لا فصحى.. ولا عامية.. الأزمة الحقيقية التى كشفها سلوم حداد

- الفصحى عندنا بعافية ولم نكن فى حاجة لحديث سلوم حداد حتى ننتبه لذلك
كان الفنان السورى الكبير سلوم حداد يتحدث فى ندوة «صورة الشاعر فى الدراما العربية» بعفوية عن آرائه وأفكاره.
قال كلامًا إيجابيًا كثيرًا عن الدراما المصرية، أبدى سعادته بتجربته فى مسلسل «أبوالعلا ٩٠»، لأنه وجد تقاليد فنية مصرية ليست موجودة فى سوريا حتى الآن، وأشاد بالتقليد الفنى فى مصر الذى يتجاوز عمره ١٢٠ عامًا، بينما لم يتم التمكين لهذا التقليد فى سوريا حتى الآن، وهو اعتراف لا يرقى إليه الشك بريادتنا وسيادتنا.
وقال سلوم ساخرًا من أحوال الدراما السورية: فى الفترة الأخيرة ممكن يحطولك كرفان لـ٤ أو ٥ ممثلين يشتركوا فيه، لكن كنا حتى وقت قريب نغير ملابسنا فى الميكروباص، وندخل على مدخل المبانى أو يجهزوا لنا الماكياج فى الشارع.
روح النقد والسخرية كانت بادية فى حديث حداد إذًا، لكنه عندما انتقد ما يراه عيبًا فى الدراما المصرية قامت قيامتنا، وأشهرنا أسلحتنا فى وجهه حتى نُخرسه تمامًا.
سلوم أشار إلى أن هناك قلة من الممثلين المصريين يُجيدون اللغة الفصحى عندما ينطقون «الجيم»، منهم عبدالله غيث الله يرحمه، ونور الشريف الله يرحمه، ثم قلد ساخرًا طريقة نطق الممثلين المصريين لعبارة: وماذا جئت فى هذا الوقت؟ وعلق قائلًا: يا أخى لا يستقيم هذا.
كان يمكننا أن نتعامل مع ما قاله حداد على أنه مجرد رأى، فنان كبير له تاريخ محترم ومقدر فى الدراما العربية يقول رأيه، يفصح عن ملاحظة يعتقد أنها صحيحة، لا يصدر حكمًا نهائيًا، مجرد وجهة نظر قابلة لأن تكون صحيحة، أو تكون خاطئة، فكلامه ليس قرآنًا، ولن يترتب على ما يقوله شىء، لكن رد الفعل عليه والسخرية منه وانتقاده الذى وصل إلى حد المعايرة الصريحة والمكشوفة يكشف عن أن لدينا أزمة بالفعل.. لو لم تكن لدينا أزمة لما غضبنا بهذا الشكل، فالمأزومون وحدهم مَن يغضبون.
دَعك من أزمة أننا أصبحنا جميعًا نضيق بالرأى الآخر، ونفزع من أى اختلاف معنا، فقد أصبحت هذه سمة عامة فى المجتمع المصرى، وربما فى العالم كله، فلا أحد يطيق أحدًا، ولا أحد يرحب بأن يختلف معه الآخرون، فإما أن تقول ما أراه وتثنى على ما أفعله، وإلا فأنت خصم، لا بد أن أرد عليك وأمزق ملابسك وبلغتنا الدارجة «نطلعك مسرح»، ولا أستثنى منا أحدًا، فجميعنا يفعل ذلك.
لكن الأزمة الحقيقية هى أننا أصبحنا لا نتوقف بعقلانية أو تأمل أمام ما يقال، وهل فيه منطق أم لا؟، فسلوم لم يعمم كما رأى البعض، ولم يتهم الممثلين المصريين جميعًا بأنهم غير قادرين على التحدث باللغة الفصحى، قال الرجل رأيه، وكان يمكن أن ينتهى الأمر باعتباره تنبيهًا يمكن أن نأخذ به، أو نتركه فى حاله، فقد عبر عن وجهة نظره، أليس من حق كل منا أن يعبر عما يراه صحيحًا؟
اضطر سلوم لأن يقدم اعتذارًا عن كلامه ورأيه ووجهة نظره بعد الحملة التى واجهها من بعض الممثلين المصريين، وهو الاعتذار الذى قبله الدكتور أشرف زكى نقيب الممثلين، وصرح بأنه قبل الاعتذار وعفا الله عما سلف، وردد بيت الشعر الذى يقول: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا/ أبشر بطول سلامة يا مربع، وهو بيت يحمل سخرية مبطنة مما أقدم عليه سلوم، والمعنى فى بطن الشاعر وفى عقل الدكتور النقيب.
