شهر صاحب نوبل
نجيب محفوظ ليحيى الفخرانى: أنت ياسين بطل الثلاثية الحقيقى

- ينشر لأول مرة.. أديب نوبل وعده بكتابة رواية جديدة يكون هو بطلها
- المجموعة القصصية «الفجر الكاذب» تضم 30 قصة.. وكانت أول أعماله بعد «نوبل»
- لم يكتب أحد من النقاد عن مجموعة «الفجر الكاذب» سوى مقال لـ«خيرى شلبى»
- بعد صدور «الفجر الكاذب» قرأها الفنان يحيى الفخرانى ووجد نفسه منجذبًا إليها ومجذوبًا بها
- وقع فى غرامها كما قال لى من القراءة الأولى
فى نهايات العام 1989 وبعد ما يقرب من عام ونصف من حصوله على جائزة نوبل استقبلت الأوساط الثقافية والأدبية المجموعة القصصية «الفجر الكاذب» لنجيب محفوظ.
ضمت المجموعة ثلاثين قصة، وأخذت اسمها من قصتها الأولى.
مضت شهور دون أن يلتفت أحد إلى هذه المجموعة، لم يكتب عنها أحد من النقاد شيئًا، مقال واحد فقط كتبه الأديب الكبير خيرى شلبى عنها، وهو المقال الذى كان أقرب إلى الإعلان عن الصدور والتبشير به، فلم يكن نقديًا بالشكل الكافى.
فى يونيو 1990 قرر الكاتب الصحفى عماد الغزالى المحرر الثقافى بجريدة الوفد أن يبحث وراء حالة تجاهل العمل الأول الذى يصدر لنجيب بعد حصوله على جائزة نوبل، فقد كان ما حدث غريبًا ومريبًا فى آن واحد، فكيف لعمل يحمل اسم الروائى العالمى يقابل بكل هذا التجاهل، ولا تحتفى به الأوساط الأدبية والثقافية بالشكل الذى يليق به وبصاحبه؟.
تواصل الغزالى مع عدد كبير من النقاد، يسألهم أولا: هل قرأوا مجموعة نجيب الجديدة؟ وإذا كانوا قرأوها، فما هو رأيهم فيها؟.
كانت المفاجأة أن النسبة الأكبر من النقاد الذى تلقوا السؤال أجابوا عليه بأنهم لم يقرأوا بعد، وعللوا ذلك بأن مشاغلهم الحياتية الكثيرة حالت بينهم وبين القراءة، ومن قرأ تردد فى أن يتحدث دون إبداء أسباب.

فسر الغزالى هذه الحالة فى تقرير نشره فى ١٦ يونيو ١٩٩٠، بأن النقاد أصبحوا على قناعة بأن نجيب محفوظ لم يعد فى حاجة إلى النقد، فلن يضيف إليه ما يقولونه شيئًا، ولن يحذف منه شيئًا أيضا، وعليه فالكلام لن تكون له قيمة.
ما لم يقله الغزالى أن إحجام النقاد يمكن تفسيره على أنه كان تخوفًا من الرأى العام الذى وضع نجيب فى مكانة خاصة، فقد أصبح بالنسبة لهم فوق النقد والتقييم، فمن هو هذا الناقد الذى يمكن أن يكتب ملاحظات أو يوجه انتقادات لأديب حاصل على جائزة نوبل العالمية؟.
بل قد يكون هناك ما هو أكثر، وليس بعيدًا أن هناك من رأى عدم التعرض لما كتبه نجيب بعد نوبل من باب الكيد والعداء.. وربما الكراهية.
ليس هذا بالطبع على سبيل التصور، ولكن نجيب نفسه أشار إلى شىء من ذلك.

فمن بين ما قاله بعد فوزه بجائزة نوبل: من المتاعب التى سببتها لى الجائزة تلك المشاعر العدائية التى ظهرت عند بعض الأدباء، واستطعت أن أعالجها وأمتصها بشكل عقلانى، وساعدنى فى التغلب على هذه المشاعر العدائية فرحة البسطاء التى كنت أصادفها فى كل مكان أذهب إليه أو من خلال رسائل البريد.
قدم الغزالى لتقريره بقوله: ثلاثون قصة يضمها العمل الأخير لنجيب محفوظ «الفجر الكاذب»، وهو أول عما أخرجته المطابع منذ حصول الأديب الكبير على جائزة نوبل فى الأدب قبل عامين، وهو سباحة فى عالمه الأثير المهموم بالناس، المنشغل بقضايا الوطن والمتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى تنعكس بالضرورة على الإنسان والزمان والمكان، يطرح رؤاه تلك من خلال شخوص قصصه عبر رحلة زمنية تمتد منذ ثورة ١٩١٩ حتى الآن، مرورًا بكل ما جرى منذ ثورة يوليو ١٩٥٢ من تغيرات أصابت وأخطأت، وما أصاب المواطن نفسه عبر هذه النجاحات والإخفاقات، ثم الانفتاح الاستهلاكى والتشوهات التى أحدثها، وانتهاء بالعصر الذى تعيشه مصر الآن، يحكى ذلك كله عبر دروب يعرفها جيدًا ويحفظ ملامحها فى العباسية والجمالية والعتبة والقاهرة المعزية.

