من المعلومات والأخبار والخلفيات واسعة وكاملة وصحيحة إلى أقصى حد، وفى هذه المدرسة فإن المعلومات والأخبار والخلفيات هى البناء التحتى الذى يمكن أن تقوم عليه حرية الرأى من اختلاف الاجتهادات. 

النظرية صحيحة بالطبع، لا شك فى ذلك على الإطلاق، لكن هل كان هيكل ينفذها بحرفية وموضوعية، أم أنه كان يتدخل فى طريقة عرض المعلومات وتنظيمها وترتيبها، بحيث يكون ما يفعله رأيًا واضحًا، فنحن نقول رأينا أحيانًا من خلال عرضنا للمعلومات واستعراضها؟ 

حدد هيكل السادات كهدف له، لم يُخف ذلك أو يُواريه. 

الرئيس السادات

قال فى مقدمة كتابه: إن روايتى حول حرب أكتوبر تدور أساسًا حول الرئيس أنور السادات، وكان ذلك أسلوبًا لا بديل عنه، ذلك أن الرجل أدار مسئولياته من موقع «كبير العائلة» على حد تعبيره، وكان فى ذلك صادقًا مع نفسه ومخلصًا. 

هنا أول الغمز واللمز، لكن هيكل لا يتوقف، يقول فى محاولة لتبرئة نفسه مما هو مقدم عليه: إن القصة تجد لنفسها تلقائيًا بطلًا تدور حوله، كما كانت الحوادث نفسها تدور، لكن الحرج أن هذا وضعنى أمام مشكلة أو معضلة مقابلة، أن دور الشاهد الذى كنته فى القصة وحوادثها، فرض علىّ محظورًا حاولت بكل جهدى تجنبه فى كتب سابقة كنت فيها شاهدًا أيضًا. 

على لحن هيكل عزف كل مريديه، وتطوع بالعزف من حاولوا وصلًا له، فمهر علاقتك الجيدة بهيكل أن تكون معاديًا للسادات وناقدًا له، وهكذا ضاعت على يد الكاتب الكبير قيمة رئيس كانت خطيئته فيما يبدو أنه انتصر. 

يحاول بعض محبى السادات تفسير ما حدث له فى التاريخ من تشويه واغتيال معنوى لا يزال يتواصل حتى الآن، بأن الأمر يخضع لأن السادات كان سابقًا لزمنه، ويستندون إلى واحدة من مقولات الفيلسوف اليونانى الكبير سقراط «ويل لمن سبق عقله زمنه»، فالذين عاصروا السادات لم يكونوا على قدر ذكائه، ولذلك هاجموه، لكن من جاءوا بعده أقروا له بعبقريته، فهم الآن يسعون إلى أن يحصلوا على ما حصل عليه هو بالحرب والسلام. 

هذه حقيقة إنكارها يشككنى فى عقل من يفعل ذلك. 

الصفحة الثالثة من العدد الثالث والتسعين لحرف

بعد أن قبلت حركة حماس خطة إنهاء الحرب فى غزة، كتب حمدين صباحى على حسابه بالفيسبوك: المقاومة.. بسالة القتال وذكاء المفاوض. 

لا يمكننى المقارنة بين ما جرى فى حرب مصر مع إسرائيل وما حدث فى غزة منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ وحتى الآن، ولا يمكننى أن أنظر إلى المفاوضات التى تجرى الآن لإنهاء هذه المهزلة السياسية والإنسانية وما جرى فى مشوار المفاوضات الذى تم بين مصر وإسرائيل، لكنى توقفت أمام ما كتبه حمدين، ففى الوقت الذى يرى أن ما جرى فى غزة بعد طوفان الأقصى بسالة فى القتال، ويرى الاستجابة للتفاوض ذكاءً، فإنه لا يزال يأخذ موقفًا من السادات لأنه قبل السلام مع إسرائيل. 

لقد جرت محاولات كثيرة لرد الاعتبار للرئيس السادات من كتاب ومفكرين وسياسيين، ومازلت أذكر ما قاله الرئيس السيسى فى مناسبات عديدة عنه، لكن ما أراه الآن أن التاريخ نفسه هو من يعيد الاعتبار للرجل الذى حارب وانتصر، وتفاوض واسترد الأرض كاملة، وأثبت للجميع أنه كان صاحب فكر عابر للعقود والأجيال، فما قاله السادات وفعله منذ أكثر من نصف قرن، يحاولون أن يأتوا بمثله الآن.. لكنهم لا يستطيعون. 

يستحق السادات أن نمنحه ولو بعضًا من حقه. 

لا أتحدث عن الأجيال التى سبقت، فهى محملة بغبار ما كتبه هيكل ورفاقه. 

لكننى أتحدث عن الأجيال الجديدة التى لم تتلوث بعد. 

هؤلاء من حقهم أن يعرفوا أن لدينا قائدًا عظيمًا، هو بالفعل خالد الذكر وطيبه، فما قدمه لمصر يؤهله لذلك.. شاء من شاء وأبى من أبى.