لكن بعيدًا عن الكلام والاعتذار أعتقد أننا نحتاج إلى وقفة مع النفس.
وقفة تقول أولًا إننا لسنا بهذا السوء، فقد حضرت مؤخرًا العرض المسرحى «الملك لير» الذى يقدمه الفنان الكبير يحيى الفخرانى على خشبة المسرح القومى، ومعه مجموعة رائعة من الشباب يتحدثون الفصحى بإتقان شديد، وهو ما يشير إلى أنه لدينا حرص شديد على إتقان اللغة التى نقدم بها أعمالنا المسرحية، ولدينا مئات الفنانين ممن يملكون ناصية اللغة.
لكن هذا لا ينفى بالطبع أن فى كلام سلوم حداد ما يمكن أن نعتبره صحيحًا، وإذا راجعنا أعمالنا الدينية والتاريخية التى شاهدناها خلال السنوات الأخيرة سنتأكد من ذلك.
عندما عُرض مسلسل «رسالة الإمام» ثارت أزمة اللغة فى المسلسل، ووقتها قال الكاتب والسيناريست محمد هشام عبية مؤلف المسلسل فى تصريحات صحفية إن استخدام اللغة العامية فى الحوار بين الأبطال- رغم أنها لم تكن موجودة بالفعل فى فترة الإمام الشافعى- إلا أن استخدامها جاء بهدف سهولة التلقى عند الجمهور.
وأضاف عبية أن اللغة المستخدمة وقت الإمام الشافعى كانت اللغة القبطية ثم دخلت اللغة العربية الفصحى، ومنهما خرجت اللغة العامية تدريجيًا، لكن صناع العمل قرروا استخدام العامية بدلًا من القبطية لسهولة التلقى.
الجدل نفسه لاحق مسلسل «الحشاشين» عندما استخدم العامية فى الحوار بين الأبطال، وكان لدى مخرج المسلسل وقتها بيتر ميمى ما برر به قراره.
كتب على حسابه على الفيسبوك: أحداث المسلسل بين أتراك وفرس، وعندما قدمه الأتراك عُرض باللغة التركية، وهناك نسخة أخرى بالإنجليزية خرجت من أمريكا، لذا تم استخدام العامية فى مسلسل الحشاشين باعتباره نسخة درامية مصرية.
بيتر زاد فى تبريره أن المسلسل من وحى التاريخ وهذا مشار إليه على التتر، فهو ليس وثيقة تاريخية، لكنه دراما تاريخية، وقد حاولنا عمل خيال تصويرى لفترة من الفترات فى شكل درامى، لكن فيما يخص الديكور والملابس اعتمدنا على مراجع كثيرة ونادرة لصناعة عالم جديد لا يشبه أى عالم آخر فى الأفلام والمسلسلات العالمية.
وفى فيلم «أهل الكهف» كانت العامية المصرية حاضرة، وهو ما برره مخرج الفيلم عمرو عرفة فى رده على أحد منتقدى غياب اللغة الفصحى عن الفيلم.
كتب صاحب الانتقاد موجهًا كلامه لعمرو قائلًا: مع كامل احترامى لحضرتك، وأنت من الناس اللى لسه بتعمل فن جميل وسط التفاهة اللى عايشين فيها، إنما عمل زى ده كان لا بد إنه يتعمل باللغة العربية الفصحى، علشان يزداد قيمة ووقارًا، ما دام عملًا تاريخيًا يبقى باللغة العربية الفصحى، ولهذا أبدع السوريون فى أعمالهم التاريخية بكل أمانة.
رد عمرو عرفة بغضب: الفن ما فيهوش لا بد، الفيلم ليس عامية حديثة أو ركيكة، سميها عامية فصيحة، حتى تصل رسالتى إلى كل الشباب، وهم أهم شريحة تدخل السينمات.
بالنسبة لى عندما نلجأ إلى التبرير ونجتهد فى التفسير، فإننا بذلك نخفى عيبًا ما، نحاول أن نصنع منطقًا خاصًا بنا نُدارى به نقصًا كان يمكننا أن نتفاداه ونتجاوزه، ومشكلتى فى هذه التبريرات أنها تكاد تكون بلا أى منطق، لكن هذه قضية أخرى.