من بين كل نقاد مصر نجح الغزالى فى أن يستنطق ناقدين فقط هما الدكتور صلاح فضل والدكتورة رضوى عاشور.
أما صلاح فضل فقال: إنتاج نجيب لا يمكن تقسيمه إلى ما قبل نوبل وما بعدها، لكننا يمكن أن نرصد فى تلك المجموعة «الفجر الكاذب» عددًا من الملاحظات أولاها عالم نجيب محفوظ الأثير بتجاربه المفعمة بعطر الحياة وعرقها ونبض حركتها الداخلية فى الشخوص، والخارجية فى الأحداث، إنهم نفس أبطال رواياته يحكون فصولًا من حياتهم مكتنزة ومحكمة ومفعمة بالدلالة، فلا يشعر القارئ بأية غربة تجاه هذه الشخصيات، وبرغم ذلك فإننا نكاد نلمح فى هذه المجموعة نبرة شخصية غنائية تتكثف فيها إيقاعات الحياة الداخلية لأبطال يشاكلون المؤلف ويشاركونه همومه.
ويضيف فضل: فى «الفجر الكاذب» يمكن أن نشير إلى شخصيات ومواقف من دنيا نجيب محفوظ الواقعية، حيث يختزل العمر مثلًا فى نصف يوم بين لحظة الذهاب للمدرسة لأول مرة ومفآجات المتغيرات المذهلة التى يستحيل الطفل أمامها إلى شخص عجوز يتبرع أحد المارة لمساعدته فى عبور الطريق، وفيها أيضا شىء من إبداع نجيب محفوظ بهذا التنوع الخصب فى المواقف والشخوص، واقتناصه الشجاع للعواطف والغرائز والأحلام وإدماجه التلقائى المحكم لخيوط الاقتصاد والسياسة، وللخاص والعام فى جديلة متسقة فى لغته الحية وحياته التى تستحيل إلى كلمات.
ويختم فضل رأيه القصير والمكثف بقوله: إننا حيال ثلاثين قطعة فنية يتلاعب بعضها بالمنطقة المرهفة الواصلة بين الحلم والحقيقة، ويعيد بعضها الآخر تشكيل الزمن، وهى فى مجملها لا تنقصها الجرأة والرغبة فى غزو مناطق جديدة قد تصل إلى حد التجريد والرمز فى معظم الأحيان.
أما الدكتورة رضوى عاشور فقالت عن «الفجر الكاذب»: تنتظم قصص المجموعة حالة قد يلخصها عنوانها، ومن الواضح أن الشخصيات فى معظم القصص تعود بذاكرتها إلى الوراء لتستدعى ماضى الطفولة أو الشباب المبكر، حيث بدت اليد وكأنها تقبض على الوعد الثمين، وتستحضر الشخصيات الماضى بعد أن تحققت المعرفة بأن اليد خالية، وكأن الحياة كانت قبض الريح، وليس يأسًا فنيًا ميتا فيزيقيًا، ذلك الذى ينقله نجيب محفوظ فى قصصه الأخيرة، بل حالة اجتماعية دالة فى تجلياتها النفسية المفزعة، فالواقع الضاغط يحاصر الشخصيات فتلوذ بالوهم أو أحلام اليقظة، حيث تعيش شخصيات المجموعة الشباب منها والكهول حالة الحنين الذى يحملها إلى الماضى أو الوهم أو كل منهما «مخلوق ينطوى على سره وينفرد به».

لا يمكننا على وجه الدقة أن نعرف متى كتب نجيب محفوظ هذه القصص، وهل كتبها قبل حصوله على الجائزة وكانت لديه ولم ينشرها من قبل، أم أنه كتبها بعد نوبل؟ وعليه فهى الأعمال التى كتبها نجيب وهو مشبع تمامًا بروح الجائزة بما تمثله من دلالات، وما لها من آثار نفسية عديدة.
كان نجيب تقريبًا قبل حصوله على الجائزة قد عانى صحيًا بشدة.
قال لرجاء النقاش فى كتابه «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»: قبل حصولى على جائزة نوبل أصبت بضمور فى شبكية العين، مما جعل موضوع القراءة والكتابة من الأمور العسيرة والمرهقة، وسبب هذا الأمر لى إزعاجًا شديدًا، وهدم النظام الذى سرت عليه طيلة حياتى، بل لم يعد هناك نظام أصلا، امتنعت عن القراءة نهائيًا، وأصبحت أقصى مدة أجلس فيها إلى مكتبى لممارسة الكتابة ساعة واحدة فى اليوم.
وفى كتابه «فى حضرة نجيب محفوظ» يقول محمد سلماوى: تعرض كاتبنا الأكبر نجيب محفوظ مرتين فى حياته لحالة من العقم الفنى لازمته سنوات فى كل مرة.
المرة الأولى كانت بعد قيام ثورة يوليو ١٩٥٢، حيث توقف عن الكتابة لمدة سبع سنوات كاملة تصور خلالها أن معينه الروائى قد نضب، فاتجه إلى كتابة السيناريوهات السينمائية.