يمكننا أن نقبل تبريرات صناع هذه الأعمال، وبنفس الدرجة لا بد أن نقبل منطق من انتقدوا وطالبوا بأن تكون هذه الأعمال باللغة الفصحى، فالكلام عن سهولة التلقى والوصول إلى الشباب باعتبارهم الشريحة الأكبر التى تدخل السينما نفسه فيه استسهال كبير، فيمكننا أن نجتهد فى إيصال الرسالة إلى الشباب وأن نعلمهم اللغة العربية الفصحى فى آن واحد.. وساعتها نفوز بأجر ممن اجتهد وأصاب.
لا أنفى عن الممثلين المصريين- ولدينا طاقات هائلة وكفاءات ممتازة- إتقانهم لأداء أعمالهم بالفصحى، ولكن يبدو أن هناك حالة من الاستسهال أصبحت هى السمة الغالبة علينا جميعًا فيما نقوم به من أعمال هنا فى مصر، وكان طبيعيًا أن يعرضنا هذا لانتقاد سلوم حداد، الذى أراه صحيحًا فى جانب كبير منه، وما كان يجب التعامل معه بكل هذه القسوة.
الاستسهال ليس فقط فى استخدامنا للفصحى فى أعمالنا التاريخية، ولكنه أيضًا فى الأعمال التاريخية التى تأتى العامية طبيعية فيها.
فعندما قدم أحمد أمين مسلسله «مذكرات نشال» وأحداثه تدور فى العشرينيات من القرن العشرين، لم يهتم بإتقان العامية التى كان يستخدمها المصريون فى هذه الفترة، فجاء المسلسل وكأنه مجموعة اسكتشات فى برنامجه البلاتوه، رغم أن هناك أعمالًا أخرى دارت أحداثها فى نفس الفترة تقريبًا مثل مسلسل «عمر أفندى» وفيلم «كيرة والجن» وحرص صناعها على أن يعيش المشاهد فى هذه الفترات ليس على مستوى الديكور والملابس فقط، ولكن على مستوى اللهجة والكلمات والتعبيرات التى كان المصريون يستخدمونها وقتها.
لدينا أزمة، علينا أن نعترف بذلك، وحتى نكون جادين فى مناقشتها، فلا بد أن نقول إن عددًا من نجوم الصف الأول- هنا لا نعمم حتى لا يغضب أحد- لا يجيدون الحديث باللغة الفصحى كما ينبغى، وقد يكون هذا سببًا من أسباب اللجوء إلى العامية، وهو ما لا نجده فى نجوم الصفين الثانى والثالث بالمناسبة، فمعظمهم يجيدون الحديث بالفصحى ويتقنونها إتقانًا لا شك فيه، لكن يبدو أن صناع الدراما ونزولًا على رغبات النجوم الكبار يلجأون إلى العامية، لأنه ليس معقولًا أن يظهر نجم العمل وهو لا يستطيع الحديث بالفصحى كما ينبغى.. بينما يفعل ذلك الآخرون من حوله.
كان ما قاله سلوم حداد يستدعى فيما أعتقد أن ننظر إلى أنفسنا، فإذا وجدنا فيها خللًا نسارع إلى إصلاحه، فذلك ليس عيبًا على الإطلاق، لكن العيب أن ننصب له محاكمة، نهاجمه ونسخر منه، فلا يجد أمامه إلا الاعتذار، وإن كان ما حدث ليس غريبًا على مجالنا العام الذى يعانى من أزمة ثقافية وفكرية ونفسية لم تعد خافية على أحد.
سأكون صريحًا أكثر معكم، فليست الفصحى وحدها التى تواجه أزمة، فالعامية المصرية تواجه أزمة أعتقد أنها أخطر.
لقد ظلت العامية المصرية لعقود طويلة مصدرًا أساسيًا من مصادر المعرفة والثقافة لدى أبناء الشعوب العربية، فبفضل المسلسلات والأفلام المصرية كان العرب جميعًا يجيدون الحديث بالعامية المصرية، يعرفونها جيدًا ويفهمونها دون الحاجة لمن يشرحها لهم.
خلال العشرين سنة الماضية أصبحت العامية المصرية مهجورة تقريبًا فى الدول العربية، وعندما تحدثت مع بعض الأشقاء العرب عرفت أن هذه الظاهرة لها سببان مهمان.
الأول: أن المسلسلات التركية والمكسيكية التى تعرضها الشاشات العربية كان يتم الدوبلاج لها بلهجات شامية، فغزت هذه اللهجات اللسان العربى على حساب اللسان المصرى، الذى لم تكن هناك حركة ملحوظة لدوبلاج هذه المسلسلات به.