أما المرة الثانية فكانت فى عام ١٩٨٧، تقريبا نفس الفترة التى أصيب فيها بضمور فى شبكية العين.
تحدث نجيب عن هذه الفترة، قال: كان رأسى مليئًا بالأفكار، لكنى كنت أفتقد الرغبة فى الكتابة، حيث كنت أجلس إلى مكتبى والأفكار فى رأسى، لكننى لا أجد ما يدفعنى فى المضى إلى وضع هذه الأفكار على الورق.
ويفسر سلماوى هذه الحالة بقوله: كان الأستاذ نجيب يعتقد أن السبب فى ذلك هو ضعف بصره الذى جعل عملية الكتابة أشق عليه مما كانت من قبل.
قد يكون نجيب تخلص من هذه القفلة الإبداعية بعد حصوله على نوبل، وتمكن من كتابة «الفجر الكاذب»، وقد تكون تراكمت لديه قصص كتبها فى فترات سابقة، اختار منها أعمال هذه المجموعة، وهو أمر لن أتوقف أمامه كثيرًا، قد يلقى اهتمامًا من نقاد متخصصين، لكن ما أتوقف عنده هو قصته الأولى فى المجموعة «الفجر الكاذب».
بعد صدور المجموعة القصصية قرأها الفنان يحيى الفخرانى، ووجد نفسه منجذبًا إليها ومجذوبًا بها، وقع فى غرامها كما قال لى من القراءة الأولى.
كان يحيى وقتها فى عامه الخامس والأربعين، بدأ رحلة صعوده الأسطورية فى عالم الدراما التليفزيونية بمسلسله «ليالى الحلمية»، الذى عرض الجزء الثانى منه فى نفس عام صدور مجموعة «الفجر الكاذب» ١٩٨٩.
حكى لى الفنان يحيى الفخرانى أنه قابل الأستاذ نجيب محفوظ، وطلب منه أن يشترى قصته «الفجر الكاذب» ليحولها إلى فيلم أو مسلسل، ويقوم هو بدور البطولة.
قال: كنت متحمسًا جدًا، واعتقدت أن الأستاذ نجيب سيوافق على الفور، لكننى وجدت لديه أكثر من مفاجأة.
رفض نجيب أن يبيع القصة للفخرانى، وأقنعه بأنها كئيبة زيادة عن اللازم، ولن تنفعه، ثم إنها لن تكون مفهومة للناس، وأنه يخاف على جماهيرتيه من أداء دور بطل القصة.
المفاجأة الأكبر كانت فيما قاله نجيب للفخرانى.
قال: يا دكتور يحيى تعرف أنا أول مرة شفتك فيها فى التليفزيون وأنا شايف فيك «ياسين عبدالجواد» بطل الثلاثية.
تعجب يحيى من كلام نجيب محفوظ، لم يتوقعه، لكن الأستاذ أكد على ما قاله: مفيش حد من اللى أدى الدور، سواء فى السينما أو التليفزيون كان يشبه ياسين كما تخيلته.. أنت الوحيد الذى رأيت فيك الشخصية، كما كتبتها على الورق، عندما رأيتك أول مرة اتلخبطت، اعتقدت أن الأمور اختلطت فى رأسى، شعرت وكأن ياسين خرج من رأسى وأصبح متجسدًا أمامى.
كان الفنان عبدالمنعم إبراهيم قد قدم شخصية ياسين عبدالجواد فى فيلم «بين القصرين» الذى كتب له السيناريو والحوار يوسف جوهر وأخرجه حسن الإمام فى العام ١٩٦٤، وقدم الشخصية نفسها الفنان صلاح السعدنى فى مسلسل تم إنتاجه عام ١٩٨٧، وكتب له السيناريو والحوار محسن زايد وأخرجه يوسف مرزوق.
لم يتحدث نجيب عن صلاح السعدنى، لكن كان هناك ما جمعه مع عبدالمنعم إبراهيم.
تعود نجيب ألا يتدخل فى سيناريوهات الأفلام التى تكتب من رواياته، كان يعتبر الفيلم عملًا منفصلًا عنه تماما، فهو ليس الأب الشرعى الوحيد له، بل له شركاء فيه، لكنه تدخل أثناء اختيار الممثلين فى فيلم بين القصرين ولمرة واحدة وأخيرة أيضًا.
كان المخرج الكبير حسن الإمام قد استقر على الفنان عبدالمنعم إبراهيم ليؤدى شخصية ياسين، الابن الأكبر للسيد أحمد عبدالجواد فى الرواية.
وياسين طبقًا لما صوره نجيب فى الثلاثية شخص متمرد، وساخر، وشهوانى ومعقد عاطفيًا، ورغم أنه الابن الأكبر فى الأسرة إلا أن شقيقيه فهمى «المناضل» وكمال «المفكر المتأمل» كانا أكثر حضورًا منه، حيث نالا اهتمام الأسرة وتقديرها واحترامها أيضا.
طوال الرواية وياسين يتمزق بين ما يريده وما هو عليه فعلًا، فهو يتمرد على سلطة أبيه، يريد أن يخرج من منطقة نفوذه التى يجد نفسه مقهورًا فيها، لكنه فى الوقت نفسه يريد أن يكون صورة من أبيه، يتشبه به ويسير على طريقه، ولأنه يخاف من سلطة أبيه، فهو لا يبوح بما فى داخله لأحد، وقد مكنه نجيب من التخفيف عن نفسه بأن استخدم الحوار مع النفس كأداة يلجأ لها لإطلاعنا على ما يدور بداخله.
لم يقدم نجيب محفوظ بطله ياسين على أنه مجرم أو حتى ضحية، هو فقط بالنسبة له نتاج بيئته الاجتماعية المختلة، وانعكاس لشخصية أبيه المحافظ ظاهريًا والمنحل سرًا، وهو ما جعله يعيش فى صراع دائم، لا ينتهى إلا ليبدأ، ولا يبدأ إلا ليعصف به.
علم نجيب محفوظ أن حسن الإمام وقع اختياره على عبدالمنعم إبراهيم، تواصل معه، وقال له: أنا مش شايف أبدًا إن عبدالمنعم ممكن يقدر يعبر عن شخصية ياسين بأى شكل، مفيش فيه أى حاجة منه، وخايف الشخصية تفلت مننا.
أصر الإمام على عبدالمنعم إبراهيم، وقال لنجيب: على ضمانتى.. كل اللى أنا محتاجه منك إنك تديه فرصة، وأوعدك هتشوف حاجة عظيمة وهتشكرنى على اختياره تحديدًا فى الدور ده.. أنا مراهن عليه.
بعد أن شاهد نجيب الفيلم قال لحسن الإمام: كسبت الرهان.. فعلا مكنش فيه ممثل تانى يقدر يقوم بدور ياسين زى ما عمل عبدالمنعم إبراهيم.