والثانى: أن العامية المصرية انحطت إلى درجة كبيرة فى المسلسلات، فقد غلبت عليها الشتائم وألفاظ العشوائيات والتعبيرات الغريبة، فوجد العرب أنفسهم أمام لهجة غريبة ولقيطة لا تتمتع بسهولة وعذوبة ونعومة ولطف العامية المصرية المعتادة والتى كانوا يعرفونها جيدًا.
لقد انتبهت إلى ظاهرة خطيرة- وأعتقد أنها استوقفتكم- فعندما تعرض المنصات العالمية والعربية أعمالًا مصرية تكتب ترجمة باللغة الفصحى للهجة العامية التى تستخدم فى هذه الأعمال على الشاشة، والأمر نفسه يحدث الآن عندما تجرى قناة فضائية عربية حوارات مع مصريين، فإنها تقدم ترجمة لكلامه باللغة الفصحى.
فى البداية اعتقدت أن هذا الأمر مقصود، وأن هناك مَن يحاول الإيهام بأن العامية المصرية غير مفهومة لدى الشعوب العربية، وأنها لكى تكون مفهومة، فلا بد أن تكون هناك ترجمة لها، ولا أخفى عليكم أننى أخذتنى العزة بالإثم ووقعت أسيرًا لنظرية المؤامرة فى هذا التفسير.
فالواقع يقول إن هناك فئات عديدة ومعظمها من الشباب العربى لم تعد قادرة على فهم العامية المصرية، لأننا لم نواصل تأثيرنا من خلالها خلال العقود الماضية، وهو ما استدعى أن تكون هناك ترجمة لها، يمكننى- كما يمكنك - اعتبار ذلك أكبر إهانة توجه إلى العامية المصرية، لكن ولنكن صرحاء مع أنفسنا، فنحن من قمنا بهذه الإهانة.. ولم يقم بها أحد غيرنا.
كانت العامية المصرية ولا تزال من أدوات قوتنا الناعمة، من خلالها استطعنا تشكيل الذهنية العربية ثقافيًا ومعرفيًا ونفسيًا خلال العقود الماضية، لكننا فرطنا فى ذلك عندما تخلينا عن الحفاظ عليها، وتركناها نهبًا لمن حولوا الشاشات إلى شتائم وألفاظ غريبة وتركيبات منحطة، أسماء الأبطال إفيهات، وحواراتهم بالشفرة، وسلوكهم غريب ومستهجن، وملابسهم مستهجنة ومستفزة حتى أصبحنا نشعر بأن أبطالنا الدراميين وكأنهم كائنات غريبة حطوا علينا من كواكب ومجرات أخرى.
لقد بدأت هذه الموجة مع بداية الألفية الجديدة، عندما غزا محمد سعد الشاشات بشخصية اللمبى الكارثية، بطريقة نطقها للعامية المصرية، وهو نطق كان محرفًا ومنحرفًا، فنسجَ ملامح لغة جديدة خاصة به لكننا لا نعرفها ولا نفهمها إلا بصعوبة، لكن لهجة اللمبى غزت الأوساط جميعها بما فيها الأوساط الثقافية، وكنت تجد مثقفين كبارًا يرددون إفيهاته وتركيباته للتأكيد على أنهم يختلطون بالشعب.. رغم أن اللمبى لم يكن أبدًا من الشعب.
اكتملت الكارثة عندما احتل من أطلقنا عليهم «مطربى المهرجانات» بكلامهم الغريب وتركيباتهم الملغزة المشهد العام، وأصبح ما يفعلونه هو السائد، وكأن مصر لا تعرف من الغناء إلا ما يفعله العشوائيون فى المهرجانات.
لست من هؤلاء الذين يفضلون دفن رءوسهم فى الرمال هروبًا من مواجهة الأزمات، ونحن الآن فى أزمة، لا بد أن نعترف بذلك، الفصحى عندنا بعافية، ولم نكن فى حاجة لحديث سلوم حداد حتى ننتبه لذلك، والعامية تعانى، وليست الأزمة فى ذلك فقط، ولكن الكارثة أننا ننكر ونتنكر ونجهل ونتجاهل، وهو ما يقول إن الأزمة ستظل مستمرة.. رغم أن بداية الحل هو أن نعترف بالأزمة.
فهل نفعل ذلك.. أم ستأخذنا العزة بالإثم؟
أتمنى بالطبع أن نعترف بما نعانى منه، على الأقل حتى نبحث عن مخرج من هذا النفق الذى على أصبح على وشك أن يكون مظلمًا تمامًا.