كان نجيب مجاملًا طول الوقت، لكن ليس معنى ذلك أنه كان يجامل عبدالمنعم إبراهيم، أو أنه كان يجامل الفخرانى بعد ذلك، فعندما أدى عبدالمنعم الدور فى بين القصرين ومن بعده قصر الشوق والسكرية، كان يراه نجيب أفضل من يؤدى الدور وقتها، لكنه عندما رأى الفخرانى صارحه بما شعر به عندما رآه أول مرة، فهو بالنسبة له ليس ممثلا مناسبا لأداء الشخصية، ولكنه الممثل الوحيد الذى تنطبق عليه مواصفات ياسين كما رسمها تمامًا.
هذا الحوار الذى دار بين نجيب والفخرانى، أثمر عن فكرة أمسك بها نجيب محفوظ.
قال: أنا هاكتب لك قصة خاصة بك، بطلها هيكون ياسين لوحده، هناخد ياسين من الثلاثية ونخليه يعيش فى عصرنا ده، وهتكون إنت بطل القصة وبطل الفيلم اللى هنعمله عن الرواية.
اعتبر الفخرانى أن هذا مشروع عمره، فنجيب محفوظ سيكتب قصة خصيصًا له، حاول أن يتفق معه ولو اتفاق مبدئى، إلا أن نجيب رفض أن يوقع على أى اتفاق إلا بعد أن ينتهى من الرواية، لكنه لم يفعل، فلم يكتب الرواية، وبالتالى فلم يكن هناك لا فيلم ولا مسلسل، ويظل الفخرانى حتى الآن، وكما قال لى، يعتبر أن هذه العمل من الفرص الضائعة فى حياته الفنية.
اقرأ أيضًا:
«الفجر الكاذب».. ننشر أول قصة نشرها نجيب محفوظ بعد «نوبل»